الأب أليكسي عبد الكريم، من إدارة الأمطوش في موسكو إلى رئاسة الأبرشية في حمض
الأب أليكسي عبد الكريم ، من إدارة الأمطوش في موسكو
إلى رئاسة الأبرشية في حمص
تأسس الأمطوش الانطاكي في موسكو في العام 1848 وكان من أهم الذين أسندت لهم الإدارة فيه ثلاثة من تلامذة مطران حمص المتقدس المتروبوليت أثناسيوس عطا الله (القديس رفائيل هواويني أسقف بروكلين، البطريرك ألكسندروس طحان، والأرشمندريت العلامة أنطونيوس مبيض). تمّت إعادة افتتاحه عام 1948 بمساعي البطريرك الكسندروس الثالث بعد ان اغلقه الاتحاد السوفيتي، وفي العام 1962 أسندت الإدارة فيه إلى الشماس إميليانوس عبد الكريم، فتمت رسامته كاهناً باسم أليكسي، تيمناً بالبطريرك الروسي، وترقيته حالاً إلى رتبة أرشمندريت بوضع يد البطريرك أليكسي وبطلب من البطريرك الأنطاكي ثيوذوسيوس ابو رجيلي. وبعد سبعة أعوام من الإدارة الناجحة والدبلوماسية البارعة التي أعادت العلائق الروسية-الأنطاكية إلى نصابها الصحيح، تمّ انتخابه بالإجماع مطراناً على حمص بعد شغورها بوفاة المطران العلامة ألكسندروس جحا، فأثبت بالعمل الجادّ والرعاية الأبوية الصالحة أنه خير خلف لخير سلف.
تميز في الدور الانطاكي
وكان خلال رئاسته الأمطوش في موسكو قد أدّى مهمات صعبة، اقتضتها مسؤوليته الجسيمة كونه سفيراً للكرسي الأنطاكي في بطريركية موسكو اي في ثاني أقوى دولة على مستوى العالم والساحة الدولية، في ظروف صعبة للغاية في مرحلة ما دُعي “الحرب الباردة” بين قطبي العالم الشرقي والغربي. وخلال هذه السنوات، حيث كان يتعذّر على المؤمنين الروس الحصول على المعمودية والاشتراك في القداس في الكنائس الروسية، تحت طائل العقوبات المختلفة التي تتراوح بين السجن والفصل من العمل والجامعة.
كان الأرشمندريت أليكسي عبد الكريم من الجرأة والشجاعة بمكان حتى يفتح لهم كنيسة الأمطوش ويمنحهم على مسؤوليته الشخصية الأسرار الإلهية. ناهيك عن مساعيه الحميدة والناجحة في إعادة فتح العديد من الكنائس المغلقة في روسيا، حتى في موسكو نفسها، بل وفي استرداد الكنيسة المضطهدة هناك في عهد خروشوف للعديد من الأوقاف والعقارات التي تعود لها، ما لقي صدى كبيراً لدى البطريرك الروسي أليكسي الذي طالما فخر بهذا الأب الجريء، الذي تمكن من كل ذلك بفضل لطفه ودماثة أخلاقه إلى جانب مهارة دبلوماسية فائقة.
ومن أعماله الهامة على الصعيد الأنطاكي خلال هذه السنوات السبع، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: إسهامه في تأمين تبرع الكنيسة الروسية لبناء كنيسة القديس بولس في دير تل كوكب قرب دمشق، ودوره الحاسم في إعادة بناء مستشفى الروم في بيروت وتجهيزه بأحدث المعدّات الطبية، فصار بفضله أحد أهم مشافي الشرق الأوسط إن لم يكن الأهم على الإطلاق. وتقديم الكنيسة الروسية لأفضل مختبر مدرسي علمي الى مدارس الآسية الارثوذكسية بدمشق ناهيك عن تأثيره البارز في تطبيع العلاقات الكنسية بين البطريركيتين بتأييده قرار سحب الأسقف الروسي من دمشق وجعل الأمطوش الجسر الوحيد للعلائق الودّية بين الطرفين بعد أن كانت متوترة لسنوات.
الأب أليكسي عبد الكريم ، من إدارة الأمطوش في موسكو إلى رئاسة الأبرشية في حمص
مطرانا لحمص
وبالواقع، إنّ انتخابه مطراناً من قبل طرفي النزاع في الكنيسة الأنطاكية، أي المجمع والمنشقين، ليس سوى تأكيد على أهمية شخصه واعترافاً بأهليته الكاملة لرئاسة الكهنوت، وهو إجماع قلّ نظيره.
متسلّحاً بالعلم الزاخر وبهمة الشباب وحكمة الشيوخ، مع كل هذه الخبرات الإدارية، إضافة إلى ما تزيّن به من فضائل: التقوى، المحبة، والتواضع، الصبر وطول الأناة، ما إن دخل إلى أبرشيته في 16 كانون الأول 1969، حتى شمّر عن ساعد الجدّ، ليبدأ حالاً تطبيق برنامجه الإصلاحي ورؤيته النهضوية في حمص، وسرعان ما أثمرت همّته التي لا تفتر ونشاطه الذي لا يتعب ولا يملّ، واصلاً الليل بالنهار، بكلّ صبر وجلادة وبعزيمة فولاذية، وكلّ ذلك في وداعة وتواضع وصمت.
منذ اليوم الأول، وقد كان على دراية بحال الأبرشية، بدأ العمل الدؤوب على إحياء الجمعيات فيها وتفعيل دورها، وعلى استرداد بعض أوقافها والمحافظة على حقوق الطائفة وترشيد مؤسساتها، وجعل أكثر أوقافها ذات ريع دائم لدعم مشاريعها الدينية والخيرية. ولكونه تميّز بشدّة الذكاء والحنكة والصبر والحكمة والهدوء، فقد كان يتولى قيادة دفة السفينة، متمماً في نفس الوقت عدة مشاريع حيوية بآنٍ واحد. فإنه خلال أول سنتين من ترؤسه للأبرشية، مثلاً، قام بترميم دير وكنيسة مار إيليان، وبتأسيس مكتب التعليم الديني، وبتطوير جريدة حمص، وكلّ ذلك جنباً إلى جنب مع متابعة مهامه في إدارة الأمطوش في موسكو حتى تمّ إيجاد الشخص المناسب ليحلّ مكانه عام 1971، وهو سيادة المطران نيفون صيقلي.
ناهيك عن سعيه لتعميم مشروع الترتيل الجماعي في جوقة، وهو ما حدث لأول مرة في تاريخ حمص، حيث استقدم من طرابلس لتدريب الجوقة في كنيسة مار إيليان الأستاذ ديمتري كوتيا، والذي استمر لسنوات عديدة على مجيئه إلى حمص أسبوعياً يومي الخميس والجمعة لهذا الغرض. ومن أعضاء تلك الجوقة الأولى برع المرتل الشاب الأستاذ سليم العماري الذي تولى الترتيل في الكاتدرائية ومعه المرتل الموهوب الأستاذ سمير عماري. ولقد كان من أبرز ما يميّز كنائس حمص في عهد المطران أليكسي هو الخدمة الليتورجية البهية في الأحاد والأعياد، فتضاعف الحضور الشعبي، إضافة إلى الجو الخشوعي والتقوي خلال الخدمة، بل وجعل المناولة المتواترة متاحة للمؤمنين في كلّ أحد وعيد وليس مرة واحدة في السنة كما درجت العادة.
وتجدر الإشارة إلى أنه للمطران أليكسي يعود هذا التقليد الشعبي الجديد الذي أسسه في دير مار إيليان، منذ الانتهاء من ترميمه ورسم كامل جدرانه وتزويده بأيقونسطاس جديد بديع الصنع، ولا يزال إلى اليوم. نعني فتح الكنيسة للمصلّين من الأهالي والعمال والموظفين وتلاميذ المدارس والجامعات، في كل يوم جمعة، الذي كان يوم العطلة الأسبوعية الرسمية في مؤسسات الدولة، بعد أن كانت الكنيسة فيما مضى لا تفتح أبوابها إلا لصلاة الجناز على الراقدين فقط قبيل دفنهم في مقبرة الدير.
الأب أليكسي عبد الكريم ، من إدارة الأمطوش في موسكو إلى رئاسة الأبرشية في حمص
كما بجدّه ونشاطه تابعت جريدة حمص الأسبوعية صدورها المنتظم لمدة ثلاثين عاماً، فلم تتوقف ولو مرة واحدة ولم تتعطل البتّة ولا تمّ حجبها، بل بمتابعة يومية من المطران ومراجعة كل كلمة وتنقيح كل مقالة قبل نشرها، استمرت في الصدور من دون تأخير، متابعة رسالتها كجسر بين الوطن المقيم والمهاجر، ينقل للمغتربين أخبار وأحوال بلدهم وينقل لأبناء حمص نشاط الجوالي الحمصية في جميع المغتربات حول العالم. بل ولقد تضاعفت أعدادها بشكل مطرد لأن الجريدة كان لها انتشار وقبول على نطاق واسع في جميع المحافظات السورية، خاصة دمشق، حيث تصل أعدادها أسبوعياً إلى بيوت المشتركين بها لقاء سعر زهيد، وكذلك في المدن اللبنانية.
ختاماً، محافظة منه على المسرح الأرثوذكسي المؤسس في نهاية القرن التاسع عشر من المتروبوليت أثناسيوس، قام المطران أليكسي بنقل المطبعة إليه وتحويله إلى مقر جديد للجريدة عوض المقر القديم، الذي بعد قيامه بترميمه عام 71/1970، جعله مركزاً للتعليم الديني في بستان الديوان، للاهتمام بتنشئة أطفال وشبيبة الأبرشية على المبادئ الأرثوذكسية الحقة، ما أسهم بزيادة الوعي الديني وتنمية الحياة الروحية في سائر الأبرشية.