أكثر من خمسة عشر ديراً شيّدها قاطنو منطقة جبل العرب منذ نحو ألفي عام، أصبحت بمنزلة كتاب تاريخي مفتوح أمام الأجيال مقروء لمتقني لغة الحجارة البازلتية، لكونها كانت المدونة المؤرخة لحضارة تلك الشعوب، والكاميرا الملتقطة لطقوسهم المتنوعة في تلك الأزمنة، فدفتر مذكراتهم ومرسمهم كانت المنحوتات البازلتية التي أرّخت لحضارات مضى عليها آلاف السنين.

ولا يزال شريط العادات والتقاليد الملتقطة صوره لقاطني الأديرة المولودة بنائياً في مطلع القرن الرابع المسيحي، محفوظاً على صفحات المنحوتات البازلتية، لينقل للأجيال القادمة أخبار الأقدمين دون تزيين أو رتوش، فمن “دير المياس” التي ما زالت رائحة  رهبانه وطقوس رهبنتهم تعبق في زواياه، كانت البداية حيث يقع هذا الدير إلى الجنوب من قرية “عوس”، وسجلاته المدونة على جدرانه تنبئُ أخباره كيف كان الزاهد يتخلى عن أسرته وبيئته التي نشأ بها، قاصداً ذلك الدير الذي عادة ما يبنى بعيداً عن المناطق المأهولة، والصورة الأجمل المنقولة عبر النقوش الحجارية هي التدوين التوثيقي لاسم الحجّار الذي صمم هذا الدير بطريقةٍ هندسية تلتقطها كاميرا العين لتدخلها في أرشيف القلب دون استئذان، ورغم أن منحوتة أساس هذا الدير ولدت مع بدايات القرن الرابع المسيحي، إلا أنها ما زالت الناطق الرسمي باسم الرهبان والنساك المتعاقبين على “دير المياس”، ولتقرأ الأجيال الحاضرة ما تركته لهم الأجيال السابقة، من إرث روحي تاريخي.

دير داما

نابض بالحياة

وليد أبو رايد

وتحدث الباحث التاريخي حسن حاطوم قائلاً: “رغم مضي نحو ألفي عام على بناء هذه الأديرة، وتعاقب العديد من الحقب الزمنية عليها، لا يزال البعض منها ينبض بالحياة، لكونها كانت وما زالت عصية عن الإخلاء، ومن هذه الأديرة الذي ما زال ماضيها يحاكي حاضرها” دير شقا”، فنهر الحياة في هذا الدير ما زال جارياً دون انقطاع، الأمر الذي أدى إلى المحافظة عليه وليبقى أرشيفه كاملاً مكتملاً، حيث بني محاكياً البلدة من جهتها الشرقية ضمن ثكنة رومانية، محصنةٍ بأبراجٍ دفاعية لم يبق منها سوى برجين، ومن يتسنَ له زيارة هذا الدير سيلحظ أن التاريخ بين يديه ورهن إشارته، وكأنه حارس التاريخ والحضارة، وناقل أخبار الأقدمين للسكان الحاليين بصدق وأمانة، ومن “ينبش” تاريخ الأديرة عبر أرشيفها الخاص سيلحظ أنها مملوءة، فمن منا لم يسمع “بدير اللبن” حيث بينت نقوشه اليونانية التي عثر عليها في المنطقة المؤرخة لاسم الرب “عاموس”، إصافة لمعبد رب السماء، حيث يقع هذا الدير إلى الغرب من قرية “مردك” ، إذاً التاريخ ارتباط بالجذور وتواصل مع الماضي وإنعاش لذاكرة التاريخ الذي تفوح منه رائحة الذكريات”.