الاوقاف الارثوذكسية في انطاكية خلال الحكم العثماني
الاوقاف الارثوذكسية في انطاكية خلال الحكم العثماني
مقدمة لابد منها
تشكل الدراسات عن الاوقاف مصدراً أساسياً لدراسة التاريخ المعاصر، فهي تفتح مجالات واسعة للاطلاع على التاريخ الاقتصادي والاجتماعي…كما انها اساسية في التاريخ السياسي، فتسلط الضوء على العلاقات بين المؤسسات الدينية والسياسية، ومن خلالها علاقة رجال الدين بالدولة، وعلاقة الريف بالمدينة، والشعب بالسلطة الحاكمة ودور الأوقاف في نشأة السلطات المدنية في العالم العربي.
كما ان اهمية دراسة الأوقاف تتجلى في الدور الذي قامت به على الصعيدين الثقافي والعلمي، فنمو المؤسسات الوقفية التي رافقت نشأة الاقطاع العسكري، والتراجع السياسي للحضارة العربية منذ القرن11، لم يؤد الى انحطاط ثقافي وعلمي، لأن الأوقاف التي أنشئت عن طريق الاقطاع دعمت بشكل أساسي المدارس والمؤسسات العلمية(1) والكل اصبح يعلم دور الأديار والأوقاف في دعم المدارس في اواخر القرن 19 وبدايات القرن 20.
بين المرحلتين أدت المؤسسات الدينية المتمثلة بالأديار والمطرانيات عند المسيحيين، والمتمثلة بالمدارس والجوامع عند المسلمين، دوراً هاماً في دعم الفكر الديني والادبي والعلمي. وخيردليل على ذلك تلك المخطوطات الواسعة التي كانت محفوظة في أقبية هذه المؤسسات الدينية.
أما حالياً فهي على الرغم من تراجع الأهمية الاقتصادية للأوقاف، لاتزال تؤدي دوراً اساسياً على الصعد الثقافية والعلمية والانسانية. فكم من العائلات وجدت فيها ملجأ في ايام الحروب والضيقات. وكم من الثروات التراثية المعروفة أو المجهولة لاتزال مخزنة في أقبية الأديار والمؤسسات والمطرانيات. فهذه الأواني( وكلها نحاسية وفضية) والمخطوطات والمحفوظات من السجلات جزء لايتجزأ من الاوقاف وتدون عليها الوقفيات… وحجج الاراضي الزراعية وميزانياتها من واردات ونفقات وعقود الشركاء ورواتب المزارعة والضرائب (ويركو)…والأواني المقدسة والايقونات الموقوفة للكنائس والاديار كلها توثق ماكان في الذاكرة المجتمعية والرعوية وتدلنا على الواقع الروحي والاجتماعي للواقف ومنطقته.
على صعيد الكنيسة الارثوذكسية
كانت الاوقاف اساساً للنهضة فيها في المجالات الدينية والمادية والثقافية، خلال تاريخها الحديث والمعاصر.
فعلى سبيل المثال تعطينا وقفيات الدمشقيين الارثوذكس (بالرغم من فقرهم كحرفيين حيث كانت قلة منهم تمارس التجارة بعكس ارثوذكس بيروت) الدعم لمدرستهم الوطنية “مدارس الآسية الدمشقية الارثوذكسية” العريقة واولها “اوقاف خان النحاس” في الشارع المستقيم بدمشق القديمة، وكذلك الاوقاف الدمشقية في دمشق لمنفعة دير سيدة صيدنايا البطريركي… والاراضي والكروم والبيادر في صيدنايا ومعرة صيدنايا، وبقية القرى في المنطقة كحفير وسواها من التي صارت منذ اكثر من قرنين قرى اسلامية…ولكن الاوقاف بقيت مسجلة وقفاً “وقف دير صيدنايا” في دوائر المصالح العقارية ووزارة الزراعة في محافظة دمشق…وكذلك الحال في حين اقامة جامعة البلمند الارثوذكسية وقبلها الثانوية المقامة في اوقاف واراضي دير سيدة البلمند في تلة البلمند.
مثلها الوقفيات لمنفعة فقراء وصعاليك الارثوذكس في دمشق(2) ومستشفى دمشق الارثوذكسي “مستشفى القديس العظيم في الشهداء الطبيب بندلايمون الشافي” المؤسس 1899 و”الحضيرتان (الحظيرة) الاستشفائيتان لمرضى الامراض السارية ” المسجلتان وقفاً، ومعهما حظيرة وقفية مشتركة بين الروم والموارنة بدمشق لمرضى الجذام، وكذلك وقفيات مستشفى الروم ببيروت ” مستشفى القديس جاورجيوس الارثوذكسي” ببيروت، والاراضي الزراعية الوقفية لدير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي التي شكلت اراضي ثلاث قرى مجاورة للدير في وادي النصارى، ومثلها وقفيات للدير المذكور في انطاكية ومحيطها…وكذلك اراضي دير رؤية القديس بولس البطريركي في كوكب في ريف دمشق، وفي معلولا دير القديسة تقلا البطريركي واوقافه في قرى بخعا وعين التينة الاسلاميتين ( وكانتا في منتصف القرن 17 مسيحية) ومعلولا…ويبرود التي تغلب عليها اليوم الصبغة الاسلامية…
ان اوضاع الأوقاف الحالية، بسلبياتها وايجابياتها، ناتجة عن نموها وتطورها(3) في الحقبة السابقة لعصرنا اي للمرحلة العثمانية، كما ان هذه المرحلة أثرت على تاريخ بلادنا المعاصر، وعلى تطور معظم الدول العربية التي كانت تحت سيطرتها. فالمقومات القانونية، على الرغم من التعديلات والتشريعات الحديثة، لم تغير الكثير من العقود والممارسات، كما ان المقومات البشرية من مستثمرين ووكلاء، على الرغم من انقلاب الأوضاع الاقتصادية، لم تغير أي شيء من مواقفها وعقلياتها. وعلى الرغم من الانقلابات التقنية والتنظيمية التي شهدها الاقتصاد الزراعي في عصرنا، قلما نجد لها اثراً في اطار الاوقاف، الا ان سياسة الدولة العثمانية لم تكن واحدة، متماسكة، بالنسبة الى موضوع الاوقاف، فعلى امتداد اربعة قرون اختلفت الأمور وتبدلَّتْ من الحالة الواحدة الى نقيضها، فالسلطات التي صادرت الاوقاف وقوَّضتها، هي ذاتها التي أغدقت عليها العطاءات وسهلت نموها، وهي عينها التي نظمت شؤونها وحدَّتْ من تطورها. ثم ان التطور التاريخي الذي عاشته الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية في القرن 19 و20، والاحداث المأساوية 1850 في حلب ودير القمر والقلمون و1860 في جبل لبنان ودمشق وسائر محيطها التي أدَّتْ الى هجرة معظم رعاياها الى القارتين الأميركية والاوسترالية وبعدها في مجاعة السفر برلك والحرب العالمية الاولى واستشهاد ابرشيات كيليكية وديار بكر وارضروم الانطاكية ومن ثم لواء الاسكندرون 1939، ومقاومة الاستعمار الفرنسي والثورات المتلاحقة في كل سورية وماجرته بفعل العقلية المتعصبة عند بعض الثوار الجهلة بحق اخوتهم في الوطن ابناء الكنائس المسيحية ودمار الكثير من هذه القرى، وتحول بعض سكانها الى الاسلام للنجاة ادت الى لاضمحلال هذه الكنيسة في الوطن وفناء اوقافها، ولكن بالعكس ازدهارها ه في المهجر من حيث تنظيم شؤونها وادارة مؤسساتها وانشاء ابرشيات جديدة واكبت الاقتلاع من الوطن كما حصل في الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990، وكما في احدث الاخوان المسلمين في سورية في العقدين الثامن والتاسع في القرن 20 وكذلك ذبح سورية بكذبة ” الربيع العربي” منذ 1911 ولانزال والتي اخذت في باطنها شكلاً طئفياً كان ثمنه فادحاً على المسيحيين السوريين وفتدمرت 65 كنيسة ودير وقرى مسيحية بأكملها كمعلولا. هذه الاحداث افرغت سورية وقبلها لبنان كما قبلا فلسطين والعراق حين غزوه من الاميركيين عام 2003 من معظم المسيحيين وبقيت اقليات صغيرة تتوق بحرارة الى الهجرة.
فعلى سبيل المثال، نرى ان ابرشية اميركا الشمالية التابعة للكرسي الأنطاكي، بعد أن تأقلمت مع اوضاع العالم الجديد، نمت وتطورت وازدهرت من دون ان تعتمد على الاوقاف. فهي عملت على دعم مؤسساتها ونشاطها الرعائي بواسطة مشاركة أبنائها المالية ومساهماتهم المنتظمة والموسمية(4)
وتتساءل د. سليم في مقالها، عما اذا كانت مؤسسة الاوقاف، كمؤسسة تقليدية بقوانينها الموروثة عن الفترة العثمانية، لاتزال صالحة لكنيستنا الانطاكية الارثوذكسية في نهاية القرن 20، وهل ان بلادنا وذهنيات أهلها ونمط كنيستنا الشرقي لاتزال تفضل مثل هذه الموارد المخصصة للرعاية على الموارد الآتية من اللهو والألعاب والاجتماعيات؟
المرحلة الاولى: التيمار ضد الوقف
المرحلة الاولى التي طبعت السياسة العثمانية في مجال الاوقاف هي سياسة وضع اليد على كل الاوقاف مسيحية واسلامية، وهذا مافعلته الولة العثمانية حين بسطت يدها على المناطق التي احتلتها في امبراطوريتها الواسعة، فصادرت الاوقاف بطريقة او بأخرى، وقد سبقها المماليك في اواخر عهدهم، أن وضعوا حداً لنمو الأوقاف نظراً لتوسعها وحجبها قسماً كبيراً من الموارد المالية التي كانت تعود الى الدولة.
لذلك نجد ان المماليك بعد ان غزوة تيمورلنك لدمشق وقتله الرجال المدافعين عنها واقامته برجاً من رؤوسهم في البيدر الكائن بعد كيلومتر واحد عن باب توما (ساحة برج الروس في القصاع حالياً) تشفياً منهم، قتل في الوقت ذاته رهبان دير الصليب المقدس الارثوذكسي المجاور للبيدر وذلك في عام 1401 ووضع رؤوسهم في كومة الرؤوس المقطوعة، ودمَّر الدير المبني منذ مطلع القرن الخامس منذ بدء الرهبنة ودمر ارضه الزراعية، وفي العام ذاته ارتد تيمورلنك الى بلاده تاركاً الخراب والدماء والالم في كل مكان، وخاصة في دمشق ومحيطها واديارها الباقية في الغوطة، عاد المماليك الحكام فصادروا املاك هذه الأديرة ومنها دير الصليب المقدس، وقد اقتدى بهم الاحتلال العثماني حينما فتح سورية ومن ثم دمشق عام 1516، فوضع اليد على كل اوقاف واراضي هذه الأديرة الواقعة في بساتين الغوطة ومنها دير الصليب المحكي عنه ودير العصافير في الغوطة الشرقية (قرية دير العصافير) ودير جرمانوس (جرمانا) وأراضي دير القديس جاورجيوس في عربين وصيرها كما ادُّعيَ جارية في وقف الجامع الكبير (كنيسة القديس جاورجيوس الارثوذكسية حالياً) ودير النيربين (قصر تشرين الرئاسي) سفح قاسيون غرب دمشق، ودير العشائرغرب دمشق، ودير القديس جاورجيوس في بلودان، ودير جبل اليونان ودير الرؤيا (داريا) ودير العذراء شمال دمشق( عدرا)… وكلها تقع في محيط دمشق وتم توزيعها على كبار القادة العسكريين لدعم جنودها وخاصة فرق السباهية الخيالة بتوفيرها لهم الأراضي الزراعية مقابل دفعهم الضرائب وقدومهم الى الحرب مع عدد من المقاتلين يتناسب مع مساحة الارض وانتاجها وقيمة الضرائب التي تدفعها وقد فعلت الدولة العثمانية الامر ذاته في شمال لبنان حيث نرى ان معظم هذه الاراضي التي احصتها خلال العام 1519 والعام 1571 كانت اراضي تيمارية اي اراضي تابعة للدولة، اومن املاك الدولة. تخضع للاقطاع العسكري وتخصص لأفراد جيش الخيالة الخاضع لحكام الولايات سنجق باي…هي التي شكلت فيما بعد ماسمي بالأراضي الاميرية(5)
بالعودة الى ماسبق نرى الدولة العثمانية في بداية عهدها تصادر اوقاف واملاك اديرة جبل آثوس في اليونان وتحولهاالى أراضي تيماريةٍ عائدة للدولة. وهذه الاراضي بقيت بين ايدي اصحابها لاستثمارها مقابل دفع حق التابو للدولة.
هذا الامر لم يتم في مثالنا “بستان الصليب” بدمشق ( وهي تسميته في دوائر الطابو وهو قطعة واحدة بخارطة طبوغرافية واحدة للمؤسسات الارثوذكسية الثلاث) ولا ببقية المناطق المحكي عنها كون المحتل العثماني صادر املاك المماليك بعد ان قضى على دولتهم 1516ووزع اراضيهم على قادته الاتراك كما مر.
وتؤكد الصديقة د.. سعاد سليم ان المصادرات التي نفذها العثماني في دول اوربة الشرقية ولكنها لم تكن ممكنة في الولايات العربية المتمرسة بقوانين الشرع الاسلامي الذي يُفترضْ به حماية الأوقاف المسيحية والمحافظة عليها. الا ان هذه الخطوات لم تنحصر بالمناطق ذات الغالبية المسيحية، بل طُبقت أيضاً في مصرمنذ احتلال العثمانيين لها والقضاء على سلطنة المماليك عام 1517. لكنها اخذت في هذه الولاية طابع الفتاوى والقرارات التي طُبقت على تسجيل الاراضي، وواجهتها الفتاوى المضادة التي كانت تهدف الى حماية الأوقاف وحماية الأملاك الصغيرة، نذكر منها فتاوى ابن نجيم في مصر وفتاوى المفتي خير الدين الرملي.
وفي هذه المرحلة كانت الدولة العثمانية لاتزال تتابع توسعها على حساب بقية الشعوب وتحتل اراضيها، وتسعى الى دعم جنودها ولاسيما فرق السباهية الخيلة بتوفيرها لهم الاراضي الزراعية، مقابل دفعهم الضرائب وقدومهم الى الحرب مع عدد من المقاتلين يتناسب مع مساحة الارض وانتاجها وقيمة الضرائب التي تدفعها.
اما بالنسبة الى اوضاع الاوقاف الارثوذكسية خلال هذه الفترة في الكرسي الانطاكي فلقد كانت متناسبة نوعاً ما مع ماجرى في العالم العثماني.
تتميز هذه الاوضاع خلال هذه الفترة بميزتين اساسيتين
الاولى تتمثل بانتقال مركز القرار والثقل الديني الارثوذكسي من المدن الى الارياف.
الثانية تتمثل بحالة الدَّين التي غرقت فيها البطريركية الارثوذكسية واديارها عامة ولاسيما في انطاكية.
الميزة الاولى
مع احتلال العثمانيين مدينة القسطنطينية، وفرضهم القيود على التعبيرات الدينية الخارجية، نرى على الرغم من الامتيازات والضمانات التي اعطاها محمد الثاني للبطريركية القسطنطينية الارثوذكسية مع جناديوس البطريرك 1453، أن الحياة الدينية والاجتماعية تنتقل من المدن الى الارياف بجوار الاديار. هنالك اصبحت في كل مناسبة دينية وكل عيد قديس ظرفاً للقاء المؤمنين بالمسؤولين الروحيين وبعضهم بالبعض لمناقشة أحوالهم والتخطيط لمشاريع مستقبلية.
هذه الاعياد كانت متنفساً للعائلات كي تعيش ايمانها وحياتها الاجتماعية محاطة بأبناء جماعتها.(6)
هذا التحول الى الأرياف والاديار جعل الرهبانيات تزدهر، واصبحت عطاءات المؤمنين لها اوفر وأسخى. ونرى الرهبانيات تسيطر تدريجيا على الحياة الدينية، وتشكل مصدراً اساسياً لأعداد الكهنة وتعليم المؤمنين. كما اصبحت الاديار المصدر الاساس الذي يُنتخبْ منه خيرة الاساقفة والبطاركة.(7)
هذا الازدهار للحياة الرهبانية لم ينحصر بالقسطنطينية وبالأراضي الرومية البيزنطية سابقا، بل تعداها الى باقي البطريركيات الارثوذكسية الرومية في بلاد الشام ومصر…
أولا بسبب العلاقة الوثيقة بين هذه البطريركيات الثلاث انطاكية الاسكندرية اورشليم ووحدة الايمان في مابينها.
وثانيا بسبب وحدة النظام السياسي العثماني الذي اصبح منذ العام 1526 شاملاً في احتلاله كل هذه المناطق التي تحيط بهذه البطريركيات، بالاضافة الى اوربة الشرقية التي اعتنقت الارثوذكسية منذ تبشيرها في العصور الرومية الاولى.
فالأديار في انطاكية، على الرغم من وجودها في الكرسي الأنطاكي في هذه الفترة، ومنذ فترات سابقة قديمة جداً، لانستطيع تحديدها اذ كانت محصورة في إطار الحياة النسكية المتوحدة البعيدة عن الازدهار والتوسع الذي آلت اليه في العصور التالية.
والميزة الثانية
وهي التي رافقت احوال الاوقاف وهي حالة الدَّين المتراكم على البطريركية الانطاكية وأديارها. فهذه الحالة من الطمأنينة والاستقرار التي عاشتها الجماعات المسيحية الارثوذكسية، دفعت ثمنها غالياً للسلطات العثمانية التي فرضت عليها الضرائب والخوات الاضافية. فما نعرفه عن اشهر البطاركة منتصف القرن 17البطريرك مكاريوس بن الزعيم كان الهم الاقتصادي وحالة العوز والديون الثقيلة وفوائدها المتراكمة على مقره البطريركي في دمشق وفي سائر الابرشيات قد رافق كل تحركاته.
فالسلطات المحلية في دمشق، كانت ترهق البطريركية مالياً، وكذلك كانت السلطة المركزية في اسطنبول وكانت بدورها تُرهق الرعايا بالسحوبات الضرائبية المضافة على المتوجبات الرسمية.
كل المناسبات كانت صالحة لابتزاز الاموال الحصول على فرمانات التعيين للبطريرك والمطارنة، الحصول على النياشين كما تفرض الوقائع، تعيين القواصين للبطاركة والمطارنة، دعاوى التعديات، وتصحيح سجلات الاحصاءات لدفع الجزية، كلها كانت تتطلب دفع البراطيل والهدايا والخوات.
هذه الممارسات كانت تجري بالطريقة ذاتها في حياة السياسة الداخلية. فعملية دفع البراطيل وارسال الهدايا كانت طبيعية في تعيين الحكام في الولايات وتلزيم الضرائب. فترى البطريرك يتنقل بنفسه في رحلة رعائية وزيارات، الى كل ابرشيات الكرسي الانطاكي لجمع مايتوجب من ضريبة النورية من مختلف المناطق التابعة لبطريركيته، ولدى عودته الى دمشق يدفع قسماً كبيراً من الديون المتوجبة على البطريركية، ويدفع المزيد من الاموال لحذف اسماء المتوفين والمتخلفين عن دينهم من السجلات الرسمية لدفع الجزية، والتي كانت توزع على باقي السكان الذين حافظوا على ايمانهم في المدن والقرى.
ومن جديد، وكنتيجة لهذه المتوجبات، تتراكم الديون، فنرى ابن الزعيم يذهب برحلتين متتاليتين الى بلاد اوربة الشرقية الفلاخ والبغدان، والى روسيا وجيورجيا يجمع المال لتسديد ماتوجب على كرسي انطاكية من ديون وفوائد.(8)
هذه الحالة على مستوى البطريركية، نراها ايضاً على مستوى الاديار. لنأخذ على سبيل المثال دير سيدة البلمند. فالأوضاع الامنية في منطقة الكورة، كانت كثيرة الاضطراب على مستوى المقاطعة، وعلى مستوى امارة الدروز، وولاية طرابلس…
الحروب التي دارت بين آل سيفا والامراء المعنيين دارت رحاها في مناطق لبنان الشمالية. وادت الى دمار كبير في مدينة طرابلس لاذنب لها ولا لرعيتها فيه.
وفي الكورة أدى الصراع على الالتزام في هذه المنطقة، بين آل حمادة الشيعة وآل الايوبي السنة، الى تدمير الكثير من قراها، وحرق محاصيلها وتهجير اهاليها بدون ذنب. ونعلم أنه خلال هذه الفترة، اي في القسم الثاني من القرن 17، كان دير البلمند آهلاً بالرهبان وناشطاً في المجالين الروحي والاقتصادي. ويخبرنا الرحالة البريطاني هنري موندريل، في كتاب الرحلة التي فام بها الى حلب، عن اعجابه امام تواضع رئيس الديرالذي قدم لهم بنفسه”مطرة” من النبيذ بعد ان كان في البارحة يقيم الصلوات مرتدياً الثياب الفاخرة. وهو يتأسف لجهل الرهبان تفاصيل صلواتهم، إلا انه يبرر هذا الجهل بقوله، إن هؤلاء الرهبان يرهقون انفسهم بالأعمال الزراعية الشاقة، من جمع الغلال وقطف الثمار والاعتناء بالكروم. كُلها اعمال ينفذونها بأنفسهم لتلبية متطلبات ومدفوعات يفرضها عليهم الاتراك البخلاء كما ينعتهم هذا الرحالة(9)، نرى اذاً أن الأمن الذي نعم به هذا الدير كان نتيجة الخوات والضرائب التي دفعها بانتظام والتي كانت، في كثير من الأحيان، تحتِّم عليه الاستدانة وتراكم فوائد الديون.
واذا عدنا قليلاً، قبل هذه المرحلة، الى اوضاع دير البلمند نرى ان هذا الدير تأسس على يد الارثوذكس العام 1602. فالوثيقة التي أرَّخت تأسيسه تؤكد ان الدير كان مهجوراً منذ ان تركه الرهبان السيسترسيون، ومنذ ان غادر الفرنجة مدينة طرابلس(10). الا ان العديد من الدلائل والاثباتات تشير الى ان هذا الدير كان موجودا قبل هذه المرحلة. فلدينا المخطوطات التي نسخت في هذا الدير قبل هذا التاريخ، والتي تؤكد وجود رهبان متوحدين فيه. كما ان لدينا في مرحلة سابقة تعود الى ماقبل المرحلة العثمانية، مخطوطاً نُسخ السنة 1499 في حردين، وتم ارساله الى دير البلمند من دمشق(11). وعلى الارجح ان هذا المخطوط لم يصل الى الدير لأنه محفوظ في مكتبة مدينة اوكسفورد في بريطانيا. كما ان لدينا إثباتات عقارية ومالية تدل على ان الحياة في دير البلمند كانت موجودة قبل فترة تأسيسه الرسمية. فهذا الدير مذكور في الاحصاءات التي اعدتها السلطات العثمانية، عندما احتلت البلاد وطردت المماليك منها. فالاحصاء الاول الذي أُعدَّ العام 1519 يذكر ان مزرعة دير البلمند عائدة الى تيمار محمد كنفاني، وهي مزروعة بالقمح والشعير والزيتون، وكانت تدفع 300 أقجة.
ويذكر الاحصاء العثماني الثاني1571 دير البلمند على انه تابع لأهالي قرية بترومين التي هي جزء من تيمار قلعة طرابلس. وفي هذا العام بلغت قيمة الضريبة المتوجبة على الدير 400 اقجة. فهذه الزيادة100 اقجة في اقل من 50 عاماً فهل كانت عائدة لزيادة في الانتاج أو لزيادة في الضريبة على المنطقة؟.
إذا قبل العام 1602، كانت اراضي البلمند أراضي تيمارية أي اراضي تابعة للدولة، تخصصها للإ قطاعات العسكرية لاسيما فرق الخيالة.
هذه المعطيات تتناسب مع الاوضاع في شمال لبنان. فالاحصاء الذي اعده العثمانيون العام 1519 يذكر ان معظم أوقاف مناطق الشمال كانت اوقافاً عائلية بلغت ايراداتها المخصصة للقلاع العسكرية 78378اقجة.
لدينا خلال هذه الفترة، في منطقة الشمال وحدها، ثماني قلاع تستفيد من أراضي موزعة على 35 قرية. ففي هذه المناطق الجبلية الوعرة المحتلة حديثاً، كانت مراقبة الأراضي وترقُب الأخطار في الارياف جزءاً من ادارة الولايات المبنية على نظام التيمار. كما لدينا في هذا الاحصاء أن إيرادات الأوقاف الخيرية المخصصة للمدارس والجوامع والزوايا لاتوفر سوى 26665أقجة اي ثلث الايرادات النخصصة للقلاع، بينما الاراضي التيمارية كانت توفر 2،702،760 أقجة. فمن الواضح أنه خلال هذه المرحلة كانت الأولوية تُعطى للأهداف العسكرية، وكانت الاراضي التيمارية هي التي تشكل الأكثرية بالنسبة الى نوعية الأراضي(12).
المرحلة الثانية: ازدهار الأوقاف
لقد تحولت أوضاع الأوقاف في الدولة العثمانية، مع تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية فيها. فنرى تزايداً هائلاً في المؤسسات الوقفية التي صُنفَتْ تحت تسمية “وقف غير صحيح” أي اوقاف مؤسسة على اراضي أميرية بالمقارنة مع “الوقف الصحيح”أي المؤسس على أراضي ملك.
السلطان بنفسه أسس أوقافاً خيرية وأوقافاً أهلية يعود ريعها لأفراد ذريته من الأراضي الأميرية، تبعه بذلك معظم أفراد طبقة العلماء وأشراف الفئات العسكرية والادارية. ولم يساهم أفراد الرعايا، من تجار وفلاحين وحرفيين، بسوى 10 بالمائة من الأوقاف التي تأسست خلال هذه الفترة.
وفي لبنان نرى علاقة واضحة بين نمو الاوقاف المسيحية والانقلاب الديموغرافي الذي جرى خلال القرنين 17 و18، فعلى الصعيد الديموغرافي نشهد هجرة كثيفة للعائلات المسيحية من شمال البلاد الى المناطق الوسطى او الجنوبية. أما على الصعيدين المالي والاداري فقد انتقلت الدولة من الاعتماد على نظام التيمار الى نظام الالتزام. فالدولة العثمانية لم تعد دولة تتابع التوسع ولا القتال وتجييش الجيوش، واصبحت تحتاج الى المزيد من الأموال لتأمين رواتب الانكشارية والموظفين والادارة العامة. وكان نظام الالتزام الضريبي يوفّر لها وصول الأموال بشكل سريع الى الخزينة قبل جبايتها من الشعب. الا ان هذا الانتقال من نظام التيمار الى نظام الالتزام لم يجر سلمياً. والحروب والمعارك التي ينتج عنها دوماً حرق القرى والمحاصيل وتهجير السكان لم تنحصر في المناطق الشمالية، بل شملت المناطق الوسطى والجنوبية في جبل لبنان. ففي العقد الثاني من القرن 18نتجت من المعارك بين القيسيين واليمنيين هجرة العديد من العائلات المنتمية الى الحزب اليمني بعد انتصار الحزب القيسي. نرى اذا العائلات المسيحية تحل محل العائلات الدرزية في المتن والشوف. الا ان الأراضي الأميرية في هذه المناطق التي كانت مهجورة ستؤجر للرهبانيات والعائلات الآتية حديثاً من الشمال.(13)
من هنا نرى هذه الاراضي الأميرية الواقعة بين القرى تتحول من اراضي اميرية الى اراضي اوقاف عن طريق الإجارة أو المزارعة، والقرى تتحول الى أملاك عن طريق اعادة إحياء الارضي الموات، والاديار التي نعرفها في المناطق الجبلية، كانت عبارة عن مباني لم يكن فيها شيء مبني سوى الواجهة. فهي عبارة عن مغاور وكهوف محفورة بالصخر أقفلت تدريجياً بالحجارة. فمن الاديرة التي لها واجهة أو اكثر مؤلفة من صخور: دير النبي الياس شويا البطريركي، دير القديس ديمتريوس في كوسبا، دير السيدة في كفتون، دير سيدة حماطورة في كوسبا، ودير النورية في حامات.
هذه الاراضي الصخرية لم تكن مستثمرة زراعياً، فهي جزء من الأراضي الموات التي يمكن الاستفادة منها بواسطة إحيائها، وقد استُخدمتْ أيضاً كمقالع (ج مقلع) لاستخراج الحجارة لبناء البيوت وبناء الجلول التي استُثمرت لاحقاً للزراعة. من هنا نرى الامراء الدروز في جبل لبنان يهبون الأراضي الأميرية أو يؤجرونها أو يشترونها لتسليمها للاديار المسيحية بغية استثمارها. لأنها ان لم تُستثمر فلن تدفع الضريبة.
فالأراضي الزراعية لم تكن تدفع الضريبة على مساحتها بل على قيمة الانتاج الزراعي الذي تؤمنه. من هنا نرى أن الاوقاف سمحت للسلطات المحلية بأن تزيد من ريع السحب الضرائبي، فارضةً يوماً بعد يومٍ ضرائب جديدة ومدفوعات اضافية درجت تسميتها البلص.(14)
اما فيما يتعلق بالأوقاف الارثوذكسية خلال هذه الفترة، فهنالك ايضاً ميزات خاصة نستطيع استخلاصها. فالميزة الاولى هي انه الى جانب ازدهار الأوقاف وتنميتها الذي شمل كل الطوائف، تعرضت الاوقاف الارثوذكسية لانتكاسة في بدء القرن 18 اي في بدء مرحلة النمو. فقد ادى انشقاق الكاثوليك العام 1724 الى حرب بين الاديار، والى اقتسام الممتلكات والاوقاف التي كانت كلها للأرثوذكس وحدهم سابقاً، فنرى انه في القسم الاول من القرن 18، بعد حرب مدمرة وقعت بين فارس الدهان وابو عسكر يونس الجبيلي الوجيه الارثوذكسي، على التزام ضرائب المدينة وموارد الجمارك فيها، اضطر الروم الى نقل مقابرهم الى جوار مار متر في الاشرفية، واعطيت الارض المجاورة لدير القديس جاورجيوس الى الكاثوليك لبناء كاتدرائية النبي الياس (15) وهنا لدينا العديد من الاديار التي اخذت تدفع الاموال وتقدم الهدايا للأمراء للحصول على اديار الطائفة الاخرى.
استمرت المزايدات الى ان تدخل الأمراء الشهابيون ووضعوا حداً للخسائر التي ترتبت على الكنيستين. هذا عدا الوشايات المتبادلة ، وقمع السلطات العثمانية لطرف غم لآخر، الى جانب حصولها على البراطيل من الجميع ومضايقتها للجميع.(16)
الميزة الثانية تتمثل في أنه، على عكس مايعتقد الكثيرون وما هو رائج، فالأوقاف الارثوذكسية لم تتوسع من الهبات واعطاء الاراضي. ان عملية الوقف بمعنى وهب الارض وتجميدها لم تكن امراً رائجاًعند ابناء الكنيسة الارثوذكسية. فالمعروف انهم ليسوا اغنياء ولا ملاك الاراضي، ومعظم المالكين لم يكونوا يملكون الكثير من الاراضي، ولم يكن لديهم الكثير من العائلات الاقطاعية ذات الارزاق الواسعة. كان هناك بعض العائلات التي حملت لقب المشايخ، والتزمت ضرائب المناطق وامتلكت الاراضي، الا انها بقيت نوعاً ما محدودة كآل العازار في الكورة، وآل عطية في عكار وآل دبس في المعلقة.
نجد عند الطائفة المارونية عكس ذلك فمعظم ابنائها يمتلكون اراضي كونهم من صغار المزارعين او من العائلات الاقطاعية: دحداح- خازن- حبيش …الى جانب اعتناق عائلات من امراء الدروز المسيحية المارونية منذ اواخر القرن 18: ابي اللمع، شهاب،حرفوش…مما ادى الى زيادة الاراضي التي يمكن منحها للأوقاف.
فعلى سبيل المثال، نجد في دير النبي الياس شويا الارثوذكسي، خلال ثلاثة قرون تتوزع عليها الحجج العقارية، حجتي اوقاف فقط. بينما في دير مار شليطا الماروني في غوسطا، لدينا ثلث الحجج العقارية التي تؤمن اوقافاً للدير منها من آل الخازن، ومنها من فلاحين بسطاء.
الاوضاع تتغير نسبة الى المناطق ونسبة الى تخصص سكانها المهني. فمنطقة الكورة كانت أكثر كرماً مع دير البلمند، اذ لدينا مثلاً50 وقفية تم توفيرها خلال ثلاثة قرون. هذا العدد من الأوقاف يشكل 10% من مجمل الحجج التي جرى التوسع العقاري بواسطتها في البلمند. الى جانب ان قسماً هاماً من هذه الوقفيات أجراه رجال دين مسيحيون، مطارنة او كهنة او شمامسة…نستطيع تفهم هذا الامر بكون منطقة الكورة منطقة زراعية متخصصة، وكون المناطق التي توسع فيها الدير هي مناطق متعددة تشمل العديد من القرى والمدن والمزارع.(17)
اما الميزة الثالثة فتتمحور حول الضرائب. فقد درج العديد على الاعتقاد، ان الأوقاف والاديار لم تكن تدفع الضرائب للدولة. ويعتبرون هذا الامر سبباً في نمو الاوقاف وتزايد العطايا والهبات لها. ماهو اكيد ان الأديار والمطرانيات والاكليروس كانوا بحسب الشرع معفيين من دفع الضرائب الشخصية كونهم فقراء يعيشون من حسنات الناس لهم(18). وهذا العفو لم يكن محصوراً بالاكليروس وحده بل كان يشمل كل من يعمل ضمن المؤسسات الكنسية من خدام وطلاب ومعلمين ودياقوس الكنيسة (مرتلين وقندلفتية)، فهؤلاء ايضاً كانوا معفيين من ضريبة الجزية التي تدعى حسب المناسبات والغارات والمناطق:” جوالي –شاشية- فريضة- فرده- عسكرية…
في الاديار كان العفو يشمل الفلاحين الشركاء العاملين على اراضي الاوقاف. وهذا العفوكان يحق للشركاء المتعاقدين على نصف الغلة. اما الشركاء المتعاقدين على ربع الانتاج او ثلثه فكانوا يدفعون الضرائب الشخصية.(19)
إلا أن تعنت بعض الحكام، وحاجة الدولة الى الأموال ، جعلا هذه، في بعض الأحيان تتشدد في استيفاء الجزية من المسيحيين. ففي طرابلس، العام 1691م(1103ه)، لدينا من رهبان مدينة طرابلس وكهنتها طلب أو دعوى الى المحجكمة الشرعية يدعون فيها على الوالي مصطفى باشا بأنه يجبي الجزية الشرعية منهم ومن ” الرهبان الخدام في كنيسة طرابلس وبالأديرة الكاينة بإيالتها وهم من جملة فقراء النصارى غير القادرين على الكسب”. ولم يصدِّق الوالي هذا الأمر. فحضر خمسة من الشهود المسلمين وأكدوا أن هؤلاء الرهبان هم فعلاً فقراء وليس لديهم من قديم الزمان، عادة إعطاء الجزية، وليس لهم حرفة ويعيشون من صدقة المسيحيين.(20)
والمعروف أن هذه الاديار انها أدت دوراً هاماً في تجميع غلال المزارعين في المنطقة ودفع الضريبة عنهم. فالاقتصاد، في هذه الفترة في جبل لبنان، تخصَّصَ في إنتاج الحرير، ما أدخل هذه المنطقة في مجال التجارة العالمية. والاديار، بتوسعها العقاري خلال القرنين 18 و19، وفَّرَتْ لهذه التجارة الخارجية المواد الاساسية التي كانت تسعى اليها: فالحرير الذي كان يُصنع محلياً في المدن ومراكز الولايات كدمشق وحلب وبيروت وطرابلس وصيدا… وصافيتا وبعض القرى في وادي النصارى وجبل لبنان بشمزين، دير القمر، ذوق مكايل او بيت شباب… وكان صناعة مسيحية بامتياز مع بقية المهن الاساسية والكبيرة وفي مقدمها سدي الحرير وخاصة في دمشق، اصبح يُصدر الى الخارج وصارت له شهرته العالمية حتى ان ملكة بريطانيا فكتوريا لبست من الحرير الدمشقي والداماسكو ثياب عرسها في منتصف القرن 19وقد استوردته من دمشق…
هذه الاديار، تمكنت من ان تتوسع عقارياً بمساعدة الأعيان من ابناء الكنيسة، الذين ساهموا في توفير المعاملات الرسمية مع الدولة، وساهموا في تصريف الانتاج الزراعي وتصدير محصول الحرير.
اراضي الاوقاف لم تكن كلُّها أراضي خصبة محيطة بالأديار، بل نرى أراضي من جميع التربات خصبة او مجدبة، في جميع المستويات موزعة على عدة مناطق. هذا التشرذم في توزُع الملكية الوقفية لم يكن دائماً سلبياً. فتنوع التربة والمناطق يعني تنوع الانتاج، ماكان يساعد على توفير جميع انواع المواد الغذائية ليس للدير وحده بل لكل المزارعين العاملين معه. فشركاء الاديرة كانوا يتمونون منها التي كانت تستلم ليس فقط انتاج الحرير من العاملين في اوقافها، إنما أيضاً بقية المواد التي يمكن ان تتوفَّر من مشتقات الكرمة كالخمور الفاخرة والزبيب والدبس والقمح والزيتون والانتاج الحيواني.(21)
وهذه الأديرة كانت تدفع مسبقاً الضريبة الى الدولة، مانعةً بذلك مجيء العسكر لجباية الضرائب، ماكان يوفر على الفلاحين الكثير من التكاليف والخسائر، التي كانت تفرضها فرق الجوالة على المزارعين وخاصة لجهة البلص والاذية والتعديات على الحرمات والاعراض.
الا ان هذه الخدمات كان لها ثمن، فعلى الفلاح أن يسدد التكاليف من حصته في انتاج الوقف كما في القرى الثلاث الجارية في وقفية اراضي دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي ( الزويتينة والمشتاية و…) الى المواد الغذائية، الى الضرائب للدولة، الى المدفوعات الاضافية… هذا مايجعل الشريك يستدين من الدير. وهذا الدين لم يكن ليغير شروط الشراكة الا بعد تراكم الديون والفوائد. وبالنهاية يمكن ان يفقد الفلاح ماتبقى له من ملكية الارض في القرية، لكن من دون ان يفقد موقعه او عمله كشريك للدير.(22)
وهذا الدور في توفير القروض للمزارعين تّممته الاديار بقبول الودائع من الأغنياء الذين سبق أن وفروا العطاءات أو المعاملات الرسمية. فالأديار كانت ملجأ لهؤلاء التجار او امناء سر الحكام في المنطقة. فهؤلاء بثرواتهم الطائلة، كانوا احياناً يستجلبون غضب وغيرة الحكام الذين يلاحقونهم للانتقام منهم او للتسلط على ثرواتهم. من هنا نرى هؤلاء يلجأون الى الاديرة في ايام الحروب والكوارث من زلازل وأوبئة. وفي كثير من الأحيان كانوا يضعون أموالهم بأمان في هذه الاديرة.
في ذلك يقول المؤرخ عيسى اسكندر المعلوف إن سكان زحلة الارثوذكس كانوا يودعون اموالهم في دير النبي الياس شويا لتفادي أن يصادرها الأمير بشير، فما كان من هذا الأخير إلا ان صادر الدير والأموال التي كانت فيه. (23)
من هنا نرى أنّ هذه الاديار كانت النواة الاولى لنموذج المصارف في المنطقة والكثير منها تابع هذا العمل حتى منتصف القرن العشرين إنما بشكل محدود.
واستمر ازدهار الاديرة مع تطور صناعة الحرير خلال كل القرن 19، الا اننا لم نعد نجد الكثير من الحجج التي تسجل شراء الأراضي أو وقفها للأديار، بل نرى ان الأوقاف، خلال هذه الفترة، تسعى الى تثبيت ملكيتها وتركيز أراضيها في المناطق المجاورة لها. فلدينا العديد من المعاملات لتحديد الاراضي وفسخ عقود الشراكة، ولدينا ايضاً مقايضات تجري باشراف السلطات الرسمية. فنرى مثلاً دير البلمند يقايض اراضي كان يملكها في طرابلس بأراضي اخرى في اميون. وحسب الوثائق نرى ان المحاكم الشرعية كانت تحرص على ان تتم المقايضة لمصلحة الوقف كما ينص الشرع. كما ان معظم عقود المقايضة في هذا الدير تمت في النصف الثاني من القرن 19 بين الدير واهالي قرية بطرام.(24)اما فيما يتعلق بفسخ عقود الشراكة فهي كانت تجري مع الامراء او القيمين على الاراضي الأميرية. وكانت تفترض تقسيم الأراضي التي تم زرعها أو استثمارها بعد ان يكون الوقف قد استصلحها.
فنجد حجج تقسيم وتحديد الاراضي التي سبق ان تم عقد الشراكة عليها. فهذه العقود هي عقود مزارعة تسمح بهذا التقسيم على أراضي اميرية أو ملك. بينما العقود التي كانت تتم على اراضي للأوقاف بين الاديرة والمزارعين كانت عقود مساقاة لايمكن من خلالها تقسيم الاراضي المصنفة أوقافاً لأن الشرع لايسمح بتقسيم الاوقاف.
من هنا نرى ان السلطات العثمانية التي في بدء احتلالها حاربت الاوقاف، أخذت في القرن 18 تسهل عليها تحويل الأراضي الأميرية الى اوقاف وتسجيلها رسمياً.
كما نرى هذه السلطات، من ولاة ومفتين ومحاكم، تتخذ المواقف المؤِّيدة لتثبيت سيطرة الأوقاف على ممتلكاتها واجراء المعاملات واصدار الاحكام لمصلحة المؤسسات الدينية في الدعاوي التي تقام ضدها او في تقسيم الاراضي والمقايضة عليها.(25)
المرحلة الثالثة: نمظيم الاوقاف وتوكيل العلمانيين
ان تنظيم الأوقاف في الفترة العثمانية يختلف تماماً، عما كان عليه في العصور الاسلامية القديمة، وعما ينص عليه الشرع. فالدولة العثمانية احتفظت بحقها في جباية الضرائب من الاراضي التي تحولت الى أوقاف. إلا أن كون الأوقاف، بطبيعتها، تغير التوجيهات القرآنية المتعلقة بالإرث، فإن من شأن تأسيسها أن يحول إيرادات الأرزاق الموقوفة من الخزينة الى يد أفراد بشكل دائم ونهائي. وهذا التبدل في الاراضي الاميرية الذي سهله في بدء الأمر السلاطين أنفسهم، ادى الى افقار الخزينة وتدهور الوضع المالي في الدولة.
ففي بدء القرن 19 قُدِّرَتْ الأوقاف بنصف او ثلثي مجمل الأراضي في الدولة العثمانية. وهذا الأمر،كما رأينا، أخذ يشكل خسارة كبيرة، كان يجب على الدولة التعويض عنها بتصحيح الأمور العائدة لتنظيم الاوقاف . من هنا كان من الضروري ايجاد ادارة مركزية، على صعيد السلطنة بكاملها، تسعى الى استرجاع الايرادات الضرائبية للأراضي الأميرية التي سبق أن حُوِّلت لأهداف اخرى . وعلى الارجح، هذا كان هدف السلطان محمود في تأسيسه نظارة الأوقاف الهمايونية التي كانت اساساً لوزارة الاوقاف في عهد التنظيمات. وكان لابد من اعادة توحيد الهيئات المتعددة التي استغلت الأوقاف فترة طويلة لمصلحتها.
فالاصلاح الأساسي الذي تم ادخاله على الاوقاف، كان بازاحة القضاة الذين تسلموا ادارة شؤون الاوقاف منذ العهد الأموي، وتعيين مسؤولين علمانيين مكانهم تابعين لوزارة الاوقاف. وتتضمن الارادة السَّنَّيِةْ الواردة العام 1848 أن التداول في المسؤوليات يجب ان يحصل تدريجياً. ويجب اختيار النظَّار والمتولين من بين “المدرسين الكرام” او من بين ” معتبري الوجوه” أي الأعيان كي يثق الشعب بهم. هذا الامر يدلنا على ان الدولة كانت تحرك بكثير من الحذر والانتباه في مجال اصلاح الاوقاف.
الا ان هذه الاصلاحات ادت الى عكس ماكانت تسعى اليه. ويعتبر بعض الشهود والرحالة الاوربيين أن نزع استقلالية الاوقاف واقصاء القضاة ورجال الدين عن ادارتها، أديّا الى تدهور أوضاع المباني الموقوفة واضفاء طابع الدمار على المدن العثمانية الاسلامية التي يكثر فيها مثل هذه المؤسسات. فإن وضع يد الدولة على موارد الأوقاف وإيراداتها أدى الى تحويل مردودها الى خزينة الدولة، ماجعل الوكلاء والمتولين عليها يهملون ترميمها، فأخذت المباني الثقليدية، من جوامع ومدارس وجسور وخانات وأسواق، تتداعى تدريجياً مؤثِّرةً سلبياً على جوارها المديني.
هذه الاصلاحات في ادارة الاوقاف وتنظيمها، والتي كان لها آثار سلبية لدى الطوائف الاسلامية، كان لها وقع مختلف لدى الطوائف المسيحية. فقد سبقتها اصلاحات اساسية عائدة الى التنظيمات العثمانية. وبدأت هذه الاصلاحات مع “خط شريف كلخانة” (1839)، وادت اصلاحات الخط الهمايوني 1856 بعد حرب القرم والدستور العثماني الذي وضعه مدحت باشا 1873 لتؤكد هذه الاصلاحات وتدعمها.
هذه التنظيمات الحديثة ادت الى تحديث مؤسسات الدولة ونصت على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات بين المسيحيين والمسلمين، اذ لاتفرقة بينهما في مجال الضريبة وخدمة العلم والعدالة. ولاتفرقة في الانتخابات والتعيينات الوظيفية.
اصبح يحق للمسيحيين ترميم كنائسهم وبناء غيرها. بالمقابل تطلب الدولة من المسيحيين ان يُعاد تنظيم مؤسساتهم كما هو مذكورصراحة في خط الهمايون 1856.
من هنا ومنذ بدء القسم الثاني من القرن 19 وبمساعدة الدولة العثمانية وتأييدها، نرى الطوائف تنظم شؤونها وتؤسس مجالسها بمساهمة العلمانيين الذين كانوا يسعون الى ادارة مدارسهم وتوزيع ايرادات اوقافهم والمشاركة في تعيين رؤسائهم الروحيين، فاصلين بذلك الشؤون الدينية عن الشؤون الزمنية، ولذلك صارت المجالس الملية التي هي اشبه ببرلمانات للملة وتنبثق منها لجان متخصصة بالأوقاف والدارس والكنائس والاعمال الخيرية لذا توالدت الجمعيات الخيرية المتنوعة والعلمية والثقافية مثلاً في دمشق اعتباراً من الفترة التالية لمجزرة1860 حيث عادت البطريركية بدمشق تلملم جراحها وتعيد بناء مادمره الارهاب الطائفي المغذي بالحقد المحلي الاسلامي واليهودي والشعوبي على المسيحيين الذين تساووا معهم في الحقوق والواجبات بعد ان كانوا من اهل الذمة وادنى بثلاث درجات من مواطنيهم المسلمين. وساهمت دسائس الولاة في تأجيج فكرة القضاء على المسيحيين كما فعل والي دمشق احمد باشا ونجح في القضاء عليهم ولكنه لم ينجح في التخلص من نظام الامتيازات الدولية المفروضة على الدولة نتيجة حرب القرم 1856.
هذه الاصلاحات التي ادخلت العثمانيين في ادارة شؤون الاوقاف، كان لها الأثر الايجابي في تطوير الاوقاف وإنمائها. فهؤلاء العلمانيون كانوا من اعيان المدينة المهتمين بالشؤون الصناعية والتجارية والمالية. وقد ادخلوا القوانين الحديثة في تنظيم الاوقاف، ونراهم يُقدمون على دعم المشاريع التي أعدُّوها بأنفسهم بكل حماس وسخاء.
بالنسبة الى الاوقاف الأرثوذكسية كان لهذه الاصلاحات تأثيرات متفاوتة. هذه التأثيرات تذهب بأكثريتها تجاه التطور والازدهار. في هذه المرحلة لدينا ميزات خاصة بالكرسي الأنطاكي، إنما مرتبطة أيضاً بالتطورات العائدة الى الكنيسة الأرثوذكسية، وبمقررات الدولة العثمانية. فهنالك تأزُّم العلاقات الروسية اليونانية الذي دفع الروس الى دعم المشاعر القومية العربية والوطنية لدى الارثوذكس الأنطاكيين. كما أننا نشهد، نتيجة تطوُّر المدن وازدهارها الاقتصادي، ونتيجة الازمات المتتالية في القطاع الزراعي، تصاعداً للتباعد أو التنافر في العلاقات المدينية الريفية، فعلى سبيل المثال نرى الوثائق،على الرغم من الازدهار في التوسع العقاري، والدور الذي قامت به الاديار في القرنين 18 و19تعلمنا أنّ معظم الاديار الأرثوذكسية في جبل لبنان التي كانت تابعة ابرشية بيروت، وكانت مديونة. وعندما تمكّنت من تسديد ديونها بقيت محدودة وبسيطة. وهنا ايضاً نرى تأثير التباعد الريفي المديني على انفصال ابرشية بيروت عن ابرشية جبل لبنان، ما ادى هذه المرة أيضاً الى اقتسام الأوقاف بين الابرشيتين، وتالياً الى اضعاف الامكانيات الاقتصادية لدى الطرفين.
اما الميزة الثانية لهذه المرحلة الثالثة فهي تتمثل بسياسة اللامركزية التي اتبعتها السلطات الكنسية القيمة على الاوقاف. فنلاحظ في المدن ازدهاراً لامثيل له للجمعيات والمؤسسات الكنسية القيّمة على، الى اعانة المرضى، الى دعم التعليم الى دفن الموتى، الى تأسيس المكتبات لدعم التعليم الديني، الى تشجيه الآداب، كلها جمعيات كانت الاساس في شعور العلمانيين بضرورة التزام قضية الآخر ومساعدته.(26)
هذه الحال نراها واضحة في دمشق وحمص واللاذقية وبيروت وفي معظم مراكز ابرشيات الكرسي الانطاكي، وبالذات في دمشق المقر البطريركي الانطاكي والابرشي الدمشقي، حيث ظهرت بداية جمعية نور الاحسان الارثوذكسية في اواخر السبعينيات من القرن 19، واهتمت كما يدل اسمها على تقديم الاحسان للمعوزين وكانت اقوى الجمعيات مالياً وغنى بالأوقاف(27) لتتلوها الجمعيات المماثلة في عمل الخير في محلة الميدان وفي انطاكية… والجمعيات العلمية والثقافية الدمشقية لفتح المدارس وتطويرها والجمعيات التي تعنى بالمرضى كجمعية مستشفى القديس العظيم بندلايمون الدمشقية كما سبق هنا في هذا البحث… وفي اللاذقية كان لمتروبوليتها ملاتيوس الدوماني الدمشقي (1864-1898) كل الفضل في بناء نهضتها الروحية والعلمية والادبية والخيرية والاجتماعية لجهة فتح المدارس وخلق الجمعيات الخيرية والتبشير في الاوساط غير الارثوذكسية وقبول المنتمين بكثافة…(28)
وكذلك في حمص وحماة بفضل متروبوليتيها عطا الله وجبارة … وفي بيروت لجهة متروبوليتها العظيم غفرئيل شاتيلا…(29-30-31)
ونلاحظ انه في ماعدا دمشق الناهضة بالقيامة من قبر المجزرة (32) وبقاء البطريرك ايروثيوس في القسطنطينية1860 وانحسار الحي المسيحي وتحديداً الارثوذكسي عبر استيلاء السكان المحليين المسلمين على معظم الحي المسيحي الارثوذكسي بمؤسساته وبيوته بعد استشهاد اصحابه، وهو الممتد من محلة البطريركية والمريمية الى الغرب باتجاه باب الجابية والجامع الاموي في الشارع المستقيم واسواق البزورية وباب الصغير والسوق الطويلة ومكتب عنبر والقيمرية وباب السلام والعمارة الجوانية واستيلاء البطريرك ايروثيوس وجماعته على جزء من اموال التعويضات العثمانية عن محروقات وقتلى المسيحيين الارثوذكسيين، لذا نرى ان من تبقى من وجهاء الملة قدتأخروا نسبياً في انشاء الجمعيات، ونضرب مثلاً على ان دار المريمية ودار البطريركية لم يتم تدشينهما الا بعد سبع سنوات اي في عام 1867 لعدم توفر المال، وانتهاء واردات الاوقاف ودمار المدارس واستشهاد نصف السكان وهجرة الربع الى بيروت والاقامة في تلة الاشرفية واعمارها وبقي الربع من ذوي الشهداء والمنكل بهم وفاقدي كل سبل الارتزاق والمعونة، بعكس الطوائف الاخرى التي وان حرقت كنائسها وبيوتها ومؤسساتها الا انها في معظمها لقيت النجاة في امكنة اخرى كالتجاء مطران السريان الكاثوليك على دمشق ورعيته الى دير سيدة صيدنايا الحصين وقد فروا من المدينة قبل وصول المهاجمين وهو حال القسم الشرقي حيث تعيش بتقسيم ديموغرافي الطواائف الغربية والسريان والارمن… وبحماية قنصلي النمسا وفرنسا ما امكن وبقيت بيوتها وخاناتها ودكاكينها وان كانت محروقة لكنها بقيت لأصحابها… بعكس الجانب الارثوذكسي الذي قضى بالالوف، يضاف اليه ان البطريرك لم يوقف عقارات لمصلحة الجمعيات الارثوذكسية وكان اساساً مقيما طيلة السنوات السبع في القسطنطينية ان كل ما تم توفيره من اوقاف كان بهمة الدمشقيين بقيادة وجهائهم ومجلسهم الملي.
مطارنة الابرشيات وكلهم مطارنةً وطنيين منتمين (بعكس دمشق وبطريركها ايروثيوس كما اسلفنا) خصصوا لكل جمعية او مؤسسة أوقافاً واموالاً اقتطعوها من رصيد وعقارات الاوقاف القديمة التقليدية المعروفة كما في بيروت واللاذقية وحمص وحماة و…
ففي بيروت(33) على سبيل المثال، لدينا وقفان اساسيان قديمان هما وقف فقراء القديس جاورجيوس ووقف فقراء الروم. فبعد العام 1879 اصبحت لدينا أوقاف ملحقة بالكنائس التي أسستها الجمعيات الحديثة، خاصة مدرسة زهرة الاحسان ومستشفى القديس جاورجيوس، والجمعيات التي تأسست خلال هذه الفترة كلها استفادت من جزء من هذه الاوقاف ولو بسيطاً، لتنطلق وتنمو(34) ويؤكد بعض الباحثين في علم الاجتماع ان هذه الجمعيات كانت مهمة جداً في تطور المجتمع ونموه. ويعتبر الخبير في العلوم السياسية سعد الدين ابراهيم أنّ مثل هذه الجمعيات أدتّ دوراً أساسياً في نشأة المجتمع المدني في العالم العربي وفي تنميته.
ويعتبر الدكتور احمد بيضون، بحديثه عن نشأة الدولة اللبنانية، أن هذه الدولة نشأت في فترة حياء الطوائف، أي إنَّ هذه الطوائف انكفأت مؤقتاً لتترك المجال للدولة بالنهوض.(35) فمن هنا نرى ان الدولة العثمانية في اواخر عهدها، لم تكن كثيرة الاهتمام بأوضاع مواطنيها وحاجاتهم، وان الطوائف التي فقدت حياءها، بهذا المعنى، كانت هي التي تسعى الى ملء الفراغ التربوي الصحي والاجتماعي…
هذه الوظيفة تخلت عنها الطائفة الارثوذكسية لدى نشأة الدولة اللبنانية، ولم تعد مهتمة بتطوير مؤسساتها تاركة للدولة واجب القيام بأبسط واجباتها، اقتناعاً منها بأن الدولة اللبنانية هي دولة نهائية ليس للأرثوذكسيين مشروع بديل عنها. هذا الأمر نجد عكسه في سورية فقد تابعت البطريركية الاهتمام بالمدارس التي كانت لها والتي كانت للجمعية الامبراطورية الفلسطينية الروسية وتخلت عنها للبطريركية الانطاكية عام 1917 عند قيام الحكم الشيوعي في روسيا في ابرشية دمشق وريفها وفي ابرشية حوران وجبل العرب والقنيطرة، فتابعت البطريركية مسيرة التعليم الى عام 1936 عند اعتراف الفرنسيين بالجمهورية السورية.(36)
اذن كان ثمة توافق بين الحكم الوطني السوري والبطريركية، بينما كان الحال معاكساً فالطوائف الغربية كانت في انسجام تام مع المفوضية الفرنسية العليا، وفي التعيين بالوظائف التي حصرتها بها المفوضية كالجمارك والمصارف والسكك الحديدية فكان التعيين في وظائفها وتحديدا الكبيرة لابناء الطوائف الكاثوليكية والمنتمين اليها من الارثوذكس بحثاً عن الوظيفة العامة.
كذلك الحال كان في الرعاية الكاملة لمدارس الرهبنات الغربية،(37) وفي التعويض على القرى االكاثوليكية المتضررة بفعل الجهلة من الثوار السوريين ومثالها حوران وجبل العرب واقضية جنوب لبنان المتاخمة للقنيطرة، بينما هذا لم يحصل بحق القرى الارثوذكسية التي تولت البطريركية في دمشق، وخاصة فترة الثورة السورية الكبرى 1925-1927 اجلاء سكانها واقامتهم في البطريركية والمدارس بدمشق وتولت الجمعيات الخيرية الانفاق عليهم وسط تجاهل مطلق من الفرنسيين، لا بل والاعلان عن عدم القدرة على المساعدة، ناهيك عن تسهيلات بسط اليد على الكثير من الكنائس والاديار والمؤسسات الارثوذكسية كدير مار توما في صديدنايا، ودير مار الياس في معرة، مقام القديس بولس في باب بولس احد ابواب دمشق السبعة… بتأييد ودعم مطلق من المفوضية الفرنسية وخضوع سلطات الحكم الوطني السوري مرغمة لها، وتثبيت نقل الملكية الى الطوائف الغربية، مع نقل اعداد كبيرة من الارثوذكسيين على الورق في سجلات قيد النفوس من الطائفة الارثوذكسية الى الكاثوليكية، دون علم اصحابها، لكون مأموري النفوس كانوا من الكاثوليك كما في اقضية وادي العجم(جديدة عرطوز وداريا وعين الشعرة…) وفي بعض مناطق وادي النصارى وفي مرمريتا وصافيتا… وفي بعض قرى حماة…(شهادات شفهية، ووثائق ابرشية دمشق وعكار وحمص)
كل ذلك كان بسبب رفض الكنيسة الارثوذكسية للانتداب الافرنسي بوجهها الوطني التحرري بقيادة البطريرك غريغوريوس الرابع 1918،ومحاولة المفوضية شق البطريركية الارثوذكسية الى اثنتين سورية، ولبنانية بعد موته 1928، وتابع في خطه البطريرك الكسندروس الثالث 1931-1928برفض الانتداب ودعم ومساعدة ثوار الغوطة بالمؤون، ومثله الحال في بقية الابرشيات بقيادة مطارنة الابرشيات السورية حلب، حمص ، حماة، عكار…(38)
كان الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، انتداباً كاثوليكياً بكل معنى الكلمة وتبشيرياً كاملاً عبر غزو الرهبنات مناطق ارثوذكسية صرف كمرمريتا وصافيتا… وسط تشجيع وحماية سلطات الانتداب.
لقد حاولت البطريركية التنسيق في سورية مع دوائر الحكومة السورية في كل مجال، فنرى ان حاكم دولة دمشق حقي العظم ينصر البطريركية بحقها في تثبيت وقفية خرائب دير القديس جاورجيوس في بلودان عام 1922 ويعيد لها الحق في اعادة بناء الكنيسة(الحالي) ويصدر قراره بذلك، ويفعل الفعل ذاته في قرية عربين بابطال مطالبة مسلمي عربين بكنيسة القديس جاورجيوس (الحالية) استناداً الى كونها جارية بوقف جامع عربين الكبير ويصدر قراراً مماثلاً في العام ذاته.
وفي نطاق التعليم نرى البطريركية تتشارك مع وزارة المعارف السورية في دفع رواتب معلمي المدارس البطريركية، ووزارة الصحة بتقديم ما امكن للمستوصفات الارثوذكسية كما في المستوصف البطريركي الخيري 1944 وقبله الى عام 1930 لمستشفى القديس بندلايمون الارثوذكسي الدمشقي وجر المياه كما في جر المياه الى دير سيدة صيدنايا وبمساعي البطريركية والدير جرت المياه الى كل صيدنايا. (39)
في نطاق المؤسسات ولاسيما التربوية منها، التي ازدهرت في القرن 19، نشأت الى جانب المؤسسات الأجنبية التي اسستها الارساليات البروتستانتية، والجمعيات التبشيرية الرهبانية الغربية، وكانت في الوقت ذاته متماهية معها ومتحدية لها كمدارس الآسية الدمشقية، ومدارس الغسانية الحمصية. وفي الارياف نرى الاديار تتحول بمعظمها الى مدارس تدعمها الأبرشية أو تدعمها الجمعية الامبراطورية الفلسطينية- الروسية الارثوذكسية. واهم هذه الاديار كانت دير النبي الياس شويا البطريركي، دير القديس يوحنا، دير النورية، دير سيدة البلمند البطريركي، دير القديس جاورجيوس الحرف.
ومثلها دير سيدة صيدنايا بالمدرسة المسكوبية الملحقة بميتم البنات، ومدرسة الآسية الدمشقية للبنات التي كانت بادارة الجمعية الروسية، بينما كانت ادارة المدرسة الكبرى وهي مختصة بالصبيان كانت باشراف لجنة التعليم والمدارس المنبثقة عن المجلس الملي البطريركي، ومعها مدرسة القديس يوحنا الدمشقي ومدرسة القديس نيقولاوس الكائنة في حرم البطريركية بدمشق القديمة.
بينما كانت ادارة مدرسة دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي تابعة لرئاسة الديروبتوجيه البطريركية كون الدير بطريركي، ويقوم بها مديرعلماني كالدكتور عبيد من وجهاء المشتاية ضمن اتفاقية تعهد المدرسة مالياً، وثم المعلم جورج قطيني الدمشقي بعده الذي اسس فيها فرقة كشفية اذ كان قائد في الحركة الكشفية الارثوذكسية والسورية منذ اول عهد الانتداب الفرنسي، والارشمندريت الكسندروس جحا بعده.(40)
الميزة الثالثة التي برزت في اواخرهذه الفترة الثالثة هي تحول الاوقاف الذرية(41)
الى اوقاف خيرية. فلدينا في مدينة بيروت نموذج لمثل هذه التحولات في اواخر القرن 19. فمؤسس الاوقاف كان يوقف الأرض على نفسه ثم على ذريته ثم من بعده على فقراء الروم. كما في وقف صعاليك الروم الارثوكس، ووقف فقراء الملة الارثوذكسية، وكلاهما في دمشق اوقفهما اهل الخير بهذه الآلية.
واذا لم يكن هنالك من فقراء كان الوقف يتحول الى الفقراء من كل الطوائف(42). يجري التحول عبر دعوى يُقيمها بها اهل الواقف على الوقف الذي يفترض عليه استرجاع الوقف. وهذه الدعوى شكلية تسمَّى جعلية يقدِّمها ورثة الواقف بتحريض الوقف المستفيد او بالاتفق معه. وهذه الدعوى تتم في المحاكم الشرعية وتحوِّل الوقف الذري الى المؤسسة الخيرية أو الى الوقف المذكور في وثيقة الوقف(43)
هذا الاصلاح المؤاتي لأوضاع الكنائس الارثوذكسية في القرن 19 وبدء القرن 20. فمع دخولنا فيمرحلة تراجع الاقتصاد الزراعي، دخلت الاوقاف في مرحلةٍ من الجمود لم يكنالاكليروس هو دائماً المسؤول عنها. صحيح ان جهوداً كثيرة تمت وأحدثت تغييرات عديدة، إنما لاتزال غير كافية.
كلمة اخيرة
المطلوب في كنيستنا الارثوذكسية الأنطاكية ان تُعالج قضية الأوقاف بصفتها جزء أساسي من التاريخ الانطاكي لتساهم في صنع المستقبل، هذا المستقبل، يتطلب في جملة مايتطلبه، أن تُعالج قضية الأوقاف لا على المستوين الكنسي والشعبي فقط، إنما ايضاً على المستوين الاقتصادي والاجتماعي.
حواشي البحث
1- د.سعاد سليم مقال: “الاوقاف الارثوذكسية في أنطاكية…” كتاب تاريخ كنيسة انطاكية للروم الارثوذكسية اية خصوصية؟ منشورات جامعة البلمند 1999
2- انظر مقالنا في موقعنا هنا: “أضواء على الاوقاف الارثوذكسية في ابرشية دمشق”
3- د. سعاد سليم (1) اعلاه.
4- مقابلة مع رئيس دير سيدة البلمند الأسقف اثناسيوس صليبا العام 1987، مقال عن الاوقاف في مجلة النور 1988، الاستاذ نديم حيدر.
5- لذلك نرى ان مالكي اراضي بستان الصليب حين تم شراء جمعيات البطريركية مابين 1919 و1928 كانوا من العائلات التركية القديمة كآل القوتلي… الذين كانوا من الاقطاعيين العسكريين والحال ذاته مع بقية ملاكي الاديرة التي ذكرنا…وقد تم شراء هذه الارض لبناء كنيسة الصليب المقدس (بنيت عام 1932)، وميتم جمعية القديس غريغوريوس الارثوذكسية (بني عام 1928) ومدرسة جمعية القديس يوحنا الدمشقي الارثوذكسية (بنيت عام 1930)
ARGYRIOU,Asterios, Les exegesesgrecques de-6 l,Apocalypse a l,poque turque (1453-1821),pp.56-57
7- المصدر 6 ذاته
8- ابن الزعيم، بولس، مخطوط رقم 379 بطريركية انطاكية للروم الارثوذكس بدمشق” مقدمة رحلة البطريرك مكاريوس بن الزعيم الى روسيا.”
MAUNDRELL. Henri, Voyage d,Alep a-9 Jerusalem,pp.46- 47
10-سجل دير سدة البلمند العقاري الصفحة الاولى.
11-مخطوط رقم 87، تريودي من مكتبة البولديان في اوكسفورد، المخطوطات السريانية
KALIFEE,issam,op.,cit,pp.35-52 – 12
SALIBY, Kamalk Modern history of L ibanon, New- 13 York 1993. P.5
ABOU el ROUSSE, Slim Souad,Lmetayage et l,mpot-14 Liban au xv111, et xix, siecles, Dar el Mashreq, Beyrouth 1987, p.115
15- طراد، عبد الله، مختصر تاريخ الاساقفة الذين رقوا مرتبة كرسي رياسة الكهنوت الجليلة في مدينة بيروت، مخطوط رقم 236 من مخطوطات الصرح البطريركي الانطاكي الارثوذكسي بدمشق، نسخ المخطوط يواكيم بن اسبريدون مسرة السنة 1888. راجع ايضاً تدوينتنا هنا في موقعنا ابو يونس عسكر الجبيلي / باب اعلام ارثوذكسيون.
16- المصدر 14
17- سجل دير البلمند العقاري
18- حاشية في الصفحتين الأولى والثانية في مخطوط مجموع مبارك للبطريرك مكاريوس بن الزعيم، المكتبة الوطنية البريطانية في لندن
19- د. سليم المصدر16
20- المصدر السابق مخطوط مجموع مبارك 18
21- المصدر السابق 19 د. سليم
IBID- 22
23- المعلوف، عيسى اسكندر، تاريخ مدينة زحلة، ص262
24 -وثائثق دير البلمند الوثائق ارقام: 87- 142 – 196 – 222- 244 – 285
25- المصدر السابق 21 د. سعاد سليم
26- محفوظات ابرشية بيروت للروم الارثوذكس، جامعة البلمند 1998، ص17.
27- انظر “الجمعيات والاخويات الارثوذكسية الدمشقية” تدوينتنا هنا في موقعنا…
28- البطريرك ملاتيوس الدوماني هنا في موقعنا…
29-30-31 سير المطارنة عطا الله وجبارة وشاتيلا هنا في موقعنا
32- القديس يوسف الدمشقي/ تدوينتنا هنا في موقعنا
33- لائحة جرد أوقاف ابرشية بيروت العام 1911
34- د. سليم سعاد ابو الروس مقال “الاوقاف في انطاكية خلال الحكم العثماني” منشورات جامعة البلمند 1999.
35- بيضون، احمد، الصراع على تاريخ لبنان، منشورات الجامعة اللبنانية1997، ص253.
36- وثائق ابرشية دمشق/ الوثائق البطريركية.
37- تاريخ الكرسي الانطاكي المقدس، ومختصر تاريخ الكرسي الانطاكي المقدس/ تدوينتينا هنا في موقعنا
38- زيتون، جوزيف زيارة البطريرك اغناطيوس الرابع الى انطاكية واكيليكيا والاسكندرون 1991، طباعة بطريركية انطاكية بدمشق، مطبعة الدبس 1994
39- وثائق ابرشية دمشق/ الوثائق البطريركية
40- وثائق دير الحميراء/ الوثائق البطريركية
41- راجع تدوينتنا في الحاشية 2 اعلاه
42- د. سليم، سعاد الاوقاف الارثوذكسية المصدر 34
43- وثائق الوقف في ابرشية بيروت للروم الأرثوذكس سنة 1904-1905، مجدلاني، المطران فرح، 1898، الجمال 1877
مصادر البحث
-د. زيتون ، جوزيف “تاريخ الكرسي الانطاكي المقدس” و”مختصر تاريخ الكرسي الانطاكي المقدس موقعنا هنا…
– د. سليم ابو الروس، سعاد ” الأوقاف الأرثوذكسية في انطاكية خلال الحكم العثماني. منشورات جامعة البلمند1999
– د. زيتون ، جوزيف ” اضواء على الاوقاف الارثوذكسية في دمشق وريفها.
– وثائق ابرشية بيروت، وثائق ابرشية دمشق، وثائق دير سيدة البلمند، وثائق دير القديس جاورجيوس الحميراء، وثائق دير البلمند، وثائق دير النبي الياس شويا البطريركي…/ الوثائق البطريركية موجودات الصرح البطريركي بدمشق + مركز الدراسات والابحاث الانطاكية…
– محفوظات ابرشية بيروت للروم الارثوذكس
– مخطوطات بطريركية انطاكية وسائر المشرق، مخطوطات دير البلمند
– المعلوف، عيسى اسكندر المعلوف، تاريخ مدينة زحلة
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
اترك تعليقاً