صحراء الجزيرة العربية

الجزيرة العربية .. كيف تحولت إلى صحراء قاحلة ؟

الجزيرة العربية .. كيف تحولت إلى صحراء قاحلة ؟

الجزيرة العربية .. كيف تحولت إلى صحراء قاحلة ؟

تمتعت خلال عصر “البلايستوسين” بخصوبة الأراضي ووفرة أصناف الحيوانات فضلا عن اكتنازها لكميات هائلة من المياه

كشف باحثون -في دراسة علمية جديدة- أن الجزيرة العربية شهدت خلال 12 ألف سنة الماضية تقلبات مناخية تراوحت بين فترات من المناخ الرطب إلى فترات الجفاف الشديدة.

وقال الباحثون إن سكان المنطقة طوروا وسائل مختلفة للتأقلم مع هذه التغيرات قد تلهم المجتمعات الحديثة لإيجاد حلول مستدامة في مجابهة الاحترار العالمي.

حيث تعد شبه الجزيرة العربية اليوم واحدة من أكثر المناطق جفافا في العالم. لكن مناخها لم يكن دائما كما هو اليوم، فقد شهدت المنطقة مناخا أكثر جفافا وآخر أكثر رطوبة في فترات زمنية مختلفة.

توطئة

كيف كان مناخ شبه الجزيرة العربية قبل 20 ألف سنة ..؟ وهل كانت تغلب عليها الأراضي الصحراوية كما هو الوضع الآن؟.

قد يصاب البعض منكم بالدهشة، وبالخصوص عندما يعرف بأن معظم الدراسات المختصة وصلت نتيجتها إلى أن شبه الجزيرة العربية كانت من أجمل بقاع الأرض والمكان الأنسب للحياة، حيث غطَّت المروج والغابات والأنهار معظم مناطقها، وأمطارها كانت غزيرة في الوقت الذي كانت فيه الثلوج تغطي الأراضي الأوروبية، والمستنقعات تملأ الأراضي الإفريقية.

وتتمتع المنطقة باعتبارها معرضة لخطر الإجهاد المائي مع تزايد الاحترار العالمي- باهتمام كبير من العلماء الذين يدرسون تغير المناخ.

تفاعل الانسان والبيئة
في الدراسة المنشورة مؤخرا في دورية “بروسيدنغز أوف ناشيونال أكاديمي أوف ساينس” قام علماء الآثار من معهد ماكس بلانك الألماني بإجراء أول مقارنة تفصيلية للتفاعلات بين الإنسان والبيئة في شبه الجزيرة العربية.

ووجدوا أن الشعوب القديمة استجابت لتغيرات المناخ بطرق متنوعة، حسب المنطقة التي عاشوا فيها والموارد البيئية والاجتماعية والتقنية المتاحة لهم.

يقول الباحثون إن الجزيرة العربية شهدت -قبل ما يقرب من عشرة آلاف عام- زيادة كبيرة في هطول الأمطار أدت لنشأة العديد من البحيرات، وتوسع الغطاء النباتي فانتشرت عبر أرجائها المستوطنات البشرية.

لكن سلسلة من حالات الجفاف الشديد حدثت إثر ذلك، وعلى مدى آلاف السنين نتجت عنها تغييرات جذرية في النظام البيئي.

وقد يسر وجود طبقات المياه الجوفية الضحلة والكبيرة شمال شبه الجزيرة العربية للسكان الاستمرار في العيش هناك خلال الظروف المناخية شديدة التباين، بما في ذلك فترات الجفاف التي استمرت لعدة قرون.

‪آثار أحد المساكن القديمة قديما على حافة بحيرة في جبة (مشروع باليوديزرتز-معهد ماكس بلانك)‬ آثار أحد المساكن القديمة قديما على حافة بحيرة في جبة (مشروع باليوديزرتز-معهد ماكس بلانك)
‪آثار أحد المساكن القديمة قديما على حافة بحيرة في جبة (مشروع باليوديزرتز-معهد ماكس بلانك)‬ آثار أحد المساكن القديمة قديما على حافة بحيرة في جبة (مشروع باليوديزرتز-معهد ماكس بلانك)

تضاريس ومناخ الجزيرة العربية قبل 20 الف سنة

وجد البروفسور في جامعة اكسفورد Michael Petraglia بعد دراسته لمناطق واسعة من صحراء شبه الجزيرة العربية، أن شبكة واسعة من الأنهار تختفي تحت هذه الصحراء القاحلة، وقد خلُص من دراساته المعمقة إلى أن الجزيرة العربية كانت من المناطق التي تعج بالحركة والحياة، وبأن الكائنات الحية كانت تنعم بالحياة في غاباتها الكثيفة.

كما وجد عدد من العلماء أنه مع نهاية العصر الجليدي الأخير ومع بداية العصر الدفيء منذ ما يقارب 17 ألف سنة ، كانت منطقة شرق شبه الجزيرة العربية تشكّل الامتداد الطبيعي لمناطق جنوب العراق، وبأن مستوى مياه البحر أثناء فترة العصر الجليدي كانت منخفضاً بما يقارب مائة وعشرة أمتار عما هي عليه في الفترة الحالية، وبالتالي فإن الخليج العربي كان أرضاً يابسة منخفضة يبلغ طولها ما يقارب ألف ومائة كيلو متر، بينما يبلغ متوسط عرضها مائة وثمانين كيلو متر ، وبأن عمق غور الخليج كان يتراوح بين ثلاثين حتى مائة متر.

التحول المناخي والبيئي

وبعد الكثير من الدراسات المعمقة؛ اكتشف العلماء بأن التشابه بين تضاريس قاع منطقة الخليج العربي والمنطقة التي يجتازها نهر الفرات في بلاد الشام كبير للغاية، وهذا ما دفعهم إلى الاعتقاد بأن حوض الخليج هو استمرار لأراضي سورية الطبيعية، وبأنه مع نهاية العصر الجليدي الأخير منذ أقل من 20 ألف سنة ، أخذ المناخ الدافئ يؤثر على الكرة الأرضية، ما جعل مياه البحر تبدأ بالارتفاع ، حتى استقرت مياه الخليج العربي على وضعها الراهن منذ ما يقارب ثمانية آلاف عام.

وبذلك نجد أنه في نفس الوقت الذي كانت فيه مناطق شمال أوروبا قبل ما يقارب 20 الف عاماً مغطاة بطبقات جليدية سميكة ولا تصل إليها الحياة، كانت الأمطار تهطل بشكل منتظم على مناطق شبه الجزيرة العربية، بحيث تغطي كافة الفصول ولا تقتصر على فصل الشتاء، وهذا ما جعلها تزخر بالحياة البشرية، بالإضافة الى أنها كانت تحتوي على بعض أنواع الحيوانات التي تتواجد حالياً في غابات إفريقيا.

ذكر الدكتور جواد علي في كتابه الشهير “المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام” بأن العلماء وجدوا أن شبه الجزيرة العربية كانت خلال عصر “البلايستوسين” من الأراضي الخصبة للغاية والتي تحوي على كميات ضخمة من المياه، وبأن الأمطار كانت تهطل عليها بغزارة على امتداد العام.

كما طرح الدكتور جواد في كتابه القيّم بأن أراضي الجزيرة العربية كانت خضراء وفيها الغابات الكثيفة والأشجار الضخمة، التي تشبه إلى حد كبير الأشجار الموجودة حالياً في إفريقيا والهند.

تغير المناخ في الجزيرة العربية

أما المناخ؛ فقد كان أفضل من نظيره في أوروبا في ذلك الوقت، نظراً لأن القارة الأوروبية كانت بمعظمها مغطاة بالثلوج.

بدأ التغير السلبي في مناخ الجزيرة العربية في عصر نيو ليتك أو عصر كالكوليتك، فقد تغيّر الجّو في العالم وبدأت الثلوج تذوب تدريجياً حتى ازداد الجفاف وخفت الرطوبة بجزيرة العرب، فمات الزرع تدريجياً بسبب يبوسة التربة، وأصبح سطح قشرة الأرض تراب ورمال حتى تصحَّرت ووصلت إلى وضعها الحالي، وهذا ما جعل الصحاري التي لا تصلح للزراعة أو للحياة تسيطر على أراض واسعة من شبه الجزيرة العربية، ما دفع أعداداً كبيرة من السكان إلى الهجرة باتجاه الشمال.

خلاصة البحث في مناخ الجزيرة العربية قبل 20 ألف سنة

كانت شبه الجزيرة العربية منذ مئات الآلاف من السنوات وحتى نهاية آخر عصر جليدي قبل 17 ألف عام تقريباً جنة الله على الأرض، وكانت المكان الأنسب للحياة على امتداد الكرة الأرضية، فكانت أراضيها تزخر بالجبال والمروج التي تجري فيها الكثير من الأنهار، في نفس الوقت الذي كانت فيه الأراضي الإفريقية مغطاة بالمستنقعات والأراضي الأوربية قابعة تحت طبقات كثيفة من الثلوج.

أكدت الأبحاث على أن المنطقة الواسعة جداً من الصحراء التي يطلق عليها حالياً “الربع الخالي”، كانت قبل 20 ألف عام تحتوي على بحيرات واسعة تصب فيها الأنهار، وبأن المروج كانت تحيط بها من كل جانب، حتى أنها كانت خزاناً هائلاً للبشر، فضلاً عن كونها مهداً للجنس السامي الذي انطلق منها لاحقاً في هجرات واسعة نحو الشمال.

مع نهاية العصر الجليدي قبل ما يقارب 17 ألف عام؛ بدأت الثلوج التي تغطي مناطق شاسعة من شمال الكرة الأرضية وأوروبا بالذوبان، مما أدى لغرق أراض واسعة تحت المياه، وأفضى الفيضان الكبير -الذي حدث في منطقة الهلال الخصيب- إلى حدوث سيول هائلة وصلت شرق الجزيرة العربي، لتتحول المياه إلى بحر أطلق عليه اسم “الخليج العربي”.

كان تغير مناخ الأرض وانتهاء العصر الجليدي السبب في اعتدال المناخ الأوروبي وتحول أراضي القارة العجوز إلى مروج، في نفس الوقت الذي ارتفعت فيه درجات الحرارة كثيراً في شبه الجزيرة العربية التي جفت أنهارها وبحيراتها و ندرت الأمطار فيها ، فماتت الأشجار وتحولت الأراضي الخضراء والمروج الرائعة إلى صحاري واسعة.

استيطان متواصل
وعثر الباحثون على أدلة للاستيطان البشري المتواصل حول بعض الواحات مثل واحة جبة (قرب حائل) حيث اكتشفوا على أطرافها مأوى جبل عراف الصخري، الذي كان يطل على بحيرة قديمة، مع أكثر من 170 موقدا وبقايا من الماشية تدل على استيطان طويل الأمد للمنطقة.

تشرح الدكتورة ماريا غواغنين من معهد ماكس بلاك بأن “السكان الذين كانوا يعتمدون على الرعي استوطنوا المنطقة بشكل متكرر عبر آلاف السنين، معتمدين على التنقل وعلى معرفتهم الواسعة بالمنطقة ومواردها من أجل التغلب على التغيرات المناخية وحالات الجفاف”.

كما وجد الباحثون أدلة على الاستيطان البشري في واحة جبة إبان “الألفية المظلمة” وهي فترة قاحلة استمرت من 5900 إلى 5300 عام قبل الآن، واعتقد العلماء سابقا بأن معظم شبه الجزيرة العربية كانت خلالها غير صالحة للسكن.

وأظهروا أن سكان مناطق أخرى شمال شبه الجزيرة العربية قاموا في تلك الفترة ببناء جدران حول الواحات ومعالم لتجميع مياه السيول وقاموا بحفر الآبار.

يقول الدكتورهوو جروكوت المشارك في إنجاز الدراسة “هذه الأمور مجتمعة تشير إلى أن وجود طبقات مياه جوفية ضحلة واسعة النطاق، إلى جانب الحركة السكانية العالية وإستراتيجيات إدارة المياه والتحول الاقتصادي، وقد وفرت فرصا للبقاء على المدى الطويل لسكان شمال الجزيرة”.

‪أدت التغيرات المناخية إلى انتقال سكان الجزيرة العربية من الصيد إلى الرعي (مشروع باليوديزرتز-معهد ماكس بلانك)‬ أدت التغيرات المناخية إلى انتقال سكان الجزيرة العربية من الصيد إلى الرعي (مشروع باليوديزرتز-معهد ماكس بلانك)
‪أدت التغيرات المناخية إلى انتقال سكان الجزيرة العربية من الصيد إلى الرعي (مشروع باليوديزرتز-معهد ماكس بلانك)‬ أدت التغيرات المناخية إلى انتقال سكان الجزيرة العربية من الصيد إلى الرعي (مشروع باليوديزرتز-معهد ماكس بلانك)
 

من الصيد إلى الرعي
وبحسب الدراسة، فإن جنوب شرق شبه الجزيرة العربية كان -على النقيض من الشمال- يتمتع بمصادر أقل للمياه الجوفية، وشهد ارتباطا مباشرا أكثر بين تعاقب حالات الجفاف القديمة والتغيير الاجتماعي الدرامي.

فبعد مرحلة الهولوسين الرطبة، أدى التحول المناخي الحار والجاف الذي حدث من 8200 إلى 8000 سنة إلى تأثيرات شديدة لدرجة أنه يعتقد أنها مرتبطة بتحول السكان من الصيد إلى رعي الحيوانات المستأنسة، وفقا لبحث سابق.

كما تتوافق حالات الجفاف اللاحقة (قبل 7500 إلى 7200 سنة، و6500 إلى 6300 سنة) مع تدني عدد سكان المناطق الداخلية من الصحراء وبروز مجتمعات الرعاة والصيادين على الساحل، وإنشاء شبكة تجارية بحرية بين العرب والمجتمعات الزراعية في بلاد ما بين النهرين.

يقول مؤلفو الدراسة إن فهم العلاقة بين الآثار الإقليمية لتغير المناخ والتكيفات التي تتيح المرونة المجتمعية يمكن أن يوفر دروسا قيمة للمجتمعات الحديثة في جميع أنحاء العالم.

فلم يعد الابتعاد عن المناطق الأكثر تضررا الاستجابة الإنسانية الرئيسية لانتكاسات المناخ الشديدة، ومع تزايد حجم السكان وزيادة الاستثمار في المكان، انخفضت خيارات التنقل البشري بمرور الوقت.

الهجرة نحو الشمال

أدى التصحر وتغير مناخ الجزيرة قبل 20 ألف عام، إلى عدم تحمل هذه الجغرافيا المحصورة لهذا العدد الكبير من الناس الذين يتزاحمون على الرزق القليل الذي لا يتناسب مع أعدادهم، فانطلقت الهجرات السامية من جزيرة العرب باتجاه الشمال عبر موجات كبيرة أشهرها (الأكاديين والعموريين والكنعانيين والشوريين والبابليين والآراميين والتدمريين والأنباط والكلدانيين) ، وقد استقرت معظم هذه الهجرات في بلاد الشام والعراق، وكان لتلاحم هذه الحضارات مع نظيراتها المستقرة في الأراضي التي وفدت إليها؛ قد أنتج مدنيات جديدة ومزدهرة.

وبذلك نكون قد تعرفنا على الفردوس الأقدم في الكرة الأرضية، وبأن تغير مناخ الجزيرة العربية قبل 20 ألف سنة أدى لاحقاً إلى انطلاق الهجرات السامية الأولى.

انتقال القبائل نحو الشمال عزز من استقلاليتها وذلك بعد توسعها بشكل كبير

المصادر

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي.

https://al-maktaba.org/book/8384/61

http://arabci.blogspot.com/2018/04/15.html

https://www.al-jazirah.com/2019/20190130/ar6.htm

الجزيرة

 

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *