الدوشيرمة

الدوشيرمة

الدوشيرمة

ضريبة “الغُلمان”؟! 

هل انتزع العثمانيون أبناء المسيحيين وجنَّدوهم قسرا في جيوشهم؟

منذ بدايات القرن الرابع عشر المسيحي وحتى الربع الأول من القرن العشرين وثمة علاقة من الصدام والتعقيد والتشابك بين الدولة العثمانية التي ظهرت في غرب الأناضول وبين الدولة الرومية  التي كانت حامية وقلعة الأرثوذكسية في العالم، لكن في بداية القرن الخامس عشر المسيحي، ضُربت الدولة العثمانية بهجوم كاسح من السلطان المغولي تيمورلنك أدى إلى هزيمة العثمانيين وأسر السلطان بايزيد الأول وقتله، ثم ترتب على ذلك فتور وضعف شديد في إمداد الجيش العثماني بالعناصر الجديدة.

الانكشارية
الانكشارية

لقد كانت التحديات التي تواجه الدولة العثمانية في هذه المرحلة الأولى من تاريخها قبل فتح القسطنطينية كبيرة، ومثلها مثل باقي دول العالم الوسيط كان الجيش هو عمود استمرار الدولة أو نهايتها، لا سيما في دولة نشأت على حدود العالم الرومي العدو الأقدم للمسلمين منذ عصر النبوة، ولهذا السبب كان تحدي وجود الروم من الغرب، والمغول ثم الصفويين والمماليك من الشرق والجنوب، قد أدى إلى البحث عن حلول لمشكلة نقص أعداد الجيش العثماني، وفي وقت كان للفقهاء فيه دور مهم في تأطير الرؤية للدولة والبيروقراطية، فقد أفتى بعض فقهاء الحنفية البارزين في الأناضول بالاستفادة من أسرى الحرب، ووافقوا على ما سُمي بقانون “بنجيك قانوني” أي قانون الخُمس، الذي يبدو أنه صدر عام 1363م، وكان ينص على أن تحصل الدولة على خُمس أسرى الحرب مقابل الضريبة المستحقة عليهم.

ومن المعلوم أن توسُّع الدولة العثمانية لم يقتصر على الأناضول فقط، بل كان منذ ما قبل فتح القسطنطينية قد اتسع إلى البلقان “الرومللي”، ونقل العثمانيون عاصمتهم القديمة من بورصة إلى أدرنة التي تقع اليوم في غرب تركيا قُرب الحدود اليونانية، ومن ثم كانت الحروب ضد  الأمبراطورية الرومية بالإضافة إلى مواجهة ملوك وأمراء وإمبراطوريات البلقان مثل الألبان واليونان والصرب والمجر والكروات وغيرهم لا تنقطع، وقد أدت إلى وجود وفرة من الأسرى الذين رأى العثمانيون إمكانية الاستفادة منهم في الجيش والقصر العثماني على السواء، ثم تطور الأمر إلى الاستفادة من الرعايا المسيحيين في الدولة العثمانية.

وقد صاحب هذه العملية إجراءات متنوعة من التجميع والتسكين، ثم التلاؤم والاندماج مع الثقافة الإسلامية العثمانية التركية، ثم أخيرا عملية الانضمام إلى وحدات الجيش العثماني “أوجاقات” مثل الانكشارية وأعجمي أوغلانلاري وغيرها من المعسكرات التي كانت عماد الجيش العثماني في عمليات الفتوحات على الجبهات الأوروبية المختلفة.

لكن نشأ من وراء هذا القرار أقوال وتفسيرات كثيرة للعديد من المؤرخين الأوروبيين الذين رأوا أن هذا القانون كان بمنزلة إجبار وإهانة للأقليات المسيحية أو أسرى الحرب الذين وقعوا تحت يد الدولة العثمانية، فهل تعرَّض المسيحيون فعلا للتجنيد الإجباري في الدولة العثمانية؟ وهل انتزعت دولة العثمانيين أبناءهم قسرا من ذويهم بلا رحمة؟ وكيف سارت طريقة أو آلية “الدوشيرمة” التي اعتُبرت العمود الفقري لنظام تجنيد غير المسلمين الجديد؟

الدوشيرمة
الدوشيرمة

بنجيك أوغلانلاري

من المعروف أن الأسرى في الإسلام يُعَدُّون من جملة الغنائم، وخُمس هذه الغنائم يُعَدُّ من حصة ولي الأمر أو الدولة بحسب نص القرآن والحديث، والدولة تستطيع أن تتحكم في هذه الحصة حسب ما تراه للصالح العام، وهذه الحصة بنص القرآن هي “الخُمس”، وكان يُطلق على الخُمس في الأناضول بالفارسية “بنج يك”، ثم تحوَّر إلى “بنجيك”، وحسب الفقه الإسلامي فإن الدولة لها الحق في معاملة أسرى الحرب ضمن عدة خيارات، منها: قتلهم اتباعا لقوانين الحرب كما فعل النبي مع يهود بني قريظة، أو استخدامهم عبيدا في خدمة المسلمين، أو عقد الذمة معهم، أو حتى إطلاق سراحهم مقابل فدية معينة، وكلها أمور يرى أهميتها ولي الأمر وكبار القُضاة من المسؤولين عن شؤون الرعية، وقد رأينا أن السلطان مراد الأول (1326-1389م)، بالتشاور وبإفتاء من الفقيه الكبير في الأناضول والدولة العثمانية آنذاك “رستم القرماني” وبمعية وإشراف الصدر الأعظم “جاندارلي قره خليل باشا”، وافق على إدخال حصة الدولة من الأسرى المسيحيين في الجيش العثماني، ثم جعل ذلك قانونا أُطلق عليه “بنجيك” أي الخُمس، وضُمِّن في هذا القانون استحصال رسوم قدرها الخُمس من غير القادرين على الخدمة العسكرية، أما الذين أُخذوا من الأسرى للخدمة العسكرية فقد أُطلق عليهم “بنجيك أوغلانلاري” أي “أبناء الخُمس”.

نظَّمت الدولة العثمانية هذا القانون بتعيين موظفين عسكريين ومدنيين لجمع وتدريب وتربية هؤلاء الشباب الأسرى، ولم تُعاملهم معاملة العبيد، بل كانت عملية انتقالهم إلى الجيش في قسم “أعجمي أوغلانلاري”، كما كانوا يُهيَّؤون بإيداعهم إلى الأُسَر التركية المسلمة، فيظلون معهم فيتخلَّقون بأخلاق الإسلام والثقافة العثمانية التركية، ثم يُرسَلون إلى المؤسسات العسكرية لتلقي التدريبات اللازمة، ومن هؤلاء بمرور الزمن شُكِّلت نواة القوة الضاربة في الجيش العثماني وهي “الانكشارية”.

ولأن فرقة الانكشارية كانت تُعتبر نخبة الجيش العثماني وقوته العظمى، فقد أولى لها السلاطين العثمانيون رعاية خاصة من النواحي العسكرية والمادية، وأصبح الجندي والضابط الانكشاري بمرور الزمن صاحب مقام عظيم في الدولة العثمانية، حتى إن الانكشارية في أوقات كثيرة كانوا يُعتبرون أقوى من السلاطين العثمانيين، وكم رأينا قوتهم هذه في خلع العديد من السلاطين وتعيين آخرين مكانهم، ولأن الدولة العثمانية في القرن السادس عشر وحتى الربع الأخير من القرن السابع عشر كانت تُعَدُّ أقوى دولة في العالم من النواحي العسكرية والاقتصادية والمادية، فإن “الانكشارية” كانوا بمنزلة قوات المارينز أو القوات الخاصة الأميركية اليوم، ولهذا السبب حلم شباب المسلمين بل وغير المسلمين من رعايا الدولة العثمانية بالانضمام إلى هذه الفرقة، نظرا إلى المزايا الهائلة التي كان يتمتع بها الانكشاري في بنية الدولة العثمانية من الناحية المالية والنفوذ العسكري، وربما الإداري فيما بعد.

المسيحيون يطالبون بالتجنيد!

ولهذه الأسباب طالب رعايا الدولة العثمانية من المسيحيين البلغار والألبان والأرمن وغيرهم بالانضمام إلى الجيش العثماني بكامل رغبتهم ورضاهم، ولهذا السبب وافقت الدولة العثمانية ضمن شروط معينة على تطوير قانون الخُمس “بنجيك” لتكييفه مع هذه الطلبات الجديدة للانضمام إلى الجيش، ووضعت شروطا صارمة لهؤلاء المنضمين الجدد من الجنود المسيحيين، فكان يُسمح بانخراط شاب بعمر 14-18 سنة من كل 40 أسرة من هذه الأُسَر للانضمام إلى الجيش أو لتعيينهم في وظيفة مهمة في القصر العثماني، وكانت عملية الاختيار تتم على فترات متباعدة تبلغ ما بين 3-5 سنوات، وكان يُطلَق على هذه العملية اسم “دوشيرمه” (Devşirme) وتعني في اللغة التركية التجميع والانتقاء، وهذا ينفي الادعاءات التي كتبها بعض المؤرخين الأوروبيين عن انتزاع أطفال غير المسلمين من أمهاتهم وضمهم للجيش العثماني بقوة، لا سيما في أوقات قوة وازدهار الدولة العثمانية[2].

الدوشيرمة
الدوشيرمة

كانت الحاجة إلى تجميع أعداد من الجنود المسيحيين من رعايا الدولة العثمانية تتم بناء على نقص أعدادهم في الكلية الحربية في “أوجاقات” الجيش في غاليبولي وإسطنبول، وهذه الحاجة كان يدركها رئيس الانكشارية الذي كان يُبلغ بها “الديوان” العثماني، وهي المؤسسة الإدارية للدولة التي كان على رأسها “الصدر الأعظم”، وحين تصدر الأوامر كان ولاة الألوية يبلغون قُضاة المناطق للإشراف على عملية التجميع، وكان رئيس التجميع يُسمى “دوشيرمه أغاسي”؛ فكان يحمل في يديه الفرمان ورسالة رئيس الانكشارية التي تُبيِّن مقدار ما يطلبه الجيش من أعداد، وشروط هؤلاء المجموعين من الناحية الأدبية والأخلاقية والجسمانية، فعلى سبيل المثال كان الاختيار يتم لغير المتزوجين، وللأُسَر التي لديها أكثر من ولد ذكر، والتي لم يكن لديها إلا ولد واحد فقط كانت تُستبعد من عملية الاختيار، ثم اختيار أبناء “الأصلاء” والمعروفين من أهل البلد بالنجابة والقوة والأصل، ثم يُقيَّد المختارون في دفتر خاص، فيُكتب فيه اسمه كاملا، وأوصافه التامة، وقريته التي ينحدر منها، ثم يُنقَلون إلى العاصمة إسطنبول بعد فحصهم للمرة الثانية، فيُعطون مبلغا تحت اسم “قول آقجاسي” و”خلعة بهاء” لمصاريف السفر وشراء الملابس المناسبة. وتحت إلحاح أهل البوسنة المسلمين الذين أُطلق عليهم آنذاك “أبناء بوطور” شملهم قانون “الدوشيرمة” للخدمة في القصر العثماني وفي أعمال الحدائق والبستنة.

كان هؤلاء القادمون الجدد يُرسَلون إلى العائلات التركية في القرى المختلفة في الأناضول والرومللي، وبالتعاون التام مع الدولة، فكانوا يتعلَّمون الإسلام واللغة التركية، ويصبحون بمرور الوقت مسلمين، ثم يُنقَلون إلى مؤسسة التدريب في الجيش التي كانت تُسمى “أعجمي أوغلانلاري أوجاغي” أو “أوجاق العجمية”، ثم حين يُتمون تدريباتهم العسكرية التي كانت تستمر ما بين سبعة إلى ثمانية أعوام في “أوجاق العجمية” كانوا يُرسَلون إلى “أوجاق الانكشارية” أو إلى أحد أوجاقات الجيش الأخرى التي كانت تُسمى “أوجاقات القبوقولية”، ثم تتم من هذه الأوجاقات أو المعسكرات عملية التخرج التي كان يُطلق عليها “بدركاه” -بالجيم الفارسية- أي الخروج إلى الباب أو التخرج، وعندئذ تُزاد لهم الرواتب، وقد استمر “أوجاق العجمية” يقوم بهذه الوظيفة حتى عام 1826م[3].

ما بين الازدهار والانحطاط!

الدوشيرمة
الدوشيرمة

ولقد أصبح الآلاف من هؤلاء المتخرجين في هذه الأوجاقات من ذوي الأصول المسيحية الذين دخلوا طواعية إلى الجيش ثم إلى الإسلام من أعلام الدولة العثمانية في المجالات العسكرية والسياسية، فاستطاع معظمهم الصعود إلى مراتب عالية، مثل منصب “الصدر الأعظم” وهو رئيس الوزراء، ومناصب ولاة وباشوات وقادة الجيش بأفرعه المختلفة، لذا كان إسراع المسيحيين من رعايا الدولة العثمانية من البلغار والألبان والصرب وغيرهم للانضمام إلى الجيش العثماني مقصودا منهم للوصول إلى هذه الامتيازات والمناصب العليا، ونستطيع أن نستذكر منهم خسرو باشا الذي ترقى في هذه المؤسسة حتى أصبح واليا “بكلر بكي” على ديار بكر، ثم واليا على مصر، كما ارتقى المعمار المشهور “سنان” من هذه المؤسسة حتى أصبح رئيس المعماريين في الدولة العثمانية[4].

ويعترف المؤرخ الأميركي ويل ديورانت بالأدوار المهمة والمناصب القيادية والثقة المتبادلة بين هؤلاء الجنود المسيحيين الذين تحوَّلوا طواعية إلى الإسلام، وأصبحوا على رأس الجيوش العثمانية وفي القلب منها الانكشارية، ممن جُمعوا عن طريق “الدوشيرمة” وبين السلاطين العثمانيين، ففي معرض حديثه عن تمرد الأمير إسكندر الألباني ضد الدولة العثمانية يقول ديورانت: “كان المجندون الذين تحوَّلوا إلى الإسلام من أبناء المسيحيين يُشكِّلون غالبية الهيئة الإدارية في الحكومة التركية المركزية. وكان حقا علينا أن نتوقع أن يخشى السلطان المسلم إحاطته برجال يحبون “الزعيم الوطني الألباني” إسكندر برج، ويحنون إلى دين آبائهم، والأمر على النقيض من ذلك، فإن سليمان (القانوني) آثر هؤلاء المتحوِّلين عن دينهم، لأن في الإمكان تدريبهم منذ نعومة أظفارهم على مهام محددة في الإدارة. والأرجح أن بيروقراطية الدولة العثمانية كانت أقدر ما وجد من نوعها في النصف الأول من القرن السادس عشر”[5].

ومع هذه الأدوار المهمة واللافتة التي أدَّاها المتخرجون في أوجاقات العجمية من ذوي الأصول المسيحية من رعايا العثمانيين، ففي عصور تأخُّر الدولة العثمانية قد وقعت الكثير من الأخطاء الكبيرة في تطبيق قوانين نظام “الدوشيرمة” أو التجميع، بل وقعت مظالم حقيقية، وقد لفت العديد من المؤرخين والباحثين في عصر الدولة العثمانية أنظارنا إلى هذا الأمر من خلال المصادر المختلفة، على رأسها ما يمكن قراءته في مصادر “سياست نامه”، وهي سجلات الوقائع السياسية في تلك العصور، فإن الموظف المسؤول عن عملية التجميع في تلك الفترة كان يُطلق عليه اسم “زاغارجي” أو “السكبان”، وهما صنف من رجالات الانكشارية، فحين ضعفت رقابة الدولة والقضاء على آليات وضوابط تطبيق الدوشيرمة، وابتُعد عن القوانين والشروط الواجب توافرها في مَن كان يُختار من أبناء المسيحيين، وقعت المظالم التي كان منها اختيار الابن الوحيد للأُسَر المسيحية مقابل رشوة الموظف المسؤول عن هذه العملية، وهذا -كما رأينا- كان ممنوعا في العصور السابقة بنص القانون وفرمان السلطان، وكان ذلك الموظف الانكشاري يُعلِّق الرجل الذي يعترض على هذا الظلم في عملية الاختيار من قدميه، والمرأة المعترضة من شعرها، وحين تلوث هذا الرافد المهم للجيش العثماني ومن ثم قوته الضاربة “الانكشارية”، وانتشرت هذه المظالم، فسد نظام الانكشارية، ومن ثم مؤسسات الدولة الأخرى[6].

وهكذا كان للعلاقة بين الاجتهاد في الفقه الحنفي الذي أجاز بعض فقهائه زمن السلطان العثماني مراد الأول الاستفادة من أبناء المسيحيين في الجيوش العثمانية دوره في تطور وخروج قانون الدوشيرمة واستمراره لمدة ثلاثمئة عام تقريبا، وقد نجحت هذه الآلية في إمداد الدولة العثمانية برافد لا ينقطع من الجنود الأقوياء والأصحاء الذين سعوا بدورهم بل وبدفع الرشا في أحيان كثيرة إلى الانضمام إلى الجيش العثماني ومؤسسته الضاربة “الانكشارية” لبلوغ أعلى المقامات وأرفع المنازل، وهو ما حدث بالفعل!

الدوشيرمة
الدوشيرمة

ماهي الدوشيرمة

ربما تمرّ لفظة «الانكشارية»مسمى فرقة عسكرية مرور الكرام على متابعي الدراما التاريخية التي أنتجتها تركيا لتلميع سلاطين بني عثمان، والكثير لا يعرف أنها مثلت قوة جيشهم في غزواتهم الاستعمارية، وسبب تحولها من إمارة عثمانية إلى دولة خلافة؛ لكنها تتكون من الجنود العبيد اليونانيين والصرب والألبان والأوربيين وغيرهم من الأجانب الذين خضعت أراضيهم للدولة العثمانية.

هذه الفرقة أنشأها «أورخان خان» ثاني سلاطين بني عثمان خلال القرن الرابع عشر الميلادي في 1363م، وذلك لكسر شوكة جنوده الترك من الفلاحين والفرسان من قبائل تركية بداية عهد السلطنة، إذ يشاركون في الحروب للحصول على الغنائم كمجاهدين؛ ومتى انتهت الحرب عادوا لمزارعهم بالغنائم؛ فيما ولاؤهم لقبائلهم أكثر من السلطان العثماني؛ لهذا خشي أورخان انتزاع السلطة؛ وفكر بتنظيم جيشه وتكوين فرقة المشاة «الانكشارية» التي تعني الجنود الجدد وزاد تنظيمها ابنه من بعده.

لكن كيف تكونت «الانكشارية»؟ بدأت الفكرة بأسرى الحرب اليتامى والمشردين الصغار في المناطق المسيحية التي غزاها العثمانيون، لكن عددهم لا يفي، فتم اقتراح ضريبة «الغلمان» وفق قانون مُتوحش لا يمت بصلة إلى الإسلام! أفتى بها مفتي الدولة العثمانية الملقب بـ»شيخ الإسلام» وجوازه قياسًا على أخذ الخمس في الغنائم، وهكذا فُرضت ضريبة بشريّة لا إنسانية لتكوين «الإنكشارية» لم يُسمع بها في أي خلافة إسلامية قبل «العثمانية»! تُسمى «ضريبة الغلمان» أو «الدوشيرمة»! حيث يذهب ممثلو السلطان العثماني إلى القرى والمدن المسيحية الخاضعة للعثمانيين، ويتم أخذ أفضل وأذكى طفل من كلّ أسرة مسيحية ليس وحيدها، ما بين عمر 8 ـ 14 كضريبة بشريّة بجانب الجزية التي يدفعونها للخزينة العثمانية، منافين ما أقره الإسلام بأن دفع الجزية من أهل الذمة لحمايتهم؛ الأمر الذي جعل بعض الأسر المسيحية تعتمق الإسلام كراهة ليحتفظوا بأطفالهم! فيما ذهب المؤرخون الترك إلى تلميع هذا النظام الضريبي بأن بعض الأسر المسيحية قدمت أطفالها لأنهم يصلون بذلك إلى مكانة عالية عند السلطان، لكن هذه الرواية لا يقبلها عقل ولا منطق خاصة حين نعرف أن هؤلاء الأطفال يتحولون إلى جنود عبيد مملوكين للدولة، يتم قطع علاقتهم نهائيًا بآبائهم وأمهاتهم وقراهم، ويمنعون من الزواج والتملك ويتم عزلهم اجتماعيًا سوى حياة الثكنات بعد ترحيلهم للأناضول!

وضريبة الغلمان يتم تحصيلها ما بين خمس سنوات وثلاث، حيث يولد أطفال مسيحيون ويكبر آخرون للعمر المطلوب؛ فيؤخذون من الأسر وتقطع علاقتهم بهم، ويتم تنشئتهم كجنود عبيد وتربيتهم تربية عسكرية صارمة تعتمد التعذيب ما بين الجلد والتهديد بالإخصاء والإعدام كي يجيدوا فنون القتال؛ وقد تتفاجأ أن هؤلاء الأطفال المسيحيون اعتمد العثمانيون في تنشئتهم على الإسلام وفق مزيج من العقيدة الشيعية والطريقة الصوفية تسمى»البكشاتية» وهي ليست عقيدة العثمانية السنية، لأنها تحقق فيهم الولاء الروحي التام للسلطان العثماني؛ فالسلطان أبوهم الروحي والثكنات العسكرية مسكنهم وجنود الانكشارية أسرتهم والقتال حرفتهم الوحيدة! وحين يكبرون يتم فرزهم بحسب مهاراتهم فالمهارة الكتابية يؤخذون للعمل في إدارات الدولة وقلة وصلوا لمناصب وحظوة عند السلطان، وفئة يؤخذون خدمًا في قصور السلطان ومن تعرض للإخصاء يخصصون لخدمة حريم السلطان، أما الفئة الأكبر فتتكون منهم «الانكشارية» العسكرية وهؤلاء يتم منعهم من تعلم أي صنعة غير احتراف القتل، ولا يقدم لهم رواتب سوى السكن والطعام، ولهم زيهم ورتبهم الخاصة التي تميزهم عن بقية الجيش العثماني.

الانكشارية
الانكشارية

أما العنف الذي تمت تغذيتهم به خلال تنشئتهم جعلهم أكثر بطشًا وتوحشًا في القرى التي يفتحونها، ولتحقيق طموحهم العسكري للوصول للحظوة والمكانة يكون ذلك بعدد الرؤوس التي يقطعونها خلال الحروب العثمانية؛ وقصتهم مع رأس طاهر باشا في مصر حين قطعوه معروفة للحصول على بقشيش!

عمومًا الانكشارية هي من جعلت الجيش العثماني أقوى الجيوش التي تخشاها أوربا، ويذكر أن الجيش الإسباني هدد هولندا فاستغاث ملكها بالسلطان العثماني لإمداد جيشه، لكن السلطان العثماني أرسل له أربعين رداء من زي «الانكشارية» وطلب منه أن يرتديه جنوده الهولنديون، فما أن رأوا الإسبان ذلك ظنوا الانكشارية ضمن جيشه فانسحبوا.

لكن يبدو العصا السحرية الانكشارية تحولت للعنة على السلاطين العثمانيين بعد ما يقارب 450 عامًا، زادت فيها شوكتهم وغرورهم وباتت قيادات فرقها يتدخلون في سياسة السلاطين العثمانيين فيما زاد وعي الجنود بحقوقهم بظل تضحياتهم في توسيع أرض العثمانيين، فزادت طلباتهم كـ»الزواج» والذي سمح لهم به شرط «كبر السن» أو العجز بإعاقة من الحرب! حتى بات السلاطين يخشونهم! وحين تولى السلطان محمود الثاني بداية القرن التاسع عشر حاول إصلاح الانكشارية وتقليم أظافرها لكنهم رفضوا التطوير الجديد، فصبر عليهم حتى اتخذ قرارًا بالقضاء عليهم بعد نزولهم شوارع اسطنبول متمردين، واصدر أمرًا بتوجه فرق المدفعية العثمانية ومحاصرة الانكشارية وضربهم بها في مذبحة سميت «الواقعة الخيرية» مات فيها ستة آلاف جندي عام 1828م؛ وألغيت بعدها هذه الفرقة التي كانت سببًا في توسع الدولة العثمانية؛ فيما القضاء عليها سببًا في ضعفها وانتهائها.

استعراض الانكشارية
استعراض الانكشارية

مصادر البحث

العربية/ حليمة مظفر

الجزيرة/ محمد محمد شعبان أيوب