الصليب المحيي

الصليب المحيي

الصليب المحيي

الصليب المحيي

تعيّد الكنيسة في الرابع عشر من أيلول من كل سنة لرفع وظهور الصليب الذي صلب عليه ربّ المجد، لقبت الكنيسة الصليب بلقب “المحيي” لأن صليب ربنا هو قوة حقيقية للخلاص، هــذا هو إيماننا الذي تسلمناه من الرسول بولس بقوله: “إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأمّــا عندنا نحن المخلصين فهي قوة اللــه” (1كو 1 : 18).
إن خشبة الصليب التي مات عليها الرب موته المحيي ثم قام ، انعكست كل أمجاد القيامة وأفراحها على موت الرب ، إذاً تكريم الصليب نابع من كرامة القيامة ، لأن الموت الذي باشره الرب على الخشبة أثمر القيامة ، فبالتالي مجداً. إذاً الصليب هو مجد.
لذا الكنيسة الأرثوذكسية تعتبر هذا العيد من أكبر أعيادها، ولهذا كان يعرض الصليب المقدس على المؤمنين للسجود له قبل العيد بثلاثة أيام، ولم تكتف الكنيسة بتعييده ليوم واحد بل خصصت له يومين آخرين تخصصهما بالسجود للصليب، وهو الأحد الثالث من الصوم الكبير، والأول من شهر آب، دفعاً للأمراض، ويتخذون في هذا العيد الريحان وأجناس الزهور.
إن الصليب الذي يقدسه ويكرمه مسيحيّو العالم أجمع، ويسجد له باحترام ملايين البشر في أماكن مختلفة من المسكونة ، لم يبدأ ظهوره بظهور المسيحية ، بل إن له تاريخ يرجع إلى مئات الألوف من السنين ، كان الصليب رمزاً دينياً لدى الكثير من الشعوب ، مثل المصريون لم يجهلوا الصليب ، فكان بالنسبة إليهم إشارة مقدسة يرسمونه في معابدهم كرمز للحياة ، وأيضاً الشعوب الهندية والصينية كانوا يحفرون الصليب على قبورهم للبركة والتقديس وللحراسة من الشرير ، وكذلك وجد الصليب على قبور الآشوريين والفرس كعلامة للتبريك ، وفي أواخر عهد الآشوريين بدأ الصليب يستعمل كأداة للتعذيب والموت ، ثم انتقلت هذه العادة إلى الإغريق الذين شرعوا في استخدام الصليب في تنفيذ أحكامهم في المجرمين ، ومن البديهي أيضاً أن يكون الرومان قلّدوا الإغريق هذه العادة ، ومن الرومان أخذ اليهود الصليب أداة للتعذيب واللعنة . أما المسيحية اعتبرت الصليب رمزاً لها ، وقد اقتبس ذلك من الصليب الخشبي الذي رفع عليه يسوع المسيح عندما تآمر عليه كهنة اليهود وشكوه إلى بيلاطس الحاكم الروماني في فلسطين ، فقضى عليه بالموت صلباً ( متى 27 : 1 / 66 ) ، ( مرقس 15 : 1 / 47 ) ، ( لوقا 23 : 1 / 56 ) ، ( يوحنا 19 : 1 / 42)
ولذا دفن اليهود خشبة الصليب وهالوا عليه التراب والقمامة وبقي في مكانه ثلاثة قرون ونيفاً ، حتى أخرجته القديسة هيلانة أم الأمبراطور قسطنطين الكبير ، وأقامت في مكانه كنيسة القيامة ( الأناستاسيس ) .
فأرادت الكنيسة في هذا العيد أن تقوّي وتحثّ الحدث الزمني ، إيماننا بالحقيقة الحيّة التي نعيشها . فنحن نعيش في صليب ربّنا كل يوم ، ليس مدفوناً إنما مرفوعاً وظاهراً في القلوب والأفكار والأعمال ، نعم لا نعيّد للصليب ابتداء من ظهور خشبة الصليب التي كانت مدفونة تحت التراب ، إنما عيّدنا منذ رُفع عليه ربّ المجد .
أول من أشار إل حادثة اكتشاف خشبة الصليب بواسطة القديسة هيلانة، القديس امبرسيوس أسقف ميلان ( 339 – 397 م )، وقد ذكرها في إحدى عظاته عن ( انتقال ثيوذوسيوس ) سنة ( 395 م )، وأيضاً نقل قصة اكتشاف خشبة الصليب عن القديس امبرسيوس كل من القديس يوحنا الذهبي الفم ( 347 – 407 م ) ، والقديس يولينوس ( 353 _ 431 م).

لكن الأسقف كيرلس الأورشليمي ، هو أكثر من استفاض في ذكر اكتشاف خشبة الصليب في عظاته التي ألقاها سنة ( 348 م )، وكان يخاطب المؤمنين وهو داخل كنيسة القيامة مشيراً إلى التابوت الموضوع فيه الصليب وكان قد مرّ على اكتشافه ما يقرب 25 سنة، إذ قال في إحدى عظاته:” لقد صلب المسيح حقاً ، ونحن إن كنّا ننكر ذلك فهذه الجلجلة تناقضني، التي نحن مجتمعون حولها الآن. وها هي خشبة الصليب أيضاً تناقضني التي وزّع منها على كلّ العالم”.
لما تمت القديسة هيلانة ذلك الاكتشاف الفائق الشأن، أسرعت بالرجوع إلى القسطنطينية تحمل لابنها قسماً من الصليب. وأبقت القسم الآخر وهو الأكبر في أورشليم، وقد وضعته في إناء نقش من فضّة وسلّمته للقديس مكاريوس ليكون موضوع تكريم المؤمنين، ثم قسمت أيضاً ذخيرة القسطنطينية فأرسلت قطعة منها إلى روما، ولم تزل ذخيرة أورشليم على هذه الحال إلى عهد هرقل الملك. فلما أطلق كسرى ملك الفرس جنوده على بيت المقدس سنة 614، هدموا وبعثروا وسلبوا الأموال والنفائس ومنها ذخيرة الصليب، غير أن كسرى لم ينتهك حرمتها، بل أكرمها وأبقاها على سلامتها، إلى أن عاد هرقل واسترجعها إلى القدس، فوضعها في احتفال عظيم ( 629 م ) إلاّ أن هرقل نقل قسم آخر من الذخيرة إلى القسطنطينية، ومنذ ذلك الزمن بدأ توزيع الذخيرة المقدسة على مدن كثيرة غير روما والقسطنطينية .
المصلوب والصليب
في القرون الأولى للمسيحية، لم يوجد شيء من التصاوير والنقوش تصوّر المسيح مصلوباً، بل كان هناك رسماً للصليب مصحوباً بكتابات، إلاّ أنهم كانوا يمارسون إشارة الصليب ففي أحد النصوص القديمة لترتليانوس يوصي باستعمال إشارة الصليب في كل مكان وزمان: ” في جميع أعمالنا حين ندخل أو نخرج، حين نلبس، أو نذهب إلى الحمامات أو نجلس إلى المائدة، أو نستلقي على السرير، أو نأخذ كرسياً أو مصباحاً، نرسم إشارة الصليب على جباهنا “.

الصليب المحيي
الصليب المحيي

أيضاً كانت إشارة الصليب تستعمل منذ أيام الرسل ، من ذلك الحين لما صعد المسيح إلى السماء ورفع يديه وبارك تلاميذه ، شرع الرسل يباركون بشعار الصليب المؤمنين بالمسيح اقتداء بمعلمهم الإلهي .
في سنكسار القديس يوحنا الإنجيلي ، كتب تلميذه بروخورس أن القديس يوحنا شفى مرّة برسم إشارة الصليب ، إنساناً عليلاً مطروحاً على الطريق، وأيضاً في سنكسار القديس الرسول فيلبس، ورد أنه أمر أحد المسيحيين المسمّى أباروس أن يرسم إشارة الصليب على أعضاء أريسترخوس المريضة فلما عمل أباروس ما أُمر به شفيت بالحال يدّ أريسترخوس اليابسة، فأبصر وسمع وتعافى بكليته.
هناك الكثير الكثير من أخبار القديسين ، الذين استعملوا إشارة الصليب، لطرد الشياطين، ولشفاء النفس والجسد.
ثمة سؤال يطرح نفسه، لما لم يكون هناك رسماً للمصلوب سوى الصليب؟ الجواب على هذا السؤال، يذهب إلى أن قدماء المسيحيين لم يريدوا أن يعرّضوا الصليب للهوان والهزء من قبل الوثنيين، وعليه فإنهم اكتفوا بالرموز التي تذكر بعلامة الربّ، ومن هذه الرموز الشهيرة الصليب المرساة مع العارضة المصلبة، السمكة، سارية السفن مع العوارض الشراعية، وأيضاً من الرموز صورة الرجل الباسط يديه للصلاة… إلاّ أن هناك سبب آخر عن عدم أو قلّة رسم الصليب أو المصلوب ، هو تفضيلهم رسوم تدلّ على خلود النفس ورجاء الحياة الأبدية ، مثل صورة “طاووس”، ” المرساة “.
إذاً المسيحيون لم يرسموا أو ينقشوا المصلوب في لوحاتهم ومنقوشاتهم قبل القرن الرابع الميلادي ، حيث تمّ السلام القسطنطيني وأصبح الصليب رمزاً للمسيحيين وفخر لهم ، فأخذت الكنائس تشيّيد وتزيّن بصلبان ونقوش تمثّل أحداث العهد القديم والعهد الجديد، لكن مع إعلان ممارسة الحرية في ممارسة الشعائر الدينية أيام قسطنطين لم تظهر صورة المصلوب على الصليب بشكل واضح بالرغم من تكريم خشبة الصليب تكريماً فائقاً ، لأن المسيحيين لا يرون آنذاك في الصليب إلاّ العظمة والفخر، لا يريدون أن يمزجوا آيات النصر والانتصار بذكر الآلام والهوان، هذا ما حتم على الإمبراطور قسطنطين أن يصدر حكماً أو أمراً بأن لا يقتل بعدئذ المجرمون صلباً، ليكون الصليب دليل الشرف، فهذا لم يعد يعني إلاّ المسيح الذي مات لأجل خلاص جميع البشر.
من آثار القرن الرابع هناك صليب في وجهه حملاً في الوسط بدلاً من المسيح، وأيضاً صليب عليه أول حرف من اسم المسيح، يحيط به إكليل من الغا.
إنما أول أثر ورد فيه صورة المسيح مصلوباً هو حجر من اليشب الأحمر في غزة من القرن الخامس. ومن أشهر النقوش التي تظهر المسيح مصلوباً ، هي التي نقشت على غلاف الإنجيل السرياني الذي يعرف بإنجيل رابولا(586 م).
مما ساعد في تصوير المسيح مصلوباً هو المجمع الخلقيدوني ( 451 م ) الذي أراد مقاومة اليعاقبة الذين ينكرون الطبيعة البشرية في المسيح، ويجحدون حقيقة ذبيحته على الصليب، لهذا تصدّوا لهم وأكثروا من تصوير المصلوب ليقرروا الطبيعة البشرية في الرب، من هنا نستنتج أن صورة المصلوب كثرت في الشرق بعكس الغرب، ولم تدخل صورة المصلوب إلى الغرب إلاّ في القرن الثامن الميلادي، على يدّ الرهبان الشرقيين عند دخولهم إلى إيطاليا.
روحانية الصليبمحبّة الله لا ترى إلاّ الإنسان، ولا تهدف إلاّ إلى خلاصه، وهذه هي المحبة الحقيقية التي يمثلها الصليب، الله لم يحبّ الإنسان لأنه ذكي أو غنيّ، الله أحبّ الإنسان لضعفاته وسقطاته، أحبّه لأنه يعرف أن الإنسان بحاجة إلى هذه المحبة ليخلص، المحبة هي وحدها القادرة على تخطي الضعف والسقوط، صليب المسيح وحده أنقذ الخليقة وانتصر على الموت، بصليب انتصر المسيح على مملكة الجحيم، وبه ننتصر نحن على كل ضعف فينا، لننموا إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح (أفس 4 / 13). لهذا ردد يسوع :” من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني” (متى 16 / 24)
هذا إن لم تزهر محبة المسيح محبة في قلوبنا، وأن نصلب عن خطايانا ، وأن تتخلى عن كل شيء حتى ذاتك، وأن تتبع السيد وتتطبق وصاياه وتعاليمه، وأن لا تتطلب أي شيء لذاتك بل كل شيء لله، وأن تحبّ الجميع وحتى الذين لا يحبوننا، وإن لم تمت مع المسيح فلن تشهد للقيامة، ولن تعرف الطمأنينة والسلام الداخلي. لقد صلب المسيح ليكون لنا المثال والمعلم، وقد علمنا الرسول بولس من أراد أن يفتخر فليفتخر بصليب المسيح وحده لأنه أداة الفداء ونبع الحياة الأبدية، ولم يعد الصليب عاراً أو ذلاّ بل أصبح رمزاً للنصر والظفر، نصر المسيح والمسيحيين بالتالي نحن نبشر ” بالمسيح مصلوباً، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة “. (1 كو1/ 23)
إذاً لنتمسّك بالصليب، إذ به نتبرّك ونتطهر، ولنمتشق معلقين ذاتنا وإنساننا العتيق طامحين أن نكون به خليقة جديدة صارخين: “لصليبك يا سيّد نسجد ولقيامتك المقدسة نمجّد”.

شرح أيقونة رفع الصليب

 يقول القديس يوحنا كرونشتادت

إن أهمية الصليب لا تكمن في كونه عارضتين خشبيتين بل لأنه يحمل صفة شخصية ملازمة للمسيح يسوع كما يعرّفه الملاك لمريم المجدلية “اني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب” (متى5:28)، وكما يكرز به بولس الرسول: “نحن نكرز بالمسيح مصلوباً”

(1كورنثوس 23:1).

ومع هذا فتفسير خشبتا الصليب: العمودية هي علاقتنا مع الله والأفقية هي علاقتنا مع الناس.

هناك أيقونتان رُسمتا دلالة على الحدث المقدس:

† نعاين الصليب مرفوعاً وعن يمينه ويساره القديسان قسطنطين وهيلانة فهما من سعيا لاسترجاع عود الصليب المكرّم.

† أيقونة يرفع فيها البطريرك مكاريوس الصليب، ونجد وراء الصليب وحوله القديسان قسطنطين وهيلانة و رؤساء الكهنة والكهنة والشعب المقدس لله يحتفل بهذا اليوم العظيم يوم ظهور الصليب المكرم مرفوعاً لخلاص البشر.

فرح الكنيسة بهذا اليوم هو فرح محبة الله لنا وتعلقنا نحن به. “فحينما ترفع نظرك الى خشبة الصليب المعلّقة فوق الأيقونسطاس (حامل الأيقونات الذي يفصل الهيكل عن صحن الكنيسة) أُذكر مقدار الحب الذي أحبنا به الله حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به.

فأينما وُجد الصليب وُجدت المحبة، لأنه هو علامة الحب الذي غلب الموت وقهر الهاوية واستهان بالخزي والعار والألم.

 

 

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *