العذراء في شهر آب
تهلّل الكنيسة فرحًا بقدوم صوم السيّدة ويطيب للمؤمنين الصيام في عيدها.
صوم السيدّة العذراء هو مِن الأصوام المحبوبة كثيراً لدى المؤمنين. يمتد هذا الصوم مِن اليوم الأوّل لشهر آب لغاية قدّاس عيد رقاد والدة الإله أي ١٥ آب.
عُرِفَ هذا الصوم في بدايته بصوم العذارى كسند للطّهارة والتبتّل، لهذا أكثر مَن كان يصومه الرهبان. ولكن سرعان ما مارسه الشّعب جاعلاً منه مناسبة لتجديد الحياة الرّوحيّة وفرصة للتّوبة.
والدة الإله هي
– المثل الحيّ للطّهارة والتّبتّل.
– مثال الأم الفاضلة والمضحيّة.
– الشّفيعة الحارة التي لم تطلب يومًا شيئًا لنفسها، بل قدّمت مولودها منذ اللحظة الأولى للولادة.
– هي المطيعة دائمًا لكلمة الله.
– هي والدة الإله وأمّنا جميعًا.
– هي التي نظر الله إلى تواضعها، وقبلت بحريّة كاملة الحبل الإلهيّ.
– لوالدة الإله أولى الجداريات والأيقونات في الكنيسة.
– هي سعت من لا يسعه مكان وباتت أرحب من السموات.
– هي التي تعجز الكلمات في وصفها.
أعياد والدة الإله العذراء مريم
للعذراء مريم في الكنيسة الأرثوذكسيّة مكانة رفيعة ومميّزة في الليتورجية وحياة المؤمنين، ولها خمسة أعياد
عيد ميلادها (٨ أيلول )، عيد دخولها إلى الهيكل (٢١ ت٢ )، وعيد رقادها (١٥ آب).
وهنا لا بد من الانتباه أنه حتّى الأعياد المرتبطة بالعذراء مريم هي في الأصل مرتبطة بالرّب يسوع وتسمّى سيّديّة، لارتباطها بالسيّد، وهذا سببه أنّ اللاهوت في الكنيسة الأرثوذكسيّة مرتبط بالرّب يسوع ويتمحوّر حوله لأنّه هو المحور.
كما للعذراء مريم أعيادٌ أخرى مثل
عيد جامع لوالدة الإله (٢٦ كانون الأول) ويأتي بعد عيد الميلاد مباشرةً، وضع زنار العذراء (٣١ آب)، وضع ثوب العذراء (٢تموز)، ينبوع الحياة (الجمعة الأولى بعد الفصح)، المديح الكبير (الجمعة من الأسبوع الخامس من الصوم).
تكريم والدة الإله
يطالعنا إنجيل لوقا بحدث البشارة وكيف دعاها الله بوساطة الملاك بالممتلئة نعمةً ومباركةُ في النساء وأنّ روح الله قد حلّ عليها.
ولكنّ هذا لا يجعل منها بتاتًا موضوع عبادة بل تكريم، فالعبادة هي فقط لله الربّ يسوع المسيح دون سواه.
وإلى جانب البشارة، نجد أحداثًا إنجيليّة تسلّط الضوء على أهميّة العذراء مريم
– الأحداث التي تدور حول الميلاد.
– زيارتها لأليصابات وقولها: من أين لي هذا أن تأتي أمّ ربي إليّ.
– تقدمة يسوع إلى الهيكل.
– عرس قانا الجليل وتبليغها للسيّد عن نفاذ الخمر وقولها للخدم: إفعلوا كلّ ما يطلبه منكم.
– وقوفها عند الصليب.
لا يُذكر الكتاب المقدّس شيئًا عن رقاد والدة الإله، ولكن يورد الآباء في عظاتهم الكثير من آيات الكتاب المقدس التي تدل على رقاد العذراء وانتقالها بالجسد.
– قول داوود ”قم يارب إلى راحتك أنت وتابوت قدسك ” ( المزامير 131 – 8 ). يذهب تفسير الآباء لهذه الآية إلى القول بأن المسيح قد ادخل إلى السماء الجسم الذي منه وُلد ولادة زمنية.
– يستند أيضًا إلى قول داوود: ” قامت الملكة من عن يمينك بألبسة مزخرفة منسوجة بخيوط مذهبة ” ( المزامير 44 – 10 ). نرى في هذه الآية مريم العذراء موشاة بحلّة ملوكية قائمة على يمين السيّد، أيّ في السّماء.
– كذلك يُستشهد بآية من رؤيا يوحنا حيث ورد ”وظهرت علامةٌ في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبا ” ( 10 –1 )
الآيات التي ذكرناها هي مجرّد رموز من الكتاب المقدّس تتناول موضوع رقاد والدة الإله إلى السماء بجسدها. أمّا أساس خبر رقاد العذراء فهو يأتينا من التقليد.
رقاد العذراء وانتقالها بالجسد إلى السماء
المصدر الذي استقى منه الآباء خبر رقاد العذراء وانتقالها إلى السماء بالجسد، هو الكتاب الذي كان متداولاً لدى جماعة الغنوصيين في القرن الثالث. فهو يورد خبر رقادها وصعودها إلى السّماء بالجسد، كما نعرفه اليوم. هذا الكتاب هو من جملة كتب الأبوكريفا التي تحمل سيرة مريم العذراء والتي أخذت عنها الكنيسة.
بدأت الكنيسة تتداول رواية رقاد العذراء في القرون الأولى بتحفّظ شديد ما بين القبول والرفض وذلك حتى القرن السادس.
ولكن بسبب ظهور البدعة النسطورية تقبلّت الكنيسة كلّ ما يختص بتمجيد العذراء وكرامتها من التراث التقليدي المتوارث. حيث قام كثيرون من الآباء بتثبيت هذه الرواية في كتاباتهم وعظاتهم، ومن أبرزهم القدّيس مودستيوس الأورشليمي واندراوس الكريتي.
في أواخر القرن السادس كتب القدّيس غريغوريوس الكبير كتابه في الأسرار، فأورد فيه قصّة رقاد مريم العذراء وانتقالها.
وفي أواخر القرن السادس أيضا كتب القدّيس غريغوريوس أسقف تور Tours كتابًا بعنوان “بمجد الشهداء” وقال فيه : ”أن الرب رفع جسد البتول ونقلها بين السحب إلى السماء .”
وأيضا نجد عظات شهيرة تشهد لهذا العيد ألقاها القدّيس جرمانوس بطريرك القسطنطينية والقدّيس يوحنا الدمشقي.
كما تكلّم على العيد القدّيس يوحنا التسالونيكي في النصف الأول من القرن السابع.
لم تتوضّح فكرة انتقال العذراء إلى السّماء إلاّ مع بداية القرن السابع ونهاية القرن السادس.
أمّا في القرون الأربعة الأولى فليس من شهادة تتكلم على رقاد العذراء سوى فقرة من كتاب الأسماء الإلهية المنسوب إلى ديونيسيوس الاريوباجي.
كذلك وجدت أيضًا في تاريخ يوسابيوس القيصري جملة تقول : ” إنّه في السنة 48 من الميلاد أُخذت مريمُ شخصياً إلى السماء بحسب ما وجد مُدَوَّنا عن أشخاص شهدوا أن ذلك أُعلن لهم شخصياً”.
كما توجد عظة تتناول الموضوع نفسه وهي منسوبة إلى المغبوط أوغسطين، لكن البعض يقول أنها تعود إلى القديس جيروم.
أما سبب قلّة المعلومات ونقص الاهتمام بتفاصيل رقاد مريم العذراء وانتقالها إلى السماء، وتأخّر ظهور العيد إلى القرن السادس وليس قبله، فهو يعود إلى أن الكنيسة كانت تخشى أنّ التفريط في تكريم العذراء قد يؤدي بالمؤمنين إلى نوع من عبادة الأصنام، شأن الوثنيين الذين عبدوا كثيراً من والدات الآلهة الكاذبة. فالعبادة لا تجب إلا لله وحده.
ويعود سبب تأخّر التّعييد لرقاد العذراء ورقادها إلى الاضطهادات التي عانت منها الكنيسة في القرون الأولى، فلم تمارس كلّ طقوسها وعبادتها إلا بعد انتهاء الاضطهادات العشر الكبرى.
تحديد تاريخ عيد رقاد العذراء
يعود التلسيم الكنسيّ بانتقال مريم العذراء إلى السماء بعد رقادها إلى أيام الرسل الأوّلين، وإلاّ لما كانت الكنيسة جمعاء تحتفل به.
أول من حدد هذا العيد في 15 آب وأمر أن يحتفل به في كلّ المشرق بمزيد الحفاوة والتكريم، كان الإمبراطور موريتيوس سنة
(600). وفي السنة نفسها اصدر البابا غريغوريوس الكبير أمرًا بالاحتفال بالعيد. وقد كان يحتفل بهذا العيد في الغرب، قبل هذا التاريخ، في (18 كانون الثاني).
وكذلك، فالبابا ثاوذورس الأول هو من أدخل العيد إلى روزنامة الكنيسة في روما. وفي القرن السابع أضاف البابا سرجيوس زيّاحاً ليزيد من رونق العيد وبهائه. ثمّ في القرن التاسع جعله البابا لاون الرابع من الأعياد التي يحتفل بها ثمانية أيام وجعل له عيد وداع ثم حدّد له سهرانية رهبانية (تستمرّ كلّ الليل) وصياماً مدّته أربعة عشر يوماً (من 1 إلى 15 آب).
ولقد كرّس الإمبراطور اندرونيكوس كلّ شهر آب لتمجيد والدة الإله وإكرامها وكان ذلك في السنة (1297). لذلك تدعو الكنيسة هذا الشهر (أي آب) شهر مريم العذراء والدة الإله الكلية القداسة.
لشهر آب طابع مريمي، فالأيام الأولى (14 يوماً) ما هي إلا تقدمة للعيد، ثمّ الأيام التالية حتى الوداع ما هي إلا امتداد لهذا العيد العظيم.
لاهوت عيد رقاد السيّدة
أُستعملت كلمة ” رقاد ” بدلاً من كلمة “موت أو “وفاة” لسببين رئيسين
– الأوّل لا موت في المسيحيّة، ففي دستور الإيمان مثلاً لا نقول عن المسيح إنّه مات بل صلب عنا على عهد بيلاطس البنطيّ، تألّم و قبر وقام من بين الأموات.
– الثاني أنّ المسيح أصعدها بالجسد بعد أن رقدت واضّجعت في القبر ولم يلحقها فساد.
الجدير بالذكر أن إعلان عقيدة والدة الاله في مجمع أفسس (في السّنة 431 )، مهَّد الطريق لتفّهم فكرة انتقالها بعد الرقاد الطبيعي.
مع العلم أنّ كنيسة أورشليم كانت أقامت ذكرى رقاد سيّدتنا والدة الإله نحو السّنة (425 ) قبل مجمع أفسس. تاليًا، فمن المؤكّد أنّ كنيسة أورشليم كانت منذ ذلك الوقت ترى مريم العذراء في المجد السماويّ.
مريم ويسوع في اللاهوت
فهمت الكنيسة منذ مجمع افسس أن بين الأم والابن وحدة مطلقة، مع أنّ مريم العذراء هي في الأرض وفي الزمان في حين أنّ المسيح صاحب الطبيعة الإلهيّة الكامله هو في السّماء وفي الأبديّة. كما تؤمن الكنيسة بأنه لا بدّ لابن الله الذي اتخذ الطبيعة البشرية في حشا البتول، أن يُدخِلَ خادمةَ التجسدِ أمِّه إلى مجده.
لقد تجسّد الله من العذراء مريم واتخذ طبيعة بشرية كاملة دون أن يفقد شيئاً من ألوهيته، أمّا مريم العذراء، فقد صارت أمّاً لله المتجسّد والمدعو ابن الله وابن الإنسان، لأنّه صاحب الطبيعيتين الكاملتين الإلهيّة والبشريّة، فحصلت مريم على المجد ولم تنل فساد القبر والموت. وهكذا لم يستطع أي شيء أن يفصل بين الأم والابن حتى في الجسد.
مريم والرّوح القدس
انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها في آن بعد الموت، هو نتيجةٌ لعمل الروح القدس فيها. فالذي حلّ عليها وأهّلها أن تصير أمّاً لابن الله، هو نفسه يكمِّل عمله فيها ويحيي جسدها المائت وينقلُه إلى المجد.
الروح القدس هو قدرة الله المحيية التي لا تحدّ. بهذه القدرة كان يسوع يشفي المرضى ويُخرج الشياطين ويقيم الموتى، وبهذه القدرة أيضاً قام هو نفسه من الموت وبهذه القدرة سيقيم الأموات.
أمّا مريم العذراء فقد سلّمت نفسها بالكامل لعمل الروح القدس. لذا حصلت مباشرة عند رقادها على قيامة الجسد بدون فساد.
مريم والبشريّة
آمن المسيحيّون الأوائل أنّ مريم العذراء قد حصلت بعد موتها بثلاثة أيام على قيامة الجسد التي هي مصير كلّ المؤمنين في نهاية الأزمنة.
إن إصعاد الرّبّ يسوع المسيح والدة الإله مريم العذراء إلى السماء بعد رقادها، إنمّا هو تكريم مباشر للبشرية كلّها.
فجسد العذراء، الذي هو مماثل لأجسادنا، قد استأهل هذه الكرامة والمجد المسبق، عربوناً وبرهاناً للقيامة التي ستجوزها أجسادنا جميعاً.
الله تجسّد ليخلّص الإنسان ويضمّه إليه ويرفعه من وهدة الهلاك والفساد.
وها العذراء شاهدةً على ذلك.
اترك تعليقاً