القديسة كاترينا العظيمة في الشهيدات

القديسة كاترينا العظيمة في الشهيدات

 القديسة كاترينا العظيمة في الشهيدات
السيرة الذاتية

هي تلك العذراء الشريفة القديسة المثقفة المتقدة غيرةً على الإيمان، المشرقة بطلعتها الملائكية، التي أصبحت مجد العذارى المسيحيات بنقاوة حياتها، وفخر الكنيسة التي أنبتت في جنانها وتنبت كل يوم أمثال هذه الوردة الفواحة.
ولدت كاترينا في أواخر القرن الثالث للمسيح في مدينة الإسكندرية. وكانت من أشرف أسر تلك العاصمة المصرية العظيمة، واقدرها ثروةً، وأعظمها شهرةً. فنشأت كاترينا منذ الصغر على حبّ الفضيلة، وشُغفت بالطهارة الملائكية، وتعلمت أن تزهد في الدنيا، وأن تعلّق قلبها بما هو أسمى وأكمل، بما يدوم إلى الأبد.
واقبلت على اقتباس العلوم العصريّة. وكانت مثابرةً على قراءة الكتاب المقدّس والتأمل في حياة يسوع، وعلى مطالعة سيَر العذارى البتولات الشهيدات. وكانت كلما ازدادت علمًا ازدادت ليسوع المخلص حبّاً وبه تعلقًا. وفي ذات ليلة رأَت في منامها مريم البتول تتقدم نحوها، حاملة على ساعدها طفلها يسوع، وسمعتها تقول له: أنظر إلى ابنتي كاترينا. لكن يسوع أَدار رأسه ولم يشأ أن يلتفت إليها وقال لأمه: إنّها ليست جميلة لأنها لم تُعمّد بعد. فاعتمدت ونذرت للربّ بتوليتها. فظهر لها الرب يسوع من جديد، ومعه والدته وجوق من الملائكة والعذارى، وأعلن أمامها أنه أتخذها عروسةً له. ثم أَلبسها خاتمًا في يمينها، علامة ذلك الوثاق السماوي الروحيّ، وعندما استيقظت كاترينا ورأَت الخاتم في يدها، علمت أن تلك الرؤيا كانت حقيقية، فامتلأت نشاطاً في الإيمان، وتشوقت إلى بذل دمها في سبيل ذلك العروس الإلهي.

دير القديسة كاترينا في سيناء
دير القديسة كاترينا في سيناء

كانت المملكة الرومانية نحو سنة 307 مقسّمة بين القياصرة الثلاثة: قسطنطين الكبير، ولكينيوس ومكسمينس. وكانت مصر تابعة لإمارة الأخير. وكان هذا القيصر مستبدًّا عاتيًا متكبرًا، يبغض المسيحيين ويحلو له الفتكُ بهم وتعذيبهم. وفي يومٍ أمر بأن تقام حفلة دينية كبرى، وأصدر أَمرًا بأن كل من لا يشترك في ذلك الاحتفال وتقدمة الذبائح لآلهة المملكة يموت موتًا.
فارتاع المسيحيون لمَّا رأَوا عهد الاضطهاد يتجدد. فإذ رأت كاترينا ذلك وشعرت بأن الرعب قد دبَّ في قلوب المسيحيين، أخذت تطوف عليهم وتشجّعهم وتثبّت عزائمهم، وتزهّدهم في الحياة وفي نعيم هذه الدنيا طمعًا بأفراح الآخرة. فأضرمت نار الغيرة والحماسة في النفوس.
وأرادت أن تعطي مثلاً عاليًا للمسيحيين، فذهبت بنفسها إلى المعبد يوم الاحتفال الكبير، وتقدمت إلى الإمبراطور مكسمينس، وطلبت إليه أن يسمع لها بالكلام ويسمعها.
فقربها إليه وأذن لها في الكلام. فانطلقت تشرح له وتقول: إن عبادة الأوثان هي من الخرافات التي لا يقبها العقل السليم؛ والمنطق يبين أنّه لا يمكن أن يكون إلاّ إله واحد، وهو أصل وسبب كل الموجودات، وبيّنوا لماذا ذهب الناس إلى الاعتقاد بكثرة الآلهة. وأخذت تتضرع إليه لكي يضع حدًّا لذلك ويعمد إلى عبادة وإكرام الإله الحقيقي.

فاستولى على الإمبراطور الذهول من ذلك الخطاب، ومن تلك الصبية من قوة بيانها ورباطة جأشها وبهاء طلعتها.
وتحدّث الناس كلّهم في الإسكندرية، المسيحيون والوثنيون، عن جسارة كاترينا، فأخذوا يجاهرون بالإيمان بالمسيح.
سافر مكسمينس وبعد عودته إلى قصره، استدعى كاترينا إليها وسألها عن اسمها وعن عملها وغايتها. فأجابته: أمّا نسبي، فهو معروف فبالإسكندرية. واسمي كاترينا. لقد وقفتُ حياتي سعيًا وراء معرفة الحقيقة. وأني كلما ازددت علمًا ازددت يقينًا أن الأصنام التي تعبدونها هي خرافات سخيفة. ولقد أَضحى مجدي وغنايَ في أن أنتسب إلى ديانة المسيحية. فدعاها إلى مناظرة وحدد موعد لذلك، ثم سلّمت وخرجت.
أرسل مكسمينس فطلب خمسين عالمًا فيلسوفًا من فلاسفة المملكة، ليناظروا تلك الشابة المغرورة بعلمها، فذاع الخبر في جميع الأمصار.
وإلى يوم المناظرة قضت كاترينا تلك الأيام بالصلاة والصوم والتواضع أمام الله، متضرع إلى عروسها المسيح أن يؤازرها بروحه القدوس، وينصرها على أَعداء الإيمان تمجيدًا لاسمه القدوس وتثبيتًا للمؤمنين. وكانت الكنيسة تصلّي أيضًا لأجلها، كما فعلت لما خلّصت بطرس الرسول من السجن.
فلما أتى اليوم المعهود أَخذ يجتمع عظماء المملكة القواد والحكّام، وأتى العلماء يتبعون كبيرهم. ثم دخل الملك بعظمة وجلال فوقف الجميع إكبارًا. ودخلت كاترينا فحامت حولها الأنظار. 

كنيسة دير القديسة كاتلاينا من الداخل
كنيسة دير القديسة كاتلاينا من الداخل

فبدأ عميد العلماء بالكلام وقال لها إنّها تستحق اللوم الشديد، لأنّها جسرت على احتقار أقوال الشعراء والخطباء والفلاسفة، الذين اجمعوا على وجوب أداء العبادة والإكرام للآلهة “جوبتير وجينون ونبتون …” وباقي الآلهة. ثم رفعت رأسها وبدأت خطابها، وبعد مقدمة بديعة أخذت تفيض بيانًا وسحرًا بلغة يونانية. فقسّمت مدافعتها إلى أقسامٍ ثلاثة:
فبينت أَولاً أن ما بنى عليه حضرة العميد كلامه عن وجود الآلهة هو محض خرافة، ولا يمكن العقل السليم أن يقبله. وبرهان ذلك ما حكاه “هوميروس واورفييا” في أشعارهما، ومن أن وجودهم لا يتجاوز بضعة أجيال. وأن بعض الفلاسفة أَقرّوا أن لا وجود صحيحًا لهم إلا في مخيلة الشعب البسيط.
وشرحت في القسم الثاني أن الفلسفة الصحيحة المبنية على المنطق، لا تستطيع أن تعترف إلاّ بإله واحد خالق السماوات والأرض ومبدع جميع الكائنات. وكبار فلاسفة الدنيا، كسقراط وأفلاطون وأرسطو، الذين اعترفوا بأنّه لا يمكن أن يكون سوى إله واحد، وهو أصل وسبب كل الموجودات، وبأن هذا الإله يجب أن يكون كاملاً إلى ما لا حدَّ له في صفاته، وأن يكون مستقلاً عن كل مسبّب سواه.
ثم أتت في القسم الثالث على بيان ألوهة السيد المسيح، وأنّه واحد مع الآب والروح القدس، وأنّه تجسّد وخلّص البشر بآلامه وموته. وسردت لذلك أقوال الأنبياء في العهد القديم، ولاسيما ما جاءَ في كتب “السِبِلاَّ” النبوية الوثنية، التي يعترف بها الإمبراطور نفسه وعلماؤه، وطبّقتها على ما جاء في العهد الجديد عن حياة المسيح المخلّص وموته.
التفت الإمبراطور إلى العلماء وأشار إليهم أن ينقضوا كلامها، فأجاب عميدهم: إن ما قالته كاترينا لهو عين الصواب. فاستشاط الملك غضبًا، ونظر إلى باقي العلماء ينتظر من أحدهم ردًّا، فأجابوا كما أجاب عميدهم، وقالوا أنّهم أصبحوا يؤمنون بما تؤمن به كاترينا. فازداد الإمبراطور غضبًا، وأمر أن يحرق أولئك العلماء بالنار.

الاسكندرية زمن الرومان
الاسكندرية زمن الرومان

فتقدم أولئك الفلاسفة الأفاضل بسرور إلى النار، ليموتوا من أجل إيمانهم بالمسيح.

استشهادها
عرض مكسمينس على كاترينا الزواج لتصبح الإمبراطورة الوحيدة المطاعة الغنية السعيدة، فازدرت العذراء كاترينا من قاتل امرأته وسافك الدماء البريئة. فأمر الجند أن يسوقوا كاترينا خارج المدينة وأن يقطعوا رأسها. فذهب الجند بها. وفيما هي سائرة، كانت تصلّي وتسبح الرب. وطلبت إلى عروسها يسوع أن لا يسمح لأحدٍ من أولئك البرابرة القتلة أن يدنس جسدها بعد موتها، وعندما وصلت إلى محل إعدامها، جثت وصلّت وطلبت إلى الرب أن يبدد ظلام الوثنية ويضيءَ العالم بأنوار الإيمان. ثم حنت رأسها فقطعه الجلاد بضربة سيف. وغابت عن الأبصار. ولم يعد أحد يراها.

دير القديسة كاترينا في سيناء
ثم وجد بعض النسّاك ذلك الجسد الظاهر في جبل سيناء، على عهد الملك العظيم وحسن العبادة يوستنيانوس. فدفنوه هناك بإكرام، وبنوا على ذلك الجبل على اسم “القديسة كاترينا” كنيسةً وديرًا لا يزالان قائمين إلى يومنا هذا.
وقد اتخذت الكنيسة تلك العذراء الشهيدة والفيلسوفة البارعة شفيعةً للبنات وللفلاسفة، لكي يقتدوا بطهارتها الملائكية وبغيرتها الفعَّالة، ويبشروا، بعلمهم وبمثلهم الصالح، بالإيمان بالمسيح يسوع وبإنجيله الطاهر.

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *