بطرس الأكبر في حملته على اللّحى
بطرس الأكبر في حملته على اللّحى
تحيي روسيا، هذه الأيام، ذكرى ولادة القيصر بطرس الأكبر، ويفتتح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لهذه المناسبة في موسكو معرضاً مكرساً لهذا الحاكم الذي عمل على تقريب الأمبراطورية الروسية من أوروبا. بحسب الرواية التاريخية، سافر بطرس الأكبر في مطلع حكمه الى أوروبا، وأدرك خلال تنقّله في هذه الأقاليم مدى تأخر تطورّ روسيا، فشرع في تحديث الامبراطورية وإصلاح الجيش والدولة والكنيسة وإنشاء البحرية، وأطلق ثورة ثقافية فعلية، استهلها بحلق لحى الرجال المحيطين به وفرض تغيير زيهم.
ولد بطرس ألكسييفيتش رومانوف في الكرملين في التاسع من حزيران 1672، وعند وفاة شقيقه القيصر فيودور الثالث في السابع من أيار 1682، تولّى حكم روسيا اسمياً وهو في العاشرة من عمره، مشاركاً أخاه غير الشقيق القيصر إيفان الخامس الذي كان يعاني المرض والوهن بشكل مزمن. أعلن إيفان كأمبراطور أول، وأعلن بطرس كأمبراطور ثان، وأعلنت صوفيا أليكسييفنا، شقيقة أيفان، وصية على العرش. وحين بلغ السابعة عشرة، دخل بطرس في صراع طويل مع صوفيا على السلطة، وانتهى هذا الصراع الدموي بإطاحة صوفيا ونفيها إلى دير حيث تخلَّت رسميّا عن اسمها ومنصبها كعضوة في العائلة الملكية. آلت السلطة إلى بطرس، فشرع في تحديث أمبراطورته لتحويلها إلى قوى أوروبية عظمة، وعزم على فتح نافذة على الغرب ليحرر بلده من هذا الثقل الذي وصفه بـ”البربرية الآسيوية”.
في ربيع 1695، شن بطرس الأكبر الحرب على تتار جزيرة القرم، وتوجه إلى قلعة بلدة آزوف على نهر الدون، على بعد كيلومترات من بحر آزوف، غير أنه لم ينجح في الاستيلاء على هذه القلعة، فشرع في إنشاء أسطول بحري، ومع هذا الأسطول، بدأ تكوين البحرية الأمبراطورية الروسية. في السنة التالية، تحقق الهدف في مطلع الصيف، وباتت آزوف تحت السيطرة الروسية، وبهذا دخلت الأمبراطورية القيصرية في مرحلة حاسمة في صراعها مع الخلافة العثمانية. في نهاية ذلك العام، أعلن بطرس الأكبر أمام مجلس دوما البويار (النبلاء الروس) إقامة سفارة روسية كبيرة، وانطلق في رحلة طويلة إلى الغرب، فقصد أوّلاً بروسيا متخفياً تحت اسم مستعار، واطلع هناك على خصائص سلاح المدفعية، ثم قصد هولندا، ودخل كعامل بسيط المصانع البحرية الخاصة بشركة الهند الشرقية الهولندية في أمستردام، وتمرّس في هذه الصناعة، ثم توجه إلى إنكلترا، وتعمّق في هذه الدراسة، وزار جامعة أوكسفورد، كما زار منزل العالم إسحق نيوتن، ثم قصد فيينا حيث كان له لقاء هامشي سريع مع الأمبراطور الروماني المقدس ليوبولد الأول، ملك المجر وكرواتيا وبوهيميا، وعاد إلى موسكو في خريف 1698. كان بطرس الأكبر أول حاكم روسي يسافر خارج أمبراطويته منذ ايزيسلاف الأول، أمير كييف المعظم في منتصف الحادي عشر، وفد افتتن القيصر الشاب بالثقافات الأوروبية في أوجهها المتعدّدة خلال رحلته التي استمرت ثمانية عشر شهراً، وعاد مبهورا بها إلى موطنه.
عند الإعلان عن خبر عودة القيصر، سارع العديد من كبار القوم وصغاره إلى تحيته، فتلقاهم برحابة بعدما حلق لحيته الخفيفة واكتفى بالشاربين، ثم أخرج مقصاً للشعر من جيبه، وشرع في قص ذقون هؤلاء الرجال بنفسه، وأمر كل الذين يريدون الاحتفاظ برضائه أن يحذوا حذوه، باستثناء بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية ورجال الإكليروس. لم تمرّ هذه الحادثة مرور الكرام، فاللحية كانت أشبه برمز ديني في أقاليم الشرق المسيحي المتعّددة منذ زمن بعيد، كما في روسيا، وقد أطلقها، بحسب المقولة الشائعة، الأنبياء والرسل. وقبل أن يشن بطرس الأكبر حملته على الذقون ببضع سنوات، كان بطريرك موسكو وسائر الروس، المدعو أدريان، قد شجب علناً حلق اللحى، ورأى فيه هرطقة وبدعة خارجة على الدين المستقيم. مضى بطرس الأكبر في هذا التحدّي، وأصدر مرسوماً إلى جميع أرجاء روسيا يقضي بأن يحلق جميع العلمانيين لحاهم، على أن يُبقوا شواربهم إن أردوا. وفرض ضريبة سنوية على من أراد أن يحتفظ بلحيته، واختلفت هذه الضريبة بحسب الانتماء الطبقي، فكانت تبدأ من كوبك واحد للفلاح، وترتفع تدريجياً بحيث تبلغ ستمئة روبل لكبار موظفي الدولة. تقول إحدى الحوليات المعاصرة لهذا الحدث إن الكثير من شيوخ الروس كانوا يحرصون على الاحتفاظ بشعر لحاهم بعد حلقه، “ليوضع في نعوشهم عند رحيلهم، مخافة ألا يُسمح لهم بدخول الجنة من دونه”.
لم يكتف بطرس الأكبر بشن هذه الحملة على اللحى، إذ سارع إلى شن حملة مماثلة على الزي الروسي التقليدي، وقطع بنفسه أكمام الألبسة التقليدية التي كان يرتديها من يمثُل أمامه من ضبّاط الجيش. وقال لأحد هؤلاء: “هذه الأكمام تعوق حركتك، فلا أمان لك في أي مكان ما دمت تلبسها. هي تارة تقلب كوباً، وتارة أخرى أنت تغمسها سهواً في الصلصة”. في مطلع 1700، أصدر الأمبراطور مرسوماً يفرض على جميع رجال الحاشية والموظفين في روسيا اتخاذ الزي الغربي، كما حثّ النساء على ارتداء هذا الزي، وقيل في تلك الحقبة إن الوافدين إلى موسكو أو الراحلين عنها كانوا يلبسون كما جرت العادة قفاطين تصل إلى الكاحل، فكان عليهم أن يختاروا بين قص قفاطينهم عند الركبة، وبين دفع غرامة.
أثارت هذه القرارات حفيظة الكنيسة في عهد البطريرك أدريان، كما أثارت حفيظة طائفة “المؤمنين القدامى”، وهي فرقة سلفية انتشرت انتشاراً كبيراً في تلك الحقبة، وعرفت بموافقها المتشددة الرافضة للإصلاحات الخجولة التي استحدثتها الكنيسة في ذلك الزمن. في خريف 1700، توفي البطريرك أدريان، فاستغل بطرس الأول الفرصة، ومنع تعيين خلف له، وعيّن إدارياً بطريركياً أوكلت إليه مهمة الإشراف على أمور الكنيسة. وفي 1701، أصدرت السلطة قراراً يقضي بنقل إدارة الممتلكات الكنسية إلى إحدى مصالح الحكومة، وقلّص هذا القرار صلاحيات المحاكم الكنسية بشكل كبير، كما أخضع تعيين الأساقفة لتصديق الحكومة، وشكّل بداية لحركة إصلاحية جذرية طالت الكنيسة إداريا، من دون المساس بعقائدها إطلاقاً.
Beta feature
اترك تعليقاً