تاريخ الصحاغة العربية

تابع تاريخ الصحافة العربية

الفصل الرابع: أخبار جرائد بيروت من سنة ١٨٨٦ إلى سنة ١٨٩٢

بيروتهو اسم جريدةٍ علميةٍ سياسيةٍ تجاريةٍ أدبية برزت مرتين في الأسبوع بتاريخ ٢٢ آذار ١٨٨٦ لصاحبها محمد رشيد الدنا، فراجت سوقها كثيرًا؛ لأن مُنشئها عُرف بلين الجانب واعتدال المشرب وإخلاص النية في خدمة الوطن، واتفق حينئذٍ أن شقيقه عبد القادر الدنا كان رئيسًا لمجلس تجارة بيروت وذا كلمةٍ نافذة يؤيده كامل باشا الصدر الأعظم، فأُرسلت الجريدة لجميع تجار بيروت ولبنان وسوريا وسائر الجهات فاشتركوا فيها إكرامًا لخاطره، ولم يستطع أحد منهم أن يرفضها؛ لأن أعيان بلادنا لسوء الحظ كانوا ولم يزالوا يضنُّون ببذل الدرهم في سبيل المشاريع الأدبية، ولذلك كان أكثرهم يشترك في الجرائد خجلًا من أصحابها لا يقصد مطالعة أخبارها والاستفادة منها. وفي شهر تشرين الثاني ١٨٨٩ ظهرت «بيروت» بحُلَّةٍ بهية من الحروف القسطنطينية المصنوعة في المطبعة الكاثوليكية وزادت فيها ١١٢ سطرًا.

وبعد وفاة منشئها عام ١٩٠١ انتقل امتيازها لعهدة أخيه محمد أمين الدنا الذي جعلها أسبوعية، ثم قضت عليه أعماله التجارية بالانسحاب من إدارتها عام ١٩٠٥ مع بقاء الامتياز باسمه، فتولَّاها أخوه عبد القادر الدنا وكان عهدئذٍ رئيسًا للمجلس البلدي، فحسن مواضيعها ثم جعلها يومية بعد إعلان الدستور العثماني بمدةٍ قليلة، وما لبث أن أوقفها لكثرة ما ظهر في ذلك العهد من الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية التي ثبت منها العدد القليل. ولما تعيَّن أدهم بك سنة ١٩٠٩ واليًا على بيروت للمرة الأولى قامت بعض الجرائد تطعن فيه، فأوعز الوالي إلى عبد القادر الدنا أن يعيد إصدار الجريدة دفاعًا عنه وساعده بالمال، فصدرت «بيروت» ثلاث مرات في الأسبوع، ولكن بلا انتظام وكان حجمها يختلف باختلاف كثرة موادها أو قلَّتها، وجرت حينئذٍ بينها وبين جريدة «الاتحاد العثماني» تلك المناقشة الموجِعة التي أدَّت بهما إلى الطعن الشخصي، وعلى أثر ذلك احتجبت «بيروت» في شهر تموز ١٩٠٩ بعدما بلغت عامها الرابع والعشرين.

ومن مميزات هذه الجريدة أنها كانت تحاسن النصارى أكثر من سائر الجرائد الإسلامية لذلك العهد، وكانت عند ذكرها رؤساء الدين المسيحي لا تبخل عليهم بالألقاب المختصة بهم رسميًّا، بل إنها كانت تعاملهم بالقسط كما تعامل الصحف المسيحية رؤساء الدين الإسلامي من هذا القبيل، وقد حرَّر فيها مدة ١٨ سنة سليم بن عباس الشلفون ثم خلفه الشيخ محيي الدين خياط وكلاهما من ذوي الفضل والمعرفة.

دليل بيروت

figure

أمين الخوري؛ منشئ صحيفة «دليل بيروت» في بيروت وجريدتَي «العثماني» و«الإعلان» في الإسكندرية.

جريدةٌ إحصائية ظهرت عام ١٨٨٨ بهيئة مجلةٍ صغيرة تصدر سنويًّا تحت عنوان «الجامعة» أو «دليل بيروت» لمنشئها أمين الخوري، وقد حذا فيها حذو الإفرنج تقريبًا، للصلات بين الوطني والغريب، وتسهيلًا للأشغال والعلاقات مع بقية الجهات على ما هو جارٍ في الممالك المتمدنة، فإنه ضمَّنها كل ما تهم الإنسان معرفته عن أحوال بيروت وأخبارها ومأموري حكومتها ومشاهير رجالها وأسماء تجارها وأطبائها وصيادلتها ورؤساء الأديان وقناصل الدول ووكلاء الدعاوى وسائر أرباب الحرف فيها. وهي تشتمل أيضًا على أسماء المعابد والمدارس والمكاتب والمطابع والجرائد والأنزال والشوارع والمصارف والمستشفيات والشركات المهمة والمتنزهات العمومية إلخ. فكان هذا المشروع المبتكَر في بلادنا الشرقية نموذجًا جرت عليه سائر البلدان العربية لإرشاد الغريب إلى كل ما يهم معرفته من أحوالها، وهكذا ظهر من بعده «دليل مصر» ثم «دليل الإسكندرية» ثم «الدليل» في باريس ثم «دليل مصر والسودان» وغيرها. واستمرت الجامعة تصدر سبع سنواتٍ متوالية حتى أوقفها صاحبها بداعي سفره إلى الإسكندرية وسكناه فيها، فلما رجع إلى بيروت أعادها بمظهر جريدة تحت عنوان «دليل بيروت» فقط. إلا أنها كانت غير منتظمة في أوقات نشرها، وكل ما صدر منها بعد إعلان الدستور العثماني لا يتجاوز عدد الأصابع. ولصاحبها أمين الخوري مكتبة تُعرف بمكتبة الآداب في بيروت، وقد وضع مؤلفاتٍ شتى مذكورة في قائمة مكتبته أهمها معجم في اللغتَين العربية والفرنسية مُزيَّن بالرسوم العديدة.

بيروت الرسمية

figure

عبد الغني سني بك؛ مكتوبي ولاية بيروت وأحد المحررين في جريدة «بيروت الرسمية».

صحيفةٌ رسميةٌ أسبوعية أنشئت في ٢٢ كانون الأول ١٨٨٨ بعناية علي باشا حاكم بيروت بعد انفصالها عن ولاية سوريا. وهي تُنشر باللغتَين العربية والتركية لإذاعة أوامر الحكومة والإعلانات الرسمية. وكان يقوم بتحرير قسمها العربي بعض المأمورين كأحمد فائق، وإبراهيم بك حكيم، وكمال الشريف، وعبد الرحمن الحوت، وممدوح بك، وصبحي أبي النصر، وحسين الأحدب، وعبد الغني سني، والشيخ محيي الدين الخياط. ومنذ العدد ١١١٦ الصادر في ١٧ ربيع الأول ١٣٢٩ﻫ/١٨ آذار ١٩١١ أدخلت فيها تحسيناتٌ شتى وترقَّت عبارتها، وقد اتسعت دائرة مباحثها بحيث صارت تظهر في ثماني صفحات وتنشر المقالات العلمية والأدبية المشتملة على الخدمة العمومية. وفي ٢٢ تشرين الأول ١٩١٢ أخذت تصدر عددًا يوميًّا في أربع صفحاتٍ صغرى لإذاعة الأخبار البرقية وحوادث الحرب بين الدولة العثمانية ودول البلقان؛ أي بلغاريا والسرب والجبل الأسود واليونان، ثم أوقفت نشر هذه النسخة اليومية بعد شهر من إصدارها.

ولهذه الجريدة مطبعةٌ خاصة بها مع مطبعةٍ حجرية قد استدعي لتركيبها الأخ أنطون كنعان اليسوعي المشهور بفن الطباعة، فلما فرغ من العمل أرادت الحكومة أن تؤدي له ولمساعديه أجرة أتعابهم، فأبت نفسه الكريمة قبول ذلك لقاء هذه الخدمة الوطنية، غير أن الولاية قدرت عمله حق قدره فأرسلت إلى رئيس اليسوعيين كتابًا يُعلن شكر الحكومة لطغمتهم، ثم شفعته بساعةٍ ذهبية على سبيل التذكار للأخ أنطون المشار إليه.

وتطبع هذه الجريدة بحرفٍ حسن وعلى ورقٍ جيد، وقد صدر منها عددان ممتازان بالنقوش والتصاوير وهما من أبدع ما ظهر حتى اليوم من الصحف العربية المصوَّرة وطُبعَا في مطبعة اليسوعيين، أولهما ظهر في ٩ شعبان ١٣٢٦ بمناسبة تذكار الجلوس السلطاني، والآخر برز في السنة التابعة احتفاءً بجلوس السلطان محمد الخامس على الأريكة العثمانية. أما مدير هذه الجريدة ومطبعتها والقائم بجميع مهامها فهو حضرة النشيط عبد المجيد أبو النصر الذي لم يزل في خدمتها منذ نشأتها حتى الآن.

الفوائدنشرةٌ دينيةٌ علميةٌ إخبارية ذات أربع صفحاتٍ صغيرة أنشأها خليل البدوي في شهر آذار ١٨٨٩ لمنفعة فتيان طائفة الروم الكاثوليك، فصدرت أربع مرات في سنتها الأولى ثم صارت شهرية في سنتها الثانية، ومنذ ١٠ كانون الثاني ١٨٩١ تحوَّلت إلى جريدةٍ أسبوعيةٍ أدبيةٍ علميةٍ إخبارية في ثماني صفحات، وقد اتخذها غريغوريوس الأول بطريرك الروم الكاثوليك لسان حال طائفته بمنشور أذاعه في اليوم السادس عشر من الشهر المذكور. ولكن عمر هذه الجريدة لم يطل إلا خمسة أسابيع؛ إذ صدر أمر الباب العالي بتعطيلها؛ لأنها قالت عن مدينة رومة العظمى إنها مقام «الخلافة البطرسية»، فاختلق الأعداء لهذه العبارة تأويلًا سياسيًّا وأوهموا السلطان عبد الحميد أنها ترمي إلى نقل الخلافة من القسطنطينية «رومة الجديدة» إلى رومة القديمة مقر البابوات. ولهذا السبب الخيالي ورد إلى والي بيروت عزيز باشا تكديرٌ تلغرافيٌّ شديد اللهجة من جانب الصدارة العظمى؛ لأنه لم يأبه إلى هذه الدسيسة الموهومة، فاضطر صاحب «الفوائد» أن يذهب بنفسه إلى عاصمة السلطنة حيث تغيَّب نحوًا من ثلاثة أشهر، وبجهدٍ عظيم أفهم أصحاب الشأن أنه ليس بالرجل الذي يعزون إليه الفتنة، وأن لقبه «البدوي» لا يدل على أنه من صميم العرب الناقمين على الخلافة في آل عثمان. فلما حصل الاقتناع والاطمئنان من جانبه صدرت له الأوامر السلطانية بإنشاء جريدة «الأحوال» بدلًا من «الفوائد» الملغاة.

الأحوالجريدةٌ سياسيةٌ تجاريةٌ علميةٌ أدبيةٌ زراعيةٌ صناعية أنشئت في غرة تشرين الأول ١٨٩١ لصاحبها خليل البدوي الذي أسسها على أنقاض جريدة «الفوائد» الملغاة. وفي عامها الثالث صدرت كل يوم وهي أول جريدةٍ يومية نُشرت في السلطنة العثمانية، وكانت تطبع في السنين الثلاث الأُوَل من عمرها في مطابع المدينة، ثم أنشئت لها مطبعةٌ خاصة باسم «مطبعة الفوائد» التي كان قد صدر امتياز بها مع امتياز جريدة «الفوائد» السابقة الذكر. وفي سنة ١٩٠٠ قيَّض الله لمنشئها أن يشيد لها بنايةً فخيمةً قائمةً في جادة المرفأ وهي من أجمل أبنية بيروت. وقد صادفت الأحوال في طريقها الصحافية عراقيلَ جمةً من كل الوجوه ونزلت بها مصائبُ شديدة كانت كل واحدة منها كافية لقتلها، ولا سيما أن صاحبها كان على ضعفه وقِلَّة أنصاره حرًّا جسورًا لا يحسب للائمين حسابًا. وبالرغم من هذه المحن أفلحت الأحوال وأحرزت مقامها العالي بين الصحف. وقد ذاقت الأمرَّين من المراقبة واضطهاد المأمورين وأعداء الإصلاح، فصودرت أمام المحاكم مرارًا وصدرت عليها عدة أحكامٍ بدائية ردَّتها محكمة الاستئناف إلا مرةً واحدة غرَّمتها المحكمة بدفع ثمانية عشر ألف غرش بإغراء أحد العمال الخونة مدفوعًا من بعض الأعداء، وكان رئيس المحكمة شديد الوطأة على الأعضاء فنجح في تثبيت الحكم في التمييز، فدفع صاحب الجريدة ثمانية عشر ألف غرش ظلمًا.

figure

خليل البدوي؛ مؤسس مجلة «الكنيسة الكاثوليكية» وجريدة «الفوائد» وصحيفة «الأحوال» ومحرر جريدة «البشير» سابقًا (رسمه في سنة ١٨٨٩).

وعُطلت الأحوال مرارًا لجرأتها في نشر الحقائق الجارحة، وهي أول جريدة بشرت بإعلان الدستور في هذه الديار ونادت على صفحاتها بالحرية والمساواة والإخاء قبل جرائد العاصمة نفسها. وفي غرة أيلول ١٩٠٨ صدرت مرتَين في النهار صباحًا ومساء؛ فأحرزت بذلك قصب السبق على سائر الصحف العربية في جميع الأقطار، وذلك يدل على همة منشئها وإقدامه على عظائم الأمور وشدة تفانيه في سبيل الخدمة العمومية. لكن اندفاعها في الغيرة على إصلاح البلاد قد أثار الأحقاد في صدور الأعداء والحساد؛ فهيجوا عليها العامة من جهلاء المدينة، فهجم منهم على إدارتها نحو عشرة آلاف رجل شاكي السلاح يوم الأربعاء في ٧ نيسان ١٩٠٩ وكادوا يفتكون بصاحبها لولا عناية الله التي أنقذته من أيديهم. وكان هذا الاعتداء الفظيع سببًا لهَدِّ ركن صحته، فلازم البيت زهاء عشرين يومًا لم يفتر في خلالها من مداومة نشر المقالات الإصلاحية وتقبيح أعمال الجهال والمفسدين، على أنه إجابة لدواعٍ عائلية اضطر أن ينسحب أخيرًا من الصحافة، فباع المطبعة في أوائل سنة ١٩١٠ وأجَّر الجريدة إلى عشرين سنة لقيصر بوبز وشركاه تحت شروطٍ معلومة، فنشرها أصحاب الإدارة الجديدة مدة سنتين وسبعة أشهر ثم اضطروا إلى توقيفها في ١٠ أيلول ١٩١٢ لأسبابٍ مالية، فكان ذلك سببًا لأسف مطالعيها من التجار والأدباء وأصحاب المصالح الذين كانوا يرتاحون إلى طلاوة كتاباتها ويعتمدون على صدق أخبارها. وقد بلغنا أنها ستستأنف الظهور قريبًا بهمة صاحبها المفضل.

واشتهرت الأحوال بسرعة نقل الأخبار قبل سواها من الجرائد وخصَّصت قسمًا وافرًا من أعمدتها بإذاعة الأسعار التجارية والمالية لتسهيل المعاطيات بين الناس، ولها الفصول الشائقة في الدفاع عن مصالح الشعب والتنديد بالحكومة وعمالها على قدر ما تستطيعه جريدة في بلاد لم تنضج فيها الحرية الحقيقية. وسافر منشئها مرارًا إلى أوروبا بحيث كان يتحف القراء بالمقالات الضافية عن حضارة الغرب، ويحثُّ الشرقيين على اقتباس حسنات الغربيين. وأجمل عدد صدر من الأحوال كان في غرة أيلول ١٩٠٠ بمناسبة اليوبيل الفضي لجلوس السلطان عبد الحميد الثاني؛ فإنه يروق للأبصار بتأنق ألوانه وجمال نقوشه. وأخص الذين تولوا كتابتها مع صاحب الامتياز نذكر منهم: خليل مطران ونجيب شوشاني وأمين الحلبي وإبراهيم الخوري البكاسيني وقيصر بوبز وسليم عقاد وسعيد فاضل عقل.

الفصل الخامس: أخبار مجلات بيروت من سنة ١٨٧٠ إلى سنة ١٨٧٥

المجمع الفاتيكانيمجلةٌ أسبوعيةٌ دينية ذات ثماني صفحات نشرها الآباء اليسوعيون في غرة كانون الثاني ١٨٧٠ بإدارة سليل طغمتهم الأب فرنسيس غوترلت، وكان يساعده في التحرير الأب يوحنا بلو المستشرق اليسوعي والمعلم جرجس زوين اللبناني الماروني. وغرضها إذاعة أخبار هذا المجمع المسكوني وإعلان أحكامه ومباحث آبائه بين الطوائف الشرقية الكاثوليكية، فظهر منها ٣٥ عددًا آخرها في ٢٧ آب للسنة المذكورة. وكان شعار البابا بيوس التاسع مطبوعًا في رأس المجلة تعزيزًا لشأن خليفة القديس بطرس في سوريا. وقد تعطلت المجلة عند توقيف أعمال المجمع بسبب دخول عساكر الإيطاليان إلى عاصمة البابوات واستيلائهم عليها. ومما لا يسعنا السكوت عنه أنه جرى جدال بين مجلتي «المجمع الفاتيكاني» و«الجنان» لأن الثانية نشرت فصولًا منقولة عن جريدة «التيمس» الإنكليزية ضد حقوق الحبر الأعظم، فقامت الأولى للدفاع عن رأس البيعة الجامعة وبيَّنت لمجلة «الجنان» فساد زعم القائلين بأن السدة الرومانية تقصد سلب ما يسمونه «استقلال الكنائس الشرقية». وكان فرنسيس مراش الحلبي يكتب المقالات الطويلة منتصرًا للمجمع الفاتيكاني ضد «الجنان» مع محافظته على أصول الجدال وآداب المناظرة وعدم التعرض للطعن الشخصي.

الجناناسم لمجلةٍ سياسيةٍ علميةٍ أدبيةٍ تاريخية صدرت في غرة كانون الثاني ١٨٧٠ مرتين في الشهر لمنشئها المعلم بطرس البستاني، فجعل شعارها «حب الوطن من الإيمان»، ومن ذاك العهد درجت العادة عند أكثر أرباب الصحف الغربية أن يتخذوا لجرائدهم ومجلاتهم شعارًا خاصًّا ويصدروها به، وقد افتتحها المعلم بطرس بهذين البيتَين:

إليك صحيفةً نُشرت حديثًا
فأغنت بالسماع عن العيان
كفردوس حوى ثمرًا شهيًّا
لذاك دعوتها باسم الجنان

figure

ثئوفيلس أنطون قندلفت؛ مطران طرابلس والنائب البطريركي على السريان في بيروت سابقًا ومنشئ المقالات النفيسة في «البشير» و«النحلة» و«الجنان» و«الجنة» و«النجاح».

وكانت سوق «الجنان» رائجةً في البلاد العربية شرقًا وغربًا لما ناله صاحبها من الشهرة العلمية الواسعة والصيت العظيم بتأسيس «المدرسة الوطنية» وتأليف قاموس «محيط المحيط» وكتاب «دائرة المعارف» وغيرها من الآثار. وكان سليم البستاني ابن المعلم بطرس ينشئ أكثر مقالاتها ولا سيما السياسية والتاريخية والروائية، وأهمها وأشهرها كتاب «تاريخ عام قديم» وكتاب «تاريخ فرنسا الحديث» الذي نُشر على حدة سنة ١٨٨٤ في مجلدٍ ضخم. وآخر صفحة من المجلة كانت تتضمن ملحًا فكاهية وأشعارًا أدبية وحكمًا تهذيبية. ونالت «الجنان» عناية أحمد مدحت باشا في ولايته لسوريا حتى إنه كان يزور إدارتها في مجيئه لبيروت ويبثُّ أفكاره الإصلاحية بواسطتها، فيصدر العدد منها بجميع مواده لغايةٍ واحدة كالتكريه بالحاكم الظالم ومحبة الحاكم العادل وما أشبه. ومن جملة الآثار المهمة التي زيَّنت صفحات الجنان كتاب عنوانه «ألبانيا والألبانيون» بقلم واصا باشا المتصرف الرابع على جبل لبنان سابقًا، وقد نقله نجيب البستاني من اللغة الفرنسية إلى اللسان العربي في فصولٍ شتى.

وبعد وفاة منشئها سنة ١٨٨٣ تحوَّل امتيازها لنجله البكر سليم، ثم في السنة التابعة لثالث أنجاله نجيب البستاني، حتى انطفأ سراجها في العام السابع عشر لظهورها. ولأكثر علماء ذاك العصر مقالاتٌ شائقة ظهرت في هذه المجلة نذكر منهم: الشيخ إبراهيم اليازجي وسليمان البستاني والمطران أنطون قندلفت والدكتور كرنيليوس فانديك وإسكندر أغا أبكاريوس والمركيز موسى دي فريج والشيخ خطار الدحداح وسليم دياب ونوفل نوفل وأديب إسحاق والمعلم إبراهيم سركيس وإبراهيم الحوراني وفرنسيس مراش وشاكر شقير وجميل مدور وجرجي يني وأسعد طراد ونعمان قساطلي وسواهم. وقد نشر فيها جرجي يني المشار إليه كتابه المشهور «تاريخ حرب فرنسا وألمانيا» الذي طُبع بعد ذلك على حدة سنة ١٩١١ بعناية يوسف توما البستاني. ولما تكلم عيسى إسكندر المعلوف في مقالته «الصحافة العربية» عن تأثير الصحف على الأقلام قال:

أما التأثير على الأقلام فإن بعضها كان في أول عهده ركيك العبارة إفرنجي الأسلوب، ولكن سمو أفكارها كان يشفع بركاكة ألفاظها، ولا سيما مجلة «الجنان» فإن فيها أفكارًا دقيقة تحت عباراتٍ ركيكة مما يدل على أن منشئيها انصرفوا بكليتهم عن اللباس اللفظي إلى الجوهر المعنوي.

figure

جرجي يني؛ أحد منشئي مجلة «المباحث» في طرابلس الفيحاء وكاتب المقالات البليغة في أشهر المجلات العربية وأقدسها في سوريا ومصر.

ولعل المعلم بطرس البستاني عمد إلى هذه الوسيلة في كتابات مجلته عند أول ظهورها؛ لأن أكثر القوم في ذلك العهد كانوا لا يكترثون لمطالعة الصحف المكتوبة بعباراتٍ فصيحة، فتسهيلًا لهم كان يضيء فصول «الجنان» بلغة تفهمها العامة ولا تأنف منها الخاصة، وهي خطة حسنة يُشكر عليها المعلم بطرس البستاني وأنجاله الذين أجادوا وأفادوا في ابتكار هذه الطريقة دون سواهم لخدمة الصحافة والعلم والوطن. وكانت هذه المجلة مطبوعة طبعًا نظيفًا وتنشر من وقت إلى آخر رسوم المناظر الشهيرة وصور أعاظم الرجال.

النحلة

figure

القس لويس صابونجي. هو مؤسس مجلة «النحلة» في بيروت ولندن والقاهرة ومجلة «النجاح»، ونشرة «النحلة الفتية» في بيروت و«النحلة الحرة» في القاهرة، وصحيفة «الخلافة» و«الاتحاد العربي» في لندن، و«موسى الحلاقة» في ليفربول، وجريدة «مجلس المبعوثان» في القسطنطينية، ومحرر «مرآة الأحوال» في لندن، وهو أول كاهنٍ صحافي عند جميع الطوائف الشرقية وعميد الأحياء قاطبةً بين الصحافيين الناطقين بالضاد.
خدمتُ إله العرش قسًّا مقدسًا
على مذبح حولي الملائك سجَّدُ
وصرت سياسيًّا أدير صحافةً
بها الملك والأوطان تهدى وترشد
فسبحان من في كفِّه أمر خلقه
يُغيِّر فيهم ما يشاء ويقصد

مجلةٌ أسبوعية صدرت في ١١ آيار ١٨٧٠ لمنشئها القس لويس صابونجي السرياني، وهو أول كاهن دخل في سلك الصحافة من جميع كهنة الطوائف المسيحية الشرقية، وكانت النحلة تتناول ما راق وأفاد من أهم المواضيع مرتبة على عشرة أبواب ما خلا الدين والسياسة، وهي: العلم والصناعة والتاريخ واللغة والحوادث الداخلية والحوادث الخارجية والتجارة والفلسفة والفكاهات والروايات الأدبية؛ لذلك فإنها تعد أم المجلات العربية في حسن تبويبها وترتيب موادها وكثرة مباحثها؛ بحيث لم ينشأ قبلها مجلةٌ منتظمة عندنا كالمجلات الراقية عند الإفرنج. وروى الأب لويس شيخو غلطًا في كتابه «الآداب العربية في القرن التاسع عشر» أن «النحلة» أنشأها يوسف الشلفون بالاشتراك مع لويس صابونجي فاقتضى التنويه، وقد صدَّرها صاحبها بالأبيات الآتية:

ها نحلة تجني زهور معارف
من روضة فيها صدور تنشرح
زهدت ببحث ديانةٍ وسياسةٍ
حفظًا على دينٍ وحكمٍ مقترح
قلِّد أمور الدين أرباب الهدى
ودَعِ السياسة للرئاسة تسترح

وكان الكونت نصر الله دي طرازي أكبر عضد للقس لويس صابونجي في تأسيس هذه المجلة … فإنه ساعدة ماديًّا وأدبيًّا على نشرها بين أعيان بلادنا وتجارها وأدبائها، ثم سعى له في ترويجها في كثير من أنحاء أوروبا على يد أخوَيه نعمة الله طرازي في مرسيليا وفتح الله طرازي في منشستر. وهي المجلة الأولى التي جعلت فهرسًا لمواد كل عدد منها على مثال المجلات الأوروبية، وكان العدد الأول منها مفتتحًا بقصيدة في مدح السلطان عبد العزيز الذي كان يجود بالعطايا السخية على العلماء عمومًا والصحافيين خصوصًا. وكان العدد الواحد منها يتألَّف من ١٦ صفحة مطبوعة بحرفٍ دقيق في المطبعة المخلصية.

figure

تاج الحكمة مخافة الرب.

وبعد صدور العدد الحادي والثلاثين منها صدر أمر راشد باشا والي سوريا بتعطيلها؛ لأن صاحب النحلة ندَّد بالمعلم بطرس البستاني وخطَّأه في بعض المسائل العلمية التي نشرت في مجلة «الجنان» وجريدة «الجنة» المار ذكرهما. ثم إنه تجاوز الحدود التي كان قد فرضها على نفسه وتطرف إلى مسائلَ سياسية ومناظراتٍ دينية، وكان القس لويس يكتب أكثر مقالات المجلة بقلمه وينشر فيها فصولًا شائقة وقصائدَ بليغة لبعض الأفاضل والعلماء والأعيان الذين نذكر منهم: المطران أنطون قندلفت السرياني وكان حينئذٍ خوريًّا في حلب، والمركيز إسكندر دي جروه في الإسكندرية، والدكتور بشارة زلزل، والدكتور يوسف أبيلا قنصل دولتَي إنكلترا وإسبانيا في صيدا، والدكتور قصير أبيلا، والخوري أسطفان صوصة سليل الرهبانية المخلصية، وسعيد بك تلحوق، والدكتور بشارة منسى، وإبراهيم معوض، وفضل الله عربيني وسواهم. وقد قرَّظها سليم بك تقلا أستاذ الآداب العربية حينئذٍ في المدرسة البطريركية بقصيدة نورد منها هذه الأبيات:

حبذا نحلةُ علمٍ قد جنى
ثمرَ الآداب منها الرجلُ
جمعتْ من أحسن الأزهار في
كل فن ما به يحتفل
وكذاك النحل من عاداته
جمْعُ ما يحلو وما يقتبل
مبحث الأديان عنها والسيا
سات عدلًا قد غدا يُعتزَل
أصبحت للمرء مشكاة الذكا
بفنون ليس فيها خلل
لذة للعقل أرِّخ واصفًا
من صفاها بات يقضى الأمل
سنة ١٨٧٠ مسيحية
قد تبدَّت نزهة من حيث ليـ
ـس لمن يقرأ فيها ملل
مذ جنيتُ الشهد من أفنانها
عن معانٍ ليس فيها زلل
قلتُ أرِّخ شاديًا في حدِّها
من قفير النحل يُجنى العسل
سنة ١٢٨٨ هجرية

figure

الكنت نصر الله دي طرازي؛ صاحب اليد البيضاء على مجلة «النحلة» ومن أعضاء «الجمعية العلمية السورية» في بيروت.
ما مات من عاش في رضوان خالقه
بل ذكره دائمًا حيٌّ بكل فم
لئن مضى جسمه فالرسم بات لنا
من بعده ناطقًا بالفضل والكرم

وقد وقفنا على قصائدَ كثيرة في تقريظ هذه المجلة واستحسان خطتها نقتصر منها على أبياتٍ لطيفة نظمها الحاج حسين بيهم الشاعر البيروتي، وهي بالحرف الواحد:

هات راحي يا صاح من شهد نحلةْ
لست أرضى ببنت كرم ونخلةْ
إن شهد العلوم خير دواء
كل ندبٍ فيه يطبب جهله
إنما العلم للأنام كنور
مدحَتْه من الورى كل ملَّةْ
يا رعى الله نحلةً قد رعت من
كل روض ما ترتضي كل نحلة
نشرة تنشر العلوم وفي الأسبوع
تبدى من الفنون مجلة
عذبت موردًا وطابت ورودًا
وجلَّت مشربًا وفاقت محلَّة
هي كالروض للعلوم فمنها
كل شخص ينال لا شك سؤله
قد غدت للآداب سوق عكاظ
قسه بالفنون يكرم أهله
عالم بارع أديب نجيب
وعباراته البليغة سهلة
رقَّ طبعًا ودقَّ فكرًا وأضحى
مُظهرًا للأنام بالعلم فضله
رام نفع الأوطان في نشر علم
إن نفع الأوطان أكرم خصلة
دام يولى حسن الصنيع ويهدي
من خفايا أفكاره شهد نحلة
النجاحمجلةٌ سياسيةٌ علميةٌ تجارية نصف أسبوعية، ظهرت في ٩ كانون الثاني ١٨٧١ لصاحبَيها القس لويس صابونجي السرياني ويوسف الشلفون اللذين أصدراها على أنقاض صحيفة كلٍّ منهما وهما النحلة والزهرة؛ فصادفت إقبالًا كبيرًا. ثم انسحب القس لويس من هذه الشركة قبل نهاية سنتها الأولى لاعتماده على الطواف حول الكرة الأرضية، فاتفق الشلفون مع رزق الله خضرا صاحب المطبعة العمومية على متابعة نشرها وإصدارها مرة في الأسبوع بعشرين صفحة بدلًا من مرتَين في ١٦ صفحة، وانتدبا الشيخ إبراهيم اليازجي لتحريرها لقاء حصةٍ معلومة من أصل الأرباح؛ «فظهر اقتداره على الإنشاء العصري مما لم يعهد الناس مثله في المرحوم أبيه، فضلًا عن تمكنه من قواعد اللغة ومعاني ألفاظها.» كما ورد في ترجمته المطبوعة في كتاب «تراجم مشاهير الشرق».

فلما رأى اليازجي أن واردات الجريدة لا تقوم بمصروفها ترك تحريرها بعدما اشتغل فيها نحو السنة. فتقدم الشريكان شلفون وخضرا إلى المطران يوسف الدبس الماروني وطلبا مساعدته المادية، فأجاب إلى طلبهما وكلف كلًّا من نقولا نقاش وبولس زين بتحرير «النجاح» وأوعز إلى نعمان الخوري اللبناني أن يترجم لهما الأخبار الخارجية نقلًا عن صحف أوروبا. ودامت هذه الحال إلى أواخر العام الثالث، وتعطل النجاح، وكان احتجابه بسبب مقالةٍ شديدة اللهجة نشرها على إثر حادثة جرت في حي المصيطبة بين النصارى والمسلمين وأورد فيها نصائح لم ترُقْ في عيون أرباب الحكومة حينئذٍ، فأصدر رائف أفندي متصرف بيروت أمره بتعطيل المجلة متذرِّعًا إلى ذلك بدعوى أنها تصدر خلوًّا عن رخصةٍ رسمية، مع أن صدورها كان سابقًا لوضع هذا القانون في عهد راشد باشا والي سوريا. وكان للمقالة المذكورة تأثيرٌ عظيم بين القراء؛ حتى إن النسخة الواحدة من العدد الذي نُشرت فيه بيعت بأربعة فرنكات، وقد نظم الحاج حسين بيهم أبياتًا وختمها بتاريخٍ شعري لظهور هذه الصحيفة وهي:

أحاطتنا بأحوال البرايا
مع الإمعان يعقبها الفلاح
وفي بيروت دار العلم لاحت
جرائد في قراءتها انشراح
تريك حوادث الدنيا ومنها
نؤرخ بالهنا ظهر النجاح
سنة ١٢٨٧ هجرية

الفصل السادس: أخبار مجلات بيروت من سنة ١٨٧٦ إلى سنة ١٨٨٥

المقتطف

مجلةٌ شهريةٌ علميةٌ صناعيةٌ زراعية أنشأها في غرة حزيران ١٨٧٦ الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر من بواكير تلامذة المدرسة الكلية الأميركية في بيروت ومن نوابغ علماء سوريا، فكانت تشتمل أولًا على ٢٤ صفحة ثم اتسع نطاقها تدريجًا حتى بلغ عدد صفحاتها ١٠٤ بحرفٍ دقيق. وهي الآن من أكثر المجلات العربية الراقية انتشارًا، بل من أعظمها شهرةً وأوسعها مادة وأدقِّها بحثًا وأجزلها فائدة في مشارق الأرض ومغاربها. وناهيك أن مباحثها تتناول كل فن ومطلب بحيث لو جُمعت موادها العديدة على ترتيب حروف الهجاء لتألفت منها دائرة معارف أو قاموسٌ كبير يرجع إليه الباحثون في فروع العلوم المختلفة؛ فإذا أرادوا معرفة ما قيل عن عمر الأرض مثلًا قالوا: هلم إلى مجموعة المقتطف لنرى ما فيها عن هذا الموضوع. وهكذا قل عن سائر المواضيع العلمية والأدبية والصناعية والتاريخية والتجارية والزراعية والفنية والآثار القديمة والاكتشافات الحديثة والاختراعات العصرية وتراجم مشاهير الرجال وغيرهم. أما أخبار تأسيس «المقتطف» فقد رواها صاحباه كما يأتي:

ورأينا في تلك الأثناء أنه يستحيل علينا أن نجاري الأمم الغربية في العلوم والمعارف إذا اقتصرنا على ما يترجم ويؤلَّف من الكتب؛ لأن العلوم الحديثة جارية جريًا حثيثًا، فما يؤلف فيها هذا العام يمسي بعضه قديمًا في العام التالي، ولا بد من جريدة تقطف ثمار المعارف والمباحث العلمية شهرًا فشهرًا وتذيعها في الأقطار العربية، فعقدنا النية على إنشاء المقتطف لهذه الغاية ورسمنا خطته التي سار عليها منذ إنشائه إلى الآن، ولم نختر له اسمًا بل قمنا كلانا وذهبنا إلى أستاذنا الدكتور فانديك، وكان في المرصد الفلكي حيث كان يقضي أكثر أوقاته، فاستشرناه بما عزمنا عليه وسألناه أن يختار لنا اسمًا له، فأبرقت أسرَّته وجعل يُشدِّد عزائمنا ويسهل علينا الصعاب، وقال سمياه «المقتطف» واجعلاه كاسمه وحسبكما ذلك. ثم كتب إلى صاحب السعادة خليل أفندي الخوري الشاعر المشهور وكان مديرًا للمطبوعات في سورية يطلب إليه أن يسعى لنا في جلب الرخصة السلطانية بأسرع ما يمكن ففعل. ولم يمضِ شهر من الزمان حتى أتتنا الرخصة السلطانية، فذهبنا وبشَّرناه بها، فقال: «سيرا في عملكما والله معكما وأنا سأشرع من هذه الساعة في كتابة بعض الفصول للمقتطف.» فكتب فصول «أطباء اليونان والشرق» ونشرنا أول فصل منها في الجزء الثاني من المقتطف الذي صدر في غرة يوليو (تموز) سنة ١٨٧٦، وأباح لنا كل ما عنده من الكتب والجرائد والآلات والأدوات لكي نستعملها كما نشاء من غير سؤال.

figure

شفيق بك منصور؛ من كبار حملة الأقلام المصريين ومنشئ الفصول الشائقة في «المقتطف».

وقد صرف منشئا هذه المجلة غاية الجهد في انتقاء مواضيعها وزيادة تحسينها وتزيين صفحاتها بالرسوم حتى صارت منهلًا للقاصي والداني، وأقبل القوم من كل الطوائف على مطالعتها في خمسة أقطار المسكونة، ولذلك ثبتت ثبات الجبال الرواسي فأطلق عليها القراء لقب «شيخ المجلات العربية»؛ لأنها بلغت عمرًا طويلًا لم تبلغه مجلةٌ سواها على الإطلاق، فكانت واسطةً لنشر المعارف وتاريخًا للمكتشفات العلمية والصناعية وسبيلًا لنقل علوم أهل الغرب إلى الشرق على قدر ما تستطيعه المجلات. ولما اشتدَّت المراقبة على المطبوعات في الدولة العثمانية لم يرَ منشئاها حيلة لمتابعة هذه الخدمة الجليلة إلا الانتقال بمجلتهما إلى عاصمة القطر المصري، فهجرا إليه سنة ١٨٨٤ وأول عدد صدر منها هناك كان السادس من المجلد التاسع، وجعلا فاتحة سنتها في بدء السنة الميلادية بدلًا من غرة حزيران وهو تاريخ نشأتها. فلقي المقتطف من عظماء المصريين وعلمائهم ترحيبًا بمن يخدم بلاده ولغته، وقد وصفه الوزير الخطير مصطفى رياض باشا رئيس الوزارة المصرية بقوله:

إنني ولعت بمطالعته منذ صدوره إلى اليوم، فوجدت فوائده تتزايد وقيمته تعلو في عيون عقلاء القوم وكبرائهم، ولطالما عددته جليسًا أنيسًا أيام الفراغ، ونديمًا فريدًا لا تنفد جعبة أخباره، ولا تنتهي جدد فرائده سواء كان في العلم والفلسفة أو في الصناعة والزراعة.

وفضلًا عن المقالات التي يكتبها في المقتطف صاحباه العلَّامتان فإنه مشحون بفصولٍ كثيرة لأفاضل حملة الأقلام في الشرق، وبيانًا لذلك نسرد هنا أسماء بعضهم وهي نقطة من بحر:

  • أولًا: أسماء الأطباء والصيادلة: كرنيليوس فانديك، بشارة زلزل، وليم فانديك، يوحنا ورتبات، يوسف أبيلا، شبلي شميل، وديع برباري، نقولا فياض، أمين معلوف، بشارة منسي، سليم داود، نقولا نمر، إلياس صليبي، إبراهيم شدودي، توفيق صوصة، سعيد أبو جمرة، يعقوب ملاط إبراهيم عربيلي، إسكندر بارودي، سليم موصلي، سالم أبي خليل، أمين أبي خاطر، جورج بوست، ميخائيل ماريا، ميخائيل مشاقة، مراد بارودي، جرجس طنوس عون.

    figure

    بولس الخولي؛ منشئ القسم العربي في مجلة «الكلية» البيروتية وناشر المقالات المفيدة في «المقتطف».
  • ثانيًا: أسماء جهابذة اللغة: الشيخ إبراهيم اليازجي، الشيخ سعيد الشرتوني، إبراهيم الحوراني، سليمان البستاني، جبر ضومط، جرجس همام، السيد محمود حمزة، الشيخ حسين الجسر.
  • ثالثًا: أسماء الشعراء: الأمير شكيب أرسلان، سليم بك عنحوري، وديع الخوري، أحمد بك شوقي، أسعد داغر، حافظ إبراهيم، الشيخ إبراهيم الأحدب.

    figure

    إقليميس يوسف داود؛ مطران دمشق على السريان، ومن أشهر العلماء الذين زينوا صفحات «المقتطف» بالمقالات التاريخية.
    مضى الحبر إقليميس عن أعين الورى
    وخلَّف آثارًا مدى الدهر تُشكَرُ
    فبتنا وكان الرسم خير ذخيرة
    لنا بعد من بالعلم والفضل يُذكر
  • رابعًا: أسماء المؤرخين: إقليميس يوسف داود مطران دمشق على السريان، جرجي يني، جرجي بك زيدان، عيسى إسكندر المعلوف، حنين الخوري، نعوم شقير، وسليم شحادة.
  • خامسًا: أسماء الصحافيين: أحمد كامل، بولس الخولي، نجيب بستاني، عبد القادر حمزة، محمد كرد علي، جرجي الخوري المقدسي، صموئيل يني، إسكندر شاهين، أحمد بك تيمور، سليم مكاريوس، إبراهيم جمال، نقولا بك توما.
  • سادسًا: أسماء الكاتبات: سارة خير الله، مريم جرجي ليان، شمس شحادة، مريانا ماريا، فريدة حبيقة، روجينا شكري، جوليا طعمة، أنيسة صيبعة، ندى شاتيلا، ياقوت صروف، مريم مكاريوس مريم سركيس، جميلة كفروني، فريدة عطية، سلمى طنوس وغيرهن.
  • سابعًا: أسماء العلماء والأدباء: حسن محمود باشا، رفيق بك العظم، إدوار بك إلياس، نجيب شاهين، قاسم بك أمين، نجيب صروف، خليل ثابت، أمين ظاهر خير الله، الشيخ سليمان العبد، نسيم برباري، محمد أبي العز الدين، نسيم خلاط، فارس الخوري، شفيق بك منصور، متري قندلفت، مصطفى الرافعي، جميل مدور، إسكندر البستاني، حسن بيهم، محمود باشا الفلكي، نعمة يافث إلخ.

وقد جرت بين المقتطف وجريدة «البشير» البيروتية عدة مناظراتٍ علمية يطول شرحها، وإنما أشهرها المناظرة على قضية «مذهب الارتقاء والنشوء» المنسوبة إلى دروين القائل بأن الإنسان يتسلسل من القرد، فأراد المقتطف على رواية مناظره إثبات الآراء الدروينية بحجة أنها لا تناقض الدين ولا تضاد الكتاب المقدس، فخالفه «البشير» في هذا الرأي واحتدم الجدال بين الفريقَين. وللعلامتَين يعقوب صروف وفارس نمر مركزٌ أدبيٌّ سامٍ في البلاد الشرقية والغربية، وحسبهما فخرًا أنهما نالا سنة ١٨٩٠ رتبة دكتور في الفلسفة من «المدرسة الجامعة» في نيويورك، ثم أحرز ثانيهما «وسام المعارف الذهبي» من حكومة أسوج، وهو الذي قال عنه اللورد كتشنر معتمد إنكلترا في مصر «إن الدكتور نمر كله عقل.»

وكان المقتطف مضمارًا تتبارى فيه أقلام كبار المنشئين والعلماء والمؤرخين من كل البلاد العربية، ومن مزايا صاحبَيه الدكتورَين الفاضلَين أنهما إذا ارتكبا خطأً في مسألة وأرشدهما أحد إلى الصواب بادرا إلى الإقرار بالخطأ مع الشكر لمن نبَّههما عليه، وهاك برهانًا ناصعًا بما كتباه٣ للسيد إقليميس يوسف داود مطران دمشق السرياني الذي رد على انتقادهما لكتابه «القصارى» وهو بالحرف الواحد:

هذا وإننا نختم هذه الأسطر بالشكر الجزيل لسيادته ونؤكد له أننا نجلُّ الرسالة التي تُنبِّهنا إلى خطأ ارتكبناه أكثر من الرسالة التي تمدحنا على صواب أتيناه، ولسنا ممن يحسب أن قدر الناس يُحطُّ بالاعتراض على أقوالهم، ويا حبذا لو كانت كل الرسائل التي ترد إلينا مثل رسالة سيادته في العلم واللطف.

وللشيخ العلامة إبراهيم الأحدب الطرابلسي قصيدةٌ شائقة قرظ بها مجلة «المقتطف» نقتطف منها الأبيات الآتية:

وإن أحسن ما جلَّت مقاصده
صحيفة سُمِّيت منها بمقتطف
تلك التي أوضحت طُرْق الفنون لنا
حتى بدت كسراج لاح في الصدف
فشاقنا وردها إذ راق مشرعه
فكم عليل بطيب الورد منه شُفي
أبان يعقوب مجلى يوسف بسَنَا
آياته فانجلت للطرف بالطُّرف
وفارس قد جرى فيها فأحرز في
مضماره قصبات السبق بالشرف
الطبيبمجلةٌ شهريةٌ طبيةٌ صيدلية ظهرت في غرة كانون الثاني ١٨٧٨ لصاحب امتيازها الدكتور جورج بوست أستاذ الجراحة والنبات في المدرسة الكلية الأميركية، وغرضها نشر كل ما يهم الأطباء والصيادلة من معرفة مهنتهم وممارستها، فكانت مباحثها تتناول علم الكيمياء والنبات والحيوان والجماد والتشريح والمواد الطبية والطب الشرعي والأعمال المستشفوية وغيرها، وبقي منشئها قائمًا بإدارتها وتحريرها في أعوامها الثلاثة الأولى، ومنذ العام الرابع سلَّم إدارتها لشاهين مكاريوس واتخذ مساعدين له في التحرير الدكتور وليم فانديك والدكتور نقولا نمر والصيدلي مراد بارودي.

figure

الدكتور خليل بك سعادة؛ أحد مدراء مجلة «الطبيب» والمحررين فيها سابقًا.

figure

مراد بك البارودي؛ الصيدلي القانوني والمحرر في مجلة «الطبيب» في عهد نشأتها الأولى.
وفي ١٥ آذار ١٨٨٤ صارت تصدر مرتَين في الشهر محبرةً بقلم الشيخ إبراهيم اليازجي والدكتورين بشارة زلزل وخليل بك سعادة،٤ وكانت موادُّها تدور على المباحث الطبية والعلمية والصناعية، وهي أول صحيفةٍ دوريةٍ عربية استعملت لفظة «مجلة» بمعناها العصري، وقد أشار باستعمالها شيخنا اليازجي رحمه الله. ومنذ التاريخ المذكور بدأت سلسلة أعوامها الجديدة بدون الالتفات إلى ما سبق من أعوام حياتها الماضية، وبقيت بإدارة هذه اللجنة التحريرية إلى العام التابع ثم توقفت. وقد وضعت حينئذٍ مئات بل ألوفًا من الأوضاع اللغوية والمسمَّيات العصرية والمعربات التي أشار إلى بعضها عيسى إسكندر المعلوف، وهاك شيئًا منها: مقياس الثقل (بارومتر) – الميزان المئوي (ترمومتر) – الخرشوف (أرضي شوكة) – الشعار (القميص) – الدثار (ما فوق القميص) – الشعرية (الفرشاة التي يطلى بها) – الطلاء (الورنيش) – راجبيات (بكتيريا) – أنبوبيات (باشلش) – نقاعيات (أنفوزوريا) – ذُرَيرات (مكروككس) – رواميز (مساطر) – أنزال (لوكندات) – فيالج (شرانق) – مقوَّى (كرتون) – المنظر الطيفي (سبكتروسكوب) – الأكمه (الأعمى خلقةً) – أجار (صانع الآجرِّ أي القرميد) – شكيكة (سلة توضع فيها الفاكهة) – مشوش (منديل خشن تمسح به الأيدي) بمعنى المنشفة – اللحم الغريض (الطازة؛ أي الجديد) – الخزرة (وجع الظهر) – الآح (زلال البيض) – المحُّ (صفار البيض) … إلى غير ذلك مما انتبه أصحابها إليه بطريق القياس أو الاشتقاق أو استخرجوه من كتب اللغة. وكان لهذا الدور الثاني من تاريخ حياة «الطبيب» شأنٌ كبير في عالم الصحافة العربية لما نشر على صفحاته من الفوائد الجليلة التي جعلته في طليعة أعظم المجلات شهرةً وانتشارًا.

figure

الدكتور إسكندر بك البارودي؛ صاحب الامتياز الثاني لمجلة «الطبيب» ومحررها.

وفي غرة حزيران ١٨٩٥ تولَّى تحريرها الدكتور إسكندر بارودي الذي أصدرها مرةً في الشهر، فجرى على خطة من سلفوه وفتح فيها بابًا جديدًا لكلٍّ من الفروع الطبية نظريًّا وعمليًّا وللعمليات الجراحية والطبابة الأهلية والطب البيطري والمسائل العمومية، ثم جعل لها في هذه السنين الأخيرة فرعًا تحت عنوان «حفظ الصحة والزراعة» يصدر شهريًّا في كرَّاس على حدة، وفي ٢٣ كانون الثاني ١٩١٠ استقلَّ بامتيازه وإدارته وتحريره على أثر وفاة الدكتور جورج بوست صاحب الامتياز الأول.

وما زال «الطبيب» يُنشر في مطابع بيروت إلى هذه المدات الأخيرة، ثم صار يُطبَع منذ سنة ١٩١٢ في المطبعة الرشادية في كفر شيما بلبنان، وكان في جميع أدوار حياته مكتوبًا بعبارةٍ بليغة تدلُّ على سعة معارف أصحابه ومحرِّريه الذين تخرجوا في الكلية الأميركية الشهيرة أو درسوا فيها، وهو وحده بين جميع المجلات الطبية العربية بلغ هذا الشوط البعيد من العمر. ومما ساعد على نجاح هذه المجلة في أدوار حياتها السابقة أن مدرسة «قصر العيني» المصرية ومدرسة «الكلية الأميركية» في بيروت كانتا تدرسان علم الطب في اللسان العربي، فلما أبدلتاه باللسان الإنكليزي انصرفت عناية أكثر أطبائنا الوطنيين لسوء الحظ عن مطالعة «الطبيب» إلى مطالعة المجلات الطبية في اللغات الأجنبية، ومن ذلك الحين قلَّ عدد قرائه ومريديه بإلغاء اللغة العربية من المدارس الطبية. ورغمًا من هذا كله فإن الدكتور إسكندر بك البارودي لا يألو جهدًا في نشر المواضيع الجليلة وخلاصة الاختراعات الحديثة التي تعود بالفائدة على قراء مجلته القديمة العهد خدمةً للعلم وحفظًا للمنزلة السامية التي أحرزها «الطبيب» في عالم الصحافة.

المشكاة

figure

خليل سركيس؛ صاحب امتياز جريدة «لسان الحال» ومجلة «المشكاة» (رسمه في سنة ١٨٧٨).

اسم لمجلةٍ شهريةٍ سياسيةٍ علميةٍ صناعيةٍ تاريخيةٍ فكاهية ذات ١٦ صفحة، أصدرها خليل سركيس بتاريخ غرة نيسان ١٨٧٨ في أثناء تعطيل جريدة «لسان الحال» مدة أربعة شهور بأمر الحكومة، فكانت جزيلة الفوائد معتدلة اللهجة ومحلَّاة بمقالات لأبرع كتَّاب ذاك العهد، نذكر منها مقالة «المقل النرجسية في الأخبار الأندلسية» وهو تاريخ الأندلس أيام الإسلام إلى فتوح دولة الملثَّمين بقلم سليم بن ميخائيل شحادة ترجمان القنصلية الروسية وأحد صاحبي كتاب «آثار الأدهار» وغيره، واحتجبت «المشكاة» على أثر صدور العدد الرابع منها عندما أعيد نشر «لسان الحال» بعد عطلته. ولا تختلف مجلة «المشكاة» عن شقيقتها «لسان الحال» في اعتدال المشرب وسلامة الذوق وإخلاص الخدمة للوطن وحسن انتقاء الأخبار الصادقة.

الفصل السابع: أخبار مجلات بيروت من سنة ١٨٨٦ إلى ١٨٩٢

الصفا

مجلةٌ شهريةٌ علميةٌ صناعيةٌ تاريخيةٌ فكاهية نشرت في غرة كانون الثاني ١٨٨٦ لصاحب امتيازها علي ناصر الدين اللبناني، وهي باكورة الصحف الدورية التي ظهرت على يد أبناء الطائفة الدرزية، فعاشت ثلاثة أعوام ثم تعطَّلت لقِلَّة رواج سوق الأدب حينئذٍ بسبب شدة المراقبة على المطبوعات. وقد حرَّر فيها حينئذٍ إلياس بن جرجس طراد والشيخ فضل القصار، وعام ١٨٩٧ انتقلت إدارتها إلى «بعبدا» في لبنان حيث ظهرت مدة سنةٍ كاملة، وفي ١٨ شباط ١٨٩٩ تحوَّلت إلى جريدةٍ أسبوعيةٍ أدبيةٍ سياسية وصارت تُطبَع في «عبيه» مدة أربع سنين، فاحتجبت بعد ذلك حتى عادت إلى الظهور بتاريخ ١١ نيسان ١٩٠٨ في قرية «كفر متى» ثم نُقلت منذ ٢ آيار ١٩٠٩ إلى عاليه، ومنزلتها عند الدروز كمنزلة جريدة البشير عند الكاثوليك والنشرة الأسبوعية عند البروتستانت. وهي الآن من أرقى جرائد لبنان بنزاهة المبدأ وإخلاص النية خلافًا لبعض الجرائد التي تعوَّدت التمليق والتزلُّف من الكبراء خوفًا منهم أو طمعًا بمساعدتهم، وإثباتًا لذلك ننقل فصلًا ورد فيها بتاريخ غرة كانون الثاني ١٩١١ تحت عنوان «أين السعيد من الأمين» وهذا نَصُّه بالحرف الواحد:

الأمير أمين أرسلان قنصل جنرال الدولة العلية في الأرجنتين رجل شهدت له أعماله بأنه من خيرة الرجال، ولو عمدنا إلى ذكر تلك الأعمال لكان ذلك من قبيل تحصيل الحاصل، وكفاك برهانًا على مكانته في النفوس استقبال العثمانيين إياه في المهجر ذلك الاستقبال المقرون بالحفاوة. وفي الحديث الذي دار بينه وبين رئيس تلك الجمهورية الذي أجَّل استقباله مع أركان حكومته ما يُنبئنا عن حصافته ومكانته. وللأمير شقيق كنتُ أودُّ أن تكون سجاياه وأعماله كسجايا وأعمال شقيقه، لكن لسوء الطالع قُضي بألا يكون السعيد كالأمين … في بدء الحوادث الحورانية قام الأمير أمين يطلب إلى قائد الحملة أن يعامل الدروز بالتؤدة، وأن يعرض عليهم الطاعة قبل أن يبدأهم بالشدة، أما الأمير سعيد فقام يدعوه إلى استئصال شأفتهم قائلًا إنه لا يأسف لا على أفرادهم ولا على مجموعهم؛ لأن وجودهم مُضرٌّ بالهيئة الاجتماعية، فانظر الفرق بين الاثنين! وبعد أن بعث سامي باشا تكذيبًا رسميًّا للذين زعموا أن بين أشقياء العربان في فتنة الكرك دروزًا لم يشأ حضرة الأمير سعيد الأفحم إلا أن يجعل للدروز نصيبًا في الفتنة رغمًا عن حقيقة الحال وعن سامي باشا، فكتب في جريدة «النصير» مقالةً زعم فيها أن للدروز يدًا في الحادثة، لكن زعمه هذا لم يكن له من نتيجة إلا إطالة الألسنة في سَبِّه وقول الناس: أين السعيد من الأمين؟

ويتولى الآن رئاسة تحرير الصفا أمين ناصر الدين نجل صاحب الامتياز ومن الكتبة المعدودين الذين يُشار إليهم بالبنان، وهو أيضًا شاعرٌ مجيد كان يقول أبياتًا من الشعر قبل أن يتعلم القراءة والخط، فكان والده يكتبها له ويصحح لغتها دون وزنها، ومرةً بعث إلى الشيخ خليل اليازجي بيتَين من شعره الصبياني فسُرَّ بهما كثيرًا وأجابه عليهما بهذه الأبيات:

أنت الصغير الكبير النفس منتسبًا
بها لأسلافك الشمِّ العرانين
هلال سعد نرجِّي منه بدر سَنَا
يلوح في أفق باليمن مقرون
غالبتَ فن القريض المستطاب وقد
غلبته بانتصار منك ميمون
منه لك الأمن والنصر المبين ولا
بدع فأنت أمين ناصر الدين

نخلة قلفاط؛ منشئ مجلة «سلسلة الفكاهات» في بيروت والقاهرة.
قلبي إلى مجمع الخِلَّان يدفعني
والجسم عنهم قضاء الله دافعه
لم يبقَ منه سوى رسمٍ لهيكله
عند الأحبَّة للتذكار أُودعه
سلسلة الفكاهاتلا يجهل أحد اسم «سلسلة الفكاهات في أطايب الروايات» التي نشرها في تشرين الثاني ١٨٨٤ نخلة قلفاط البيروتي، وهي مجموعة قصصٍ تاريخية ورواياتٍ أدبية تُعدُّ من أقدم الصحف من نوعها. كانت تصدر أجزاءً متواصلة تارةً مرةً وطورًا مرتَين في الشهر، وكان من أعوانه في ترجمة بعضها عن اللغة الفرنسية سامي قصيري وغيره، فنالت رواجًا عظيمًا في كل الديار العربية ثم تعطَّلت في السنة الرابعة لظهورها، وقد نُفي حينئذٍ صاحبها إلى مدينة قونية بدسيسة من جواسيس الحكومة الذين اتهموه زورًا وظلمًا بإثارة الخواطر بين أفراد الشعب، فلبث في منفاه سنتَين يتقلَّب على جمرات العذاب حتى أُفرج عنه بعد دفع كل ما ملكت يداه لإشباع بطون الحكام الظالمين، وهناك انتهز الفرصة لدرس اللغة التركية حتى أتقنها وصار يستطيع الترجمة منها وإليها، وفي أثناء إقامته في المنفى نظم قصيدةً استرحامية ورفعها للسلطان عبد الحميد قال في مطلعها:

أمينَ الله جئتك مستجيرا
أجل وقد اتخذتك لي نصيرا
أمين الله روح العدل أنتم
فكيف أكون مظلومًا حقيرا
أمين الله أولادي صغار
ورحمتكم غدت لهمُ مجيرا
أجرني يا أمين الله إني
ظُلمتُ وحقكم ظلمًا كبيرا

إلى أن قال:

فمن سَنةٍ نُفيت بغير ذنبٍ
وحسبي الله في ظلمي خبيرا
وحسبي الله إنك لي ملاذ
فلا أخشى بذي الدنيا شرورا

ولما كان قد يئس من قضاء العيشة تحت سماء الدولة العثمانية عوَّل على السكنى في وادي النيل، وهناك أصدر سنة ١٨٩٣ مجلة باسم «سلسلة الفكاهات» قرظها عبد الله فريج بقصيدة جاء فيها:

مجلة قد عَلَت أعلى المقامات
كأنها في بهاءٍ روضُ جنات
لله سلسلة بالبشر قد برزت
في أوج علم حوت حسن الفكاهات

ثم عاد إلى وطنه وتعاطى مهنة بيع الكتب بالشركة مع سليم ميداني، فانتهز أنصار الاستبداد هذه الفرصة أيضًا لينصبوا له المكائد ووشوا به لدى الحكومة بحجة أنه يتاجر بالكتب الممنوعة ككتاب «أم القرى» وسواه، فأُلقي القبض عليه سنة ١٩٠٤ وزجَّ في السجن مع أصحاب الجرائم الكبرى مدة سنة كاملة أصيب في أثنائها بداء الفالج ومات في ١٣ تشرين الأول ١٩٠٥ بعد إطلاق سبيله من الحبس بأيامٍ معدودة، وقد نُقشت على ضريحه هذه الأبيات التي نظمها الأستاذ إلياس بهنا:

فقدت بنو قلفاط نخلة مَن به
أهل المعارف والمكاتب تأنس
وارَوْا بهذا اللحد شهمًا فاضلًا
ندبًا له أضحى المقام الأقدس
من بعد ما نشر المعارف حلَّ في
دار البقا حيث المهيمن يحرس
لما هوى الموت الزوام بنخلة
أرختها بسما الأعالي تغرس
سنة ١٩٠٥

وُلد نخلة بن جرجس بن ميخائيل بن نصر الله قلفاط سنة ١٨٥١ في بيروت وقرأ مبادئ العلوم على إسكندر آغا إبكاريوس، ثم مالت نفسه إلى درس علم الفقه والقوانين الدولية فنال منها نصيبًا وافرًا. وكان نخلة قلفاط رجلًا نشيطًا خلَّف من الآثار الأدبية ما يشهد بفضله واجتهاده، وقد كافأه قيصر الروس على ذلك بوسام شرف ونفَحَه بهبةٍ مالية قدرها ألف وخمسمائة فرنك. وإليك أسماء الكتب التي ألَّفها أو ترجمها من اللغات الأجنبية بقطع النظر عن الكتب التي طبعها على نفقته: حقوق الدول، تاريخ روسيا، تاريخ ملوك المسلمين، حمزة البهلوان، بهرام شاه، فيروز شاه، ألف نهار ونهار، ديوان أبي فراس الحمداني (شرح أكثر أبياته)، ضرر الضرتين (رواية تمثيلية)، الملك الظالم (رواية تمثيلية)، الزوجة الزائغة، هالكات باريس، مائة حكاية وحكاية، مونتو كريستو، وخلَّف ديوان شعر يحتوي على منظوماتٍ شتى في مواضيعَ مختلفة نقتطف منها هذه الأبيات التي رفعها لكامل باشا عندما وجهت إليه رتبة الصدارة العظمى، وكل بيت منها يتضمن تاريخًا لإحدى السنين الثلاث الميلادية والهجرية والمالية:

لسان الهنا أرخت جاء مرددًا
بكامل باشا اليوم تزهو الصدارة
سنة ١٨٨٥ ميلادية
وقد أشرقت يوم البشائر أرخوا
بهاءً وعدلًا منه تلك الإدارة
سنة ١٣٠١ هجرية
ألا بشر الدنيا بحكمة ذاته
وأرِّخْ بها حقًّا تليق الوزارة
سنة ١٣٠٢ مالية
ديوان الفكاهةمجلةٌ شهرية تشتمل على رواياتٍ تاريخية وغرامية وأدبية كانت تنشر في مطبعة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، وهي أول مجلةٍ روائية صدرت باللسان العربي، أنشأها في غرة سنة ١٨٨٥ المرحومان سليم بن ميخائيل شحادة وسليم بن بولس طراد، وهما من أخصِّ أعيان مدينة بيروت وأقدم عائلاتها، وكان أكثر رواياتها معرَّبًا عن اللغة الفرنسية بقلم الكاتب البارع يوسف بشارة قيقانو. وبعد عامها الرابع احتجبت مدة ثلاث سنين ثم استقلَّ بها إلى نهاية أجلها سنة ١٨٩٣ سليم طراد وحده، وقد تولى حينئذٍ تعريب رواياتها شاكر شقير اللبناني صاحب مجلة «الكنانة» المصرية الذي صدَّرها بهذين البيتَين:

تحالف الناس والزمان
فحيث كان الزمان كانوا
أيها المعرضون عني
عودوا فقد عاود الزمان

وكان «ديوان الفكاهة» مجموعًا حسن الوضع والترتيب حاويًا من أطايب الروايات على أشهاها، ومن أشهر الرحلات على أكثرها فائدةً ومن آداب الحكايات والقصص على أدناها مأخذًا وألطفها مشربًا وأرقِّها أسلوبًا. وكان بوجه الإجمال لا يتعرَّض لمذهبٍ ديني ولا يلمح لأمرٍ سياسي ولا ينشر إلا ما يُوافق طرحه بين أيدي القوم كبارًا وصغارًا نساءً ورجالًا. وكان إقبال الناس كبيرًا على مطالعة رواياته اللذيذة المنزَّهة من الشوائب الأدبية التي لا يخلو منها أكثر الروايات المطبوعة في زماننا.

الكنيسة الكاثوليكية

figure

الأيكونوموس ثئوفانس البدوي؛ الرئيس العام على الرهبانية الباسيلية الحلبية سابقًا ومدير مجلة «الكنيسة الكاثوليكية» وشقيق صاحب امتيازها.

هي رسالةٌ شهريةٌ تعليميةٌ تاريخية أنشأها خليل البدوي بتاريخ كانون الثاني ١٨٨٨ في أثناء قيامه بتحرير جريدة البشير، وهي ذات ثماني صفحاتٍ صغيرة، كانت إدارتها متعلقة بالآباء اليسوعيين الذين نشروها لحسابهم في مطبعتهم الكاثوليكية، وقد جعلها منشئها لخدمة طائفة الروم الكاثوليك وطبعها بإذن بطريركهم غريغوريوس الأول، فأقبل القوم على مطالعتها والاشتراك فيها لما كانت تذيعه على صفحاتها من المواضيع المفيدة. وفي عامها الثاني اتسعت دائرة مباحثها وصارت تصدر في ٣٢ صفحة مرتَين في الشهر، فاستحسن جميع بطاركة الطوائف الشرقية الكاثوليكية خطتها القويمة وامتدحوا منشئها برسائلَ خاصة، وعند ذلك أخذ خليل البدوي ينشرها بمصادقتهم منذ العدد الرابع عشر المؤرَّخ في ٣٠ تموز ١٨٨٩.

ولبثت «الكنيسة الكاثوليكية» على هذه الحال حتى احتجبت في أواخر عامها الثالث عندما ترك صاحبها جريدة البشير، وفي شهر كانون الثاني ١٩٠٢ صدر منها عددٌ فرد بإدارة الأيكونوموس ثئوفانس البدوي شقيق صاحب امتيازها المشار إليه، وكان ذلك بأمر البطريرك بطرس الرابع (الجريجيري) الذي قصد إعادة نشرها لخدمة بني مِلَّته، ولكن المرض الذي أصاب البطريرك حينئذٍ ثم ساقه إلى القبر حال دون متابعة نشر المجلة التي دخلت في خبر كان، وبعد ذلك تعيَّن الأيكونوموس ثئوفانس نائبًا أسقفيًّا على أبرشية حمص وحماة ولم يزل في هذه الوظيفة إلى يومنا. ومن أهم المباحث التي نشرت في هذه المجلة نذكر: «التوفيق بين العلم وسفر التكوين» للأب دي كوبيه اليسوعي ومعربة بقلم خليل البدوي، ثم مقالة «الموسيقى الكنسية» للخوري كيرلس رزق، ومنها كتاب «كشف المكتوم في تاريخ آخرَي سلاطين الروم» ونبذة في «تاريخ مصر وزراعتها» وغير ذلك من المقالات المفيدة بقلم منشئ المجلة.

١  راجع جريدة «البشير» عدد ٨٥١: ٥ كانون الثاني ١٨٨٨.
٢  مجلة «الهلال» سنة ١٨ صفحة ٤٨٨.
٣  المقتطف: صفحة ٢٩٨: سنة ١٢ في غرة شباط ١٨٨٨.
٤  الدكتور خليل بك سعادة لبناني الأصل تلقَّى العلوم في المدرسة الكلية الأميركية في بيروت في عهد نشأتها الأولى، وهو من الأطباء المشهود لهم بالفضل والمعارف، ومن مآثره الكتابية ما يلي: «قيصر وكليوبطرا» وهي روايةٌ إنكليزية، ثم ترجمة «إنجيل برنابا»، ورواية «أسرار الثورة الروسية»، ورواية «أسرار الباستيل» وكتاب «الوقاية من السل الرئوي وطرق علاجه»، ورسالة عنوانها «نبلة من كنانة» ردَّ فيها على مجلة المقتطف، وأشهر مؤلفاته كتاب «قاموس سعادة» وهو معجمٌ إنكليزيٌّ عربي يفُضُل على سائر الكتب التي من نوعه بغزارة المادة وشدة البحث وأمانة الترجمة.
منشور في مؤسسة هنداوي

 

 

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature


Posted

in

,

by

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *