تاريخ التقليد الشريف وبعض العادات الأرثوذكسية واصلها

تاريخ التقليد الشريف وبعض العادات الأرثوذكسية واصلها

تاريخ التقليد الشريف وبعض العادات الأرثوذكسية واصلها

تاريخ التقليد الشريف وبعض العادات الأرثوذكسية واصلها

مقدمة

لقد صدق موريس بلونديل حيث قال

“ان التقليد الديني ينقل الوحي والعهد ككنز مقدس.”

اجل لقد تناقل الخلف عن السلف بالكلام وحي الله ووعده الالهي قديماً فكان التقليد قبل الكتاب، ولم يخالف اصلاً مضمون الكتاب، واولاً الشهادة المستدامة العامة والتقليدية التي اعتصمت بها جميع الكنائس المسيحية على اختلاف مذاهبها في كل مكان وزمان بصحة الكتاب، لما عرفنا الكتاب. وخاصة الكرسي الانطاكي المقدس بنضاله وصموده وجرح اولاده ومن الجميع وبخاصة من الاخوة والابناء.

جاء الايمان بالتجسد الالهي والفداء الخلاصي بالتقليد قديماً، وحرص على هذا الايمان الأجداد الأولون كل الحرص، وسلموه للأجيال التي بعدهم قبل أن وُلد موسى وداود والأنبياء وقبل أن أُوجدت الأسفار الخمسة والمزامير والنبوات، وحافظت على هذا الايمان كل قبائل الأرض وشعوبها التي قبل التاريخ وبعده، فهناك وعد إلهي قطع لآدم في الفردوس حتى خطىء فتاب، عهد أُبرم بين الخالق والبشر، يوم قال تعالى لإبليس المتنكر في الحية:”سأجعل عداوة بينك (انت الحية اي ابليس) وبين المرأة (مريم العذراء التي هي من جنس النساء)، وبين نسلكِ (الشياطين) وبين نسل المرأة (المسيح)، وهو يسحق رأسك (بارتفاعه يوماً على الصليب) وانت ترصدين عقبه ( المؤمنين به)” (تكوين 3 :15

وسّلّم آدم هذا الايمان الى بنيه وأحفاده بالكلام وسلمه نوح الى بنيه الثلاثة سام وحام ويافث كذلك، وسلمه هؤلاء بدورهم الى بنيهم وأحفادهم، فكل من آمن بالوعد الالهي أمين، وكل من صدق قول الله سلم، بل رأينا هذا الاعتقاد بمخلص يفدي البشر ويسحق رأس الشيطان منتشراً حتى اليوم بين شعوب الشرق الأقصى التي لاتزال بحكم التقليد تنتظر من يسحق رأس الشيطان، ويخلصها من عبوديته، وايمانها هذا بالفادي الحبيب لايختلف جوهراً عن ايماننا به نحن ابناء النور. والى هذا الايمان ترجع عادة تصويرنا احياناً، تحت رجلي يسوع مصلوباً، حية بفمها تفاحة للدلالة على ان يسوع داس الشيطان المتلبس قديماً في الحية والخادع آدم حواء بحمله اياهما على مخالفة امر الله وتناول ثمرة شجرة معرفة الخير والشر قديماً.

وكلما وقع بصر الشيطان على مريم العذراء، او على الصليب المكرم ارتعب وهرب، لأن التجسد الالهي قد تم في العذراء الكلية القداسة، والفداء الخلاصي قد حصل بالصليب. ونادراً ماوجدنا كنيسةً او ديراً او صومعة راهب او مغارة متوحد ناسك خالية من الصليب المقدس او ايقونة للعذراء الطاهرة وطفلها الرب الحبيب.

لقد طلب المسيحيون الأولون الى لوقا البشير الطبيب ورفيق بولس الهامة في اسفاره بعد ان عرفوه مصوراً حاذقاً، كما قد عرفوه مؤرخاً ثبتاً صادقاً وماهراً ان يصور لهم الطاهرة ففعل، وفيما كان بطرس ويوحنا يبشران اهل السامرة سألهما هؤلاء ان يشيد لهم كنيسة على اسم العذراء مريم تدشنها هي بذاتها فما كادت ام الرب يسوع الطاهرة تدخل الكنيسة المذكورة حتى انطبع رسمها على أحد أعمدتها وبقي الرسم أجيالاً، وكان الكفرة يأتون ليلاً فيمسحونه، ثم يعودون في الصباح التالي فيجدونه أجلى وأوضح مما كان عليه قبل المسيح بالأمس.

وتمنى ديونيسيوس الأريوباغي أول اسقف على أثينا ان يرى وجه والدة الاله، فإذا بالسحب تختطفه بغتة مع بولس الرسول معلمه، وتقيمهما بين يدي العذراء، فيسمعان وبقية الرسل حديثها الالهي العذب ويشاهدان نور وجهها البديع، فيلتفت القديس ديونيسيوس الى بولس الرسول، ويقول:”لو لم تعلمني الا اسجد سجود عبادة لأحد غير الله غير الله لكنت قد سجدت للعذراء وعبدتها، لأني رأيتُ الله على وجهها وفي قلبها وعلى لسانها وشفتيها.”

اما في الصليب المقدس فقد سمعنا بولس الرسول الاناء المصطفى يقول فيه:” ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله” ( 1كو1 : 18)- و”حاشا لي ان افتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح”(غلاطية 6 :14)

ومن الطقوس الروحية التي حافظت عليها كل الشعوب الارثوذكسية المستقيمة الرأي في كل زمان ومكان

اولا رسم اشارة الصليب على الوجه

وتتم هذه العلامة بضم الأصابع الأولى من اليد اليمنى (الابهام والسبابة والوسطى) معاً، وتطبق الخنصر والبنصر على راحة اليد، ويُلفظ”باسم الآب” ثم تخفض اليد الى البطن…

وترفع حالاً الى الكتف اليمنى، ويُلفظ: “والابن”، وتُوضع أخيراً على الكتف اليسرى ويُلفظ ” والروح القدس” آمين.

إقراراً بالايمان بالثالوث الأقدس وبالتجسد الالهي والفداء الخلاصي، أي اعترافاً بأن الآب هو رأس الجميع وان الابن انحدر من السماء، وتجسد في بطن والدة الاله، وانه بعد ارتفاعه على الصليب واقتباله الدفن، قام من القبر وصعد الى السماء وجلس عن يمين الآب، ثم يختم “وبالروح القدس” على انه ممجد مع الآب والابن. وعلامة رسم الصليب هذه هي اختصار لدستور الايمان ” أؤمن باله واحد”…

وقد طلب الأرثوذكسيون والآريوسيين من القديس ملاتيوس اسقف انطاكية سنة 361 للمسيح، ان يختصر لهم خطابه في لاهوت الكلمة، فرسم امامهم اشارة الصليب على وجهه بالنوع الذي اشرنا اليه، فيستنتج من ذلك أن رسم علامة الصليب عادة قديمة في الكنيسة الارثوذكسية المستقيمة الرأي.

اما زياح الصليب الذي تقيمه الكنيسة في الاحد الثالث من الصوم الكبير المقدس، اي احد السجود للصليب المكرم، ثم في يوم رفع الصليب المكرم في 14 ايلول، فإنه يذكرنا بأن الصليب، وهو موضوع بين ثلاث شمعات مضاءة وسط الزهور، هو فكرة الثالوث الأقدس منذ الأزل وان بعد التضحية وبعد الآلام قيامة…

واما خفض الكاهن الصينية وعليها الصليب رويدً رويداً، ثم رفعها شيئاً فيشير الى إخفاء اليهود الصليب الكريم في مغارة تحت الأصنام، وأما رفعه بعدها فيشير الى رفع الملكة هيلانة اياه من المغارة، اي عثورها عليه سنة 321 للمسيح، ووضعها إياه فوق هيكل كنيسة القيامة.

وكان ابنها قسطنطين قيصر الغرب الروماني قبل اعتناقه المسيحية، قد رأى علامة الصليب في كبد السماء، وقد كُتبت تحتها بشكل منير في كبد السماء، هذه العبارة:” بهذه العلامة تنتصر”. فرسم قسطنطين الصليب على صدره وصدور جنوده وعلى الدروع ورفع راية الصليب، (وكان الصليبي الحق وليس الغزاة الفرنج في القرون من 11- 13) وانتصر على خصمه ليكيانوس قيصر الشرق الروماني، وصار الامبراطور لشرق وغرب الامبراطورية الرومانية، وتنصر وأوعز إلى امه الامبراطورة هيلانة لتبحث في القدس على عود صليب الرب.

وأما القبابيل (اجمات النار) التي تُقام غروب عيد رفع الصليب المكرم اي في 13 ايلول كما يحصل في الاحتفال المركزي في كنيسة الصليب المقدس بالقصاع منذ تأسيسها عام 1932 واكيد في الدير الاساس من القرن الرابع المسيحي الى 1401التي بنيت على انقاضه، وفي معلولا القائمة من القبر بانتصارها على الارهاب وتحريرها من رجسه مؤخراً، وفي كل مكان في حاراتنا وشوارعنا كما كنا نعيش والى فترة قريبة في دمشق وسورية ومشرقنا، فهي للدلالة على الشعلة التي اشعلتها هيلانة في مثل تلك الليلة في طول الامبراطورية الرومانية وعرضها عند عثورهاعلى صليب الرب يسوع، اذ كانت القبابيل اشارة تعارف متفق عليها بينها وبين ابنها في القسطنطينية عاصمته تبشره فيها عن عثورها على هذا الكنز الروحي العظيم.(واضافة الى خصوصية هذا الحدث الخاص بالعثور على عود الصليب، الا ان القبابيل هي من اشارات التخابر القديمة باشعال القبابيل في قمم الجبال)، وخلال 4 ساعات كان الخبر قد وصل الى ابنها قسطنطين في القسطنطينية فأقيمت الاحتفالات الروحية العارمة بهذه المناسبة المحيية لكنيستنا في تاريخنا المسيحي.

ثانياً العماد المقدس

وقد اتصل الينا بالتقليد تغطيس الموعوظ ثلاث دفعات متتالية في الماء عند العماد مع لفظ الكاهن المعمد:” يُعمد عبد الله (فلان) او امة الله (فلانة) على اسم الآب (آمين) والابن (آمين) والروح القدس (آمين)، وذلك لأن المعمودية رسم للاقرار بالايمان، فكأن المعتمد يعترف بروحه وجسده معاً بايمانه بالثالوث المقدس، وبدفن المسيح الثلاثي الايام، وقيامته ناهضاً بعدها من القبر في اليوم الثالث، وفق ايماننا المسيحي القويم، بل يمثل في شخصه دفن المسيح وقيامته فكأنه يقول:” اني أُدفنْ مع المسيح في المعمودية لأنهض معه. وبدون المعمودية لايدخل احدٌ ملكوت السماوات لأيُسحق رأس الشيطان المتسلط قسراً علينا.

يلبس المعتمد ثوباً ابيض حال اقتباله سر العماد المقدس للدلالة على حالة الطهارة التي اعادتها اليه المعمودية، ويُرتل عندئذ:” امنحني سربالاً( وشاحاً) منيراً يالابس النور مثل الثوب”.

ويُقلد في عنقه صليباً للدلالة على حمله الصليب مثل يسوع واتباعه اياه. ثم يُثَّبَّتْ بمسحه بالميرون المقدس وهذا هو السر الثاني بعد سر العماد، ويناول المعمود جسد ودم الرب يسوع وهي مناولته الأولى (سواء فهم معناها كما يقول التعليم الكاثوليكي البابوي ومن لحقه من الكنائس الشرقية التي خرجت من امهاتها او لم يفهمها كالسرين الاولين) والمناولة هي السر الثالث…

ان سر المعمودية التي نعتبرها اليوم مجرد ظاهرة احتفالية باللباس (وبكل اسف غير المحتشم) والحفلات والولائم الصاخبة والصور بعيداً عن قدسية هذا السر، يعتبر من اهم الاسرار في كنيستنا الارثوذكسية وبها يتمم معه سرا الميرون والقربان المقدسين اي ثلاثة اسرار الهية. وذلك لكي لايُترك المعمود دقيقة واحدة بدون قوى الروح القدس، وبدون الغذاء الروحي بالمناولة جسد ودم الرب يسوع، وسلاح الميرون المغطي لجسده كافة.

ثالثاً تعييد نهار الاحد

ويدخل في حكم التقليد الشريف تعييدنا نهار الأحد، لأن الانجيل الكريم لم يوضح واجب تقديس هذا اليوم، غير ان يوحنا الذهبي الفم بطريرك القسطنطينية والأب الجليل في القديسين قال في ذلك:” فكر ايها الانسان بالخيرات العظيمة التي أُحسن بها اليك في يوم الأحد، وبالأمراض والآلام التي اُعتقتَ منها، فكر بما كنت وبما آلت اليه حالتك…

فان كان العبيد يعيّدون يوم يُعتقون ونحن نعيّد يوم وُلدنا ونولم الولائم ونجزل العطايا والهدايا احتفالاً بذلك اليوم فبالأحرى يجب علينا ان نعيد في اليوم الذي نستطيع ان ندعوه غير هيابين يوم ولادة الجنس البشري أجمع، لأننا كنا تائهين فهُدينا، وامواتاً فحيينا، واعداءً فصولحنا، افلا نبغي ان نقدس يوم الأحد ونحفظ في السعة اخواننا الذين عضهم الفقر بنابه، وان نلازم السكر والعربدة؟”

وقد حاول ارباب الثورة الفرنسية الذين كفروا بالايمان المسيحي السنة 1789 أن يجعلوا الاسبوع عشرة ايام، فيبطلوا تقديس يوم الأحد، فأخفق سعيهم ولم يستطيعوا الى ذلك سبيلاً، وقد تناسوا بكرههم للكنيسة ولرجالاتها، ان ما سنه الله من خلق العالم لايغيره الا الله، وانه تعالى شاء ان يستعيض عن سبت راحته بيوم الأحد، الذي تم فيه خلاص البشر وحياتهم بيوم قيامة ابنه المتأنس، وتم فيه خلاص البشر وحياتهم، فكان كما قد شاء هو.

رابعاً فضلات التقدمة

وقد جرت العادة في نهاية كل قداس الهي في ايام الرب اي الآحاد والأعياد، ان توزع (البروتة) وهي اجزاء مباركة من الخبز الذي يفضل عن التقدمة، وتؤكل قبل تناول طعام الافطار، وكانت العادة المتبعة في الأجيال المسيحية الاولى الثلاثة، تقضي بأن توضع موائد المحبة بعد القداس الالهي إظهاراً للمحبة الأخوية المتبادلة بين المؤمنين حيث يتناول ابناء الايمان في الرعايا -الاغنياء والفقراء- معاً بقايا القرابين وطعام الافطار على مائدة واحدة. وكانت هذه العادة، ولاتزال، من العادات الاساسية في الكنائس الروسية الارثوذكسية والسلافية وسائر اوربة الشرقية واكنيسة الجورجية، وخاصة في الرعايا الصغيرة، وقد شاركناهم موائد المحبة في اكثر من رعية من الرعايا الروسية برئاسة ومباركة كهنة الرعايا، وهي الغيرة الارثوذكسية الملتهبة القويمة الرأي حيث ان ابناء الرعية جميعهم قبل القداس الالهي يوم الاحد يعترفون للكاهن في جانب من الكنيسة بالقرب من الايقونسطاس، ويمنحهم الحل بالصلاة على رؤسهم، فيشاركون في الخدمة الالهية، ويتناولون جميعهم قاطبة القربان المقدس بعد وقوفهم بكل ورع وايمان كل السحرية والقداس الالهي (لاتوجد مقاعد في الكنيسة) لمدة تفوق اربع ساعات، ثم يشربون قليلاً من الماء الحار مع النبيذ كيلا يبقى اي من بقايا القربان بين الاسنان ويخرج مع الكلام، ثم يلتقون جميعهم على مائدة المحبة التي تكون اساساً من بقايا البروتة، وبأطعمة ساهم كل منهم في تقديمها…

اما جمع الاحسانات وصواني اللم او التقدمة المالية للكنيسة بالشموع والخمر والزيت…

فقد اعتادته البيعة المقدسة منذ أصاب فلسطين وكل المسكونة جوع شديد في ايام الرسل في عهد كلوديوس قيصر، فأخذت كنائس العالم المسيحي الناطقة باليونانية، وخصوصاً في الامبراطورية الرومانية تُرسل المساعدات المادية “للقديسين المقيمين في اورشليم وجوارها”(اعمال الرسل) وهذا مافعلته البطريركية الانطاكية ايام البطريرك غريغوريوس الرابع لدعم ابناء الكنيسة الروسية التي نكبتها الثورة الشيوعية 1917 ومابعدها حتى العام 1925 بنشوء “الكنيسة الروسية ماوراء الحدود”، وأيضا مافعلته البطريركية في مساعدة كنائس فلسطين في ثورة فلسطين 1936 وفي مساعدة ابناء القسطنطينية عام 1953 بتلك الهجمة التركية الغوغائية الرسمية والشعبية على البطريركية المسكونية وحرق كنائسها…

أما عدد القربانات الخمس، اي الخبزات المقدمة للتبريك في غروب الاعياد الكبرى، كعيد الكرسي الانطاكي في 29 حزيران، فهو خمسة اشارة الى الخبزات الخمس التي باركها الرب يسوع في القفروكسرها واعطاها لتلاميذه ليشبعوا بها خمسة آلاف رجل عدا النساء والأولاد.

خامساً عيدالفصح المجيد

راينا موسى كليم الله، يوصي في الفصح الناموسي قائلاً:” ويكون متى سألك ابنك غداً قائلاً: ماهذا؟ تقول له: بيد قوية أخرجنا الرب من مصر من بيت العبودية فيكون لك علامة على يدك وعصابة بين عينيك لكي تكون شريعة الرب في فمك فتحفظها في وقتها من سنة الى سنة” ( خروج 13 : 8 / 14)

ورأينا نحميا الكاهن يدعو شعب الله الى السرور يوم العيد قائلاً:” امضوا كلوا المسمنات، واشربوا الحلو، ووزعوا حصصاً على الذين لم يهيأ لهم، لأنه يوم مقدس لربنا، فلا تحزنوا لأن فرح الرب قوتكم” ( نحميا 8 :10)

وراينا الرب يسوع يختم الفصح الناموسي محتفلاً به وقائلاً لتلاميذه:” شهوة اشتهيت ان آكل الفصح معكم قبل أن أتألم” ( لوقا 22: 15)، ثم شاهدناه على الأثر يدشن الفصح المسيحي عهداً جديداً فيقيم اول قداس الهي محولاً الخبز الى جسده الطاهر والخمر الى دمه الكريم، الأمر الذي دعا الذهبي الفم في ميمره في عيد الفصح الخلاصي ينادي قائلاً: ” ايها الأغنياء والفقراء افرحوا معاً: المائدة ملآى فتنعموا كلكم، العجل سمين فلا أحد ينصرف جائعاً، تناولوا كلكم مشروب الايمان، تمتعوا كلكم بغنى الصلاح، لايشكو احد فقراً فإن الملكوت العام قد ظهر، ولايندب احد معدداً آثاماً فإن الفصح قد بزغ من القبر مشرقاً.”

سادساً بيض الفصح

اما عادة تبادل الهدايا في عيد القيامة المجيدة بيضاً مسلوقاً، أو معجنات مسبوكة من حلويات وكعك العيد على شكل البيضة فللدلالة على زفنا البشري بعضنا الى بعض بقيامة المسيح من القبر، فالبيض يحوي صفاراً يتحول لدى التفقيس الى صوص ينقر القشرة بمنقاره ويبرز منها حياً، كذلك نهض يسوع من قبره بقوته الالهية ظافراً على الموت ومنتصراً.

سابعاً عادة إطلاق العيارات النارية في الباعوث والهجمة

درجت العادة في مشرقنا عامة، وفي سورية خاصة ومنذ انتشار الاسلحة النارية، ان يتم اطلاق العيارات النارية في الهجمة، او في مساء أحد القيامة البهية، والكثير من المناسبات كعشية “عيد الحج” اي مولد العذراء في دير سيدة صيدنايا البطريركي، وعيد الصليب في معلولا، هي ليست خروجاً عن النظام العام وحباً برفع الاسلحة النارية تفاخراً، بل هي تعبير عن الابتهاج بهذه الاعياد وخصوصا بعيد القيامة وانبعاث الرب يسوع من القبر ناهضاً، كما انها تذكرنا بالمسيحيين الأولين الذين كانوا في مثل تلك الاوقات يصدون اعداء الايمان القويم اي الآريوسيين الذين كانوا يتسلقون جدران المعابد الارثوذكسية ليرموا المستقيمي الرأي بالحجارة وغيرها كما رموا القديس غريغوريوس اللاهوتي بطريرك القسطنطينية صباح احد الفصح المجيد. ومن الجدير ذكره ان اثنين الباعوث كان يقام بشكل حافل في الكاتدرائية المريمية منذ اواخر القرن 19 والى عهد قريب وكذلك ثلاثاء الباعوث في كنيسة الصليب المقدس بالقصاع منذ 1932 والى عهد قريب حيث تتم المناسبتين برئاسة البطريرك الانطاكي.

ثامناً عادة هز الثريات اثناء صلاة سحر الفصح ( الهجمة)

اما هذه العادة اي هز الثريات وشموعها متقدة سحر نهار احد الفصح المجيد، بدفعها اولاً الى الجهة الغربية وهي مشعة، ثم تركها تندفع في سماء الكنيسة غرباً فشرقاً، فذلك للدلالة على ان نورها يمثل نور المسيح الاله الظاهر في الجسد متنازلاً من السماء الينا، أما دفعها نحو الغرب فللدلالة على انحدار المسيح الى الجحيم بالروح بعد موته بالجسد على الصليب، ليضيء للثاوين في ظلال الموت، وينقذهم من عبودية ابليس، وأما رجوعها صعوداً نحو الشرق علواً فيمثل صعود المسيح من الجحيم وقيامته من القبر بمجد منهضاً معه آدم وكل ذريته من أعماق الهاوية الى أعلى السماوات.

ولكن هذه العادة صرنا نراها نادرة الا في الاديار الرهبانية، وقلما نراها في الكنائس القاعدية الكبرى وكانت منتشرة في انطاكيتنا برمتها كنائس واديار.

تاسعاً عدم الركوع والسجود اثناء ايام الآحاد

كما اسلفنا في عادة تقديس يوم الرب وهو الاحد، لأن هذا اليوم عندنا نحن الارثوذكسيين هو يوم فرح وسرور لقيامة السيد له المجد.

وقد تسلمنا بالتقليد الشريف ان لانحني ركبنا، وخصوصاً طيلة الخمسين (فترة البنديكستاري) اي الممتدة مابين احدي الفصح والعنصرة. ( القانون 15 لبطرس رئيس اساقفة الاسكندرية)

عاشراً السجدة مساء اثنين العنصرة

أما عن السجدة او الركوع ثلاث ركعات في مدات (جمع مدة) معينة مساء احد اثنين العنصرة فقد تسلمنا من القديس كيرلس اسقف انطاكية الذي عاش في اواخر الجيل الثالث واواخر الجيل الرابع للمسيح ان نسجد لدى تلاوة الكاهن أو الأسقف أو البطريرك كلاً من الأفاشين الثلاثة التي للثالوث الأقدس، وذلك نظراً للأعجوبة التي حدثت مساء نهار احد العنصرة، إذ فيما كان هذا القديس يتلو في كاتدرائية انطاكية أول الأفاشين الثلاثة وهو منتصب مع جميع المصلين إذا بريح تعصف داخل الكنيسة، نظير التي عصفت يوم حلول الروح القدس على الرسل فتجْبِرْ الواقفين ان يحنو رؤوسهم وركبهم عبادة للثالوث الأقدس. وكانت الريح تعود لدى تلاوة الافشين الثاني ثم لدى تلاوة الافشين الثالث، ففهم القديس وجمهور الشعب من ذلك الحادث ان الله تعالى يريد ان نسجد له محترمين أقانيمه الالهية الثلاثة. ومن ذلك الحين عم السجود في الكنيسة الأرثوذكسية للثالوث الأقدس مساء أحد العنصرة عند تلاوة الأفاشين الثلاثة.

حادي عشر الاتجاه نحو المشرق أثناء الصلاة

ان اتجاه الكنائس نحو المشرق، واتجاهنا في بيوتنا نحوه في الصلاة، يشير الى ان مخلصنا ظهر للعالم من مشرق المشارق حين طلعَ علينا كشمس عقلية من البتول الكلية القداسة، فدل على ذلك النجم الذي ظهر في المشرق. ولذلك سمعنا امنا الكنيسة الارثوذكسية تنشد ليلة عيد الميلاد:” لقد افتقدنا مخلصنا من العلى من مشرق المشارق، فنحن الذين في الظلمة والظلال قد عثرنا على الحق بمولد الرب من البتول.”

ثاني عشر القمح المسلوق

كانت الكنيسة توزع علينا القمح المسلوق، نهار السبت الأول من الصوم الاربعيني المقدس، فالقمح المسلوق هو ليذكرنا بالعجيبة التي تمت في الاسبوع الأول من هذا الصوم المقدس عام 362 مسيحية على يد الشهيد العظيم القديس ثيودورس التيروني، حين كان يوليانوس العاصي، وقد رجع الى الوثنية قد لَّوث بذبائح الاصنام كل الخضار والحبوب في الاسواق، ليفسد على المسيحيين صومهم، فإذا بالشهيد المذكور يظهر لأفوكيوس اسقف القسطنطينية، ويوعز اليه ان يوصي في الكنائس جميع المؤمنين ان يتجنبوا طيلة ذلك الاسبوع أكل الخضار والحبوب المعروضة في الاسواق، ويقتصروا على أكل القمح الذي في بيوتهم مسلوقاً. وهكذا خذل الله يوليانوس الجاحد.

اما القمح المسلوق الذي تقدمه الكنيسة عن نفوس الراقدين، فهو للاشارة الى أن الراقدين سيقومون بعد انحلال اجسادهم في الارض كما تنبت حبة القمح بعد دفنها في الثرى.لذلك تأتي عادة القمح المسلوق في عيد البربارة وكل القديسين الشهداء الذين باستشهادهم نمت المسيحية كدفن حبة الحنطة في الارض لتنبت بعد موتها سنبلة قمح.

ثالث عشر القداديس والجنانيز

” إن جناز الثالث الذي يقام لراحة نفوس الراقدين يشير الى أن الأخ الراقد قد حصل من البدء على تركيبه من الثالوث الأقدس كما ذكر الأب سمعان التسالونيكي.

وأما جناز التاسع فيعني ان الذي انحلّ الى ماكان مركباً منه مزمع ان يُحصى مع المراتب الملائكية التسع غير الهيولية لأنه هو ايضاً أصبح غير هيولي. واما جناز الأربعين فيوضح أنه في القيامة المستقبلة سيرجع الى تركيبه، ولكن بدون فساد وعلى منوال أكثر سمواً، ويصعد كما صعد الرب، ويُخطف في السحب الى استقبال الديان وهذه الحالات الثلاث تدل عليها ايضاً جنانيز الأشهر الثلاثة والستة والتسعة”.

رابع عشر المشاعل والمصابيح

هنالك عادة قديمة عند المسيحيين القدامى، الغاها يوليانوس الجاحد ( ولعله بفعله هذا قد أحسن هذه المرة)

كان المسيحيون القدامى يقومون بدفن امواتهم ليلاً وسط المشاعل والمصابيح.

أما عادة اضاءة شمعة أمام الميت في الكنيسة او البيت فهي للدلالة على ان الراقد قد خرج من عالم الظلمة الى عالم النور، وأنه يواجه النور الأزلي وجهاً لوجه. واما اضاءة الشموع امام الرسائل او الصليب او الانجيل فللدلالةعلى أن الصليب المكرم او الكتاب المقدس هو نور العالم.

خامس عشر عادة تغطية المرأة رأسها في الكنيسة

لقد نبه الرسول بولس خواطرنا الى ذلك حين قال: (1كو1 : 1- 16) ” اريد ان تعلموا ان رأس كل رجل هو المسيح، وان رأس المرأة هو الرجل، ورأس المسيح هو الله، فكل رجل يصلي أو يتنبأ ورأسه مغطى يشين رأسه، وكل امرأة تصلي او تتنبأ ورأسها مكشوف تشين رأسها…”

لم يُخلق الرجل لأجل المرأة بل خلقت المرأة لأجل الرجل، لذلك ينبغي للمرأة أن يكون على رأسها غطاء علامة الخضوع”. ( اي ان الرجل يكشف رأسه دلالة على سيادته البيتية لكونه يمثل الله في بيته).

وبكل اسف في واقعنا الحالي فإن الكثير من شبابنا ورجالنا، كنوع من العصرنة والحداثة، يضعون القبعات على رؤسهم في كنائس المدينة، و العقال والكوفيات في كنائس الريف في القداديس الالهية والصلوات المتنوعة، اما وضع النساء الغطاء على رؤسهن فصارت عادة نادرة في مجتمعنا الذي كان يأنف من المرأة حاسرة الرأس في الكنيسة، وكانت المرأة تتباهى بغطاء الرأس وهذا ماوعينا عليه…

ولكن ناهيك عن التخلي عن هذه العادة المباركة في كرسينا الانطاكي العريق اساساً في تمسكه بالأصول، مع بقية الكنائس في كل مكان وعند كل الطوائف في مشرقنا، بعكس تمسك الأشقاء الأقباط في مصر بمنديل الرأس، وتمسك ابناء الكنائس السلافية الارثوذكسية برمتها في كراسي موسكو وبلغاريا ورومانيا وجورجيا ورئاسات اساقفة اوروبة الشرقية الذين تذهل الناظر طريقتهم في التمسك بهذه الاصول الايمانية، حتى عند الطفلات الصغيرات، فيما تنتشر بشكل غير مسبوق ظاهرة عدم الاحتشام في اللباس في الكنائس والخدم الالهية واتمام الاسرار كالأكاليل والعمادات والمناولات الاحتفالية (اول قربانة) في كنائسنا المشرقية الارثوذكسية والكاثوليكية بكل اسف في مجتمع عام يزداد تشدداً…

الخاتمة

تلك هي تقاليدنا الارثوذكسية الشريفة والعريقة والتي يجب ان نبقى محافظين عليها لحرصنا عليها وبأننا نحي ماضي كنيستنا الانطاكية المجيدة حيث “دعي المسيحيون اولاً” وكرسينا المؤسس من هامتي الرسل القديسين بطرس وبولس العام 42 للمسيح، وان بطرس الرسول اول بطاركته من 45- 53للمسيح، قبل ان يؤسس كرسي رومة بعشرين سنة ويكون اول اساقفته ويستشهد ، وان اسقف انطاكية حظي بتسمية البطريرك بمفرده وقبل اي اسقف لكرسي رسولي من الكراسي الرسولية الخمسة في القرون الخمسة الأولى للمسيح…

بكل الم عندما نفتخر بأبناء كراسي روسيا وسائر الكراسي في اوربة الشرقية بتمسكهم بالأصول ننسى او نتناسى او لانعرف اننا نحن من بشرناهم بأرثوذكسيتنا وهم يتمسكون اكثر بأصولنا الارثوذكسية المباركة ونحن نتخلى عنها، ونسينا اننا بصمود اجدادنا واولادنا في مسيحيتهم، ولولاهم لمابقيت المسيحية المشرقية.

لذا يتوجب علينا ان نتمسك بماضينا القويم والمستقيم الرأي المجيد.

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *