زعماء الارمن على اعواد المشانق التركية

حقائق الإبادة الأرمنية

حقائق الإبادة الأرمنية

بين عامي 1915 و1917، قتل وشرّد مئات آلاف الأرمن الذين كانوا يعيشون في السلطنة العثمانية في مجازر مروعة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. ولكن السجال حول توصيف ما حصل في تلك الفترة لا يزال دائراً، وخاصةً على المستوى السياسي.

أما في أوساط المؤرخين، فالأغلبية تميل إلى وصف ما حصل بالإبادة الجماعية، وهذا ما عبّر عنه بيان أصدرته، عام 2000، 126 شخصية أكاديمية واعتبر أن “الإبادة الجماعية للأرمن في الحرب العالمية الأولى هي حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها”.

حقائق الإبادة الأرمنية - صورة 1
في صحراء دير الزور سقوط الضحايا من الاطفال الجائعين

وفي ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن، نقدم عشر حقائق حول ما حصل

1ـ أول إبادة جماعية في القرن العشرين

الإبادة الجماعية للأرمن هي أول إبادة جماعية في القرن العشرين، وقد سبقت الإبادة التي ارتكبها الألمان بحق اليهود، الهولوكوست، أثناء الحرب العالمية الثانية. لا بل إن الزعيم النازي أدولف هتلر، عندما قرّر غزو بولندا، عام 1939، طلب من جنرالاته أن يقتلوا كل من ينتمي إلى العرق البولندي بلا رأفة لتأمين مجال ألمانيا الحيوي. وقال لهم لتشجيعهم وإزالة الخوف من نفوسهم: “لا أحد يتحدث في هذه الأيام عما حلّ بالأرمن”.

حقائق الإبادة الأرمنية - صورة 2
ضحايا التهجير من الارمن الجائعين في محافظة دير الزور

2ـ علاقة الأرمن بالسلطنة العثمانية

اجتاح الجيش التركي مملكة أرمينيا لأول مرة في القرن الحادي عشر. وفي القرن السادس عشر أصبح معظم أرض أرمينيا التاريخية جزءاً من السلطنة العثمانية الممتدة آنذاك إلى جنوب شرق أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط وتوزّع الأرمن بينها وبين الأمبراطورية الروسية. وقد بقيت أرمينيا تحت الحكم العثماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.

3ـ مجازر سابقة على الإبادة

الإبادة الأرمنية ليست أولى المجازر التي تعرّض لها الأرمن الذين كانوا يعيشون في السلطنة العثمانية. فمنذ بدايات العقد الأخير من القرن التاسع عشر، راح الشباب الأرمن الذين تلقوا تعليمهم في الجامعات الأوروبية يطالبون بإصلاحات سياسية وبملكية دستورية وبانتخابات وبإلغاء التمييز ضد مسيحيي السلطنة، وهذا ما أغضب السلطان العثماني عبد الحميد الثاني المعروف بلقب السلطان الأحمر. من هذه الخلفية، ارتكب العثمانيون، بين عامي 1894 و1896، مجازر بحق الأرمن راح ضحيتها حوالى 80 ألف، وعرفت باسم المجازر الحميدية. ومن أبشع المجازر التي ارتكبت آنذاك حرق نحو 2500 امرأة أرمنية في كاتدرائية أورفة.

حقائق الإبادة الأرمنية - صورة 3
من داخل ميتم لايتام الارمن الفاقدين ذويهم بالمجزرة والمجاعة والراهبات الراعيات في الميتم

 

وفي السنوات اللاحقة، ارتكبت مجازر أخرى بحق الأرمن. على سبيل المثال، هوجمت حوالى 200 قرية أرمنية في أضنة، عام 1909، وقتل حوالى 30 ألفاً من أبنائها.

4ـ ظروف الإبادة

عام 1915، كان يسكن حوالى مليوني أرمني في الأمبراطورية العثمانية. وفي فترة الحرب العالمية الأولى، اتهم الأرمن بتأييد جيوش الحلفاء وبالتحديد بالتواطؤ مع الجيش الروسي وذلك للتغطية على الخسائر الفادحة التي لحقت بالسلطنة في المعارك التي جرت في المحافظات الأرمنية.

هكذا راح بعض الجنرالات الأتراك يصفون الأرمن بـ”أعداء الداخل”. وشنّ العثمانيون حملة لتجريدهم من السلاح وطالب البعض بإبعادهم عن خطوط المواجهة الحربية على الجبهة الشرقية. حملات تجريد الأرمن من السلاح تمت بشكل تعسفي دفع الأرمن غير المسلحين إلى شراء قطع أسلحة من الأتراك والأكراد فقط ليسلموا شيئاً ما إلى القوات المكلفة بالمهمة. وأيضاً نزع سلاح العناصر الأرمنية في الجيش العثماني وقتل بعضهم وحوّل آخرون إلى العمل اللوجستي.

حقائق الإبادة الأرمنية - صورة 4
تركي يتلاعب بمشاعر الايتام الارمن الجائعين بالتلويح بالخبز كأنهم حيوانات

في الحقيقة، عندما زحف الجيش الروسي نحو الدولة العثمانية، رافقته خلال تقدّمه أفواج من المتطوعين الأرمن الذين يعيشون في الأمبراطورية الروسية ولحق بهم بعض الأرمن العثمانيين. وقد ارتكب هؤلاء بعض المجازر بحق الأتراك في المناطق التي دخلوا إليها. ولكن في الوقت نفسه كانت هناك أصوات أرمنية ترفض ممارسات هؤلاء.

5ـ عمليات الترحيل والإبادة

في منتصف العام 1915، أصدرت السلطنة العثمانية قراراً قضى بترحيل أرمن الأناضول وكيليكيا من أراضيها لأنهم باتوا عناصر مشكوكاً في ولائها كما صدر قرار بمصادرة ممتلكاتهم. ولكي لا ينضموا إلى الجيش الروسي الزاحف إلى السلطنة قُرر ترحيلهم جنوباً ناحية بادية الشام. نظمت قوافل للمرحلين وأمرت جميع الأسر الأرمنية بالانضمام إليها وترك أراضي السلطنة.

هكذا، رحّل الأرمن في “مسيرات موت” كانت السلطات تشجع الأتراك والأكراد على مهاجمة السائرين فيها وسرقة ممتلكاتهم. كما أحرق العديد من الأرمن أحياء أو أعدموا أو قتلوا أو ماتوا بسبب مرض التيفوئيد أو العطش أو الجوع. وحدثت آلاف حالات الاعتداء الجنسي على النساء لا بل تم خطف بعض النساء الجميلات وفرضت العبودية عليهنّ.

حقائق الإبادة الأرمنية - صورة 5
المهجرين الارمن في طريقهم سيرا الى سورية

ويقدّر المؤرخون أن 75% من الأرمن المجبرين على السير في هذه المسيرات ماتوا قبل أن يصلوا إلى بادية الشام. وقال السفير الأمريكي إلى السلطنة آنذاك، هنري مورغنتاو، أنه حين أمرت السلطات التركية بترحيل الأرمن كانت تحكم بالموت على عرق كامل. يتحدث البعض عن مليون قتيل أرمني ويتحدث الأرمن عن مليون ونصف المليون. أما الأتراك فإنهم يقدّرون عدد الضحايا الأرمن بما بين 300 ألف ونصف المليون.

6ـ لماذا 24 نيسان؟

اختار الأرمن 24 نيسان تاريخاً لذكرى الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها. في الحقيقة بدأت عمليات قتل وتهجير الأرمن قبل هذا التاريخ. ولكن في ذاك النهار من عام 1915، أعدم حوالى 250 أرمنياً في إسطنبول وكانوا من نخبة المجتمع الأرمني فمنهم القادة والمثقفون والكتّاب ورجال الدين.

7ـ مجازر بحق جماعات أخرى

في فترة الإبادة الجماعية للأرمن ارتكبت مجازر بحق مجموعات إثنية مسيحية أخرى كانت تعيش في السلطنة العثمانية وهي الأشوريون واليونانيون الأناضوليون والبنطيون وراح ضحيتها عشرات الآلاف من أبناء هاتين القوميتين (يتحدث بعض الباحثين عن نصف مليون قتيل). وهذا يظهر عدم ثقة العنصر التركي بالمسيحيين في تلك الفترة من عمر السلطنة.

8ـ من يعترف بالإبادة؟

تعترف 20 دولة فقط بالإبادة الأرمنية وهي: الأورغواي، قبرص، روسيا، كندا، لبنان، بلجيكا، فرنسا، اليونان، الفاتيكان، إيطاليا، سويسرا، الأرجنتين، سلوفاكيا، هولندا، فنزويلا، بولندا، ليتوانيا، تشيلي، السويد، وبوليفيا. كذلك تعترف بها 43 ولاية أمريكية، وأقاليم مثل إقليمي الباسك وكتالونيا في إسبانيا، إقليم القرم المنضم حديثاً إلى روسيا، نيوساوث ويلز وجنوب أستراليا في أستراليا، وكيبيك في كندا. أيضاً، تعترف بها الأمم المتحدة، البرلمان الأوروبي، ومجلس أوربة.

9ـ تركيا ترفض الاعتراف بالإبادة

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، اعترفت تركيا بجرائم الحرب التي ارتكبتها وتبدّى ذلك من مواقف لحكومتها ومن خلال المحاكمة العسكرية لبعض القادة. وأقرت بالإبادة الأرمنية محملةً المسؤولية لزعماء حزب الاتحاد والترقي الذي كان يسيطر على الحكومة. ولكن منذ العام 1921، صار الموقف الرسمي التركي ينكر إبادة الأرمن وهو موقف يستمر إلى الوقت الحاضر. ففي ذاك العام عمل مصطفى كمال على إرجاع المسؤولين السابقين المحكومين بالنفي إلى جزيرة مالطة إلى تركيا، ومنح بعضهم مناصب وأوسمة.

حالياً الموقف التركي الرسمي عبّر عنه رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو بحديثه عن “المعاناة” التي عاشها أيضاً في تلك الحقبة “الأتراك المسلمون”، مضيفاً: “نحن مستعدون لمشاطرة الآلام لكننا لن نتنازل أبداً”.

10ـ الوضع الحالي

يقدر عدد الأرمن المسيحيين في تركيا اليوم بحوالى 60 ألفاً. لكن عددهم أكثر من ذلك، فخلال الحرب العالمية الأولى، اعتنق عشرات الآلاف منهم الإسلام للهرب من الموت وبقيت هويتهم دفينة. ويشارك بعض الأرمن في مناصب سياسية كبيرة، فالكاتب إتيان محجوبيان يشغل منصب كبير مستشاري رئيس الحكومة.

ترفض السلطات التركية الاعتراف بالإبادة الأرمنية وتجرّم المادة 305 من قانون العقوبات كل من يعترف بها. وتعمل السلطات على محو تلك الذكرى من أذهان مواطنيها. فهذه السنة قرّرت إحياء ذكرى معركة “غاليبولي” (دارت بين القوات العثمانية والحلفاء عند مضيق الدردنيل) في يوم ذكرى إبادة الأرمن، في محاولة لاستبدال مشاعر تأنيب الضمير بمشاعر الفخر القومي لكون المعركة المذكورة أسست لنشأة الجمهورية التركية الحديثة.

في المقابل، هناك بعض الأصوات التركية التي تطالب بالاعتراف بالإبادة الأرمنية. وعام 2008، أطلق أربعة مثقفين هم أحمد أنسل وعلي بيرم أوغلو وجنكيز أكتر وباسكن وران عريضة وقع عليها 32 ألف تركي تطلب المغفرة من الأرمن. ولكن في إحصاء حديث ظهر أن 9% فقط من الأتراك يؤيدون الاعتراف بالإبادة الأرمنية.

لماذا الاصرار التركي على انكار ابادة الارمن؟

“لن يقول الأتراك أبداً عن آبائهم إنهم كانوا قتلة”. هكذا أنهى المؤرخ جستن مكارثي خطابه في البرلمان التركي عام 2005، فوقف النواب الأتراك مصفقين بحرارة لما قاله. تلخص هذه الجملة الختامية الموقف التركي الرسمي تجاه مذابح الأرمن على يد العثمانيين، هذه المذابح التي يصفها أغلب المؤرخين في العالم بأنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين.

السلطان الدموي عبد الحميد الثاني مرتكب مجازر الارمن واليونان و...
السلطان الدموي عبد الحميد الثاني مرتكب مجازر الارمن واليونان و…

ففي الرابع والعشرين من نيسان 1915 جمعت الحكومة العثمانية ما يقرب من 250 شخصية أرمنية في إسطنبول وأعدمتهم. وبهذا انطلقت شرارة أعمال القتل والتهجير القسري والاغتصاب والتعذيب والتجويع ضد الشعب الأرمني في شرق الأناضول، فأدى ذلك إلى مقتل نحو مليون أرمني. كان لاشتراك بعض الأرمن في العمليات العسكرية إلى جانب الجيش الروسي، إضافة للنشاط الأرمني المحموم ضد الحكومة العثمانية في المطالبة بالحقوق السياسية أسوة بالشعوب الأخرى كالبلغار واليونانيين، أثره في ما تعرضوا له.

ورغم الاعتراف التركي الحالي بسقوط ضحايا أرمن في عمليات التهجير والقتل، فإن الموقف الرسمي يرفض اعتماد تسمية “الإبادة” ويقول إن الأرمن كانوا ضحايا حرب سقط فيها أيضاً مئات الألوف من الأتراك والعرب الروم الارثوذكس واليونان الارثوذكس والسريان والآشوريين وغيرهم. علماً أن الرواية التركية السائدة تعتبر أن الأرمن كانوا طابوراً خامساً في الحرب العالمية الأولى وخونة تحالفوا مع أعداء الدولة العثمانية الروس. وعليه، فإن سقوط ضحايا، ضمن ضحايا آخرين في وقت الحرب، أمر مؤسف ولكنه مفهوم ولا يعد قتلاً منهجياً متعمداً يمكن إدراجه تحت خانة الإبادة التي تفترض وجود سياسة مرسومة لإبادة أتباع دين أو مذهب أو عرق ما.

أما الرأي العام التركي تجاه تلك الأحداث، فيمكن تلخيص موقفه بما قاله السيد بايزيدهان عثمان أوغلو الحفيد الثالث لآخر السلاطين العثمانيين، محمد السادس، لرصيف22. قال: “ما سمعته من جدي الذي ولد عام 1922 في قصر يلدز وتوفي عام 2004 نقلاً عن أبيه السلطان أنه لم تكن هناك أية أوامر رسمية بالقيام بإبادة جماعية ضد الأرمن، بل كان الهدف هو التصدي للجماعات الأرمنية المسلحة التي هاجمت القرى وقتلت مدنيين وكانت تهدف إلى إنشاء أرمينيا الكبرى على حساب السلطنة العثمانية وبالتعاون مع أعدائها في الحرب العالمية الأولى، مثل الروس”. وأضاف: “لو كانت هناك نية لإبادتهم فلماذا تركنا الأرمن يعيشون في إسطنبول وإزمير وغيرها من المدن التركية؟”.

ولكن الجمعية الدولية للباحثين في الإبادة الجماعية حسمت هذا الجدل وأقرت منذ فترة طويلة بأن ما حدث للشعب الأرمني هو إبادة جماعية بالفعل. وهذا يتطابق مع التعريف الدولي للإبادة الجماعية، الذي يقول إنها أفعال تقصد التدمير الجزئي أو الكلي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية.

لماذا تستمر تركيا في سياسة الإنكار هذه رغم وفرة الأدلة التاريخية؟ يمكن أن نوجز الأسباب في ما يلي

1ـ الخوف من المساس بأسس قيام الجمهورية التركية

كمال اتاتورك
كمال اتاتورك

رغم أن الحكومات الجمهورية التي حكمت تركيا منذ إسقاط الخلافة عام 1923 لا علاقة لها بالإبادة الأرمنية، فإن العديد من المسؤولين الذين شاركوا في المجازر أصبحوا في ما بعد جزءاً من النظام. ومن الأمثلة على ذلك التشكيلات المخصوصة Teshkilat mahsusa التي لعبت دوراً في مذابح الأرمن عام 1915، ومن ثم أصبح بعض زعمائها جزءاً من منظمة الدفاع الوطني التي أسسها أتاتورك عام 1921.

ولم يكن لمؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، دور في تلك المجازر لا بل أنه اعتبرها عملاً سيئاً. إلا أنه بسبب شعوره القومي الطاغي بدأ حملة لإعادة بناء الهوية التركية محت كل أخطاء الماضي، وأسدلت الستار على كل مجازر الأتراك وانتهاكاتهم لحقوق الأقليات. لذلك، فإن تذكر تلك الأحداث يعيد إلى الذاكرة فترة تفكك الأمبراطورية العثمانية وهزيمة الأتراك وهو ما يفضل الجميع تجنب الحديث عنه.

وعوضاً عن الخوض في الماضي المأسوي، تعتزم تركيا الاحتفال هذا العام بذكرى معركة “غاليبولي”، أو ما يسمى أيضاً “حملة الدردنيل”، وهي المعركة التي انتصر فيها العثمانيون على الحلفاء الذين حاولوا احتلال إسطنبول. واللافت أن المعركة بدأت في الخامس والعشرين من أبريل، إلا أن الحكومة التركية قررت الاحتفال بها في الرابع والعشرين منه، في ذكرى بدء المذبحة الأرمنية، بل وجهت دعوة للرئيس الأرمني الذي رفض حضور الاحتفال.

يبين هذا الاحتفال المدى الذي تذهب إليه الجمهورية التركية في الحفاظ على الموروث القائم على الفخر بالماضي ونسيان أخطائه. فوضع درة انتصارات الأمة التركية والذي مهد لحرب الاستقلال وإقامة الجمهورية على يد أتاتورك محل ذكرى المذبحة، هو رفض واضح للاعتراف بأية أخطاء ويصل إلى حد إهانة ذكرى الضحايا.

2ـ  إعادة تشكيل الذاكرة التركية

ارمينيا الكبرى تاريخيا
ارمينيا الكبرى تاريخيا

منذ أن تم تغيير الأبجدية التركية عام 1928، انقطعت الأجيال الشابة عن قراءة تاريخها. فلم تعد الأجيال التي ولدت بعد ذلك التاريخ تعرف شيئاً عما حدث إلا من خلال الكتب والإصدارات الرسمية. ونتيجة للتوجه الحكومي، منذ إعلان الجمهورية التركية، المشبع بالروح الكمالية المفرطة في التوجه القومي، جرى تصوير الأمة التركية على أنها ضحية لخيانات الأقليات من الأرمن والعرب وغيرهما، والتي أدت إلى تفتت الأمبراطورية.

وبسبب هذا التعتيم التاريخي، نشأت أجيال من الأتراك تنكر ما اقترفته الحكومات التركية من جرائم ضد الأقليات إبان الحكم العثماني. ويبدو أثر هذه السياسة جلياً في ما نشره أخيراً مركز دراسات الاقتصاد والسياسة الخارجية من نتائج لاستطلاع للرأي  بيَّن أن 9% فقط من الأتراك يرون أن على حكومتهم أن تعترف بإبادة الأرمن وتعتذر عنها.

نموذج من ابادة الارمن
نموذج من ابادة الارمن

إن إنكار إبادة الأرمن يرقى إلى موقف وطني يوحد الغالبية العظمى من الأتراك في وجه أعداء الأمة ومن يحاولون تدنيس تاريخها. وربما تذكّرنا حادثة الملاحقة القضائية للكاتب الشهير الحائز نوبل للآداب، أورهان باموك، بتهمة إهانة الدولة التركية وجيشها حين تحدث عام 2005 عن مقتل مليون أرمني على يد الأتراك، بمدى حساسية الأتراك تجاه هذا الأمر. إن الإعتراف بالإبادة الأرمنية سيتطلب إعادة قراءة للتاريخ التركي، وإعادة تشكيل لذاكرة أمة بكاملها ويبدو أن تركيا غير مستعدة لذلك الآن.

3ـ التعويضات

يقول أغلب المؤرخين إن إبادة الأرمن هي أول إبادة جماعية حدثت في القرن العشرين. وعليه، فإن الاعتراف بها سيضع تركيا القديمة في مرتبة ألمانيا النازية. وسيتم التعامل مع إبادة الأرمن على أنها شبيهة بالهولوكوست النازي. وهذا أمر سيرتب على تركيا، إضافة للتبعات المعنوية المحرجة دولياً، تبعات قانونية بصرف تعويضات لأسر الضحايا وهو أمر مهول إذا ما نظرنا إلى أرقام الضحايا التي يقدرها المؤرخون بما بين مليون ومليون ونصف المليون.

4ـ تعقيدات السياسة المحلية

إن أي اعتراف بالإبادة الأرمنية، أو تراخ في الحفاظ على الكبرياء الوطني من قبل أردوغان وحزبه، سيعرضهما لخسائر فادحة في صفوف الرأي العام التركي. فالشباب الأتراك الذين تربوا على مقولة إن الأرمن كانوا خونة وإن الإبادة كذبة كبرى، والذين رأوا معاناة الأتراك على أيدي المسلحين الأرمن معروضة في المتحف العسكري التركي في إسطنبول، لن يتقبلوا من قادتهم أن يمسوا شعورهم الوطني. وهذا أمر، برغم أنه مستبعد الحدوث، سيمنح المعارضة اليمينية ذخيرة كافية في الانتخابات المقبلة للنيل من معسكر أردوغان الساعي إلى تأسيس جمهوريته الجديدة.

وفي تطور لافت، رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو صرح أن تركيا “تشاطر آلام الأرمن الذين قتل أسلافهم منذ 100 عام في الدولة العثمانية”. كما قال أوغلو إن إسطنبول ستحتضن هذا العام مؤتمراً لإحياء ذكرى مقتل الأرمن. ومع هذا، فإنه شدد على أن بلاده ترفض تماماً وصف ما حدث بأنه إبادة جماعية، وأعاد التأكيد على أنها أعمال قتل وقعت بحكم ظروف الحرب آنذاك. ويعتقد أن هذا التطور سببه تزايد الضغوط الدولية على تركيا في ما يخص مذبحة الأرمن. فقد أيد الاتحاد الأوروبي أخيراً اعتبار المذبحة “إبادة جماعية” بحق الأرمن. كما أن البابا فرنسيس قام بالشيء ذاته في خطاب علني، وهو ما احتجت عليه تركيا رسمياً.

شعار ارمينيا
شعار ارمينيا

قد تحمل الذكرى المئوية شيئاً من التغيير في الموقف التركي الذي كسر المنع الصارم للنقاش العلني حول الموضوع. لكن الطريق يبدو مسدوداً أمام اعتراف الأتراك بأن أجدادهم أبادوا عن سابق إصرار مئات الآلاف من الأرمن بحجة حماية الأمبراطورية التركية المتداعية آنذاك.

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *