خصوصية كنيسة أنطاكية للروم الأرثوذكس…
خصوصية كنيسة أنطاكية للروم الأرثوذكس…
تساءل الأب د. جورج عطية / معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي/جامعة البلمند في مقاله(1)
من هي كنيسة أنطاكية للروم الأرثوذكس؟أية خصوصية؟
قال:
هناك عدد لا حصر له في العالم المسيحي اليوم، من فئات حديثة تطلق على نفسها اسم كنائس. مع هذا، وبغض النظر عن هذه الفئات التي يتزايد عددها باستمرار، ويطل علينا البعض منها بين الحين ولآخر ممارساً الإقتناص، ثمة عدد لابأس به من كنائس قديمة نسبياً في الكرسي الأنطاكي، وعدد أقل من كنائس أقدم يظن الكثيرون أن كنيسة الروم الأرثوذكس الأنطاكية هي واحدة منها. الأغرب من هذا كله أن الغالبية الساحقة من ابناء هذه الكنيسة- التي بنت جامعة البلمند- تجهل تاريخ كنيستها وحتى هويتها، لذلك، وفي وسط الضباب الكثيف المخيم، لأسباب متعددة على قضية جوهرية كهذه، نجد أن ثمة حاجة اساسية للجواب عن سؤالين رئيسين:
1- من هي كنيسة الروم الأرثوذكس عامة؟
قبل ولادة الرب يسوع بقليل صدر امر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كلّ المسكونة(2). وكانت المسكونة تعني في تلك الايام الامبراطورية الرومانية التي اكتتب من ضمن رعاياها مريم العذراء وخطيبها يوسف، ولابد من ان الطفل يسوع اكتتب هو أيضاً فيما بعد. اما الرسول بولس، فعلى الرغم من كونه يهودياً هو ايضاً، إلا أن رعويته كانت تختلف، اذ كان، على مايبدو، مواطناً رومياً (او رومانياً) من الدرجة الأولى.(3)
على أي حال، لقد كانت وحدة الأمبراطورية، وازالة الحواجز بين البلدان التي تتشكل منها، ووجود لغة عالمية موحدة (اليونانية) من العوامل التي يَّسَّرَتْ بشارة الرسل، وساعدت على تأسيس الكنائس الأولى التي تكلمت عنها اسفار العهد الجديد مثل أورشليم،أنطاكية، غلاطية، أفسس، تسالونيكي، كورنثوس، الخ… وعلى الرغم من الصعوبات الهائلة والمقاومات الرهيبة من اليهود ومن الوثنيين، وفيما بعد من السلطة نفسها امتدت البشارة الإلهية، بقوة الروح القدس، ومن دون توقف، إلى كل الأقطار والمناطق في أوسع أمبراطورية عرفها التاريخ. ومعلوم أن جميع أعضاء الكنائس التي تأسست، ظلت تجمعهم، زمنياً، رعوية واحدة هي الرومانية على الرغم من الاختلاف في درجاتها، والظلم وسوء المعاملة اللذيَّنِ كانت الأمبراطورية تحكم بهما في تلك الايام، الى ذلك ان وجود جميع تلك الكنائس في إطار امبراطورية واحدة، سهل لها الايمان”بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية”- بغض النظر عن انتماءتها الأممية والاجتماعية المختلفة، ولغاتها الخاصة المتعددة- والقول مع الرسول بولس:”ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة، بربري إسكيثيٌّّ، عبدٌ،حرٌ…”(4) لأنكم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع”.(5)
إلا أن الانقسامات في الكنيسة الرومية لم تأت من الاختلافات الاممية والاجتماعية بمقدار ما اتت من الهرطقات والبدع التي سبق أن حذَّرمنها السيد والرسل، وصارعتها الكنيسة بدون هوادة، وبمعونة الروح القدس منذ القرن الاول، إذ لم يكن الهدف الحفاظ على وحدة الكنيسة فحسب، بل أيضاً على صحة الايمان الواحد الذي تسلمته جميع الكنائس الأولى من الرسل.
وتجدر الاشارة الى ان الاضطهادات المريعة التي شنها الأباطرة الوثنيون لمدة ثلاثة قرون، ساعدت على تقوية الشعور بالإنتماء إلى كنيسة واحدة، إذ تحمَّلَ جميع ابناء الكنائس الرومية الملاحقات والشدائد والرعب والتعذيبات، وكانوا يشتركون جميعهم في تكريم شهداء الكنيسة الواحدة، أياً يكن القطر الذي تم استشهادهم فيه، ولأي جنسٍ او أمةٍ انتموا.
وبديهي أن يؤدي رفع الأمبراطور قسطنطين الاضطهادات عن المسيحيين، ورعايته الخاصة للكنيسة الرومية مطلع القرن الرابع، الى فرحٍ غامرٍ عند جميعِ أبنائها، واستعداد أكبر لتجاوز فروقاتهم الأممية والاجتماعية، وقبولهِ طوعياً كأبٍ وراعٍ للجميع، خصوصاً أنه ألغى من قوانين الدولة التأثيراتْ الوثنية، من ظلم وعقوبات وحشية، وأدخلَ فيها مايقترب من وصايا الرب يسوع في العلاقات العائلية والاجتماعية، وقبوله طوعياً كأبٍ وراعٍ للجميع، خصوصا أنه ألغى من قوانين الإمبراطورية التأثيرات الوثنية، من ظلم وعقوبات وحشية، وأدخل فيها مايقترب من وصايا المسيح في العلاقات العائلية والاجتماعية. وقد زاد من تقديرهم إياه ودعوته أساقفة المسكونة من سائر أقطارها، وتحمله نفقات سفرهم من اجل حضور المجمع المسكوني الأول الذي انعقد في نيقية سنة 325م، تلافياً لخطر الانقسام في الكنيسة، والامبراطورية، الذي سببته الهرطقة الآريوسية، وقد تولت الدولة تطبيق قرارات المجمع، وبهذا وضع الأمبراطور قسطنطين القواعد التي دُعيتْ على أساسِها المجامع المسكونية اللاحقة كلها لمجابهة الهرطقات الطارئة.
وكما ان نقل قسطنطين لعاصمته، لم يعن بداية لأمبراطورية جديدة، وهي ما اصطلحوا على تسميتها بيزنطية، كما سوف نرى خلافاً للواقع والتاريخ، كذلك فإن رعايته للكنيسة الرومية لم تكن بداية لكنيسة جديدة سموها أيضاً، بدون حق، بيزنطية أو يونانية. فمنذ البداية، أي منذ القرن الاول، تأسست الكنيسة الرومية، واستمرت دون تغيير جوهري في إيمانها أو حياتها الإلهية في القرن الرابع أو غيره، ولا تزال هي هي حتى ايامنا هذه، وما اهمية بقاء الاسم الأول سوى كونه إحدى العلامات الخارجية، لعدم التغيير هذا للكنيسة الأولى التي اسسها الرب يسوع، والتي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالاطار التاريخي الذي وُجدت فيه، نعطي مثلاً عن هذا الارتباط
تطور التنظيم الرعائي للكنيسة الاولى والمرتبط منذ البداية بالتقسيمات الإدارية للأمبراطورية الرومية القديمة، بدءاً من الاسقفيات ثم الأبرشيات ( المتروبوليتات او المطرانيات) وفيما بعد البطريركيات. وقد صار عدد هذه البطريركيات، رسمياً خمساً متطابقة مع المراكز الادارية الكبرى للأمبراطورية الرومية، وهي بحسب الترتيب: رومية القديمة، رومية الجديدة، الاسكندرية، أنطاكية، اورشليم. وقد جاء هذا الترتيب الاكرامي لمراكز الامبراطورية، وليس لأي سبب آخر، وهو ماتشهد عليه بوضوح قوانين المجامع المسكونية(6)
والواضح ان توقف الاضطهادات هو الذي يسر انتشار الهرطقات التي زرعت النزاعات والانشقاقات في ارجاء الامبراطورية، الأمر الذي اضطر أباطرتها المسيحيين،(كما اشرنا أعلاه) الى عقد المجامع المسكونية. من هذه المجامع المجمع المسكوني الثالث ( أفسس431م الذي حكم على هرطقة نسطوريوس، ما أسفر بالنتيجة عن انفصال الكنيسة النسطورية التي شجعتها الدولة الفارسية، والمجمع المسكوني الرابع المنعقد في مدينة خلقيدونية سنة 451م للرد على هرطقة اوطيخا. وللأسف الشديد فقد أدى تشابك ظروف مختلفة سبقت انعقاد هذا المجمع ورافقته،الى سوء فهم متبادل بين فريقين ازداد سوءاً مع الزمن، وتحول الى خلاف حاد في وجهات النظر، ما ادى فيما بعد الى تشكيل كنائس مستقلة، رافضة لقرارات المجمع الخلقيدوني، وهي الكنيستان القبطية والسريانية، بالاضافة الى الكنيسة الارمنية والأثيوبية اللتين كانتا خارج حكم الامبراطورية الرومية.
من المؤكد ان الرافضين قرارات المجمع، لم يكونوا حصراً من ابناء الشعوب التي تنتمي اليها الكنائس المذكورة، بل كان هناك رافضون كثر من شعوب اخرى. وبالمقابل كانت هناك غالبية في غرب الامبراطورية وشرقها قبلت هذه القرارات، ليس فقط من الرومان او الاغريق بل من جميع الشعوب دون استثناء كشعوب الكنائس الشرقية ذاتها المشار اليها آنفاً، والتي على سبيل المثال لا الحصر، كان منها الموارنة ذوو الأصل السرياني. ولتأكيد حقيقة أن ابناء الكنيسة الرومية كانوا من جميع شعوب الأمبراطورية الرومية قاطبة، نشير الى ان اللغات المستعملة في طقوس الكنائس المحلية الرومية لم تكن فقط اليونانية واللاتينية بل أيضا لغات الشعوب الأخرى. وقد بقي هذا التنوع اللغوي في القسم الشرقي من الامبراطورية بعد قرون من انفصال الكنائس المذكورة، ولايزال حتى اليوم، ويشهد على ذلك مثلاً، في تراث كنيسة أنطاكية للروم الأرثوذكس، المخطوطات والكتب الليتورجية الرومية المكتوبة باللغة السريانية (اللغة المشتركة لكثير من الشعوب الشرقية) التي تُصادَفْ في يعض الأديرة والكنائس القديمة، الى جانب المخطوطات والكتب في اللغتين اليونانية والعربية. هذا ولايزال بعض ابناء كنيستنا الرومية الارثوذكسية في بعض القرى(7) يتخاطبون باللغة الآرامية ( وهي أم وأصل اللغة السريانية) حتى اليوم.
من هذا المنظار، يمكننا القول ان من ظلوا يسمَّونَّ روماً حتى اليوم، هم من جميع شعوب الكنيسة الرومية الذين قبلوا المجامه المسكونية السبعة مع غيرها من أصول التراث الرومي. أما اسم الملكيين، والذي شاع قديماً
في فترة ما، فلم يطلقه الروم على انفسهم بل اطلقه ابناء الكنائس اللاخلقيدونية عليهم لأنهم، في نظر هولاء، تبعوا الملك وفي هذا تهكم وسخرية.
اما الواقع فهو ان الذين قبلوا المجامع المسكونية لم يتبعوا ملوك الامبراطورية الرومية بل قديسي الكنيسة الرومية، /لأن هؤلاء الأخيرين جاهدوا في كثير من الأحيان / مع نفي وتعذيبات كثيرة بلغت أحياناً حد الاستشهاد(8) ضد ماتبناه ملوك كثيرون في مراحل مختلفة فصاروا اعداء شرسين ضد الايمان الذي نادى به الرسل والقديسون بالروح القدس، والذي ثبتته فيما بعد المجامع المسكونية في عهد آخرين.
يبدو واضحاً مما سبق، أن الكنيسة الرومية لم تكن واحدة من الكنائس القديمة التي استقلت بعد القرن الخامس، محتفظة بتراث خاص يخص شعباً معيناً ولغة معينة.
الكنيسة الرومية، كما رأينا، هي الكنيسة الاولى الجامعة التي نشأت في القرن الاول بعد تبشير الرسل جميع اقطار وشعوب الامبراطورية الرومية (الرومانية). وبالتالي، لم يكن تراثها تراث شعب واحد بل مساهمة مشتركة من قديسي جميع تلك الشعوب ومؤمنيها في العيش والتعبير عما تسلموه من الرب يسوع والرسل. ولأن هذه الكنيسة مسكونية الطابع، فقد ساهمت منذ القرون الاولى- ولكن بصورة خاصة بعد مسيحية الامبراطورية- في دعم الكنائس التي كانت تتأسس خارج الامبراطورية مثل ايران وجيورجيا وأرمينيا واثيوبيا والعربية الخ…وفي القرن التاسع سوف تؤسس بعثات تبشيرية لتبشير الشعوب السلافية والبلقانية الوثنية. وستثمر هذه الجهود بتأسيس كنائس عظيمة مثل روسيا وبلغاريا ورومانيا وصربيا…، تشكل امتدادا غير متغير جوهريا للكنيسة الرومية قي الايمان والحياة والتراث.
وبالنسبة الى بطريركية روما القديمة، فهي لم تستمر في الانتساب الى الامبراطورية الرومانية (الرومية) التي عاصمتها روما الجديدة ( القسطنطينية)، ذلك لأن القسم الغربي من هذه الامبراطورية بدأ يقع تدريجياً تحت سيطرة القبائل الجرمانية ( كالقوط والافرنج واللومبارديين والانكلوساكسون الخ…) اعتباراً من اواخر القرن الخامس، الأمر الذي ادى، منذ ذلك الحين الى بداية انفصال وتنازع سياسي وعسكري بين امبراطورية الروم القديمة، ومايتشكل في الغرب من دول وامبراطوريات. وعندما تحول المحتلون الجدد عبر قرون الى المسيحية، بعد أن كانوا في معظمهم وثنيين أوآريوسيين، انتقل النزاع الى الصعيدين اللاهوتي والكنسي، لاسيما بسبب ابتعادهم عن منابع التقليد الرسولي. كلّ هذه الأسباب أدت في النهاية الى الانشقاق بين الكنيستين في بداية القرن 11والذي تثبت سنة 1054 بالانشقاق الكبير.
أما صفة “أرثوذكسية” والتي تعني استقامة الرأي، فكانت منذ البدء تضاف في كثير من الأحيان الى عقائد الكنيسة، لتؤكد استقامتها وصحتها بالمقارنة مع الآراء المنحرفة التي كان المبتدعون يروجون لها، ثم صارت صفة للكنيسة نفسها، المحافظة على استقامة الايمان ونقاوته، وخاصة بعد الانشقاق الذي حدث مع كنيسة الغرب.
من هي كنيسة أنطاكية؟–تعريف بأنطاكية حتى بداية انتشار المسيحية
ترجع جذور تأسيس مدينة أنطاكية الى حلم الاسكندر المقدوني الذي اراد ان يُهلِّن(9) العالم. فهي واحدة من المدن الكثيرة التي بناها هو، ومن بعده قواده الاربعة الذين اقتسموا امبراطوريته، كامتداد لهذا الحلم. لكن أنطاكية لم تكن فقط مجرد واحدة من هذه المدن، لأن سلوقس الأول، أحد هؤلاء القواد، أرادها عاصمة لمملكته الواسعة أيضاً (10)، ولذلك اختار موقعها الطبيعي بعناية حوالي سنة 300 ق.م مطلقاً عليها اسم أبيه انطيوخس. وكان من الطبيعي أن ينفق بسخاء على بنائها، فأصبحت واحدة من اعظم مدن العالم القديم وأجملها.
بعد ذلك استقدم سلوقس سكاناً يونانيين من أثينا ومقدونيا وكريت وقبرص الخ… كي يقيموا في المدن والقرى، وعلى الأخص في العاصمة المبنية حديثاً، مانحاًاياهم الامتيازات، ومستعينا بهم في الحرب وفي التهلين، فساد العنصر اليوناني ولغته وحضارته على الرغم من قلة عدده بالنسبة الى الآخرين، وظل مسيطراً على مقدراتها لقرون طويلة.
اما العناصر الأخرى التي شاركت في سكناها بعد تأسيسها، فقد اتت غالباً من سكان المنطقة، ومنها الآرامي المحلي واليهودي والعربي الذي سنتشر بكثرة في البوادي والأرياف السورية منذ منتصف القرن الثاني قبل الميلاد. وتجدر الاشارة هنا الى أن ما سماه بعض المؤرخين(11) العنصر الآرامي المحلي ما هو، في الحقيقة، الا خليط من الشعوب الكثيرة التي سكنت المنطقة منذ فجر التاريخ مثل السومريين والأكاديين والأموريين والكنعانيين والفينيقيين والآراميين الخ…، وكذلك من بقايا الغزاة الذين استولوا عليها عبر فترات مختلفة مثل الحثيين والمصريين والآشوريين والبابليين والفرس الخ…إلا ان اسم الآراميين قد فلب على هذا الخليط لأهميتهم وأصالتهم في المنطقة ولأن لغتهم اصبحت مع الزمن اللغة المشتركة بفضل النشاط التجاري الذي شمل كل الهلال الخصيب التي تتخاطب بها جميع نلك الشعوب، ومنها اشتفت اللغة السريانية.
وعلى الرغم من التوسع والازدهار الذي تمتعت به مملكة السلوقيين في البداية، الا انها تقلبت، مع دخولها في حروب كثيرة، بين مد وجذر خلال مايقرب من قرنين من الزمن، الى ان تقلصت وانحصرت في جزء صغير من سورية.
وفي سنة 64 ق.م استولى الرومان بقيادة القائد بومبيوس على مدينة انطاكية وعلى كل ماجاورها، فجعلها عاصمة ولاية سورية بكاملها واعطاها استقلالاً ذاتياً. واتسعت أنطاكية وازداد عدد سكانها ، وتعاظم شأنها كمركز للتجارة والفنون والعلوم، فصار الأباطرة يبنون فيها المعالم الضخمة والهياكل والأبنية الرسمية ويمنحونها الامتيازات ما اكسبها، بالنتيجة، لقب “المدينة العظمى” وجعلها عاصمة لا للشرق فحسب بل ايضا عاصمة ثالثة للأمبراطورية ( بعد روما والاسكندرية). اما لقب “مدينة الله” فقد اطلقه عليها الأمبراطور يوستنيانوس، بناء على اقتراح القديس سمعان العمودي (الأصغر) من اجل حفظها من الزلازل.
لمحة في تأسيس كنيسة أنطاكية وتاريخها
إن كنيسة أنطاكية، إذا، هي بالتحديد كنيسة ما أطلقت عليه الأمبراطورية الرومانية اسم “الشرق”. وفي زمن ارسال المسيح تلاميذه للبشارة كان هذا الشرق يتضمن مناطق شاسعة مثل سورية، فينيقية، العربية، مابين النهرين، كيليكيا، البلاد الكرجية(12)، قبرص(13)، فلسطين(14)… الخ، وهذا يعني ان اورشليم لم تكن حينها مجاورة لأنطاكية فحسب بل أيضا تّابعة لها ادارياً.
وكما حدثنا لوقا الانجيلي قي “اعمال الرسل” فإن قسماً من المؤمنين الاوائل بالمسيح في اورشليم الذين تشتتوا من جراء الضيق الذي رافق استشهاد اول الشمامسة استفانوس اجتازوا الى فينيقية وقبرص وأنطاكية. فلم يكن هؤلاء في البداية يكلمون أحداً بالكلمة الا اليهود فقط(15). لكن كان منهم رجال قبرصيون وقيروانيون (من يهود الشتات) وهم الذين لم دخلوا انطاكية كانوا يخاطبون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع، وكانت يد الرب معهم فآمن عدد كبير ورجعوا الى الرب.(16)
وعندما بلغ خبرهم مسامع الكنيسة الأم التي في اورشليم ارسلوا برنابا (17)، فلما اتى ورأى نعمة الله فرح ووغظ الجميع ليثبتوا في الرب بعزم القلب.
فانضم الى الرب جمع غفير (18). ثم خرج برنابا الى طرسوس ليطلب شاول(بولس الرسول)، ولما وجده جاء به الى انطاكية. فحدث أنهما اجتمعا في الكنيسة سنة كاملة وعلما جمعاً غفيراً. ودعي التلاميذ في انطاكية مسيحيين اولاً.(19)
وكان من الطبيعي أن تصبح الكنيسة التي فيها يُبَشَرْ الوقنيون اولاً، أول مركز في العالم لانطلاق البشارة المسيحية الى الامم، عن هذا يخبرنا سفر أعمال الرسل فيقول ‘نه بينما كان الانبياء والمعلمون في انطاكية ” يخدمون الرب ” ويصومون قال الروح القدس أفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما اليه، فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الايادي ثم اطلقوهما. (20)
وعندما عاد الرسولان الى أنطاكبة بعد انتهاءرحلتهما الاولى ” جمعا الكنيسةواخبرا بكل ماصنع الله معهما وانه فتح للأمم باب الايمان(21)، وبحسب السفر ذاته سوف تنطلق من انطاكية ايضا رحلتان ناجحتان ثانية(22) ثم ثالثة(23) بقيادة الرسول بولس ال آسيا الصغرى واوربة. وليس هناك مايمنع ان الرحلات التبشيرية من انطاكية لم تقتصر على هذه الرحلات الثلاث- بقيادة الرسول بولس او غيره وان سكت عنها سفر اعمال الرسل بسبب توقفه، لأسباب نجهلها ، عند احتجاز بولس الرسول في روما.
ومن المؤكد استنادا الى رسالة بولس الرسول الى اهل غلاطية(24)، والى آباء ومؤرخين قدماء، أن بطرس الرسول تردد كثيرا على انطاكية ورعاها بصقته اسقفها (بطريرك) مدة طويلة، ومن ثم رسم خليفة له تلميذه افوديوس اسقفا عليها وهو الثاني في ترتيب بطاركة انطاكية، ويرى الأب د.جورج عطية انه رسم اقوديوس اول اسقف غليها ولاشك ان اقامته (يقصد بطرس)فيها وغالبا لسنوات غديدة متوالية بداعي غياب بولس وبرنابا الاضطراري غتها، او لأنه التزم اي بطرس اهل الختان فيها – هي السبب الذي حدا القدماء على ان يعتبروه مؤسس كنيسة انطاكية على هذا الاساس صار شريكا لبولس الرسول الذي تعب هو ايضا كثيرا في هذا التأسيس، وهذا مايفسر اعتبار كنيسة انطاكية الرسولين العظيمين معا مؤسسيَّن لها والتعييد لهما في 29 حزيران من كل عام بهذه الصفة فهو عيدهما وعيد تأسيس كرسي انطاكية العظمى بيدهما.
وبناء على ماذكر أعلاه يتضح لنا ان تصنيف أنطاكية بعد روما والقسطنطينية والاسكندرية وقبل اورشليم، بحسب الترتيب الشرقي الذي اعتمدته الكنيسة الرومية (الرومانية)، هو لأساب ادارية وز منية بحتة وليس لأسباب لاهوتية او رسولية.
هذه الكنيسة مع الكنائس الاربع المذكورة، سوف تتحمل في فجر المسيحية، اضطهاد الاباطرة الوثنيين المريع مدة ثلاثة قرون دامية، لأجل ايمانها بالمسيح وسوف تجاهد معها بمرارة أكبر ضد كل انحراف عن الايمان، وخاصة في الفترات التي سبقت وتلت انعقاد المجامع المكانية والمسكونية. ولكنها سوف تقع في القرن السابع مع كنيستي الاسكندرية واورشليم تحت الاحتلال الاسلامي المتعدد المراحل والصراعات. بعد ذلك سوف تعود مدينة أنطاكية، وقسم كبير من سورية للدخول من جديد تحت سلطة امبراطورية الروم في القسطنطينية لمدة قرن ونيف (969-1084) الى زمن استلاء الاتراك السلاجقة عليها، والفرنجة الغربيين بعدهم(1098)، الذين سيحولون كنيستها الى بطريركية لاتينية، باقين في المنطقة مع نزاعات لا تهدأ الى حين احتلال المماليك لها 1268، ولم يكن غريبا حين احتلها الظاهر بيبرس المملوكي بعد حصار دام لثلاثة ايام – وكانت وقتها قاعدة احدى الامارات الاربع الصليبية في سورية وفلسطين- ان يقتل ويسبي من اهله مائة الف ويضرب مبانيها وكنائسها ومن جملتها الدار البطريركية الانطاكية، وكان ذلك الاحتلال الذروة في سلسلة طويلة من الحروب والكوارث على كنيسة انطاكية وشعبها. اضافة الى الزلازل التي ضربت مدينة انطاكية العظمى فهدمتها وهرب منها اهلها فتحولت الى بلدة حقيرة مهجورة في القرن 14، وكان من بين الذين هجروها بطاركتها الذين اضطروا ان يتحولوا ناقلين مقر كرسيها معهم الى خارجها اذل يبق مايسندون اليه رؤوسهم فيها، الى ان اختار البطريرك اغناطيوس الثاني في السنة 1344 مدينة دمشق التي كانت حينها اعظم مدن الشام، واقدسها فهي التي مسحنت بولس الرسول وجعلته “رسولاً للأمم” ومنها انطلق التبشير معه الى كل مكان بما فيها انطاكية، وعلى الدوام كان اسقفها يلي في الترتيب والكرامة بطريرك انطاكية.
من الويلات الكثيرة التي عانت منها كنيسة أنطاكية تدفق التتاروالمغول بقيادة جنكيزخان في مطلع القرن 13، وانقضاض تيمورلنك التتري على سورية في بداية القرن 15 زارعاً الهلاك والدمار. لكن الظلمة والانحطاط سوف يحاصران كنيسة انطاكية بشكل اشد طوال فترة حكم الأتراك العثمانيين منذ مطلع القرن 16 حتى مطلع القرن 20. وفي القرن الأول من هذه الفترة بالذات سوف تطل البعثات التبشيرية الغربية على كنيسة أنطاكية وعلى الكنائس الشرقية القديمة. اما المحاولات لضم هذه الكنائس أو لتأسيس ماسيعرف بالكنائس الكاثوليكية، فقد بدأت منذ زمن الحروب الصليبية. في حين تراجع بداية مجيء الارساليات البروتستانتية لتبشير كنائس الشرق الى القرن 19.
هل كنيسة انطاكية رومية او يونانية وبالتالي هل هي فئوية أو طائفية؟
يرجع أصل اللفظة Byzantion اليونانية (Buzavntion) الى اسم بلدة قديمة بناها الاغريق على ساحل البوسفورالاوربي. وهو المكان نفسه الذي بنى في الامبراطور قسطنطين عاصمته الجديدة، ودشنها سنة 330، مسمياً إياها رومية أو روما الجديدة نسبة الى رومية (25) او روما(26) القديمة مؤسسة الامبراطورية الرومانية وعاصمتها الاولى.
كما عرفت أيضا بالقسطنطينية نسبة الى الامبراطور قسطنطين بانيها. ومع هذا وتحت ستار حجج مختلفة منسوبة الى أحد التغييرات(27) التي حصلت في الامبراطورية في أزمنة مختلفة، صار يطلق في القرون الاخيرة على الامبراطورية وتراثها مدنياً كان ام كنسياً الاسم القديم للبلدة البائدة. فأصبح يقال مثلاً امبراطورية بيزنطية، فن بيزنطي وحتى كنيسة بيزنطية. فهل هذه التسمية صحيحة تاريخياً وكنسياً؟
إن كان المقصود بالدولة البيزنطية، الدولة التي ابتدأت مع تأسيس العاصمة الجديدة أو بعد ذلك فمن المفروض أن تُنسب الى المدينة الجديدة، والى اسمها الجديد وليس الى البلدة القديمة التي لم تعد موجودة، واسمها القديم الذي بطل وما عاد مستعملاً. كما أن كل التغييرات اللاحقة مثل استيلاء القبائل الجرمانية على القسم الغربي من الامبراطورية لم تؤثر على اصرار روم الشرق على انهم ورثة الأمبراطورية شرقاً وغرباً.
ولهذا كان من المستحيل أن يفكروا في تغيير اسم الأمبراطورية أو ان يقبلوا بهذا التغيير. ماهو واقعي ومثبت تاريخياً هو ان امبراطورية رومية أو روما- التي وَطّدَّ اركانها أغسطس قيصر، وكانت قبل ذلك جمهورية – لم تتغير لا هي ولا اسمها مع تغيير العاصمة، لأن العاصمة القديمة قد انتقلت بأمبراطورها وحكامهامع قسم مهم من قواد جيشها وسكانها الى العاصمة الجديدة، وهذا هو السبب الحقيقي لتسميتها روما الجديدة.
على هذا النحو بقيت امبراطورية الروم أو الرومان وكل مانُسب اليها رومياً أو رومانياً، نسبة الى اسم المدينة المؤسسة رومية أو روما في لغتيها الأساسيتين: اليونانية واللاتينية. ومع هذا فقد عُرِفَ مواطنو القسم الشرقي من الامبراطورية فقط، فيما بعد، بالروم، لأن اللغة اليونانية منذ القرن 5 بدأت تنتشر هناك أكثر فأكثر حتى في الدوائر الرسمية، الى أن صارت اللغة الرسمية الوحيدة في الشرق بعد القرن 6، وهذه الحقيقة تؤيدها كل نصوص المراجع القديمة دون استثناء، ومن بينها العربية فمثلاً في القرآن(28) وفي كل المراجع التاريخية العربية القديمة حيث كانت علاقة ما مع الروم سواء قبل الاسلام أم بعده، ليس هناك اطلاقاً ذكر لكلمة بيزنطي بل فقط لكلمة روم ومشتقاتها. كما يؤيدها واقعياً بقاء صفة “روم ” حتى اليوم لأبناء كنائس البطريركيات الشرقية القديمة الأربع للأمبراطورية. أما تسرُّب كلمة بيزنطي فقد تم على الارجح في القرن 16(29)، كذيول للصراع القديم بين الروم الشرقيين وبين من احتلوا القسم الغربي من الامبراطورية الرومانية، ومنهم على سبيل المثال الافرنج الذين بدأوا منذ القرن 9 يرفضون للروم هذه التسمية ويسمونهم بدلاً من ذلك إغريقاً (Greek)، كتعبير عن رفضهم لما يمكن أن تحمله صفة روم من معاني وحقوق.
وبغض النظر عن هذا الصراع السياسي الذي لايعنينا بشيء، نسأل هنا: هل كانت أكثرية أبناء كنائس البطريركيات الاربع للامبراطورية الرومية في الشرق من اصل اغريقي (يوناني) مايبرر نعت الكنيسة الرومية باليونانية كما يحصل حتى في ايامنا هذه ومن بينهم دون انتباه بعض ابناء كنيستنا ذاتها(30)؟
في الواقع لم يكن العنصر اليوناني كما اشرنا سابقاً سوى أحد هذه العناصر العديدة التي تألفت منها الكنيسة الرومية عند تأسيسها، ولم يكن تفوقه ليعود الى العدد، لكنه كان نتيجة لسياسة التهلين التي بدأها الاسكندر المقدوني واستمرت حتى في أيام الرومان. هذا العنصر اليوناني هو ابرز العناصر لغةً وحضارةً وتأثيراً زمنياً، وهو مايفسر كتابة أسفار العهد الجديد باليونانية وإطلاق بعض هذه الاسفار على الأمم الوثنية أو الذين عاشوا بينهم في عديد من الأحيان تسمية اليونانيين.
الى ذلك ومع ان اللغة اليونانية كانت عند ظهور المسيحية اللغة الرسمية الأولى(31) للدولة الرومانية شرقاً وغرباً، وكذلك بالنسبة للكنيسة الرومانية (الرومية) شرقاً وغرباً، وستصير اللغة الرسمية الوحيدة لها بعد القرن 6 في الشرق، الا ان هذا لايعني أنه لم تكن هناك لغات أخرى للشعوب الأخرى إن كان في حياتها العادية أو في عبادتها. فبالنسبة الى كنيسة أنطاكية مثلاً كانت اللغة الآرامية سائدة بين أغلب الشعوب الشرقية فيها، واللغة العربية منتشرة في بعض المناطق لا سيما الولاية الواقعة في جنوب سورية والمسماة العربية. وطبيعي أن يزداد هذا الانتشار بعد الاحتلال العربي الاسلامي، وان تصلنا كتابات مسيحية في اللغة العربية قي هذه الفترة، مثل كتابات ثيودورس ابو قرة أسقف حران السورية المتوفي سنة 825، لكنها لن تبدأ في أن تصبح اللغة العامة لشعوب انطاكية مدنياً وكنسياً الا في اوائل القرن 13.
وهكذا ليس صحيحاً أن تعتبر الكنيسة الرومية عامة والكنيسة الأنطاكية خاصةً، يونانيةً، ليس لأن ذلك لايتفق مع الواقع التاريخي فحسب، بل، وبالدرجة الاولى، لأنها تبدو وكأنها أصبحت واحدة من الكنائس الأخرى التي انفصلت عن الكنيسة الأولى الجامعة لسبب أو آخر، ثم اخذت صبغة قومية خاصةً ذات تاريخ كنسي مرتبط بهوية الشعب الذي تنتمي اليه، من وجهة نظر كنسية صرفة لايهم أبداً أن نؤكد انتماءنا الى عنصر معين مهما بلغت أهميته، وخاصة اذا اصبح هذا الانتماء مدعاة للافتخارأو الانتفاخ أو التحزب أو التعصب. يكفي أن كنيستنا جمعت أصلاً جميع الاجناس والفئات وانها تنتمي الى المسيح. وفي المسيح يسوع ” ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة، بربري واسكيثي، عبد وحر، بل المسيح الكل وفي الكل”.(32)
كذلك ليس صحيحاً أن تُسمى الكنيسة الرومية كنيسة بيزنطية، لأن هذه التسمية لاتتفق مع الواقع التاريخي، اذ لم توجد تاريخياً، كمااشرنا اعلاه، امبراطورية تسمى بيزنطية، وبالتالي لم توجد كنيسة بيزنطية بل رومية أو رومانية. وفي حال الموافقة على هذه التسمية فهذا معناه عملياً القبول بأن الكنائس الرومية الشرقية الأربع إما أنها تغيرت فصارت كنائس أخرى، ولهذا تسمى بيزنطية، او ان هذه الكنائس لم توجد أصلاً إلا عند بدء الامبراطورية البيزنطية، والتي يختلف مفترضو وجود هذه الامبراطورية كثراً حول زمن نشوئها. وفي كلتا الحالتين هناك قبول بأن يُزَّور التاريخ، وان توضع ظلال من الشك حول ارثوذكسية الكنيسة الرومية بسبب تغيرها، او حول رسوليتها وأصالتها بسبب وجودها بعد قرون عديدة من زمان الرسل. كما أنه من المهم أيضاً أن نضيف أن اصطلاح ” بيزنطي” كما فُهمَ عامة ولايزال يُفهم في ايامناهذه يميز كنيسة القسطنطينية وتراثها، ماقد يعني في حال قبوله، إلغاء مساهمة الكنائس الرومية والارثوذكسية الأخرى في هذا التراث وكأنها ليست موجودة.
ليس تعبير ” روم” و “رومي”، بالنسبة الينا تعبيرا سياسياً أو عنصرياً أو فئوياً،
إذ لا يعني انتماءً قومياً الى سكان رومية القديمة ولا الجديدة، ولا تأييداً لسياسة الامبراطورية الرومية أو لموقف أباطرتها، وخصوصا أن هؤلاء في غالبيتهم كانوا من المضطهدِين للكنيسة، إن كان في عهد وثنيتهم أو في عهد تبني بعض المسيحيين منهم هرطقات مختلفة، إنها تسمية تاريخية محضة، تكتسب أهميتها من كونها الدمغة التي تثبت انتماءنا الى الكنيسة الام، أي الكنيسة الاولى الجامعة التي بشرها رسل الرب يسوع مباشرة، وتكَّوَن من خلالها التراث المسيحي الأصيل الأول، متحملة عبر العصور المختلفة الأهوال والتجارب دون أن تغَّيّر في ايمانها وأمانتها لله. وقد دعيت حينها باسم الامبراطورية التي حملت رعويتها لقرون طولة، ولا تزال تدعى كذلك تمييزاً لها عن الكنائس التي تأسست فيما بعد خارجاً عنها، أو انفصلت عنها. وبالاجمال ، تعبير “رومي” بالنسبة للكنيسة الاولى هو تماماً كتعبير أنطاكي بالنسبة لكنيسة أنطاكية، فأنطاكية الرمز لم تعد منذ القرن 14 المدينة الاولى التي يقيم فيها بطريركها. ومع هذا مازلنا حتى اليوم نتسمى بها اشارة الى ان كنيستنا هي بالذات الاستمرارية التي لم تنقطع، ولم تتغير لكنيسة المدينة التي “دعي فيها التلاميذ مسيحيين أولاً”، وكان هامتا الرسل بطرس وبولس من اسسها قبل اي كرسي كنسي في العالم وكان بطرس اول بطاركتها…وأخيرا لعل ماذُكر أعلاه من عوامل تعكس لا فئوية كنيسة الروم الارثوذكس الأنطاكية، هي بالذات التي ساهمت في تشكل بعض الخصوصيات لهذه الكنيسة، ومنها اللاطائفية. فهذه الصفة، على سبيل المثال، صارت معروفة، يعرفها، حتى، الآخرون لا سيما اثناء الحرب الاهلية اللبنانية، على وصف الاب د. جورج عطية: “طائفة اللاطائفيين”، وذلك في معرض تصنيف الطوائف اللبنانية.
أية خصوصية؟
اولا: ليس لها اية بداية خاصة تميزها ككنيسة محدَثة أو مستقلة أو منفصلة لأي سبب كان عن الكنيسة الأولى الواحدة الجامعة الرسولية، بدايتها الوحيدة كانت تأسيس الرب يسوع إياها عبر تلاميذه المباشرين، إذ رَسم الرسلُ أنفُسهُمْ بطاركتها ومطارنة ابرشياتها بوضع اليد وبالتسلسل الرسولي الى يومنا هذا. لهذا فهي بالتأكيد الاستمرارية الفعلية غير المنقطعة لكنيسة انطاكية الرسولية والمبشرة الأولى للأمم الوثنية.
من هنا، فهي بحد ذاتها كرسي رسولي بامتياز وليس بسبب ارتباطها بكرسي آخر. وهذا ما اكده آباء المجمع المسكوني الثاني في رسالتهم الى كنيسة أنطاكية ولم يقولوه في رسائلهم الى أية كنيسة أخرى:” الى الكنيسة الرسولية فعلاً كنيسة انطاكية سورية الجزيلة الاحترام التي فيها أولاً استعمل الاسم المسيحي”.
ثانياً: لم تتأسس بارتباط مع قومية أو جنسية معينة، وبالتالي لم تكن كنيسة خاصة لشعب واحد، الأمر الذي أعطاها الى حد كبير ان تتخلص من تجربة الخلط بين طموحاتها القومية والمشابهة للدولة واهدافها الايمانية، بين السعي لتأمين مصالحها الدنيوية وعمل مشيئة المسيح، وأن لاتكون أسيرة بالكلية لشرك الطائفية الذي أُقحمت فيه مع الطوائف الأخرى، لاسيما منذ أيام العثمانيين وحتى يومنا هذه. وقد يكون لعدم تطابقها مع قومية أو بلد ما دور في مساعدتها على ان تتصرف بمحبة ومرونة أكثر تجاه الآخرين، وأن تصبح في فترات كثيرة عنصر تهدئة ومصالحة بين الكنائس والفئات المختلفة. عنها شهد القديس باسيليوس الكبير فقال إنها” أجدى نفعاً من كل كنائس المسكونة” لقد افتخرت كنيسة انطاكية بجنسيتها الأنطاكية السورية وضمت كل العناصر الاثنية تحت العقيدة الرومية الخلقيدونية الارثوذكسية.
ثالثاً: ما ذُكرَ أعلاه لايعني ابداً أنها تدعي أنَّ شعبها، وعلى رأسه رعاتها، بقي دائماً أميناً لله ولكنيسته. هي تعلم جيداً بأن هناك أمثلة عديدة وحتى عن بطاركة لها ومطارنة حُكِمَ عليهم في مجامع مسكونية ومحلية، وأن عدداً لا يحصى من ابنائها إكليريكيين كانوا ام علمانيين، وفي جميع أجيالها، قد رجعوا الى الوراء.
إنها تعلم جيداً بأن خطايا اعضائها البشريين عامة قد عظمت جداً، وانها لهذا السبب تأدبت كثيراً خلال مسيرتها على الارض، فتمرمرت كثيراً وتمحَّصت الى ان صارت بقيةً باقية مرذولة ومحتقرة في نظر الناس، ولم يبق لها ان تفتخر إلا بالربّ. المجد له، لأنه لم يسمح لها بأن تنتفخ بسبب رسوليتها أو كثرة أبرشياتها وأسقفياتها أو امتداد سلطتها أوعظمة إنجازاتها، فتعتز بنفسها أو تؤمن برأس آخر لها غير المسيح. له المجد، لأنه أعطاها أن لاتفقد هويتها الأصلية التي “ليست من هذا العالم” إذ لم تتمثّلْ بممالك هذا العالم وبمؤسساته، ولم تستعمل وسائله وطرقه لتفرض وجودها عليه طالبةً ماهو لذاتها، وليس ماهو للمسيح. له المجد، لأنه هو الذي ساند ابناءها أيام مِحَنِها وشدائدها وتجاربِها الهائلة فلم ينكروا المسيح. المجد له، لأنه هو الذي دعم أجدادنا أوقات ذلّهم وفقرهم وجهلهم فلم ينحازوا الى أقوياء هذا العالم ليتقووا بقوتهم وغناهم، بل فضلوا عار المسيح وفقره ، بالتالي بقيت مرجعيتهم داخل حدود كنيستهم وليس بارتباط كياني مع الخارج. المجد له، لأنه بفضل تأديباته القاسية، أبطل أفكار أهوائها المخادعة وحكمتها البشرية الباطلة، فلم تغير جوهرياً في ماتسلمت من بشارة واسرار الهية ومسيرة حياة تؤدي الى الخلاص. المجد له، لأنه ابقاها كنيسة مصلوبة مشيرة على من يريد بالرجوع الى الرب بتوبة وحمل الصليب وراء المصلوب عبر الطريق الضيق الكرب كي يحصل على القيامة والحياة. المجد له، لأنه احبها فوهبها هذه الخصوصية النادرة، وهي ان تبقى مضطهدة طوال أزمنة غربتها على الارض دون استثناء،” لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله”. المجد له، لأنه بعظمته الإلهية اللامتناهية، افتقدها في ضعفها البشري اللامتناهي اذ بقيت تنبض بالقداسة وبالقديسين من جميع المراتب والانواع: رسل أساقفة، كهنة معترفين، شهداء صانعي عجائب، ابرار، عديمي فضة الخ… وقد تألق قديسوها وشهداؤها لا في عهد الامبراطورية الرومية فحسب، وانما في كل العهود الأخرى مثل عهود الأمويين والعباسيين والحمدانيين والفرنجة والمماليك والعثمانيين والى أيامنا هذه.
المجد له، لأنه وحتى في الازمنة التي وصلت فيها الى أدنى دركات كربها وعوزها وانحطاطها، مثل القرن19، اعطت سحابة من الشهداء، والشهود للمسيح كالقديس الشهيد يوسف الدمشقي. المجد له، لأنه، في منتصف قرننا هذا، وحيث بدا لجميع الذين تآمروا عليها انها اقتربت من حدود التلاشي والموت، أعطاها أن تنفض عنها غبار الانحطاط والجمود لتنطلق في آفاق نهضة جديدة حية.
رابعاً: كلّ هذا يؤكد أنها وعت على الدوام، في ضمير قديسيها، أن الهدف الأهم هو ملكوت الله، وأن دعوتها المثلى هي القداسة والتأله، وانها بالنتيجة كنيسة”غرباء ونزلاء على الأرض …يبتغون وطناً أفضل سماوياً”(34). وقد تجلت هذه الخصوصية، أي محبة الله من كل القلب والفكروالنفس، في جميع أجيالها، وخاصة في ثلثيها الأول والثاني حين كان الكثيرون يتخلَّون بفرح عن كل شيء ويتبعون يسوع. وقد بقيت الى الآن آثار من هذه المحبة تنطق بها في كل مكان آثار من حجرٍ محدِّثة أن مناطق بأكملها، كما في شمال سورية، كانت عامرة بمحبي الصلاة الملتهبين للقاء الرب. وقد دفعت هذه الحبة بعض الرهبان، لاسيما النساك منهم الى ابتكار طرق جديدة في النسك لم تكن معروفة من قبل، مثل طريقة العموديين، وأهل العراء، والذين لاينامون، والمتبالهين حباً بالمسيح.
خامساً: هذا لايعني أن الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية، لم تطع أيضاً عبر تاريخها الطويل وصية الله المتعلقة بمحبة القريب، والمكملة للخصوصية الأولى أي محبة الله. لأنه لايمكن لأي محب حقيقي لله أن لايكون محبّاً للقريب. لذلك وحتى الذين تكرسوا لمحبة الله في البراري والجبال والمغاور وشقوق الأرض”كانت محبتهم للقريب كنفسهم واكثر. وقد ظهرت هذه المحبة التي لاتطلب ما لذاتها من خلال ضيافتهم للغرباء، وتلبية الاحتياجات المختلفة للذين يقصدونهم وخاصة الروحية منها، وصلاتهم الدؤوبة من اجلهم ومن اجل جميع الناس. اما الذين احبوا الله وعاشوا في وسط العالم، فقد وعى كثيرون منهم مثال السيد في أنه أتى “ليخدُم، لا ليُخدَمْ”، لذلك تقدسوا عن طريق تكرسهم للبشارة أو الرعاية أو للتعليم أو لاغاثة المعوزين أو المحزونين أو لتحرير العبيد أو لخدمة المعاقين أو الايتام أو الغرباء أو المنقطعين أو البرص أو المرضى، كما فعل، على سبيل المثال، الأطباء الملقبون بعديمي الفضة صائرين نوراً للعالم وملحاً للأرض. وعلى الرغم من أنهم توخَّوا في خدمة محبتهم أن لا يميزوا بين دين أو جنسية، وان تكون بالكلية في الخفاء، الا ان فضائلهم لايمكن ان تخفى، لذلك شعَّتْ، لاسيما أيام المجاعات والكوارث كما حدث مع القديس باسيليوس الكبير(35) او البطريرك غريغوريوس الرابع.(36)
سادساً: لم يقتصر تأثير كنيسة أنطاكية على محيطها وعلى الذين كانت لها علاقة مباشرة معهم مثل بلاد الكرج، وفيما بعد بلاد أبرشيات المهاجر التي تبعت لها مثل أميركا الشمالية والجنوبية واستراليا، بل امتد هذا التأثير بقوة الى كل أنحاء العالم مثل أرمينيا وفارس والهند والصين، والى اوربة خصوصاً كرومية ورافينا وليون والبرتغال الخ… وقد حصل هذا التأثير عن طريق ارتحال أبنائها للتجارة أو الهجرة لأسباب مختلفة، وخاصة ايام الضيق والاضطهادات، أو زيارة الآخرين لكنيسة أنطاكية،ولا سيما أديرتها ورهبانها المشهورين. وقد كان عدد الذين استوطنوا في الأقطار الاوربية كبيراً لدرجة أنه كان يُنتخبْ منهم أساقفة.
فمن أنطاكية كان أساقفة رافينا مابين 396-425، ومنها اسقف باريس سنة 596، ومنها انتخب ثمانية باباوات على رومية في القرنين السابع والثامن، ومنها القديس ثيودوروس الطرسوسي رئيس اساقفة كنتربري موحِّد الكنيسة الانكليزية ومنظمها (+690). وعلى العموم يمكننا القول مع المؤرخ الفرنسي Brehier إن التأثير الأنطاكي “قد تغلغل في الحياة الغربية في كل المناطق، تغلغل الى الفن والحياة الاقتصادية والحياة الدينية وتكريم القديسين وبقاياهم. هذا التأثير كان يوجد في كل مكان” (37)
سابعاً: بالاجمال تميّز أبناء الكنيسة الكنيسة الأنطاكية عموماً باحترامهم قوانين بلدانهم، ومشاركتهم في خدمة أوطانهم وأماكن إقامتهم، والعمل لخير الجميع بفاعلية وأمانة، والتعاون معهم بوداعة وإلفة. وقد يكون لمناخ الحرية السائد في ايمان كنيستهم ونهج حياتها تأثير كبير على نوعية شخصيتهم وحتى على غير الممارسين منهم، ما جعلهم عامة، وان كانوا غير محبين للخصام والعنف، متحررين من عقد الخوف والتسلط، مبادرين سباقين، مبدعين في مجالات العمل السياسي والعلمي والفني والاجتماعي.
حواشي البحث
- كتاب تاريخ كنيسة أنطاكية للروم الأرثوذكس: اية خصوصية؟ منشورات جامعة البلمند 1999
- لو 1:1
- أع22: 25-29
- كول:11:3
- غل 28:3
- انظر مثلاً القانون الثالث من المجمع المسكوني الثاني، والقاون 28 من المجمع المسكوني الرابع.
- نعني بها بلدات معلولا وبعض البلدات المجاورة كبخعا وعين التينة ويبرود…
- من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، القديسان مكسيموس المعترف وبابا رومية مرتينوس.
- يعني فعل “يهلن”: يجعله هيلينياً أي يونانياً أو بالأحرى يصبغه بالحضارة اليونانية.
- كانت هذه المملكة تشتمل في البداية على سورية وعلى كل ممتلكات امبراطورية الفرس القديمة في آسيا التي احتلها الاسكندر الكبير أي على آسية الصغرى والعجم وبابل وآشور ومادي في بحر قزويين وتركستان وافغانستان الخ…
- منهم الدكتور اسد رستم بكتابه العظيم تاريخ انطاكية مثلاً. ج1، ص16.
- لقد اهتدت بلاد الكرج الى المسيحية في بداية القرن الرابع، واستمرت عادة رسامة رئيس اساقفتها “الكاثوليكوس” بيد بطريرك انطاكية الى منتصف القرن الثامن، لكن التأثير عليها استمر على الأقل الى القرن 13، وفي الواقع تشير مذكرات الارشيدياكون بولس ابن البطريرك مكاريوس ابن الزعيم ان اباه قام بعقاب وتجريد بعض الكهنة الكرجيين نتيجة ماشاهده من مخالفات رعوية واجتماعية كانوا يرتكبونها بحق الرعية كالبيع الى الاتراك او تجار النخاسة او المخالفات الطقوسية الارثوذكسية اي يعني هذا مابعد منتصف القرن 17.
- ثُبت استقلال كنيسة قبرص عن كنيسة انطاكية بقرار المجمع المسكوني الثالث (أفسس 431)
- ثبت المجمع المسكوني الرابع (خلقيدونية 451) استقلال كنيسة اورشليم عن كنيسة انطاكية.
- اعمال الرسل(19:11)
- أعمال الرسل(11: 20-21)
- لعل سبب اختيار برنابا لهذه مهمة، أنه بالاضافة الى كونه صالحا وممتلأ من الروح القدس والايمان (أع4: 36)ولذلك كان يمكنه ان ينظردون تحفظ الى قبول الوثنيين في المسيحية.
- اعمال الرسل (11: 23-24)
- اعمال الرسل(25:11-26)
- اعمال الرسل(1:13-3)
- اعمال الرسل (14: 27)
- أعمال الرسل36:15 الى 22:18
- اعمال الرسل18 : 23 الى31:28
- غلا 2: 11
- نسبة الى اسمها في اليونانية Rwvmh (Romy)
- نسبة الى اسمها في اللغة اللاتينية Roma
- كمثال على هذه التغييرات التي حصلت، تأسيس العاصمة الجديدة، او تحول ديانة الامبراطورية الى مسيحية، أو في مابعد استيلاء القبائل الجرمانية على القسم الغربي من الامبراطورية، او انفصال الكنائس غير الخلقيدونية، او وقوع البطريركيات الشرقية تحت الاحتلال الاسلامي، او سيطرة اللغة اليونانية وازدياد التأثير الهلنستي ( اليوناني الشرقي).
- في القرأن سورة اسمها الروم مطلعها :”ألم/ غُلبت الروم في ادنى الارض وهم من بعد غلبهم سَيَغْلِبُون” ( سورة الروم 2و3)
- هناك كتاب مترجم عن اليونانية الى اللاتينية عنوانه: Nicephori Gregorae, Romanae, hocest Byzantinae Historiae صدر في مدينة بازل سنة 1562 وفيه تظهر وقد يكون لأول مرة في التاريخ صفة بيزنطي كمرادفة لصفة رومي.
- في اوراقنا البطريركية والمطرانية الرسمية مثلا تترجم كلمة روم عادة بكلمة (Greek او Grec)
- اللغة الثانية هي اللاتينية.
- كولسي11:3
- من رسالته الى اثناسيوس الكبير، طبعة مين، آباء يونان32، ص 425
- عبر11: 13:16
- أبرشية القديس باسيليوس، قيصرية كبادوكية، وكانت تابعة حينها للكرسي الانطاكي وعامرة وهي اليوم من المناطق الانطاكية الشهيدة بيد الاتراك.
- غريغوريوس الرابع (حداد) ابن عبيه بجبل لبنان، بطريرك انطاكية وسائر المشرق منذ 1906 الى 1928، الموصوف ب (بطريرك الرحمة واطعام الجياع وبطريرك الوطن…)
- L Eglise de Lorien t au Moyrn Age. p.10 ,Brehuer لدى خريسوستموس بابا دوبولس، المرجع نفسه، ص428.
اترك تعليقاً