رحّالة يهودي في الساحل السوري... "الحشاشون مرعبون والدروز إباحيون والنصيريون غائبون"!

رحّالة يهودي في الساحل السوري… “الحشاشون مرعبون والدروز إباحيون والنصيريون غائبون”!

رحّالة يهودي في الساحل السوري… “الحشاشون مرعبون والدروز إباحيون والنصيريون غائبون”!

رحلة بنيامين التطيلي، من جملة رحلات قليلة قام بها يهود ومسيحيون من الغرب نحو الشرق، وشكّلت ذخيرةً معرفيةً جيدةً لفهم العلاقات الدولية والإنسانية، والجغرافيا والحضارات. والتصنيف الديني هنا يأتي من طبيعة المراحل الزمنية للرحلات تلك، التي كان الدين فيها علامةً تعريفيةً واضحةً للبشر، من الأزياء إلى طقوس العبادات.

لا تأخذ الرحلة أهميتها من كون كاتبها يهودياً فحسب، وله رتبة “الرابي” الدينية، أي “الحَبْر”، وهي من ألفاظ “السفارديم” وكانت تُطلَق على أعضاء السنهدرين (القضاة)، بل من كونه تاجراً ومثقفاً ومهتماً أيضاً، برغم أن المعلومات المتوافرة عنه هي من صناعة كاتب مقدمة كتابه، وهو شخص مجهول الهوية ربما كان معاصراً له، ولكنها قليلة.

من هو بنيامين التطيلي؟

جاء في المقدمة أنه “الرابي بنيامين بن الرابي يونة النباري”. وُلد في مدينة تطيلة وإليها يُنسب، وأنه “جاب المدن البعيدة وسجّل ما شاهده عياناً في الأمصار التي مر بها أو ما نقله عن الثقات ذوي الأمانة المعروفين لدى يهود إسبانيا”، وفي الأخير “أنه دوّن هذا الكتاب عند أوبته إلى قشتالة سنة 4933 للخليقة” (569هـ-1173م)، وفي الرواية أنه توفي في السنة نفسها. ويقول صاحب المقدمة إنه “كان من الثقات العارفين بالتوراة والشرع، والتدقيق والتمحيص قد أيّدا ما رواه في رحلته”. أما مؤرخو القرون التالية، فيكتفون بتسميته بنيامين صاحب الرحلة.

بدأ بنيامين رحلته في حدود سنة 1165م، الموافقة لسنة 561هـ أو قرابة سنة 4926 من بدء الخليقة حسب التقويم العبري، “وهدفه كان زيارة العالم الإسلامي زيارة تعرّف ومعرفة باعتبار العالم الإسلامي كان ملجأ وملاذ يهود شبه جزيرة أيبيريا الذين كانوا يشهدون أيّاماً سوداء في كل منطقة ينتهي فيها الحكم الإسلامي” (من مقدمة الكتاب، طبعة المجمع الثقافي، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2002م).

جاءت رحلة بنيامين إلى الشرق، بعد ستين عاماً على بدء الحروب الصليبية على العالم الإسلامي، ومن الغريب أنّ رحلته انطلقت شمالاً عبر جنوب أوروبا ووسطها ثم أنطاكيا والساحل السوري حتى فلسطين، ومنها إلى الشام والعراق فإيران والشرق الأقصى، كما شملت جزءاً من إفريقيا ومصر حسب ادّعائه، بعكس رحلات أخرى اعتمدت مراكش منطلقاً لها، علماً بأن الأوضاع السياسية جنوباً لم تكن بمثل خطورتها شمالاً، ولا يحكي التطيلي عن أسباب خياره هذا.

لم يكن بنيامين تاجراً عادياً، فقد كان يجمع إلى تجارته معارف في التوراة والتلمود واللغات. خرج من بلدته بدافع الاطلاع الشخصي، ويتضح من كتاباته أنه كان عارفاً بأحوال هذا المشرق وممالكه ومدنه، كما نستشفّ أنه كان يتقن العربية بدلالة قلة تحريفه وتصحيفه لأسماء المدن والبلدات.

لا يعطي بنيامين رحلته اسماً، ويكتفي كاتب مقدمته باسم “رحلة بنيامين التطيلي”، وقد كتبها في الثلث الثالث من القرن الثاني عشر الميلادي. ووفق عبد الرحمن الشيخ، دارس الرحلة ومدققها، فإنّه “لم يلبث صيتها أن ذاع وحديثها أن انتشر. فتناولتها أيدي النسّاخ في مختلف الأقطار قبل انتشار الطباعة، وأخذ عنها جميع المؤرخين وأصحاب الحوليات واليوميات وكتّاب الأنساب من اليهود منذ القرن الثالث عشر”. وما كادت الطباعة تظهر في أوروبا، حتى كانت في طليعة الكتب المطبوعة، فصدرت أول طبعة عبرية منها في القسطنطينية سنة 1543م.

ترجم الرحلة من العبرية إلى العربية، عزرا حداد، ولكنه تصرّف في الترجمة بما يلائم أهواء جمهوره المسلم، ويتأكد هذا الزعم من خلال مقارنة الترجمة الإنكليزية بالترجمة العربية، كما أنه يقدّم إضافات لم يقُلها التطيلي، الذي كان عارفاً إلى حد كبير بطبيعة المجتمعات المسلمة، ولا يذكر حدّاد تاريخ قيامه بالترجمة.

يهودي غربي في بلاد الشام

يتقصّى التطيلي في رحلته أعداد اليهود وأبرز عائلاتهم وأشغالهم في كل مدينة أو قرية يمرّ بها، وعلاقاتهم مع محيطهم، إذ يذكر أرباب العائلات فحسب وليس أفراد كل عائلة، وهو بذلك يقدّم تشريحاً مختصراً للمجتمعات اليهودية في تلك المواضع وهو ما لم يتوفر لغيره، ولكنه ينسى أحياناً مواضع ومدناً مهمةً، ولعل ذلك عائد إلى أنه كتب رحلته من الذاكرة، وليس عياناً، وقد عرّضه هذا الأمر للخطأ والسهو. ويمر أحياناً على ذكر بعض الفئات الأخرى دون تقصٍّ، وينقل بأمانة “كما وردني أو قيل لي”، وهذا يعني أنه لم يختلط بغير المجتمعات اليهودية في رحلته تلك.

دخل التطيلي الساحل السوري عبر أنطاكيا Antiochia الواقعة على ضفاف نهر “فور” (العاصي)، “وهي بلدة كبيرة بناها الملك أنطيوخس على سفح جبل شاهق يشرف عليها من كل صوب، يحيط بها سور متين. وبظاهر المدينة أعلى الجبل نبع يوزّع ماءه رجل موكل به، فيمر في مجارٍ تحت الأرض ويصل إلى بيوت الخاصة. أما الجانب الثاني من البلد فيستدير به النهر. وموقع المدينة منيع جداً. يحكمها الأمير بهمند بوتافين الملقب بـ”بوبة” (بهمند الثالث الملقب بالألكن، المعروف في التاريخ باسمBeomond Poitou)، وفيها عشرة يهود يحترفون صنع الزجاج، منهم الرّابيون مردخاي وحاييم وإسماعيل” (ص230).

في أزمنة قديمة، كانت أنطاكيا مركزاً لتجمّع اليهود، حيث يذكر المؤرخ اليهودي الروماني يوسف فلافيوس، أنّهم “تجمعوا بكثرة بشكل خاص في أنطاكيا، ربما بسبب عظمة تلك المدينة، ولكن بشكل رئيسي لأن خلفاء الملك أنطيوخس [إبيفانيوس، 175-164 ق.م] مكّنوهم من العيش هناك بأمان”، إذ مُنحت حقوق المواطنة المساوية لحقوق اليونانيين لجميع السكان من قبل مؤسس المدينة، سلوقس الأول نيكاتور، مؤسس مدينة اللاذقية أيضاً. ويذكر جوزيف فلافيوس، أن عدد سكان أنطاكيا من اليهود وقتها (القرن الثاني قبل الميلاد)، كان عشرة آلاف نفس ولكن الرومان ذبحوهم مع اندلاع الحرب اليهودية الرومانية على حد زعمه.

عند دخول الصليبيين أنطاكيا، ذبحوا المسلمين واليهود والمسيحيين من غير الفرنجة، وتركوا فقط من لهم مصلحة في بقائهم، ولذلك نرى عدداً قليلاً من العائلات اليهودية فيها، ولا يذكر التطيلي شيئاً عن المسلمين أو المسيحيين هناك.

اليهود في اللاذقية

يكمل التطيلي: “على مسيرة يومين من أنطاكيا، تقع الليكة Licha، أو اللاذقية، وفيها نحو 200 يهودي، على رأسهم الرابيان حية ويوسف”. ويكتفي التطيلي بهذين السطرين عن المدينة. ولدى مراجعة نسخة مشروع غوتنبرغ ونسخة ثالثة، فإن العدد هو مئة وليس مئتين كما ورد في ترجمة حداد، ويتكرر هذا الخلط في الأرقام مرات عدة بهدف زيادة أعدادهم على ما يبدو.

تاريخياً، ووفق  يوسف فلافيوس Flavius Josephus، سكن اليهود اللاذقية منذ القرن الثاني قبل الميلاد، عندما “أمر زركسيس الفارسي عزرا بتعيين قضاة يهود ليحكموا في كل سوريا وفينيقيا”  ( فلافيوس 11 : 129 )، واللاذقية كانت في فينيقيا، ويُتوقَّع وجود اليهود فيها طالما كانوا في أنطاكيا القريبة منها.

حتى اليوم، هناك في اللاذقية حيّ يحمل اسم “زاروبة اليهود”، موقعه حي الكاملية، وتحديداً غرب ساحة البازار، قرب ساحة البلدية اليوم، وأزيل معظمه عند شقّ شارع القدس وتوسيعه، وبقي منه بعض الأزقة الصغيرة غرب مدرسة الأرض المقدسة، وفق الباحث السوري مضر كنعان.

وجود حاخامين اثنين لمئة يهودي قد يكون مؤشراً على انقسام في الطائفة أو انتشارين متباعدين لها، إذا أخذنا في الحسبان أنهم يعيشون في حارات قريبة أو حارة واحدة غير مغلقة، وهو ما يمكن تأكيده من خلال وجود موقع “اليهودية” على بعد كيلومتر واحد من مدينة اللاذقية القديمة، وهو موقع عرّبت السلطات اسمه إلى “اليعربية” عام 1957، ولليوم يستخدم السكان اسم اليهودية للدلالة على المكان، وبذلك يكون كل حاخام منهما يدير شؤون مجموعة منهم؛ تلك التي تسكن المدينة، والأخرى التي بجوارها.

ما يمكن أن يكون تأكيداً ثانياً لهذا المقترح أن “كان لهؤلاء اليهود في اللاذقية كنيسان، أحدهما باسم إيليا، والآخر باسم عزرا، وكانا موصوفَين بالجمال. ولا ندري عن موقع أو مصير هذين الكنيسين شيئاً”، وفقاً للباحث كنعان الذي ينقل عن “رحلة الحاخام يعقوب إلى اللاذقية عام 1240م”، أي بعد ثلثَي قرن على رحلة التطيلي (1165-1173م).

في كتابه “الأبنية والأماكن الأثرية في اللاذقية”، يذكر هاشم عثمان أن “مسجد الضحى في حي الأشرفية لا يُعرف تاريخه على وجه اليقين، ويتناقل كبار من أهل اللاذقية القول إنه ‘حابورة’ (كنيس) لليهود، ثم تحول مع الزمن والأيام إلى كنيسة ثم أُطلق عليه مسجد محلة ‘الشحادين’، ويطلَق عليه مسجد القبة لوجود قبة حجرية لها اثنتا عشرة نافذةً، ويقال عن عدد النوافذ إنها بعدد أسباط بني إسرائيل، ولعل هذا البناء أشار إليه ابن بطلان بقوله إنه بيت كان للأصنام واليوم كنيسة، وكان في أول الإسلام مسجداً”.

في وثائق الأرشيف العثماني المنشورة حديثاً، والتي تبدأ من العام 1517، يرد ذكر بعض الأحياء والأسماء اليهودية في مدينة اللاذقية، ومنها محلة “اليهود” (حجة وقف جامع الجديد 1139هـ/ 1727م)، كما نقل الباحث كنعان، كما وُجد ضمن حمام “القيشاني” في حي الصليبة، مكان مخصص لليهود يُعرف بـ”مغطس اليهود” (حجة وقف الحاج مصطفى فرحات 1210هـ/ 1795م)، وقد أزيل الحمّام عند شقّ شارع الإسكان العسكري. ذُكرت في الحجج الوقفية الإسلامية “دار يوسف شويخا في محلة البازار”، و”أرض اليهودي في بسنادا”، و”بستان اليهودي في اللاذقية”، كما أنّ يهوداً في المدينة اعتنقوا المسيحية في عهد المطران “أرثاميوس” في العامين 1853م و1862م (أوراق معمودية في مطرانية الروم الأرثوذكس)، ويكمل الباحث كنعان: “في عهد الانتداب الفرنسي وُجدت عدة عائلات يهودية في مدينتنا” (رحلة جرجس الخوري المقدسي، زار اللاذقية عام 1926م).

الحشاشون في جبال جبلة

من اللاذقية يتابع التطيلي: “على بعد يومين تقع جبلة Gebilee، وهي ‘بعل جاد’ الواردة في التوراة في سفوح جبل لبنان”، ويخطئ التطيلي في ربط جبلة بمدن التوراة، ويكمل: “وبظاهرها تقيم الطائفة المعروفة بالحشيشين. وهم زنادقة لا يؤمنون بدين محمد. ويتّبعون تعاليم شيخهم ‘قرمط’، يطيعونه طاعةً مطلقةً للموت أو للحياة. يأتمر بأمره سكان الجبل ويسمونه ‘شيخ الحشيشين’، أما مقامه فحصن يُدعى القدموس أي ‘قدموث’ الواردة في التوراة من أملاك سيحون. وهؤلاء الحشيشون متضامنون مع بعضهم إذعاناً لتعاليم شيخهم حتى إنهم ليضحون بالنفس طوعاً ويفتكون بالملوك والأمراء إذا اقتضى. ومسيرة أراضيهم ثمانية أيام”.

إذا كان التطيلي عبَر المنطقة في توقيت زمني يقع بين 1165 و1173م، فإنّ جبلة الواقعة عند سفح جبال الأنصارية، ويسميها بنيامين “الجبل الرئيسي”، كانت مسيحيةً تحت إمرة الصليبي “تنكرد” الذي احتلها من فخر الملك بن عمار، دون وجود يهود فيها بعد أن كانت في العصور الوسطى مقراً للأسقفية المسيحية المحلية.

وعلى ما يظهر فإن كلمة “الحشاشين” التي ابتدعها الفرنجة عنهم، كانت قد عُممت في أوروبا بعد نصف قرن فقط على الحرب الصليبية الأولى، وباتت كنايةً عن كل الإسماعيليين الذين ينتسب الحشاشون إليهم، كما أن ترجمة عزرا حداد العربية فيها تحريف واضح، ومضافة إليها كلمات لم يقلها التطيلي، ففي الصفحة 27 من النص الإنكليزي لا يقول التطيلي إنهم “زنادقة”، ولا يذكر أبداً كلمة “قرمط”، ويقول بالحرف:

They do not believe in the religion of Islam, but follow one of their own folk, whom they regard as their prophet…

وترجمتها: إنهم لا يؤمنون بدين الإسلام، ولكنهم يتبعون أحد زعماء قومهم ويعدّونه بمنزلة نبيّهم… إلخ.

ويبدو أنّ التطيلي يكرر مقولات نقلاً عن مرويات سماعية من المنطقة أو من قراءته رحلة ماركو بولو التي كانت وقتها منتشرةً في الغرب، مضيفاً أن ما يسيطرون عليه من أراضٍ يمتد لمسافة ثمانية أيام على مقاييس تلك الأيام، أي ما يقرب من ستين كيلومتراً بمقاييس أيامنا، وهذا يوصلنا إلى مقر الدعوة في مصياف السورية.

يخلط المترجم حداد بين القرامطة ومقامهم في البحرين، وهم من الإسماعيلية أيضاً، والإسماعيليين في سوريا، ويخلط بين “حمدان الأشعث المسّمى قرمط” وبين مؤسس فرقة الحشاشين “الحسن الصبّاح” المتوفى عام 1124م، أي قبل ربع قرن من زيارة التطيلي. ثم يعود بنيامين للإشارة إلى الحشاشين مرةً أخرى (ص 54)، وسكنهم في بلاد فارس في منطقة الملاهيد الجبلية، تحت سيطرة شيخ الجبل الثالث، سنان راشد الدين، الذي تسلم قيادة الحشاشين عام 1162م، حتى وفاته عام 1193م.

ما حدا بالتطيلي إلى القول إنهم يأتمرون بأمر شيخ الحشاشين، هو أنهم كانوا قبل فترة وجيزة من الرحلة قد قتلوا ريموند الثاني، كونت طرابلس عام 1152م، ولهذا أكمل التطيلي عباراته بأن “الحشاشين في نزاع مستمر مع النصارى من الإفرنج وأمير طرابلس”. وهنا أيضاً خلط المترجم الأسماء قائلاً: “إنّ الحشاشين يتصارعون مع النصارى من الإفرنج”، والكلام الأصلي للتطيلي هو أبناء آدوم الذين يُدعون اﻹفرنج sons of Edom who are called the Franks وهم حسب التفسير التوراتي أبناء مملكة آدوم جنوب فلسطين، وهم من العرب البدو وليس الفرنجة، وعلى الأرجح ليسوا نصارى.

الملاحظة الثالثة، أنّ التطيلي لم يتحدث عن وجود نصيري (علوي) ضمن سكّان تلك المنطقة من غير الحشاشين (النزارية)، وهذا يحتمل وجهَين: الأول أنّهم لم يكونوا فاعلين على مسرح الأحداث في تلك الحقبة، ويعيشون في الجبال منقطعين عن المحيط، أو أنّ معلومات التطيلي عن المنطقة هي معلومات نمطية مأخوذة من مصادر غربية أعطت جماعة الحشاشين مرتبتها المعروفة نظراً إلى دورها الكبير في الحروب الصليبية، في حين أنّ ما لدينا من معلومات عن النصيرية ودورها آنذاك ضعيف جداً ومتناثر، وعند العودة إلى وليم الصوري، مؤرخ الحقبة الصليبية في الحقبة نفسها، فإنه لا يذكر أن في الجبال نصيرية بل يقول إنهم قوم من الباطنية، وهو يقصد على الأغلب الإسماعيلية.

الدروز بعين الرحّالة اليهودي

يتجاهل التطيلي المدن التالية لجبلة، فلا يذكر بانياس (فالانيا)، ولا طرطوس (أنترادوس)، ولا أرواد (أرادوس)، ويكتب: “وقد أصاب طرابلس قبل مدة وجيزة زلزال شديد (عام 1159م)، أدى إلى هلاك خلق كبير من اليهود وغيرهم، انهارت عليهم الدور والحيطان فطمرتهم”، قضى فيه أكثر من عشرين ألف قتيل، وربما يظن القارئ أنّ ذلك عائد إلى كون الزلزال الذي ضربها قبل عشرة أعوام من رحلته لم يبقِ منها أثراً، ولكنّ الوثائق الأخرى خارج رحلة التطيلي، تتحدث عن وجود يهودي في طرابلس في تلك الحقبة ولكن للطائفة السامرية التي لا يعترف التطيلي بأنها يهودية.

يسجل بنيامين وجود 150 يهودياً في جبيل (بيبلوس)، التي كانت تحت إمرة أمراء جنوى الإيطاليين، وفي بيروت وجود خمسين يهودياً، وفي صيدا وجود عشرين، وفي صور العدد الأكبر 500 يهودي ومنهم تجار وعلماء تلمود، ويلفت التطيلي إلى وجود الدروز ويكتب عنهم كما يلي في ترجمة حداد:

“على بعد عشرة أميال من صيدا، تقيم طائفة الدروز، وهم في خصام مستمر مع أهل صيدا. وهؤلاء لا دين يُعرف لهم. يعتصمون فوق قمم الجبال وشعاب الصخور ولا يمتّون بطاعة لملك أو أمير. ومضاربهم على بعد ثلاثة أيام من جبل حرمون. وهم إباحيون. ينكح الرجل منهم ابنته. ولهم عيد يحتفلون به مرةً في العام. يجتمعون به في صعيد واحد، يأكلون ويشربون، فيستبيح بعضهم نساء بعض. ومن عقائدهم السقيمة أن الروح الزكية إذا فارقت الجسم عند الوفاة، حلّت في جسم طفل آدمي يولد في تلك اللحظة، أما الروح الشريرة فتحلّ في جسم كلب أو حمار وما شاكل. ولا يوجد بينهم من اليهود سوى بعض أرباب الحرف والصبّاغين، يقيمون عندهم ردحاً ثم يعودون إلى أهلهم. ومعاملة هؤلاء لليهود حسنة، وهم يتسلقون الجبال بخفة غريبة، يعتصمون بها، فلا يقدر أحد على مناجزتهم”.

هنا أيضاً يقدّم التطيلي صورةً كانت منتشرةً في تلك الحقبة بين الغربيين والشرقيين عن الدروز وغيرهم من المجموعات الدينية المسمّاة “باطنية”، وتكاد هذه الصورة تتطابق إذ يمكن نقلها لتشمل النصيريين مثلاً -كما سيرد في فتوى لابن تيمية بعد نحو مئة وخمسين عاماً من رحلة التطيلي- وتتكرر هذه الكتابات في التواريخ العربية كذلك. وإذ يقول مترجم النص العربي إنهم “لا دين لهم” وإنهم “إباحيون”، فإنّ مترجم النص الإنكليزي يقول إنهم “وثنيون خارجون عن القانون” و”غارقون في الرذيلة”، أما بقية الاتهامات فهي من التخاريف المعروفة التي تتضمن إهانات مباشرةً وتشويهاً هائلاً لفرط التبسيط ما عدا مروره على فكرة التقمص التي يتشاركها الباطنيون.

السامريون في فلسطين

مع وصوله إلى فلسطين، نلاحظ أن أعداد اليهود هي في حدّها الأدنى، إذ لم يسمح الصليبيون لليهود بالاستيطان في مناطقها، في حين سمح لهم بذلك المسلمون وصولاً إلى صلاح الدين الأيوبي (حكم من 1174م إلى 1193م)، وهو ما سيغيّر من أعداد اليهود في رحلات الرحالة اللاحقين..

أكبر تجمّع يهودي لا يعترف به التطيلي، ولا ينظر إليه بودّ، يقع في مدينة نابلس: “وفي جبل جزريم وجبل عيبال حوالي ألف كوثيم يحفظون شريعة موسى المكتوبة وحدهم، ويُطلَق عليهم السامريون. لديهم كهنة من نسل ‘هرون’، ويسمونهم هارونيم، الذين لا يتزاوجون مع كوثيم، بل يتزوجون في ما بينهم فقط. وهؤلاء الكهنة يذبحون الذبائح ويصعدون المحرقات إلى جبل جرزيم، كما هو مكتوب في شريعتهم: ‘وتضع البركة على جبل جرزيم’، ويقولون إنهم ينحدرون من سبط أفرايم. وفي وسطهم قبر يوسف بن يعقوب أبينا. أبجديتهم تفتقر إلى ثلاثة أحرف، والتي يمكننا بها القول إنهم ليسوا من نسل إسرائيل مع أنهم يعرفون شريعة موسى باستثناء هذه الحروف الثلاثة. يحفظون أنفسهم من دنس الموتى وعظام القتلى والقبور. وينزعون ثيابهم التي لبسوها قبل أن يذهبوا إلى مكان العبادة، ويستحمّون ويلبسون ثياباً جديدةً. هذه هي ممارستهم المستمرة”. وكلام التطيلي عن السامريين يشير إلى نظرة دونية إليهم وإلى عدم تعاطفه معهم، وحتى اختلاق الأكاذيب، وفي القدس هناك مئتا يهودي فقط.

أخيراً

من قراءة رحلة التطيلي، ندرك أنّ توزّع الاستيطان اليهودي في سوريا لم يكن قائماً على فكرة الغيتو، أي العزل الذي فرضته أوروبا على مجتمعاتهم، فهذه الأقليات الصغيرة انتشرت في المدن ولكنّ الاعتبارات اليهودية الداخلية -المتعلقة بالأمن والفرص الاقتصادية والمتطلبات الاجتماعية والدينية- هي التي حدّدت الطابع الحضري المديني وفرضت عليهم الاجتماع في أحياء متقاربة، وعبر تاريخ المنطقة لم يُمنع اليهود من الاستيطان في أي منطقة حضرية، في حين غاب ذلك عن المناطق الريفية لأنها كانت أكثر عرضةً للهجوم من قبل اللصوص. ويضاف إلى هذا الحظر الإسلامي على ملكية اليهود للأراضي. ولا نجد في سوريا مستوطنات معزولةً لعائلات يهودية، أو حتى مجموعات صغيرة لا يمكنها توفير النصاب القانوني (للصلاة أو الاجتماع)، داخل بيئة غير يهودية.

سعى اليهود السوريون غالباً إلى العيش في بيئة يهودية داعمة مع مجموعة كاملة من الخدمات المجتمعية، مثل نصاب الصلاة (منيان)، والحمام الطقسي، وطعام الكوشير، والتلمود/ التوراة (المدرسة)، والمقبرة، ومع ذلك، كانت هناك مجتمعات صغيرة الحجم في البلدات المحيطة بحلب ودمشق، واعتمدت هذه المجتمعات في معظمها على المجتمعات الأمّ لتلبية احتياجاتها ولاتخاذ القرارات بشأن المسائل الدينية والقيادة الروحية، وتوفير الموظفين اليهود.

كمال شاهين / رصيف 22

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *