الجامعة اليسوعية

عصر النهضة (1831 – 1876)، العروبة وتأثير الغرب التبشيري

عصر النهضة (1831 – 1876)، العروبة وتأثير الغرب التبشيري

التتبشير الغربي البابوي والبروتستنتي في المشرق

وصل القساوسة الأميركيون، بدوافع دينية وسياسية، إلى بيروت في عام 1823 وفي غضون أربع سنوات نجحوا في إنشاء 13 مدرسة تضم 600 تلميذاً. لقد أدى نجاح هذه المدارس الأميركية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى استخدام اللغة العربية واعتمادها كلغة للتدريس، إلى رد فعل كلّ من البطاركة الأرثوذكس والموارنة، بسبب المد الديني لهؤلاء القساوسة البروتستانت في صفوف الموارنة والأرثوذكس.
غادر الأميركيون المنطقة في عام 1828 ليعودوا بعد ذلك بسنوات قليلة، عند استيلاء باشا مصر على سوريا ولبنان في عام 1831، ما سيعيد المبشرين اليسوعيين إلى الشرق الأوسط لمواجهة الامتداد البروتستانتي في سوريا ولبنان، الذي كان نجاحه كبيراً خاصة في قطاع التعليم.
استُقبل الباشا المصري، الذي سيطر على سوريا لمدة عقد (1831-1840)، بترحاب من قِبل زعماء الموارنة والكنائس المسيحية الكاثوليكية الأخرى، لأن مصر محمد علي كانت آنذاك حليفة لفرنسا الكاثوليكية، بينما كان ابنه ابراهيم باشا يعتمد في حكمه بسوريا على رجالٍ من كنيسة الروم الكاثوليك.
حتى القنصل الروسي في بيروت، قسطنطين باسيلي (1839-1853)، وعلى الرغم من أن بلده كانت تحمي حليفها السلطان آنذاك من محمد علي، يذكر في تاريخه حقيقة أن السياسة التي فرضها الفاتح المصري كانت في البداية أفضل من حكم العثمانيين من حيث الإدارة والضرائب والعدالة، مشدداً على أن المساواة الاجتماعية والسياسية بين المسلمين والمسيحيين كانت من المبادئ الرئيسة للحكم المصري في سوريا ولبنان.
وهكذا فإن إبراهيم باشا، الذي كان مهتماً بشكل خاص بتطوير التعليم وأسّس العديد من المدارس لمسلمي المنطقة، سمح للمبشرين الأميركيين والفرنسيين بالعودة إلى الشرق الأوسط واستئناف نشاطهم التعليمي لدى المسيحيين المحليين.
استمر هؤلاء يعملون في المنطقة بعد مغادرة الجيش المصري لسورية. إلى جانب المدارس، أنشأ كل من البروتستانت واليسوعيين، في عامي 1834 و 1853 على التوالي، مطبعة عربية لنشر الكتب المدرسية والكتاب المقدس، الذي قد تُرجم إلى اللغة العربية المعاصرة. لقد انتشرت المدارس الكاثوليكية بدعم مالي ومعنوي مباشر من الحكومة الفرنسية وبحمايتها. وبمبادرة فرنسية أيضاً، قام اليسوعيون بتأسيس جامعة القديس يوسف في بيروت عام 1875، بعد تسع سنوات من تأسيس الجامعة الأميركية فيها من قبل البروتستانت، واللتان لا تزالان تعملان حتى اليوم.

الجامعة الاميركية
الجامعة الاميركية
كانت لغة التدريس في كلتا الجامعتين، وكذلك في العديد من المدارس البروتستانتية والكاثوليكية، هي اللغة العربية، والتي قد تم إثراؤها بكم هائل من النصوص الدينية والفلسفية والعلمية والإصلاحية من خلال ترجمات من اللغات الأوروبية.
وبفضل هذه المدارس والمطابع العربية، البروتستانتية الأميركية واليسوعية الأوروبية، ظهر جيل عربي جديد معتادٌ على القراءة. خلال الفترة نفسها، بين 1857-1876، تطورت الصحافة العربية والإنتاج الأدبي بشكل ملحوظ في سورية ولبنان. وكان هذا حصرياً تقريباً عمل المسيحيين في المنطقة.
اليازجي والبستاني، اسمان لعائلتين مسيحيتين، قدّمتا أجيالاً من المثقفين. من بينهم جاء الفلاسفةُ والشعراء وكتّاب المعجمات والصحفيون الذين لعبوا، بالإضافة إلى دورهم الحاسم في نشر اللغة العربية والأدب الكلاسيكي، دوراً رائداً في تطييع اللغة العربية لتكون قادرة على التعبير عن أمور وأفكار جديدة. جنباً إلى جنب مع إحياء الشعر العربي، الذي كان لا يزال يستخدم النظام الكلاسيكي للبحور والقافية ولكن تدريجياً جاء للتعبير عن أفكار ومشاعر جديدة، استخدموا نوعاً جديداً من النثر، دون انتهاك القواعد الأساسية للعربية، ولكن بطرق تعبيرية أبسط ومفردات جديدة وتعابير جديدة، إما تم تطويرها من خلال وداخل مصادر اللغة العربية أو تم نحتها من الفرنسية والإنكليزية.
المدارس والكتب والمجلات والصحف، التي أصدرها المسيحيون السوريون واللبنانيون، كانت القنوات التي من خلالها جاءت للعرب معرفة العالم الجديد لأوروبا وأميركا، نتيجة العمل الفكري للمسيحيين الناطقين بالضادّ في سوريا ولبنان الذين، إضافة إلى إتقانهم لغاتٍ أوربيةً، كانوا يعرفون اللغة العربية أفضل من معاصريهم المسلمين، على الرغم من أنها كانت تعتبر اللغة المقدسة للإسلام والقرآن.
دعونا نذكر هنا أنه في ظل الإدارة العثمانية، لم تضعف مكانة اللغة العربية بل تعزّزت، حيث أن علوم الدين الإسلامي والفقه كانت تدرّس باللغة العربية في مدارس العاصمة استنبول نفسها بما لا يقل عمّا في مدارس دمشق وحلب. كتّاب ذلك العصر العثمانيون، لدى تسطيرهم الكتب ذات المحتوى الديني والشرعي والتاريخي، كانوا يميلون إلى الكتابة باللغة العربية بدلاً من التركية. هكذا فإن حاجي خليفة (القرن السابع عشر)، مسؤول حكومي في المدينة وأكبر موسوعي بين العثمانيين قد كتب باللغتين، لكن أهم أعماله “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون” كتبه باللغة العربية.
في وقت لاحق، أصبح العرب مهتمين بالعالم الغربي والثقافة الأوروبية، واكتشفوا بيئة غير معروفة لديهم على الاطلاق، مختلفة عن بيئتهم. ولكن قبل أن يهتم الشرقُ بالغرب، كان الغربُ شغوفاً بالشرق.
في عصر التنوير، كان اهتمام الأوروبيين بالشرق نظرياً لأنه سمح لأوروبا، التي سئمت من الكلاسيكية، أن تحوّل نظرها إلى شيء آخر مختلف. في عهد نابليون، أصبح اهتمام أوروبا بالسياسة أكثر وضوحاً. أما في عصر الرومانسية، فكان اهتمام الغرب اجتماعياً وسياسياً – أيديولوجياً. مثّلت هذه الحركة موجة علماء الآثار والمستشرقين وكذلك الفلاسفة. لكن جاء معهم ممثلو الثورة الصناعية أيضاً، الذين كانوا يبحثون عن المواد الخامّ في بلدان الشرق الفقير آنذاك. لم يكن المكان الذي تمّ فيه اللقاءُ الروحي بين الغرب والشرق في العصر الحديث سوى المكان الذي التقى فيه الشرق مع الغرب في عصور سالفة. وهو سوريا ولبنان، حيث شكل مسيحيوها، مقتدين بأسلافهم في العصرين الروماني والعربي، الجسر الثقافي بين الشرق والغرب.
تُعرف هذه الحقبة (1831-1876) بعصر النهضة، وهي كلمة تعني للعرب إعادة الولادة على المستوى الوطني، بمعنى أنهم متباينون ومتمايزون عن الإمبراطورية العثمانية من جهة وعن أوروبا من جهة أخرى، فقد تم ذلك من خلال الأدب والفنون التي طوّرها مفكرون مسيحيون من سوريا ولبنان، متأثرين بالثقافة الغربية، الفكرية والسياسية على حد سواء. لذا، نظراً لأن عصر النهضة كان انعكاساً أدبياً ودينياً واجتماعياً، فقد ظهرت رسائله أولاً في شكل انجذابات تحفز روح الناس، كما عبر عن ذلك الكتّاب الذين كانوا على اتصال وثيق بالروح والثقافة الغربية.
تعريب الأعمال الأوروبية في مختلف المجالات من قبل المسيحيين العرب عرّف المسلمين بالإنتاج الفكري والسياسي للغرب. ولقد نشط في هذا العصر بطريركا العلوم العربية، ناصيف اليازجي (1800-1871) و بطرس البستاني (1819-1883).
حوّلت محبة ناصيف اليازجي للثقافة العربية الكلاسيكية منزله إلى صالون أدبي حديث، حيث كان يتم قبول كل من كان متعطشاً إلى العلم، مهما كانت الانتماءات الدينية، في حين قام بطرس البستاني، وهو مثال آخر عن الدور الرائد الذي لعبه المسيحيون في المجتمع العربي الحديث، بتأسيس المدرسة الوطنية، بمعنى أنها لا تنتمي إلى طائفة دينية بعينها، لأنها بخلاف سائر المدارس كانت تقبل الطلاب المسلمين أيضاً، حيث كانت لديها ميولٌ للتوحيد على المستوى القومي. بداية النهضة كانت في علمنة التصور السياسي، الذي كان دائماً ثيوقراطياً في الأراضي الإسلامية. وهذا بفضل حركة الأفكار الجديدة ذات التوجهات المتنوعة التي رعاها المفكرون والكتاب والصحفيون المسيحيون.
وهكذا، بدأت الكلمة العربية “الوطن” تأخذ معنىً جديداً، حيث حتى ذلك الحين كانت تعبّر عن جماعة المؤمنين، أي المسلمين، لأن المبادئ السياسية العثمانية كانت تستند إلى التمييز الواضح بين السكان على أساس ديني، ولأن الإطار الاجتماعي السائد كان اسلامياً.
اكتسب الوطن الآن مفهوم مجتمع المواطنين، جميع المواطنين، بغضّ النظر عن الدين، وهو مفهوم قد تبناه أيضاً مثقفون مسلمون، الذين بدأوا في الحديث والكتابة عن الدور البارز الذي يُدعى العرب، مسيحيون ومسلمون، إلى لعبه في الإمبراطورية العثمانية والمجتمع العثماني. بالإضافة إلى النتاج الكبير للكتب العربية ذات المحتوى الديني والاجتماعي والإصلاحي، يجب أن نذكر الصحافة العربية أيضاً التي كان روّادها مسيحيون من سوريا ولبنان. خلال صفحات المجلات والعديد من الصحف المنشورة في ذلك الوقت في بيروت ودمشق وحلب ومدن أخرى في لبنان وسوريا، تمت مناقشاتٌ تتعلق بالقضايا المحلية والاجتماعية بل والسياسية أيضاً.

Metropolite Athanasios

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *