ماذا أقول؟ .. وعن ٧ ميليشيات
الدكتور كمال خلف الطويل
من صفحته
13 ديسمبر 2024
انعقد لساني دهشةً وألماً حين أتاني، ليل الأحد ٧ ديسمبر – بالتوقيت المحلي -، وبعيد برهة من مغادرة الأسد دمشق إلى موسكو، نبأ أنه قد أبلغ قيادته العسكرية قبل الظهر بأمر Stand Down، ففرّوا من توّهم الى بلداتهم ومعاقلهم دون أن يخطروا مراتب القوات المسلحة والأمنية من عداهم به. بعيد ساعات، أحسّ الضباط الأواسط – من مقدم لنقيب – بما فعله الضباط “العظام”، فذهبوا في إثرهم، من دون تنزيل الأمر لمن هم أدنى في السلّم العسكري. مع ساعات المساء، أدرك الملازمون، أول وثاني، ما جرى فأخطروا ضباط صفهم والجنود بأن يخلعوا زيهم العسكري ويغادروا الثكنات إلى منازلهم وبلداتهم. كانت ليلة ٨/٧ ونهار ٨ ديسمبر مشهد عار، أين منه الانسحاب الكيفي من الجولان في ١٠ حزيران ٦٧. لقد هام عشرات ألوف الجنود على وجوههم في دمشق وحولها، متّخذين طريقهم إلى مرائب باصات المحافظات شمال دمشق، وملقين سلاحهم على الأرصفة والشوارع.
ما معنى Stand Down لجيش؟ يعني حلّه الطوعي، وبأمر من قائده العام – رئيس البلاد – ؛ أي ذات ما فعله حاكم الاحتلال الأمريكي، بول بريمر، بحلّه الجيش العراقي في مايو ٢٠٠٣.. هذا القرار، بذاته، فعلُ خيانة وطنية عظمى، وبامتياز.. وهو ما أودى إلى أن كل المعدات العسكرية أضحت Unmanned، ما جعل مهمة الطيران الاسرائيلي أكثر من يسيرة في تدميرها على أهون حال.. {صحيح أن الطيران الاسرائيلي قد قصف أهدافاً استراتيجية عبر البلاد، منذ يناير ٢٠١٣ لكن نجاحاته قُيّدت باعتراض الدفاع الجوي السوري ما استطاع}.. أقول: إن لم تكن تلك هي الخيانة، فما تعريفها؟
طيب، لنحاول أن نربط الحوادث سعياً لرسم صورة شافية لما جرى، بدءاً من الزمن القريب ثم الأبعد: في ٢٦ نوفمبر هدّد نتانياهو الأسد بأوخم العواقب ما لم يقطع خط الإمداد لحزب الله. اعتبر الأسد أن التهديد جدي وحالّ، سيما حين شاهد “الهيئة” تشنّ هجومها على غرب حلب، في ٢٧ نوفمبر، فاغتنم مناسبة تخرّج بكره في موسكو، يوم ٢٩ نوفمبر، ليصلها، ثم ليلحّ في مقابلة بوتين – والذي كان في باكو -، وانتظر يوماً ونيف حتى التقاه.
أسمعه بوتين ما سبق له أن قاله له في ٢٤ تموز الفائت: اقبل مبادرة اردوغان للصلح من توّك؛ لا رجاء لك الآن بدونها، وأنا غير قادر على إنجادك، سيما وتقاريرنا عن الأيام الأربعة الفائتة تدلّ على جيش غير راغب بالقتال، سربي الجوي عندك سيحاول تأخير اندياحهم جنوباً، بأمل أن تتدبّر خلالها مخرجاً مع أردوغان .. عاد، في ١ ديسمبر، ليقابل عرقجي في دمشق، وليسمع منه ذات الرأي في أداء جيشه، فما استطاع سوى أن يوافقه.. ثم سمع منه أن ايران، مع روسيا، ستحاولان الوصول إلى كلمة سواء مع تركيا، فأجابه بطلب نجدة عسكرية عراقية – لبنانية – ايرانية فورية! [أنفق العام ونصف الأخير وهو يحاول أن يوفّق بين روابطه الروسية والايرانية والخليجية – المستجدّة، قابضاً علي الأولى، متخفّفاً بمقدارٍ من الثانية، ومنصتاً بتردّد للثالثة.. فانتهى بخسران الجميع]
ما لنا ؛؛ مع سقوط حماة، في ٥ ديسمبر، استنتج الأسد أن الأمر قد قضي، فاتّخذ قراره برفض كل الوساطات والمخارج – بما فيها تسليم السلطة إلى مجلس عسكري يدير البلاد، ويتفاوض مع المهاجمين على صيغةٍ تحفظ الدولة -، والخروج إلى المنفى الروسي، مع عائلته ومقرّبيه [اللوجستيين]، قبل وصول “الهيئة” – والتي يعرف عن انضباط كادرها المسلكي – إلى دمشق.. لماذا؟ لأنه يعلم علم اليقين أنه، وفيما الجيش والأمن في حالة Stand Down، فان ميليشيات الجنوب وريف دمشق [أبناء التسويات] من ستدخل العاصمة، فاتحةً ناهبةً مفرهدةً ومنتقمة؛ وبذا ينتقم ممن ثاروا، أو تآمروا عليه، أو لم “ينجدوه”، مطبّقاً شعار اليوم الأول للأزمة السورية الكبرى: أنا أو الفوضى .. إن كان للأسد من أية مسحةِ أو خصلةِ ممانعةٍ أو وطنيةٍ أو عروبية، على مدار ربع القرن المنصرم، فقد أعدمها بيديه بفعلته الخيانية مساء ٧ ديسمبر ٢٠٢٤
هذا عن القريب؛ أما عن الأبعد، فيعلم كثيرون أنني، كتابةً وقولاً وفعلاً، كنت من المنادين بصلح سوري – تركي منذ ما بعد الانقلاب التركي الفاشل، في تموز ٢٠١٦، وبالأخص منذ هدنة ٥ آذار ٢٠٢٠، والتي سرت عقب فشل محاولة الجيش السوري وحلفائه فتح ادلب الكبرى، حوالي مفصل ٢٠/١٩ .. كنت أدرك أن تركيا، صاعقُ التفجير السوري، هي الأقدر على نزعه في الختام
طيب، ما لم أفهمه كان اصرار الأسد على جدول انسحاب “مسبق”، شرطاً للقاءٍ فتسوية، إذ لم يعد ذلك ممكناً بعد ٢٦ أكتوبر .. لماذا؟ لأن ايران أضحت في وضع دفاعي غير هيّن، والحزب – قبلها – بات تحت الضرب؛ أي أنّ موازين القوى الاقليمية قد اختلّت لغير صالحه، فضلاً عن أن بوتين لاهٍ عنه في أوكرانيا؛ فعلامَ التعنّت غير المفهوم؟.. لم يحسب أخينا أن كسر الجدار التركي معينٌ على تجاوز نظام العقوبات الأمريكية والغربية [وهو ما فعلته تركيا تجاه ايران وروسيا، وما فتئت]، وأن خطر المشترك الكردستاني طاغٍ، وأن احتواءً ذكيّاً لبعض المعارضات – وبيدك لا بيد عمرو – يُذهب من يد الغرب أوراقاً يدّخرها.. استمسك بفردانية السلطة من دون أن تكون خادمة لوطنها المعذّب، والذي خرج من الحرب – أو بدا!! – منتوف الريش على كل صعيد
—— نأتي إلى الميليشيات
الأقوى بينهم هي الهيئة، وهي “المتنافعة” مع – وليست التابعة ل – تركيا، والساعية لمراضاة ومرضاة الولايات المتحدة – عبر جهود جيمس جيفري، ومنذ ٢٠٢٠ -، والممسكة بلبّ السلطة المتشكّلة.. هذه “السلفية السياسية” انحسرت من الكونية الجهادية إلى المحلية المقاتلة، وبرهنت على ذلك الفصال بحربها المسلحة على داعش ثم القاعدة – منذ أواخر ٢٠١٣ – ؛ ولكنها، في المآل الأخير، لا تستطيع أن تخرج من جلدها، لا عقدياً ولا منهجياً.. عندي أنها تقَويةٌ حتى التمكين… لذا، لم ينتظر نتانياهو لحظةً حتى انهال طيرانه على مقدّرات الجيش السوري تدميراً، ولئلا تقع تحت أيدي هذه السلفية [رهان واشنطن على “تجريبها” محض ذرائعي؛ مدعاته أنها القوة الأقدر على مقاتلة النظام وربما اسقاطه، ومن ثمّ فهي الأقدر – تلواً – على إخراج روسيا وايران من سوريا؛ أي استرداد سوريا: والتي أُخرجت واشنطن منها في آب ١٩٥٧]
يليها، “الجيش الوطني”، وهو ائتلاف ميليشيات تابعة لتركيا، فيها مَن مِن بقايا “الجيش الحر”، والتركمان، والاخوان، و”فيلق الرحمن” و”جيش الإسلام” وغيرها .. علاقته بالهيئة شبه صراعية، لكن وقائع “الفتح” فرضت تحالف الضرورة المؤقت .. ومشعر مستقبل العلاقة بينهما هو ماهيّة العلاقة بين الهيئة وتركيا
ثم ميليشيات الجنوب؛ وهي خلطةٌ فيها مؤثّرات خليجية وأردنية واسرائيلية، بل وروسية
ثم “أبناء التسويات” في أرياف دمشق وحمص وحماة، وهم أقرب إلى ذات المؤثّرات
** كلاهما يُعوَّل عليه إقليمياً (دون الترك) وغربياً
ثم داعش، والتي أمضت السنوات السبعة الأخيرة في حالة كمون في بادية الشام، بقوة ألوف، شانّة هجمات، إن تيسّر لها، على كل أعدائها؛ وكعادتها.. هي الآن تتجهّز للحظة فينيقٍ، ميسمها فتح سجن الهول واطلاق محابيسها منه .. عند داعش، تتجمّع جهود الغرب وتركيا والهيئة، ناهيك ب”وحش” الكردستاني، على وأد احتمالها؛ سنرَ!
ثم “وحش” الكردستاني، والذي “تمدمد” أضعاف ما تتيحه نسبة الكرد السكانية – ٦٪ – لأقليّة على الجغرافيا السورية – المفيدة -، مسنوداً بواشنطن .. مصيره معلَّق بما تصل، أو لا تصل، اليه أنقرة وواشنطن من وفاق حوله .. إنْ كانت هناك تسوية كردية – أوجلان/أردوغان – عابرة للحدود، تحيي اتفاق ٢٠٠٩ بينهما وتبني عليه، فنتيجته تقويض “وحش” (والذي تُشكّل العشائر العربية غالبية كادره)، المُقاد قنديلياً .. أما إنْ غابت تسويةٌ كتلك فأرى أردوغان محاولاً تجريب بسطاره فوقهم، متحسساً بفعله رد الفعل الأمريكي .. علاقة الهيئة والوطني ب”وحش” مرآة لعلاقة تركيا به ؛ في نهاية المطاف لا أرى، بحال من الأحوال، لا فدرلةً ولا كونفدرلةً ولا حكماً ذاتياً في سوريا، وكلّ ما للكرد هي حقوق المواطنة + حقوق ثقافية خاصة في مناطقهم؛ ونقطة آخر السطر
ثم “بقايا النظام”، هنا حالةٌ مسلّحة تتشكّل ب”فضل” سلوك “الوطني” و”التسويات” نحو مناطقهم .. هذه الفئة المواطنة جزء من النسيج العام للسوريين، حقّاً وواجباً، ومن ثمّ فالتعامل معها بغير تلك الروحية وبالٌ على فاعليه .. أرى الهيئة، وتركيا [والتي فيها ٣٠ مليون ما بين علوي وكردي وشيعي، من أصل ٩٠ مليون]، فاهمتان للأمر، والأْولى ضابطةٌ لرعاع الباقين وإنْ بصعوبة بدئية
قراءة: أرى الهيئة مجتنبةً لصدام مع ميليشيا الجنوب في الجنوب، لا في سواه، حتى إشعار لاحق، بحكم الرباط الإقليمي/الغربي للأخيرة .. ومقلّمةً لأظافر “التسويات” حيث هم .. ومصطدمةً بداعش في البادية .. ومتربصةً بوحش بلهفة .. وساعيةً لمساكنة مع البقايا [مستثنيةً كبار العسكريين والأمنيين] .. ومزكزكةً الوطني ما استطاعت لذلك سبيلا
والله أعلم