الزنبقة الكشفية السورية

من الذاكرة الكشفية…

من الذاكرة الكشفية…

مغامرة كشفية محفورة في الذاكرة

مسير ليلي الى صيدنايا

تعود بي الذكرى إلى يوم الخميس الأول من شهر آب من العام 1968 إلى نشاط كشفي تدريبي، كان قد تقرر في اللجنة الإدارية للفوج الثاني (الكشاف الأرثوذكسي الدمشقي) وكنت وقتها عريف طليعة الصقر، والنشاط تدريبي، عبارة عن مسير كشفي ليلي إلى صيدنايا عبر الوعر و الجبال، ومعروف ب (طريق الجبال) وليس في الطريق العام المعبد، وهذا الطريق المعبد كان أيضاً مختلفاً بشكل جذري، كما نعرفه الآن.

واسند هذا النشاط المغامرة للقائد الأخ سامي فاخوري (رحمه الله) الذي ومن خلال رحلات الصيد التي كان يعشقها ويرحل لأجلها الى كل مناطق سورية، جبال وبادية، و… أثبت لهم معرفته الدقيقة بهذا الطريق الوعر، والغير معروف لنظرائه من القادة الكبار، وقتها أمثال القائد الطيب أنطون بيطار، والقائد الكشفي الفذغسان خبازه ونائبه جورج أبوعراج والقائد الذي لايخيفه شيء رامز سلامة… وفي المقدمة شيخ القادة الكشفيين السوريين عميد الفوج الاستاذ جورج درزي رحمه الله، وأقنعهم بذلك. انطلقنا من مقر الفوج في القصاع في الساعة العاشرة ليلاً سيراً إلى ساحة العباسيين إلى حيث منطلق باص بلدة دوما، وكانت آخر رحلة له الساعة 11 ليلاً وثم يبيت في البلدة…

وكان عدد المشاركين 42 مشتركاً بينهم عشر من قائدات المرشدات والرائدات (فوق سن ال18 ويقابلها في الكشافة الجوالة) إضافة إلى 5 من عرفاء سداسيات الأشبال (طلائع وعدد أفراد السداسية 6 من الأشبال الصغار) لتدريبهم عملياً من خلال هذه المغامرة الليلية) مع عرفاء طلائع الكشافة، واثنين من القادة منهم طوني حلبي وكان قائداً للأشبال… وكان لباسنا الكشفي هو اللباس الكشفي التقليدي لكشاف سورية (شورت وقميص عسكري باللون الخاكي وفولار كحلي مع الطاقية الكشفية…) وكنا أفراداً نحمل مطرات الماء وطعام يوم واحد من السندويش مع عصا الكشاف وحبل ملفوف، وبيل كهربائي.

ووفق المخطط ركبنا الباص (وكان يحمل لافتة كتب عليها معامل حرستا – دوما وكانت المصانع تنتشر هناك في ذاك الزمان) في الساعة 11 ليلاً، وسافرنا (وحقيقة هي كانت سفرة، لأن الطريق هو طريق الغوطة الرائع بما يحتف به على الجانبين من أشجار الجوز والزيتون والتوت والمشمش والتفاح السكري والإجاص وهو طريق إسفلتي ضيق، يتلوى كثيراً وسط غابة حقيقية من الأشجار العالية وخيالاتها التي تظهر من خلال أضواء سيارات نادرة كانت تأتي مقابلاً لخط سيرنا حيث كان الظلام الدامس الذي ليس من ضوء يبدده، سوى أنوار الباص الكاشفين الأماميين، وكنا كالعادة ننشد ونغني كما في كل رحلات الباص والقطار…

وصلنا إلى بلدة دوما (وكانت يومها عبارة عن بلدة كبيرة)،حيث نزلنا في آخر محطة للباص يبيت فيها. وكانت الساعة وقتها قبل منتصف الليل بثلث ساعة تقريباً وكانت إذاعة دمشق تبث اغنية “هذه ليلتي” للسيدة ام كلثوم كوكب الغناء العربي وهي قصيدة للشاعر جورج جرداق، والحان عبد الوهاب، ومشينا في البلدة وكانت بعض الإنارة البسيطة من لمبات أعمدة البلدية تنير لنا الطريق، ولم ينتبه قائد المسير ولا أحد من مساعديه إلى الظلام الدامس في تلك الليلة، وعدم وجود ضوء قمر في تلك الليلة، إلا عندما ودعنا آخر لمبة من لمبات البلدية، واتجهنا إلى خارجها شرقاً مروراً بالبساتين المدغلة وفي الظلام الدامس… اجتزنا كروم العنب الدوماني الشهير بتسمية “عنب الطيانة”، (حيث من المعروف شامياً أن هذا العنب ونسبة حلاوته عالية جداً، كان الطعام المفضل للذين يشتغلون بمهنة الطيان وإكساء البيوت بالطين، وعلى مشاهداتي ومنذ طفوليتي، أنهم كانوا يشترون بعض العنب مع كيلو خبزويتناولونها وقت الغداء.) اجتزناها إلى مقابر البلدة حيث أن الطريق المرسوم وفقاً لقائد الرحلة يمر من المقابر. والحقيقة أننا شعرنا برهبة وقشعريرة وسرى الخوف في نفوس معظمنا… ومنعنا القادة من إشعال الأبيال وتوفيرها…

ولم يبدد الوحشة والرهبة إلا صوت أم كلثوم من راديو الترانزستور الذي كان مع احد القادة…

رحلة كشفية خلوية
رحلة كشفية خلوية

مشاعر الخوف سيطرت كلياً علينا في المقبرة وهي واسعة جداً… وتنتشر قبورها متراصة، والسير بين القبور كان يتم بصعوبة، وخاصة ان في جوانب بعضها حفر لحداثة الدفن وعلى شواهد بعضها اغصان الآس…

مقبرة في دوما

وقد اختار القائد سامي، (على قوله تهكماً من خوف البعض المعلن) هذا الطريق الممتع والمريح الذي يخترق هذه المقبرة المترامية التي لم تكد تنتهي قبورها، بدلاً من طريق طويل يلتف حولها فتخيلوا هذا المسير الممتع!!! بالظلام الدامس وبدون ابيال، مع عزرائيل… وسط المقبرة ومع كل شاهدة قبر نتخيل ميتاً يقف بكفنه الأبيض مستنداً على هذه الشاهدة… وكان احد الجوالة يخيف الصغار بصوت خافت من أنكر ونكيراللذان يلحقان بالميت خارج القبر لضربه وتأديبه وفق معتقد إخوتنا المسلمين… وقد عاقبه قائد الرحلة على اخافته الصغار…

استغرق مسيرنا (الحالم هذا وسط المقبرة التي هي بحجم بلدة وفي هذه الظروف الشاعرية!!! بالظلام الدامس وبدون ضوء قمر، او حتى ضوء نجوم لأن السماء كان يغطيها الضباب وكان الحر شديداً) أكثر من نصف ساعة أحسسناه دهراً!!!

وعندما خرجنا من المقبرة ولينا الأدبار ركضاً لنبتعد ما أمكننا عنها وكأننا عشنا حقيقة مع الفريد هتشكوك في أفلام الرعب !!!

جلسنا بعيداً تلتقط أنفاسنا ونبل ريقنا الذي جف، وقام القائد الذي على ما يبدو كان قد نسي الطريق الذي سنسلكه وسط الوعر إلى بلدة معرونة…

وصار ومساعدوه يتنقلون في كل الاتجاهات، ويصعدون إلى التلال المرتفعة في محاولة لكشف حد أدنى من معالم الطريق، وقد أشعل كل منهم أجمة من نبات البلان الجاف (البلان كان يستخدمه عمال التنظيفات في كنس الطرقات وكان ينمو في العراء) للإنارة…بدون فائدة مازاد من خوف الصغار والبنات وحتى الكبار سيما واننا في ارض مقطوعة مايعني الانتظار الى شروق الشمس، ليستبين لنا الطريق وكنا نغوص في رمل مسيل جاف وعريض تمشي فيه ماء الأمطار في الشتاء المنحدرة من المرتفعات، ولم يكن من مكان او احجار للجلوس عليها.

تبين للقائد وصحبه طريقان احدهما مرتفع يسير بمحاذاة جبل شاهق، وهو بعرض 50 سم، والثاني حيث نقف وهو مسيل جاف وعر ومتدرج ومتعب المسير فيه بسبب التراب وتغرس فيه الأقدام بسبب رخاوة تربته وعمقها، أكثر من 30 سم، ولكن ضيق ذاك الطريق العالي، سيما وان معنا بنات وأشبال، دفعه لسلوك طريق المسيل الجاف مع كل عَجَّره وبَجَّره وتعبه مفترضاً انه في اتجاهه البادي إليه ينحدر من مرتفع معرونة

وسرنا … وحدث بلا حرج عما رافقنا من تعب شديد في ارض ترابية رخوة تغطس فيها أقدامنا ناهيك عن تغير خط المسيل بعد كل مسير عدة امتار، وكنا نفترض أن الطريق لو التف يميناً فنحن في الطريق السليم، وإذ بنا نلتف يساراً… وهكذا دواليك وخلال ثلاث ساعات طويلة، والصغار تعبوا ونفذت المياه منهم واضطررنا إلى حملهم على أكتافنا ونحن موقنون بأننا تهنا تماماً… ونحن في وسط هذا الإحباط لاح لنا من بعيد نقطة ضوء خفيفة بالكاد… ولاحظنا أننا ندوس على روث الماعز … وبدأنا نسمع صوت ماكينة من مصدر الضوء، يتضح صوتها أكثر من سطوع الضوء كلما سرنا باتجاههما، ثم بدأت تظهر أشجار التين المبعثرة فأيقنا أننا نسير باتجاه قرية ما، ولكن وللطرافة ما أكد لنا أننا على مشارف قرية معرونة، هو نباح كلابها المشهورة بالنباح وهي كلاب جعارية وكل واحد منها بعلو جحش صغير ويعوي بشدة في الليل وخاصة إن أحس بغريب، ورب ضارة نافعة فإن هذا النباح كان قد بدأ على بعد نصف ساعة مسير.

وأخيراً وصلنا إلى الضوء والصوت، وإذ نحن في ساحة قرية معرونة، والضوء هو لمبة كهربائية في وسطها، وكانت الساعة الرابعة فجراً، والصوت هو من دراسة القمح، وفي وسط الساحة بئر الماء بالدلو… وركض الصغار نحو البئر للشرب، وكان ثمة أربعة رجال ملثمين بالكوفيات ويلبسون السراويل الريفية يعملون على درس القمح، وقد رحبوا فينا ودعونا للراحة وقدموا لنا العنب الجبلي والتين، وفوجئت بأحدهم وهو ملثم بالسلام علي بقوله :” مرحبا أبو الزوز” وكشف عن وجهه وإذ به رفيقي في المدرسة واسمه طانيوس غنيم… ولما عرفوا عن الطريق الذي سلكناه حمدوا الله على سلامتنا لأن قدرة الله كانت ترافقنا، وإلا لأصبحنا في وسط التيه!!! وابسط الأمر اننا كنا صرنا في طريق طلوع الثنايا والسفر إلى حمص…واستغربوا كيف مشينا في هذا المسيل المتعب الذي يتعبون فيه مع دوابهم واصلاً لا يجرؤن على سلوكه وعلى قول طانيوس لي :” مافي ابن مرة بيمشي بها السيل”…

وبعد استراحة نصف ساعة غسلنا فيها وجوهنا، وشربنا الماء، وأكلنا العنب والتين، تحركنا نحو قرية معرة صيدنايا، وكان قد بدأ الفجر ينبلج، ونحن نصعد الجبل الفاصل والمسمى بجبل مار الياس حيث يُنزل من فج فيه إلى جانب دير مار الياس…وكان المشهد رائعاً فخيوط الشمس الشارقة كانت تنعكس على الأحجار والحصى الصغيرة فتظهر كأنها جواهر لازوردية، ونظرنا من القمة نحو المسيل الذي سلكناه والذي يصب في بساتين دوما والحقيقة كان مخيفاً بسبب انشقاقاته والتواءاته الكثيرة…

زرنا مقام مار الياس (حالياً دير مار الياس)، وتابعنا إلى وسط بلدة معرة صيدنايا الواقعة في سهل صيدنايا على المقلب الآخر من جبل معرونة، وكانت الساعة

الخامسة والنصف صباحاً، فغذينا السير قبل أن تحمى الشمس أكثر، ووصلنا أيضاً عبر الوعر إلى جانب دير القديس جاورجيوس في”طلعة رأس العمود” بصيدنايا، ومن خلاله، وفي الوعر، نحو دير سيدة صيدنايا وجهتنا الأساس، فوصلناه في الساعة السادسة والنصف حيث ارتحنا على درج الدير في الظل إلى أن فتح الباب في السابعة صباحاً فدخلنا وحضرنا بعض الصلاة في الكنيسة ثم زرنا مقام الشاغورة وشكرناها على رعايتها لنا في هذه المغامرة الكشفية ثم تناولنا إفطارنا من السندويش ونزلنا بالباص إلى دمشق، وقد احتسب القادة زمن المسير بكل سلبياته فوجدوا كما سمعتهم أننا تأخرنا فقط حوالي ساعة وان زمن السير كان قياسياً ولولا التعب وخاصة الذي انتاب المرشدات والأشبال لكان الزمن اقل وربما نقص إلى النصف…

والحقيقة كانت مغامرة ممتعة، وقد حملتها في ذاكرتي طيلة هذه السنوات لأقصها عليكم الآن، قبل ان تمحوها الذاكرة التي تنحدر بسرعة الى الشيخوخة، وليعرف من لا يعرف، ماذا تحفر الحركة الكشفية في نفوس معتنقيها الحقيقيين من شجاعة وإقدام، “وابتسام في وجه الصعاب” كما نقول في القانون الكشفي… وكيف يصبح الفتى قادراً على خوض كل صعب وهو مسرور… لذلك لا يحس الكشاف بصعوبة الجندية ابداً لأنه اعتادها في حياته الكشفية عملياً…

إن ما تحفره الكشفية في الفتيان لن يُمحى من ذواكرهم، كما حصل معي وانا فتى… وخاصة في مخيماتها وحياة الخلاء الممتعة وسحر الليالي في الحراسة وحول النار…

سقى الله تلك الأيام وكنت في عز الفتوة وتوثبها…. أين منها أنا الآن…؟ ولكن تبقى متعتها عندنا كما متعة الذكريات الآن….

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *