نصف الخمسين
مقدّمة
اعتاد اليهود أن يتركوا بيوتهم في عيد المظال ويقيموا في مظال مؤقّتة لمدة أسبوع ليتذكّروا أنّهم غرباء ونزلاء في هذا العالم.
خلال الأيام السبعة الأولى للعيد، كانوا يحضُرون ماء من بركة سلوام، في إناء ذهبي، ويسكبه رئيس الكهنة أمام الشعب ليُعلِنَ أنّ من كان عطشانًا فليقترب ويشرب. كان ذلك إشارة إلى الصخرة التي كانت تفيض ماء على الشعب في البريّة. وفي اليوم الثامن لا يحضر ماء من البركة إشارة إلى أن الشعب يشرب من ينابيع كنعان وليس من مياه البرّية.
في هذا اليوم وقف السيّدُ المسيح، رئيسُ الكهنة الأعظم، وأسقف نفوسنا، ليقرّب نفسه ينبوع مياه يفيض بالمياه الحيّة في أعماق نفوس المؤمنين، سائلًا ايّاهم أن يشربوا بفرحٍ من آبار الخلاص (إش ٣:١٢؛ زك ٨:١٤؛ يوئيل ٢٨:٢-٣٢).
أثار شفاء المفلوج في يوم السبت هياج القيادات الدينيّة (يو١٦:٥) فأرادوا قتله، إما بإثارة الشعب ضده، أو بإصدار حكم قضائي بِحَقِّه، لكنّه في المقابل لم يتخلَ عن رسالته وعمله الخلاصي، فهو أتى ليفدي البشريّة.
يومًا عد يومٍ كانت تزدادُ العداوة والحقد والضغينة في قلوب القيادات اليهوديّة الدينية ضد شخص يسوع المسيح، ففي نظرهم أنّهُ شوّه صورة المسيّا المنتظر. أرادوا المسيّا الذي حسب هواهم البشري، وليس حسب خطة الله الفائقة.
طروبارية نصف الخمسين، باللحن الثامن |
في انتصافِ العيدِ اسِقِ نفسي العَطشى، من مياهِ العِبادَةِ الحسَنةِ أيُّها المُخلّص. لأنَّكَ هَتَفتَ نحو الكلِّ قائلاً: منْ كان عطشانًّا فليأِت إلَّيَّ ويَشرَب. فيا يَنْبوعَ الحياةِ أيُّها المسيحُ الإلهُ المجدُ لك. |
طروبارية نصف الخمسين، بين الفصح والعنصرة، مستوحاة من إنجيل يوحنا: |
1- وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلًا:« إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي». قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد. (يوحنا ٣٧:٧-٣٩). 2- ومن حديثه للمرأة السّامريّة عند بئر يعقوب (يوحنا ٤) |
عيد المظال
يُحتفل بِهذا العيد في ١٥تشري Tisri، أو تشرين الأول أو ليثام، ما بين النصف الأخير من ايلول والأوّل من تشرين الاول، وهو الشهر السابع من السنة المدنية والثاني من الدينية، إذ كانت السنة الليتورجيا تبدأ في شهر أيلول.
أخذ العيد اسمه من المظال التي كانت تُقام بجوار الهيكل، وفي الأماكن العامة، والميادين، وأسطح البيوت، والحدائق، حيث يَسكن اليهود لمدّة ثَمانيةِ أيام تذكارًا للأربعين عامًا التي عاشها آباؤهم في البرية. وهو أحد الأعياد الثلاثة الكبار التي كان يلتزم كلّ الرجال خلالها أن يصعدوا إلى أورشليم حسب الشريعة.
أهم سمات هذا العيد هو الفرح الغامر، والسكنى في المظال، وطقسه الفريد، الذي تميّز بظاهرتين متكاملتين هما: سكب الماء والإنارة. إعتاد اليهود أن يذهبوا إلى أورشليم قبل العيد بيومٍ، وكان بعضهم يذهب إليها قبل اليوم العاشر من الشهر، ليشترك في عيد الكفّارة، ويقيم هناك حتى يحتفل بعيد المظال فيها.
من جِهةِ سكب الماء، يذكر التلمود أنّه ابتداءً من اليوم الأول، ولمدّة سبعة أيام مُتتالية، يخرج في الفجر موكبان عظيمان: الموكب الأوّل يتوجّه لجمع أغصان الزيتون، وسعف النخيل، وأغصان الأشجار الأخرى كالصفصاف والآس، فيربطونها معًا بخيوطٍ ذهبية أو فضيّة أو أشرطة. كانوا يحملونها طول النهار ويأخذونها في المجامع، ويمسكون بها أثناء الصلوات. وفي الأيام التالية، يحملونها معهم إلى الهيكل، ويسيرون بها حول المذبح، وهم يسبّحون: “أوصنا، نطلب إليك خلصنا!”.
تُضرب الأبواق من كلّ جانب. ولعل القدّيس يوحنا الإنجيلي كان يشير إلى هذا العيد وهو يتحدّث عن نفوس الشهداء في الفردوس التي تحت المذبح (رؤ٩:٦) وقد أُعطيت سعف النخيل وهي تسبّح: الخلاص لإلهنا…
أمّا ما يحسبه اليهود أكثر طقوس هذا العيد فرحًا، فهو أن يتوجه الموكب الثاني إلى بركة سلوام، يترأسُه رئيس الكهنة يحمل إبريقًا ذهبيًا ليغرف به الماء من البركة، ويملأ الإبريق ثُمَّ يأتي به إلى الهيكل.
وكانت جماعات المرتّلين ترافق الموكبَين، ليعود الموكبان بين الهتافات والتسابيح المـُقتَبَسِ بعضُها من إشعياء ١٢ “هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا. فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص” (إش ١٢: ٢ – ٣).
يصل الموكبان إلى الهيكل في وقت واحد، فتُقدم محرقة الصباح. ويقيم حاملو الأغصان مظلّةً جميلةً على المذبح بينما يستقبل الكهنةُ رئيسَ الكهنة الذي يحمل الإبريق الذهبي بالنفخ ثلاثًا في الأبواق.
يصعد الكاهن على درج المذبح ومعه كاهن آخر يحمل إبريقًا آخر من الذهب به الخمر، فيسكبان سكيب المحرقة من الماء والخمر في طاسَين من الذهب مثقوبَين ومثبتين على المذبح، فينساب السكيب إلى أسفل المذبح. وكان الناس يستقون الماء بفرح من بركة سلوام، في أيام العيد، تذكارًا لخروج الماء من الصخرة على يد موسى النبي، وشُربِ آبائهم منها، متذكّرين كلمات إشعياء النبي: “أيها الجياع جميعًا هلمّوا إلى المياه، والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلُوا، هلموا واشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا”، “فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص” (إش ١:٥٥؛ ٣:١٢).
كان الصدّوقيون يرون ضرورةَ الاقتصار على سكب الخمر وحده دون الماء. ففي حوالي عام ٩٥ ق.م. كان رئيس الكهنة اسكندر بانياس من الصدّوقيين، قد سكب الماء على الأرض بعيدًا عن المذبح، فثار ضدّه الفرّيسيون وأرادوا قتله، فقامت معركة بين الصدّوقيين والفرّيسيين، وانتهت بنصرة الفريسيين، بعد أن قُتل أكثر من ستة آلاف شخص.
على أيّ حال، إذ عندما كان الماء والخمر يُسكبان على المذبح، كانت تعزف موسيقى الهيكل وترنَّم مزامير التهليل (١١٣-١١٨). وكانوا عندما يَصِلُون في التّرنيم إلى المقاطع التالية: “إحمدوا الرّب لأنّه صالح”، “يا رّب أنقذ”، “إحمدوا الرّب” (مز ١:١١٨، ٢٥، ٢٩)، يلوح المتعبّدون بالأغصان حول المذبح.
هذا ويظهر مدى ارتباط هذا العيد بالماء، أن اليوم الثاني من العيد كان يُسمّى “الاحتفال الأصغر” تبتدئ معه احتفالاتٌ مسائيّة مبهجة تَستَمِرُّ طول أيّام العيد وتُسمّى “فرح مجاري المياه”.
وقد جاء في التَّلمود بكلّ وضوح: “لماذا دُعي اسمه “مجاري المياه”؟ الجواب: بالفرح تنفجر المياه من ينابيع الخلاص.
في اليوم السابع يطوفون حول المذبح سبعة سبع مرات، ويسمى هذا الموكب “أوصنا العظيمة Hosanna rabba “.
في هذا العيد كانت تُقدّم ذبائح كثيرة. ففي اليوم الأول يقدّمون إلى جانب الذبائح العادية ذبيحة محرقة، ١٣ ثورًا وكبشَين و١٤ حملًا مع تقديمات من دقيق وسكب الخمر. كما كانوا يقدّمون ماعزًا ذبيحة خطية. وفي الأيام التالية يقدّمون الذّبائحَ نفسَها مع إلغاء ثورٍ واحدٍ كلّ يوم حتى متى جاء اليوم السابع تُقدَّمُ فقط سبعة ثيران. وفي اليوم الثامن، الذي يُحسب قمّة الفرح في هذا العيد، يقدّمون ثورًا واحدًا وكبشًا واحدًا وسبعة حملان ذبيحة محرقة، وماعزًا واحدًا ذبيحة خطيئة مع التقديمات المعتادة وسكب الخمر. وفي هذا اليوم أيضًا يقدّمون في الهيكلّ بكور محاصيلهم الأخيرة أو تلك التي نضجت مؤخرًا.
أوصى موسى بالاحتفال بالعيد لمدة ٨ أيام، لكن اليهود أضافوا يومًا تاسعًا، دعوه “فرح الشريعة” حيث يتمّمون قراءة أسفار موسى الخمسة.
ورد تأسيس هذا العيد في لاويين ٣٤:٢٣، وحدث تجديد له بعد انقطاع ممارسته مدّة طويلة (نحميا ١٤:٨).
يسوع يعلّم في الهيكل
ذهب يسوع في اليوم الرابع أو الخامس من العيد، حتى يترك الشعب في الأيام الأولى منشغلين بالمظال التي صنعوها والأغصان التي يمسكونها طول النهار، والتي لم يدركوا مفاهيمها الروحيّة كما ينبغي، لذا لم تكن أذهانهم مستعدّة، وربما لم يكن لديهم الوقت للانشغال بكلمات السيّد وأعماله.
نُورُ الرّبِّ يسوعَ كشف ظلمة الفرّيسيين، وكأنّه في هذا تتحقّق نبؤات العهد القديم فيه: “هكذا قال السيد الرّب هأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها… أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرّب، وأطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح، وأبيد السمين والقوي، وأرعاها بعدلٍ” (حز ٣٤: ١١، ١٥-١٦). “وأُقيم عليها راعيًا واحدًا فيرعاها عبدي داود هو يرعاها، وهو يكون لها راعيًا” (حز ٣٤: ٢٣).
ولعلّ ما جاء في إنجيل مرقس يُشكّل خير تعبير لما كان يعمله يسوع بالمجمل: “وللوقت دخل المجمع في السبت وصار يعلّم. فبهتوا من تعليمه، لأنه كان يعلّمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة، (مر٢١:١-٢٢)، فإنه لم يلتحق بإحدى مدارس الأغنياء، ولا تعلّم عند قدمي الرّبانيّين، ولا سافر ليتعلم في بلدٍ ما كما كان يفعل الفلاسفة، ولا التحق بأية مدرسة عامة في بلده.
تعلّم موسى حكمة المصريين، أما يسوع فلم يتعلم حتى حكمة اليهود. لم يدركوا أنه ليس بمحتاج إلى تسلم المعرفة من يد إنسان، لأنه هو نفسه الحق الإلهي، وأن إرادته واحدة مع الآب.
يشرح القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن تعجّب اليهود منه كان مملوءًا شرًا وذلك حسدًا وغيرةً، فيقول
“ليس داء أشر من الحسد والحقد، فعلى أساسه دخل الموت إلى العالم، “بِحَسَدِ إِبْلِيسَ دَخَلَ الْمَوْتُ إِلَى الْعَالَمِ، فَيَذُوقُهُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ حِزْبِهِ” (حك ٢٤:٢-٢٥)، لأن إبليس لما أبصر الإنسان مكرّمًا لم يحتمل حُسن حاله، فعمل كل ما أمكنه حتى قتله. وبالحسد ذُبح هابيل، وقارب داود أن يُقتل، وقُتل آخرون كثيرون من ذوي البر، وصار اليهود قتلة المسيح.
أعلن يسوع لهم أن تعليمه ليس مصدره مدرسة أرضية، ولا أحد الرّبيين أو الناموسيين، إنما مصدره الآب السماوي ويؤكّد بأنّه المسيا: “تعليمي ليس لي، بل للّذي أرسلني” (١٦)، وهذا كشف لطبيعته الإلهيّة، ولكن غلاظة قلوب المعلّمين اليهود وكبرياءهم حالتا دون إدراكهم الحقيقة.
وأيضًا يؤكّد القدّيس كيرلس الكبير، أن يسوع بقوله هذا يظهر نفسه معادلًا لله الآب الذي لم يتعلّم قط بل له معرفة كلّ الأشياء بالطبيعة دون تعلّم، لأنه يفوق كلّ فهم، ويعلو فوق كلّ حكمة موجودة في الكائنات. لهذا كان ممكنًا له من خلال أمورٍ أخرى أيضًا أن يُظهر لسامعيه ويؤكد لهم أن كلّ ما في الآب فيه هو أيضًا، بسبب وحدة الطبيعة.
كذلك نقرأ عند القدّيس أمبروسيوس التالي: “أليس تعليمه بدون بلاغة الحروف؟ يبدو أنّه يعلّم ليس كإنسانٍ بل بالأحرى بكونه اللَّه. إنّه لم يتعلّم إنما يدبّر تعاليمه”.
لم يكن يسوع يطلب مجدًا لذاته، إذ إنّ سمة المخادع أو المضل أن يطلب مجد نفسه ويتكلّم عن على نفسه، وهي سمة أضداد المسيح وسِمَةُ الأنبياء الكذبة، الّذين يطلبون تحقيق إرادتهم الذاتية لا مشيئة الله، لذا قال:” تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي (١٦)”.
إن كان الابن قد صار جسدًا، فمع كونه ابنَ الإنسان، إلا أنّ تعليمه ليس محصلة خبرة بشرية، ولا دراسة زمنية، ولا ثمرة فكر خاص، إنما هو تعليم إلهي حق.
إنّه يُعطي لنا مثلًا عظيمًا في التواضع، فإنّه دون شك مُساوٍ للآب في الجوهر.
قول يسوع لهم بأنّه:” ليس واحدٌ منكم يعمل الناموس” (١٩) هو كلام كبير ولا يجرؤ أحد على التلفّظ به، لأن كلّ واحد منّا يعرف ضعفه وخطاياه، فقط هو وحده يستطيع أن يقول: “من منكم يبكّتني على خطيئة؟” (يو٤٦:٨).
واجه السيّد اتّهام الرؤساء له أنّه مضل بفضحهم وجهًا لوجه، ولم يجروء يجرؤ أحدٌ على إجابته بشيء، واتّهامهم لهم بالإعداد لقتله هو مخالفة منهم لناموس موسى بمجمله. وبانكارهم كذبوا أيضًا مع أن هذا صار شبه مكشوف.
وكان من المستحيل بالنّسبة لهم أيضًا أن يفهموا بالعمق أن السبت هو للإنسان وليس العكس، لأن عبادتهم لِذاتهم أفقدتهم حس الإنسانيّة، وباتوا يتستّرون بالسبت لإخفاء عجرفتهم.
الختان فيه جرح ودم وألم، ومع هذا يُمارَس يوم السبت الذي هو يوم الراحة، فما بالُكَ إذًا بالشِّفاء الذي يَهَبُهُ السيِّدُ المسيح للجَسَدِ بكامِلِه؟
إن كان عمل الناموس المؤلم يُسمح به في السبت، أليس بالأَولى عملُ الإنجيل المفرح، واهبُ السلام أن يُمارَس في السبت؟
لا تحكموا حسب الظاهر، بل احكموا حكمًا عادلًا (٢٤)
الرّب يسوع المسيح يطلب منهم أن يحكموا بالبرّ لا بالمظهر، فإن الانشغال بالحَرف لا بالروح يفسد حكمنا بالنسبة لأمور الناموس
إنّ السَّبتَ لِكَونِهِ يوم “الراحة”، هو يوم الرحمة والحب لحساب مجد الله، وبنيان شعبه، وخلاص كلّ أحدٍ ما أمكن. ليكن حكمهم في شفاء المفلوج يوم السبت من خلال هذا المفهوم الروحي لا الحَرفي.
يشرح القدّيس أغسطينس في عمل الروح الذي تمّمه المسيح هذا فيقول: “الآن نتجدد، وصار لنا الإنسان الجديد، لأنه قد جاء ذاك الذي هو الإنسان الجديد. إذ مَن هو جديد هكذا مثل ذاك الذي وُلد من العذراء…؟ فيه ميلاد جديد وفينا نحن الإنسان الجديد. وما هو الإنسان الجديد؟ إنسان يتجدد من العتق.
إلى أي شيء يتجدد؟ لطلب الأمور السماوية والاشتياق إلى الأبديات، والغيرة لطلب الوطن العلوي، وعدم الخوف من عدو، حيث لا نخسر صديقًا ولا نخشى عدوًا، حيث نعيش بعاطفة صالحة بلا عوزٍ.
فيما يخصّ الموقف من الرّب يسوع يبدو من هذا الحدث الإنجيلي أنّه هناك ثلاث فئات من اليهود
1- الرؤساء والكهنة والفريسيون: يحملون عداوة واضحة ضد السيّد المسيح.
2- أهل أورشليم، يعرفون ما تحمله مشاعر الفئة الأولى، وقد وقفوا في ارتباك بين خضوعهم للقيادات وبين تقديرهم لأعمال الرّب يسوع لذا يقتصر موقفهم على التساؤل.
3- الغرباء الصاعدون إلى أورشليم للعيد، والذين أُعجبوا بالسيّد وهم يجهلون موقف الفئة الأولى ضده وقد دهشوا عندما سمعوه يقول إنّهم يطلبون أن يقتلوه (٢٠).
ويُطرح السؤال الكبير: إن لم يكن الرؤساء قد عرفوا يقينًا أن هذا هو المسيح (حقًا)، فما الذي يغريهم على تحمّل توبيخه العلني لهم، وتجديده للأمور التي كانت فريضة منذ القديم، إذ وُجد يشفي حتى في يوم السبت، ويحزنهم أشد الحزن بقوله بصراحة: “أليس موسى قد أعطاكم الناموس، وليس أحد منكم يعمل الناموس؟” وهم يتحملون كلّ هذا؟ (القدّيس كيرلس الكبير)
فأمام ما كان معروفًا، بأن يسوع ولد في بيت لحم من بيت داود، وأمام ما أعلنه إشعياء النبي: “جيله من يقدر أن يعلنه؟” (إش ٥٣: ٨)، مَن نصدّق؟
وكان هناك مثل ربّاني يهودي مفاده: “ثلاثة أمور تحدث فجائيًا: شيء نجده بالمصادفة، لدغة العقرب، ظهور المسيا”. لهذا تساءل أهل أورشليم إن كان يسوع هو المسيح أم لا؟.
ويستغرب القدّيس يوحنا الذهبي الفم إذ أنّهم قالوا عن المسيح الذي سيولد: ” لا يعرف أحد من أين هو”، مع أن جوابهم لهيرودس عندما سألهم أين يولد المسيح كان في غاية الوضوح والتأكيد: في بيت لحم اليهوديّة!!! إذًا يعرفون ويعرفون جيّدًا، لكن الكبرياء أعمى بصيرتهم.
كانت مناداة يسوع دعوة للجميع، فإنّه لا يُعلِّم خفيةً بل علانية: “من له أذنان للسمع فليسمع”.
فما يعرفونه يتعلّق بناسوته فقط وليس بلاهوته. إنّه المسيا مخلّص العالم، وهذا هو الوعد الإلهي يتحقّق لكنّهم يرفضونه ويرفضون إنجيله.
لم يكن من السهل أن يقبل الرؤساء هذا الحديث، إذ فيه اتهام لهم بالجهل؛ إنهم لا يعرفون الله، بينما هو وحده يعرفه، ليس لأنّه أرسله كما يرسل الأنبياء وإنما هو “منه”، مولود منه أزليًّا.
فمن جهة ينسب إليهم الجهل، ومن جهة أخرى يجعل من نفسه ابنًا مولودًا من الآب، وفي نظرهم هذا تجديف يستّحق عليه الموت. لكن قوة خفية منعتهم من إلقاء أيديهم عليه حتى تحين الساعة.
“أنا من البدء ما أكلّمكم أيضًا به” (يو٢٥:٨). الكلّمات التي أكلّمكم بها ليست بشرية بل إلهية، كما يؤكّد القدّيس أمبروسيوس.
وهذا يذكّرنا بما قاله بولس الرسول: ” يعرفون الله، ولكنهم بالأعمال ينكرون” (تي١٦:١).
خطأهم هذا إنّما يصدر عن شرٍ وليس عن جهل. شرّهم هذا لم يأت لهم بأي ثمار بل آمن به كثيرون وأعلنوا:” ألعلّه المسيح”.
“شفى الرّب المتواضعين والفقراء في الروح. كان القادة في جنونٍ، لهذا ليس فقط لم يعرفوا الطبيب، وإنّما أيضًا يطلبون قتله”. (المغبوط أغسطينس).
اترك تعليقاً