هل الارثوذكسي المتمسّك بإيمانه هو متعصّب؟
لـمّا كان إخوتُنا المسكونيّون يهاجمون لاهوتَ آبائنا القدّيسين المجيدين، مخاطِبين “عواطفَ” الناس لا عقولَـهم وكيانَـهم العميق، ولـمّا كانت هذه الخطابات العاطفيّة مجبولةً بالأفكار المسكونيّةِ الـهدّامة للإيمان الأرثوذكسيّ والـمُعثِرة لنفوس إخوة المسيح، ارتأينا أن نُـجيبَ موضّحين إيمان آبائنا القدّيسين، مخاطِبين عقولَ الناس لا “عواطفَهم”، ومُـحترِمين قدراتِـهم الذهنيّةَ العميقةَ على إدراك الحقائق السامية التي إنّما أتى بها المسيحُ لأجلهم أولًا.
إنَّ اللاهوت الأرثوذكسيّ هو نِتاجُ خبرةِ أولئك الذين التمعوا بالنسك والجهاد، وبلغوا الثاوريا (معاينة الله)، فكان الروح الناطق بالآباء القدّيسين روحًا واحدًا غيرَ منقسمٍ على ذاته وغيرَ مشوَّش، على عكس الروح أو الأرواح الناطقة بفلاسفة هذا الدهر. من هنا اعتقد (اللاهوتيّون) مِن أتباع فلاسفة هذا الدهر أنَّ التشويش الحاصل عندهم هو نفسه حاصلٌ عند الآباء القدّيسين، جاعلين بالتالي الروحَ القدسَ روحًا ناقصًا (كقولهم بأنّه لا حقيقة كاملة عند أحد)، وروحًا منقسمًا على ذاته (كمحاولتِهم هَدْمَ سُلطةِ الآباءِ المطلقةَ في التعليم)، بل روحًا يعمل بِـمَعزِلٍ عن الكنيسة، وبِـمَعزِلٍ عن المسيح…
بِـهذه العيون الدهريّة، يَنظرُ المسكونيّون إلى الحقائق المسيحيّةِ كحقائقَ ناقصةٍ وجزئيّة، مُـخالِفِين القدّيسَ مكسيموس المعترف القائل: “تسلّمَ التلاميذُ الحقيقةَ كاملةً يوم العنصرة”. وبالتالي، يشوِّهُ المسكونيّونَ طبيعةَ الحقيقةِ الإلهيّةِ التي لا يمكن أن توجد بشكلٍ جزئيٍّ أو نسبيّ، ولا يمكن أن تكون مختلطةً بغيرِها من زؤان البدع والهرطقات، فإمّا تكون الحقيقةُ كاملة أو لا تكون.
فيزعمون بأنّ من تمسّك بفكر الآباء القدّيسين هو متعصّب. والحقيقةُ أنّ المتمسّك بالتعاليم الإلهيّة لا يجدُ حَرَجًا في أن يقول للآخَرِ “نحن مختلفون معك إيمانيًا” في الجوهر والعمق، ومع ذلك، نحن مستعدّون للعيش معك في هذا المجتمع وهذا الوطن بل وخدمتك وطاعتك إذا كنتَ رئيسًا علينا في كلّ ما يخصّ الحياة الاجتماعيّة والوطنيّة. لذلك فهموا التعصّب بشكلٍ معاكس وليس بمفهومه الدقيق الذي هو الأنانيّة وانطلاق الإنسان من ذاته، فأصبح التحرّرُ عندهم انغلاقًا والانغلاقُ تحرّرًا، مكرّسين سلطان الأنا في تحليل كلّ شيء. ولهذا دعوة الأرثوذكسية الحقّةِ هي أن يتحرّر الإنسانُ من أناه من خلال النُّسك، لكي يتحرّر من التعصّب ويترك الكلام والتصرّف لله الذي يعمل فيه. فهل الاعتمادُ على الآباء القدّيسين والاستشهادُ بهم والتسليمُ الكلّيّ لِفكرِهم يُعتبر تعصّبًا وتقوقعًا!! بالعكس تمامًا هو قمّةُ الانفتاح والتحرُّر من الأنا، والتواضعُ والتسليمُ الكُلّيّ لإلهام الروح القدس غيرِ الـمُتغيّر مع تغيّر الأزمنة.
مُن نُعت بالمتعصّب أُتبع بأوصافٍ أُخَر كالتكفيريّ والكارِه وعادم المحبّة. وفي الـمُقابلِ يتّخذون لأنفُسِهم عنوانًا أساسيًّا هو “المحبّة”، تلك المحبّةُ المزعومةُ التي تتصدّر العملَ المسكونيّ وترافقُه، وهي محبّةٌ مزيّفةٌ جَوفاء، ليس فيها من المحبّة سوى لفظِها. أن تترك أخاك الإنسانَ يتمادى في تدمير خلاصه ولا تعطيه الحقيقةَ كما هي، ليس من المحبّةِ في شيء. لا بل إنّ مزاوجة الحقيقة مع الزيف هي قلّة محبّة. الحقّ أرفع من المحبّة، كما يقول القدّيسُ يوحنّا الذهبيُّ الفم: “إذا رأيتم التقوى تتألّم في مكان ما، لا تقدّموا الاتّفاقات على الحقّ، بل التزموا بشجاعةٍ حتّى الموت… ولا تخونوا الحقّ في أيّة مناسبة”.
يلعبون على عواطف الناس بأساليبهم التضليليّة مستغلّين أقوالاً آبائيّة، تظهر وكأنّ الأرثوذكس المتمسّكين لا ينفّذونها، أمّا الحقيقة فيفهمها المتمسّكون وحدهم وبالتالي ينفّذونها، ولكن همّهم هو، إظهار الأرثوذكس المتمسكين بأنّهم مبغضون وكارهون، وتشويه صورتهم وكسب عطف الناس وأنّهم يقتلون من هو خارج عن ايمانهم!! يحملون سكاكين وأسلحة !! صدقًا لم أجد أشخاصًا محبّين للناس أجمع، أكثر من الأرثوذكسيّين المتمسّكين بأقوال الربّ يسوع حتّى المنتهى. فآية “أحبّوا أعداءكم” لم ولن يفهمها إلا الأرثوذكسيون المتمسّكون بنهج القدّيسين الباذلين أنفسهم من أجل الإيمان المستقيم. أمّا قمّة البذل فهي بأن لا أبذل المسيح وأقدم لهم مسيحًا جديدًا مبتذلاً نابعًا من أهوائي، بل أن أحبّهم لدرجة إرشادهم إلى المسيح الحقيقيّ، إلى الحقّ والحياة.
لهذا كلّه ولكي لا نكون متعصّبين على أفكارنا، في كلّ مرّة نريد أن نعرف موقف الكنيسة من أيّة فكرة حديثة، نلجأ الى آراء القدّيسين، ودائمًا هم في اتّفاق، على عكس ما يروّج المسكونيّون لهم معتمدين على تفسيرٍ معيوبٍ لنقاش دار بين هامتي الرسل بطرس وبولس. أتى موقف الرسول بطرس نتيجة سقطات وضعفات بشريّة لأمور تدبيريّة في الكنيسة لا علاقة له بالإيمان لديه.. فكيف يلتمع اذا الروح الواحد هنا وهناك إن كان هناك عكس هنا وبالصميم!! فهل أفهم من هذا أنهم يقولون بأنّ هذا الروح مشوّش!! منقسم على نفسه!! يدعو بتعدديّة الكنائس على عكس شريكه في الألوهة الابن يسوع المؤسّس لكنيسة واحدة!! هل يلتمع الروح في الطائفة المختلفة عن الكنيسة أم في أشخاص ولو خارج الحظيرة وحصرًا، لكي يقودهم إلى الأرثوذكسية!! ولهذا نحن لا نحكم على من هم خارج الأرثوذكسية ولا حتى على من هم في داخلها، لأنّ الحكم لله.. بل جلّ ما نطلبه هو تكريس طريق الملكوت والمحافظة عليها وعدم تشويهها من أجل جميع الناس… لنستخلص من كلّ هذا، أنّه لا توجد أي التماعات لفعل الروح القدس وحضوره إلاّ في الكنيسة الأرثوذكسية، وإلاّ كان روح تشويشٍ وضلال، مع العلم بأنّه يلتمع كما قلنا في أشخاصٍ من خارج الحظيرة ليقودهم إلى الكنيسة، وعكس ذلك يحتاج إلى قولٍ آبائي.
وفي موضوعنا هذا، إنّ الرفض هو كلّيّ لتوجّه الحوار المسكونيّ، وأهمّ من واجهها القديس يوستينوس بوبوفيتش الذي نعتها بهرطقة الهرطقات والقديس بورفيريوس والقديس نكتاريوس والقديس بايسيوس و…. أمّا من غير القدّيسين فنجد لاهوتيّين أرثوذكسيّين كبارًا (فلوروفسكي ورومانيدس) الذين اختبروا هذه التجربة ونعتوها فيما بعد بأنها الأسوأ في تاريخ الكنيسة لكون همّها الأساسيّ تدمير العقيدة والإيمان. كان يلزمنا أبٌ قديسٌ واحد من الكنيسة تكلّم عن المسكونيّة بشكلٍ جيّد لكنّا تبنّيناها فورًا، ولكنهم لم يعلنوا قداسة أثيناغوراس وغيره. حتى المسكونيّون لم يعلنوا قداسة أحدٍ من المسكونيّين!!
ذهب الأب رومانيدس إلى اللقاء المسكوني ليبشّرهم بالأرثوذكسية فقط لا غير، وبشكل خاص الأنكليكان حيث عمل على تعليم صلاة يسوع لأساقفتهم، ولكن الآباء الأرثوذكس وقفوا بوجهه يقولون له بأنه لا يجب أن يعلّمهم لاهوتًا بل أخلاقيّاتٍ مزيّفة، ولهذا رُسمت خارطة طريق للحوار المسكونيّ همّها طمس العقيدة، وتقديم تنازلات عقائديّة في هذا الحوار، وعدم الشهادة للحقّ، وإرضاء الطوائف التي تُـهرطقُ قدّيسِينا العظام. فتلكَ الطوائف تعتبر القدّيسين أمثال غريغوريوس بالاماس ومرقس الأفسسيّ أكبر المهرطقين في التاريخ المسيحيّ، بينما هما في الكنيسة من أعمدة الإيمان الأرثوذكسيّ اللذَين حفظا الإيمان حتى يومنا هذا. فهل نعتبرهما متعصّبَين!! هل هما سلفيّان لأنّـهما تمسّكا بالإيمان المستقيم في وجه الغربِ الـمُنحرف!! هل تحدّياتُ عصرِهما كانت مختلفةً عن تحدّيات عصرنا!!
لسنا بحاجة إلى تقديم شهادات من كتابات الآباء القدّيسين عن المسكونيّة، بل سنكتفي بما يقوله القدّيس نكتاريوس العجائبيّ: “التقليد (التسليم) المقدّس هو الكنيسة بعينِها وبدون التقليد المقدّس لا توجد كنيسة. إنَّ من ينكر التقليد، إنّما ينكر الكنيسة وتعليم الرسل”. وبقول الشيخ صفرونيوس زخاروف تلميذ القديس سلوان الآثوسي: “اللاهوت الأكاديمي لا يكفي للخلاص. إقرؤوا خاصةً الآباء النساك. هناك تتعلّمون اللاهوت الحقيقيّ”. يقول هو نفسه في موضعٍ آخر: “ولكنّ “اتّحاد الكنائس” صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً. أولئك الذين يتحدّثون عن “اتّحاد الكنائس” لا يعرفون عقليّة غير اﻷرثوذكس ولا سموّ الأرثوذكسية… أنا لا أريد “اتّحاد الكنائس“ لأنّ الكاثوليك لن يتغيّروا والأرثوذكس لن ينحرفوا.”
يقول القدّيس باييسيوس الآثوسيّ: “لسنا بحاجةٍ لأن نقول بأنّ المسيحيّين غير الأرثوذكس ذاهبون إلى الجحيم أو أنّهم ضد المسيح. ولكن أيضًا لا ينبغي أن نقول لهم إنّهم سوف يخلُصون، لأن هذا يمنحهم تطمينات كاذبة، ونحن سوف نُحاسَب على ذلك. علينا أن نعطيهم قدْرًا جيدًا من عدم الارتياح، وأن نقول لهم إنّهم مخطئون”.
تسمّى القديس باييسيوس الآثوسي العظيم هذا على إسم القديس باييسيوس الكبير (القرن الرابع). كان لهذا الأخير راهب يتتلمذ على يده. التقى هذا الراهب مع أشخاص غير مؤمنين تحاوروا معه قائلين بسخرية وتهكّم: “المسيح ليس الله”. فأجابهم الراهب حتى يتجنب الحوار معهم: “مثلما تريدون لا يهمّ”. وعندما ذهب إلى الدير، قرع القدّيس باييسيوس الباب عليه وقال له: “مّن أنت أيها الغير معمّد”. فبقي يجاهد سنين كثيرة لكي تعود نعمة المعمودية الى العمل.
مَن ضلّ في واحدة ضلّ في الجميع، ولهذا ليس صدفةً أن يكون المسكونيّون مع تشريع الصلوات المشتركة مع الغير، ومع هدم سلطة الآباء المطلقة في التعليم، ومع جعل كنيستنا الوحيدة جزءًا من الكنيسة، وهم أنفسهم لا يعترفون بتاريخية العهد القديم…
النهاية البسيطة لكلّ ما قلناه، هو أنّ الحركة المسكونيّة هي حركة أرضيّة بشريّة من دون نعمة الله، انطلاقاتها بشريّة محضة ولا تسعى إلى تقديم الملكوت، لذلك لا نستطيع أبدًا التبشير في هذه اللقاءات لأنّها تشوّه الحقيقة لعدم وجود النعمة فيها وتهيئ للمسيح الدجّال على حدّ قول الأب أثناسيوس ميتيليناوس: من أراد أن يكرز ويبشّر بالمسيحية الحقّة لا عليه سوى أن يتحاور مع الآخر على الصعيد الشخصيّ، وهذا ما منعته الحوارات المسكونيّة بين الطوائف. فهذه الإتفاقيات المسكونيّة تمنع تبشير الطرف الثاني بالكلّيّة (وهذا واضح في الاتفاقيّات التي عُقدت بين الغرب وبطاركة الروم). التبشير بالأرثوذكسيّة هو الغاية ولكن لا يتاح إلاّ لأشخاص أرثوذكسيّين لا يساومون أمثال القديس باسيليوس الكبير الذي قد شوّهوه مؤخرًا ليصبح مسكونيًا، هو الذي أنهى على الآريوسيّة بالكامل بنقاشاته معهم.
أُنهي بقولٍ للقدّيس ثيوذوسيوس الكهفيّ: “يا بنيّ لا يليق الثناء على معتقدٍ آخر، فمن يُشِيد بإيمانٍ غريب هو كالذي يذمّ بإيمانه الأرثوذكسي، من يُثني على دينه كما على دينٍ آخر، هو رجلٌ مزدوج الإيمان وقريب من الهرطقة، أتعتبر أنّ لله إيمانَين؟ ألم تسمع ما يقوله الكتاب المقدس “ربٌ واحدٌ، إيمانٌ واحدٌ معمودية واحدة(أفسس 4:5)”.
لقد صدق الشماس اللاهوتي اسبيرو جبور، )نفعنا الله ببركاته( بقوله: “الأرثوذكسيّةُ جوهرةٌ في رقبة خنزير”.
الشماس نقولا سجيع الشامي
اضيف جملة واحد لما ورد وانامتفق مع كات به كل الاتفاق اقول وبكل اسف:
“ان مجرد توضيح عقيدتنا الارثوذكسية وليتورجيتنا بمقال او بحديث يجعلنا مباشرة تحت اتهام بأننا متعصبون ونخلق الفتن الطائفية”
لوكنا متعصبين لما كنت ترى اي طائفة اخرى في انطاكية العظمى كل ماتم هو لأننا كنا منفتحين ومؤمنين بأننا واحد في المسيح وفتحنا للمبشرين بيوتنا وقلوبنا قبل كنائسنا وهذا ماجعل البسطاء فينا والعظيمي الايمان يُستلبون اما العارفين والمثقفين والمدافعين فتهمتهم جاهزة…التعصب…!!!
“شو هالروم شو متعصبين وشو هالزلمة شو متعصب”!!!
Beta feature
اترك تعليقاً