آلهة ذو الشرى وأثرها في الديانة النبطية القديمة
الجغرافيا، والتاريخ والدين …
تلك الثلاثية التي لا يمكن إغفالها عند دراسة أي حضارة من الحضارات القديمة وبالأخص ما يتعلق منها بالأمور الدينية والعقائدية.
فما بين الجغرافيا التي امتدت من هجرا جنوبًا في الحجاز حتى بصرى شمالا في اقليم حوران السوري الجنوبي. يعد هذا الامتداد البيئة الطبيعية لحكم الأنباط بين الحجاز والجنوب السوري. لكن لا ننسى أن الأنباط امتدوا بحكمهم إلى دمشق، حيث حكموها عام 85 ق.م. وما بين التاريخ الذي امتد قرابة ثلاثة قرون أو حتى أربعة قرون حتى آخر ملك فيهم سنة 106م، حيث ألحقت في هذه السنة الأراضي النبطية بالإمبراطورية الرومانية. وهي المنطقة التي دُعيت رومانيًّا «Provincia Arabia» منذ انتهاء الحكم النبطي.
ولا شك في أنّ نهاية الأنباط سياسيًّا لم تكن تعني أبدًا انتهاء وجودهم من على حلبة التاريخ. بيد أنّ الأمر المهم الذي لا يجب إغفاله هو التغير والتحوّل في أساليب الحياة النبطية، وبخاصة على المستويين الثقافي والديني. وتعتبر الدلائل النصية مهمة، وبخاصة مظاهر العبادة النبطية الشمسية المرتبطة، ربما، بالإله «ذو الشرى» رغم أهميتها الحيّة، إلا أنها تبقى قليلة جدًّا ولا تفيد في رسم صورة وافية عن الأنباط؛ وهذا إنْ لم نذكر أنّ التاريخ لم يُقدّم لنا نبطيًّا واحدًا تحدث عن دينه بنحو خاص. لهذا كان اعتماد معظم من كتبوا في هذا المضمار على الدلائل المادية، من نقوش وغيرها، كبيرًا لتغطية هذا النقص.
وما هو مهمٌّ في التعامل مع هذه الأدلة المادية أنّ الكثيرين يأخذون منها ما يخص الجوانب التاريخية دون انتهاج منهج النقد والتحليل. وعند التعامل مع قضية مثل تلك التي تُتناوَل لا يجب إغفال أنّ الأنباط لا يجب التعامل معهم إلا بكونهم قد مثّلوا البداوة العربية. لكن من جانب آخر يجب مراقبة التغير الهائل الذي مرت به هذه البداوة تحت التأثير الروماني وقبله الهلنستي، ومن ثم لاحقًا الهلنستي – الروماني. وهذا ما كان له استحقاق تاريخي طاول الحياة الدينية النبطية نفسها. إنها بداوة، نعم! بيد أنها بداوة «تهلنست» و«ترومنت» بفعل التلاقح الكبير، الثقافي الديني، الذي طاول الأنباط. وهنا يجب أن تُذكر مقولة لـ«غلين بوَرسوك»، حول إدماج «اللغة التصويرية» الهلنستية بالتراث المحلي النبطي، لكن من دون إلغاء أو الحلول محل الثقافة المحلية. والجملة تتعلق بالإله «ذو الشرى»، الإله الأكبر للأنباط، حيث يتشرب وجه «ذو الشرى» بالثقافة الهلنستية التصويرية: «لقد منحت الهلنستية الوجه لإلهٍ عبد سابقًا كصنم، لكنّ وجهه بقي وجهًا عربيًّا»(1)، وما تعنيه لفظة «عربي» أي بدوي، لكنه ملقح بالهلنستية.
تراث غير متأيقن
يُقرّ بعض العلماء أنّ التراث الديني النبطي في الأصل هو تراث ينتمي إلى التراث الساميّ، وهو تراث كان من بين أهم سماته أنه «غير متأيقن Aniconic»، أي أنّ المنحوتات والأنصاب فيه لا تظهر بأنه يدخلها فعل الأيقنة التصويرية المشهورة به التماثيل الإغريقية. هذا على حد زعم بعض العلماء؛ لكن مع تشرب التراث العربي بالهلنستية، بدأنا نلاحظ أن بعض «الأنصاب» تتحول إلى «أصنام»، أي إلى «صور» والصنم في الأصل هو «الصورة». لكنّ الشيء المهم هنا الذي ينبغي تسجيله أنه رغم أنّ وجه «ذو الشرى» يتسم بنكهة محلية مشوبة بالبداوة، وبالتالي يبقى وجهًا «محليًّا عربيًّا»، إلا أنّ تجسيمه وفق صورة، هو تجسيم هلنستي.
هذا المثال المهم له استحقاق على كل الحياة الدينية للأنباط، وبالأخص بعد إلحاقهم بالإمبراطورية الرومانية. إنهم في الواقع يمثلون أجداد حضارة غرب آسيا العربية. ولا يجب أبدًا حين دراستهم دينيًّا، إغفال أنهم جزء من بحيرة المتوسط الكبيرة التي غلب عليها التراث الإغريقي، ومن ثم لاحقًا جزء من تراث العالم الإغريقي الروماني.
ومن الناحية العلمية الأكاديمية، فقليلة هي الدراسات الجادة التي تناولت بيئة الأنباط العربية، شبه المنسية، وبخاصة من الناحية الدينية. وبالفعل، ليس هناك إلا النزر اليسير من الدراسات التي ما زال في مقدمتها الدراسة التاريخية التي نشرها جون هيلي عام 2001م عن دار بريل(2)، حيث تناول فيها أهم المعالم الدينية والثيولوجية المتعلقة بالأنباط العرب. ورغم الأهمية القصوى لهذه الدراسة، فإنها لم تُشكّل إلا خطوة من الخطوات الأولى في سبيل سبر وتغطية المحيط العربي قبل الإسلام من وجهة نظر نقدية – تاريخية تضع هذا المحيط وفق استحقاقه التاريخي الدقيق.
وهنا تكمن مشكلة ما نحن بصدده إذ نحاول تسليط الضوء على جانب مهم من تلك الحياة الدينية للأنباط ألا وهي: (آلهة «ذو الشرى» وأثرها في الديانة النبطية القديمة).
تتضح أهمية هذا الموضوع فيما يلي: أولًا، تعلق هذا الموضوع بموضوع يهتم بالعقيدة لأقوام عاشوا في ديارنا في عصر ما قبل الإسلام. ثانيًا، أنني لم أجد دراسة علمية مفصلة جامعة لشتات ما يتعلق بالموضوع في مؤلف واحد تشبع رغبات طلاب العلم، مع الحاجة الشديدة لها. ثالثًا، إبراز عقائد حضارة من الحضارات التي ذاع صيتها خلال قرنين من الزمان في شبه الجزيرة العربية. رابعًا، بيان حقيقة الآلهة وتحديدًا آلهة «ذو الشرى» التي أثرت في عقائد أولئك القوم وما تركته من آثار اجتماعية وثقافية عليهم. خامسًا، الإفادة العلمية التي تترتب على دراسة هذا الموضوع؛ إذ يمكن من خلال هذه الدراسة الاطلاع على كثير من المسائل التاريخية والدينية. سادسًا، احتياج المكتبة الإسلامية بصفة عامة والدينية والتاريخية بصفة خاصة إلى مثل هذا الموضوع.
دراسات سابقة
مع الاطلاع المبدئي للمكتبات العربية والأجنبية على المصادر والدراسات التي تناولت الديانة النبطية وآلهة «ذو الشرى» تبين لي افتقار المكتبة العربية الشديد لمثل تلك الدراسات التي تناولت تلك القضية من الناحية العلمية الأكاديمية، فقليلة هي الدراسات الجادة التي تناولت بيئة الأنباط العربية، وبخاصة من الناحية الدينية. وبالفعل، ليس هناك إلا النزر اليسير من الدراسات الاجنبية التي ما زال في مقدمتها: أولًا، الدراسة التاريخية التي نشرها جون هيلي(3) (2001م). إذ تناول فيها أهم المعالم الدينية والثيولوجية المتعلقة بالأنباط العرب. ورغم الأهمية القصوى لهذه الدراسة، فإنها لم تُشكّل إلا خطوة من الخطوات الأولى في سبيل سبر وتغطية المحيط العربي قبل الإسلام من وجهة نظر نقدية – تاريخية تضع هذا المحيط وفق استحقاقه التاريخي الدقيق.
ثانيًا، وربما يمكن عدّ الخطوة التالية، بعد دارسة هيلي، في شأن تناول الدين النبطي، هي دراسة بيتر ألباس(4). وما يميز دراسة بيتر ألباس هو مصادرها التاريخية الغنية بالدلائل، من بقايا أركيولوجية ونقشية ونحتية…، فضلًا عن الدلائل النصية التي أشارت للأنباط، إما بهدف وصفي أو سياسي أو ديني أو بهدف تاريخي بحت، وقد درسها نقديًّا وفق منهجيته التاريخية الصارمة. وما يميز دراسته تلك من غيرها من الدراسات التي تناولت الأنباط، هو دراستهم وفق مناطقهم التاريخية التي استظلت بوجودهم وتأثير ذلك في مسارهم السلوكي والعبادي الديني، وبخاصة في عاصمتهم التاريخية «بترا» وما سكنها من معابد وآلهة وثنية «طبيعة العلاقة بين الآلهة وبين عبادها»، هذا فضلًا عن دراسة مناطق في الحجاز «هجرا في سياقها»، الذي تناول فيه القضايا الدينية لمناطق تيماء ودادان وهجرا، ودراسته للنجف النبطية، ومن ثم دخول ألباس المهم إلى منطقة حوران السورية، حيث درس فيها التشابك الديني مع الثقافي مع السياسي.
ثالثًا، دراسة المؤرخ الإغريقي ديودورس الصقلي (30-60ق.م) الذي له «المكتبة التاريخية». رابعًا، دراسة الجغرافي والمؤرخ الشهير سترابو (64/63ق.م-24م) الذي اشتهر بروائعه في عمله «الجغرافية». وربما تعتبر الشهادات التي قدمها سترابو عن الأنباط من بين الدلائل النصية الأهم، وبخاصة ذكره أحد مظاهر العبادة النبطية الشمسية المرتبطة، ربما، بالإله «ذو الشرى». بيد أنّ هذه الدلائل النصية رغم أهميتها الحيّة، إلا أنها تبقى قليلة جدًّا ولا تفيد في رسم صورة وافية عن الأنباط.
مراجع
1) Bowersock, G. W. Hellenism in Late Antiquity, The University Of Michigan, 1990, p. 8 – 9).
2) Healey, John F., The Religion of the Nabataeans, A Conspectus, Brill, 2001
3) Healey, John F., The Religion of the Nabataeans, A Conspectus, Brill, 2001
4) الحياة الدينية لبلاد الأنباط
Alpass, Peter J., The Religious Life Of Nabataea, Brill, 2013
(تغريد القحطاني/ الفيصل)
اترك تعليقاً