أمولوغية دوسيثيوس أو رسالة البطاركة (١٦٧٢)
- القضية الأولى: نؤمن بإله واحد حق ضابط الكل لا حدَّ له آب وابن وروح قُدُس، آب غير مولود وابن مولود من الآب قبل كل الدهور ومساوٍ له في الجوهر، وروح قُدُس منبثق من الآب ومساوٍ للآب والابن في الجوهر. وهذه الأقانيم الثلاثة نسميها ثالوثًا أقدس في جوهر واحد تباركه البرايا بأسرها في كل حين وتمجده وتسجد له.
- القضية الثانية: نؤمن بأن الأسفار الإلهية موحًى بها من الله؛ ولذلك يجب علينا أن نثق بها غير مرتابين، ونصدقها دائمًا على حسب ما فسرتها وسلمتها لنا الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية. نعم إن أصحاب البدع الرجسة يقبلون هم أيضًا الأسفار الإلهية، ولكنهم يحرفون فيها الكلمات عن مواضعها بادعاء ترادف الكلمات والتأويل والسفسطة بمقتضى حكم العقل والحكمة البشرية، خالطين فيما لا خلط فيه ومتلاعبين فيما لا يباح التلاعب فيه. فلو صح ذلك وانفرد كل واحد بالرأي لما كانت كنيسة المسيح الجامعة حاصلة، مع تمادي الأيام إلى يومنا هذا، على وحدة الرأي من جهة الإيمان والثبات الدائم بدون تزعزع في اعتقاد واحد، ولما كانت الكنيسة عمودَ الحق وقاعدته ولا خالية من الدنس والعيب، بل كانت تنشق بالبدع إلى فرق شتى فتصبح مجتمع أشرار خبثاء، وهو ما صارت كنائس الهراطقة والحال ظاهرة بلا إشكال. وهؤلاء مع كونهم قد تعلَّموا من الكنيسة الجامعة فإنهم يرفضونها عن خبث ورداءة. أما نحن فإننا نعتقد أن شهادة الكنيسة الجامعة ليست أقل من شهادة الأسفار الإلهية؛ لأن مبدعها واحد هو الروح القدس. وإذا كان مصدر شهادة الكنيسة؛ أي التقليد الشريف وشهادة الأسفار الإلهية واحدًا فلا مشاحة في أن تعليمها أيضًا واحد. ثم إنه إذا تكلم إنسان أيًّا كان من عنده فمن الممكن أن يخطئ ويَضل ويُضل، أما الكنيسة الجامعة فإذ كانت لم تتكلم قط ولا تتكلم أبدًا من تلقاء نفسها، بل إنها تكلمت وتتكلم من الروح القدس «الذي يغني المعلِّم أيضًا إلى الدهر»، فلا يمكن أصلًا أن تخطئ أو تضل أو تُضل، بل هي متفقة مع الكتاب الإلهي، وهي ثقة على الدوام فيما تعلِّمه.
- القضية الثالثة: نؤمن بأن الله الفائق الصلاح منذ الأزل قد اختار البعض فعينهم للمجد ورفض آخرين فسلمهم للدينونة، ولكنه لم يشأ تبرير الأولين ولا دينونة الآخرين على بسيط الحال وبدون علة؛ فإن ذلك لا يليق بالله جلَّ شأنه أبي الكل الذي ليس عنده محاباة الوجوه، إن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (تيموثاوس ٢: ٤)، بل نظر أن الأولين يستعملون حريتهم حسنًا والآخرين رديئًا، فأنال أولئك ما عيَّنهم له وقضى على هؤلاء. ونحن إنما نفهم باستعمال الحرية أن النعمة الإلهية المنيرة التي ندعوها إعدادية الموهوبة بفرط الصلاح الإلهي نورًا للموجودين في الظلام الذين يريدون أن ينصاعوا لها؛ لأنها إنما تنفع من يريد لا من لا يريد، وأن يرتضوا بما توصي هي به مما هو ضروري للخلاص، نقول إن هذه النعمة تمنحهم نعمة خصوصية تساعدهم وتقويهم وتجعلهم ثابتين في محبة الله؛ أي فيما يريد الله أن يفعلوه من الخير مما فرضته النعمة الإعدادية، وتكملهم وتبررهم وتجعلهم معينين للخير بسابق التحديد. أما الذين لا يريدون أن ينصاعوا للنعمة ويرتضوا بها ومن ثَمَّ لا يعملون بما يريد الله أن يفعلوه، بل يستخدمون الحرية التي نالوها من الله لاستعمالها طوعيًّا في فعل الخير ويستعملونها في الحركات الشيطانية، فهؤلاء يدفع الله إلى الدينونة الأبدية.أما ما يقوله الهراطقة من أن الله تعالى يسبق فيحدد البعض للخلاص والبعض للدينونة بقطع النظر عن أعمال كل منهم، فإننا نعتبره قولًا شنيعًا مردودًا دنسًا جدًّا، فلو كان ذلك صحيحًا لنا قضت الأسفار الإلهية بعضها بعضًا؛ لأنها هي تعلم أن المؤمن يخلص بالأعمال، وأن الله تعالى إنما هو السبب بمنحه النعمة المنيرة قبل الأعمال لكي توضح للإنسان حقيقة الإلهيات، وتعلِّمه أن ينصاع لها إن شاء، ويفعل الخير وما هو مرضي عند الله فينال الخلاص، فالطاعة لله أو عدم الطاعة له لا تقتضيان إرادة الإنسان أو عدم إرادته. أَوَليس هوسًا بل جنونًا الزعم بأن الإرادة الإلهية هي علة للأعمال تفعل عفوًا أو بدون داعٍ؟ أَوَلا يكون هذا الزعم وشاية بحق الله جلَّ شأنه، وتظلمًا وتجديفًا عليه تعالى، فإننا نعترف بأن الله بريء من الشر يريد خلاص الجميع على السواء، وأنه لعدله يسمح بدينونة للذين ضلوا بسوء إرادتهم وصلابة قلوبهم وعدم توبتهم خطاة دنسين، فلا نزعم البتة بكون الله القائل إنه يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب سببًا للعذاب الأبدي وينبوع قساوة وعدم تحنن ومقت للبشر، معاذ الله أن نؤمن بمثل ذلك أو يتبادر فهمنا إليه ما دمنا غير فاقدي الشعور، وإننا نوثق الذين يقولون مثل ذلك ويعتقدون به بالجرم الأبدي ونعترف بأنهم أقبح كل الكافرين.
- القضية الرابعة: نؤمن بأن الله المثلث الأقانيم الآب والابن والروح القدس هو خالق كل ما يُرى وكل ما لا يُرى، ونعني بما لا يُرى القوات الملائكية وكل النفوس الناطقة والشياطين، على أنه من المعلوم أن الله لم يخلقهم شياطين، بل هم من تلقاء إرادتهم أمسوا كذلك.وبما يرى نعني السماء وكل ما تحتها، ولما كان الخالق — سبحانه وتعالى — كلي الصلاح بالطبع صنع كل ما صنعه حسنًا جدًّا، ولا يمكن أن يكون خالق الشر أصلًا، فإن رأينا في الإنسان أو الشيطان شرًّا ما؛ أي خطيئة حادثة على خلاف الإرادة الإلهية فيكون ذلك صادرًا إما عن نفس الإنسان أو نفس الشيطان، فإنه لا شر في الطبيعة مطلقًا، وهي قاعدة صادقة ثابتة أن الله ليس بخالق الشر، وبالتالي فلا يحق أن يحكم على الله بخلق الشر.
- القضية الخامسة: نؤمن بأن كل المخلوقات منظورة كانت أم غير منظورة تسوسها العناية الإلهية، فالشرور كيفما كانت يسبق الله فيعرف ويسمح بحدوثها، ولكنها لا تحدث عن عناية له؛ إذ ليس هو خالقها، ولكنه عَملًا بصلاحه الإلهي يحولها أحيانًا بعد حدوثها إلى شيء أفضل على قدر طاقة البشر؛ ولذا فإنه يفرض علينا والحالة هذه أن نحمل العناية الإلهية لا أن نبحث في أحكامها المكنونة وغير المعلنة لنا البتة، بل كل ما سلمتناه الأسفار الإلهية عن هذه العناية الإلهية يجب علينا أن نبحث فيه بطيب خاطر وسلامة ضمير؛ لأنه يجدي نفعًا للحياة الأبدية. وبالتالي فإنه يجب أن نقبل المعاني الأولية على الله — سبحانه وتعالى — بدون شك ولا ارتياب فيها.
- القضية السادسة: نؤمن بأن الإنسان الأوَّل المخلوق من الله في الفردوس سقط بغواية الحية وخالف وصية الله، فنتجت الخطيئة الجدية بالتسلسل، فلم يولد أحد بدون أن يكون حاملًا على عاتقه هذا العبء ويشعر بعواقب هذه الخطيئة في هذا الدهر. وبقولنا عبئًا وعواقب لا نعني الخطيئة كالكفر والتجديف والقتل والعداوة وما شاكل ذلك مما يضاد مشيئة الله لحدوثه لا حدوثًا طبيعيًّا، بل عن خبث إرادة، فإن كثيرين لم يكونوا قد ارتكبوا ما أشبه تلك الزلات كالأجداد والأنبياء وغيرهم وكثيرين لا يحصون عددًا ممن عاشوا في شريعة الظل شريعة الحق مثل يوحنا السابق الإلهي، ولا سيما مريم أم كلمة الله الدائمة، بل بقولنا عبئًا وعواقب نعني اقتراب الشر منا، وكل ما نال الإنسان بالمعصية من قِبل العدل الإلهي قصاصًا له كعرق التعب والضيقات والأمراض الجسدية وأمخاض الولادة والعيشة بالشقاء والأتعاب في دار الغربة هذه، وأخيرًا الموت الجسدي.
- القضية السابعة: نؤمن بأن ربنا يسوع المسيح ابن الله قد احتمل الإخلاء؛ أعني أنه قبل في أقنومه الخاص البُشرة؛ إذ حُبل به من الروح القدس في بطن الدائمة البتولية مريم، وتأنس وولد دون أن يسبب وجعًا أو مخاضًا بمن صارت أمه بالجسد أو أن ينزع بُتوليتها. وأنه تألم وقُبر وقام بمجد في اليوم الثالث على ما في الكتب وصعد إلى السماء وحُبس عن يمين الله الآب، ونحن ننتظر مجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات.
- القضية الثامنة: نؤمن بأن ربنا يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد، وأنه بذل نفسه فداء عن الكل وأجرى بدمه الخاص المصالحة بين الله والناس، وأنه يعتني بخاصته فهو المعزي والكفارة عن خطايانا، ونعترف أيضًا بأن القديسين هم شفعاء في صلواتهم وتوسلاتهم إلى الرب، ولا سيما أُم كلمة الله الكلية الطهارة والملائكة القديسين الذي نعتبرهم شفعاء لنا والرسل والأنبياء والشهداء والأبرار، وكل الذين مجَّدهم الله جلَّ جلاله لكونهم خدَّامًا أمناء له، ونحصي في مصافهم رؤساء الكهنة والكهنة أيضًا لكونهم أشخاصًا دأبهم المثول أمام المذبح الإلهي، وكذلك الرجال الصديقون المختارون بفضائلهم؛ وذلك لأننا نتعلم من الأقوال الإلهية أن نصلي بعضنا من أجل بعض، وأن صلاة الصديق تُقتدر كثيرًا، وأن الله يستجيب للقديسين أكثر مما يستجيب للمنغمسين في الخطايا، ونعترف أيضًا بأن القديسين لا يكونون وسطاء وشفعاء وهم في دار الغربة هذه فقط، بل بعد الموت أيضًا وخاصة متى تخلصوا من المرآة فصاروا يشاهدون عيانًا الثالوث الأقدس الذي بنوره غير المحدود تنجلي لأذهانهم معرفة شئوننا. لأننا كما لا نرتاب بأن الأنبياء وهم بالأجساد يعلمون الأمور السماوية، وبه يوحون إلى الناس المستقبلات، كذلك لا نشك بأن الملائكة أيضًا ومن أصبحوا كالملائكة من القديسين يعلمون أمورنا بواسطة ذلك النور الإلهي الذي لا حدَّ له، بل بالأحرى نؤمن نحن بذلك ونعترف به من دون أدنى ارتياب.
- القضية التاسعة: نؤمن بأن لا أحد يخلص بدون إيمان، والإيمان في عرفنا هو الاعتقاد القويم بالله ولا بإلهيات، فهذا الإيمان عندما يفعل بالمحبة؛ أي بالوصايا الإلهية، يبررنا لدى المسيح، وبدونه لا يمكن أن نسترضي الله.
- القضية العاشرة: نؤمن بأن الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية الأرثوذكسية التي تَعلمنا أن نؤمن بها تضم في أحضانها كل المؤمنين بالمسيح عمومًا؛ أي الموجودين في دار الغربة هذه ولم ينتقلوا بعد إلى الوطن السماوي. فبعض الهراطقة يتوهمون أننا نخلط بين الكنيسة التي في دار الغربة هذه والتي في الوطن؛ وذلك لأن أعضاءهما هم خراف لله رئيس الرعاة، وأنهم يتقدسون بالروح القدس الواحد. ولكن زعمهم هذا لا محل له وهو غير ممكن، فالأُولى من الكنيستين لا يزال تجاهد إلى الآن وهي في الطريق، والثانية قد حازت الظفر ونالت الجائزة واستقرت في الوطن، ولما كان غير ممكن للإنسان المائت أن يكون رأسًا أبديًّا لهذه الكنيسة الجامعة كان من الواضح أن رأسها هو ربنا يسوع المسيح نفسه القابض بيمينه على إدارتها ومدبرها بالآباء القديسين، ومن ثم جعل الروح القدس لكل كنيسة على حدة من الكنائس التي يحق أن تدعى كنائس، وهي مؤلفة من أعضاء حقيقيين مدبرين ورعاة هم رؤساء على وجه الحقيقة لا المجاز ينظرون إلى رأس خلاصنا مكملة وإليه وحده يعزون إتمام الفعل المختص بالرئيس. إن الهراطقة قد أضافوا إلى بِدَعهم الشنيعة اعتقادهم بأن الكاهن ورئيس الكهنة هما واحد لا فرق بينهما، وأنه يمكن على ذلك أن يُستغنى بالأول عن الثاني، وأن الكنيسة تُساس بواسطة بعض الكهنة فقط، وأن كاهنًا يمكنه أن يشرطن كاهنًا، وأن عددًا من الكهنة يشرطنون رئيس كهنة.وعن خبث يزعمون متشدقين بأن الكنيسة الشرقية تشاركهم بهذا الاعتقاد، أما نحن فاستنادًا إلى رأي الكنيسة الشرقية منذ القديم نعترف بأن رتبة رئيس الكهنة هي بهذا المقدار ضرورية للكنيسة، حتى إنه بدونه لا يمكن وجود كنيسة ولا وجود مسيحي أو تسميته بذلك، فإن رئيس الكهنة بصفته خليفة للرسل وبنواله على التسلسل من الرب بوضع الأيدي واستدعاء الروح القدس موهبة الحل والربط الممنوحة لهم، إنما هو صورة لله حية على الأرض وبمساهمته كمال فعل الروح القدس هو مصدر لجميع أسرار الكنيسة الجامعة التي بها ننال الخلاص، فأصبح وجوده في الكنيسة والحالة هذه ضروريًّا بمقدار ما التنفس ضروري للإنسان والشمس للعالم؛ ولذلك حق لقوم أن يقولوا في مديح رتبة رئيس أنه كما يعتبر الله في كنيسة الأبكار السماوية والشمس في العالم، كذلك يعتبر كل رئيس كهنة في كنيسته على حد سوى؛ لأن الرعية تتلألأ به وتزهر وتصير هيكلًا لله.
ومن الواضح أن سر الأسقفية العظيم ودرجتها يمنحان بالخلافة إلى يومنا هذا، فإن الرب بقوله إنه سيكون معنا إلى الأبد، مع كونه معنا على طرق لنعمته وإحساناته غير هذه متنوعة، إنما يقصد أنه يختصنا بذاته ويكون معنا بواسطة شرطونية الأسقفية، وأنه يتحد بنا بواسطة الأسرار المقدسة التي يتممها بواسطة الروح ويرأس حفلتها الأسقف الذي لا يدع أن نسقط في الهرطقة. ولذا قال يوحنا الدمشقي في رسالته الرابعة إلى أهالي أفريقية إن الأساقفة عمومًا قد ائتمنوا على الكنيسة بأسرها، وأن كليمنضوس أول أساقفة رومة وأفذويوس أسقف أنطاكية ومرقس أسقف الإسكندرية يعترف بكونهم خلفاء بطرس، والقديس أندراوس أقام استاخيس خليفة له في كرسي القسطنطينية، وفي أوروشليم المدينة العظمى المقدسة أقام السيد له المجد يعقوب خليفة وبعد يعقوب قام أسقف آخر ثم آخر وهكذا حتى يومنا هذا. وعلى ذلك دعا في رسالته إلى بابيانوس كل الأساقفة خلفاء للرسل، وأفسابيوس الملقب بمفيلس يشهد بخلافة الأساقفة للرسل وبكون منزلتهم وسلطانهم رسوليين، ويشهد بذلك الآباء القديسون أيضًا عمومًا الذين لا حاجة إلى تعدادهم، وتؤكدها العادة الجارية منذ القديم في الكنيسة الجامعة.
ومن الواضح أيضًا أن درجة الأسقف تمتاز عن درجة الكاهن البسيط، فإن الكاهن يُشرطَن من الأسقف، وأما هذا فلا يُشرطن من الكاهن، بل اتباعًا للقانون الرسولي يشرطن من رئيسي كهنة أو ثلاثة، والكاهن ينتخب من الأسقف، وأما رئيس الكهنة فلا ينتخب من الكهنة؛ أي القسوس، ولا من ذوي المناصب والرتب المدنية ولو امتازوا بالفضيلة، بل من مجمع الكنيسة الكبرى التي في الإقليم الواقعة فيه المدينة المراد إقامة أسقف لها أو على الأقل من مجمع الأبرشية التي يقام لها الأسقف، فإن حدث أحيانًا أن تنتخب مدينة ما أسقفًا فلا يتم ذلك بمجرد انتخابها؛ لأن الانتخاب يعرض إذ ذاك على المجمع، فإذا رأى الانتخاب قانونيًّا يشرطن المنتخب بوضع أيدي الأساقفة واستدعاء الروح القدس عليه، وإلا فينتخب المجمع من يشاء فيُشرطَن ويرقَّى إلى درجة الأسقفية، ثم إن الكاهن يحفظ في نفسه فقط سلطان الكهنوت ونعمته التي حصل عليها، وأما رئيس الكهنة فيهبها لغيره أيضًا، ومن نال من رئيس الكهنة رتبة الكهنوت فيحق له أن يتمم سر المعمودية المقدسة وصلاة الزيت المقدس والذبيحة غير الدموية، ومناولة الشعب جسد ربنا يسوع المسيح ودمه الأقدسين، ومسح المعمدين بالميرون المقدس وتكليل الذين يتزوجون زواجًا شرعيًّا من الحسني العبادة والصلاة من أجل المرضى، ومن أجل خلاص كل الناس وإقبالهم إلى معرفته، وخاصة من أجل ترك وغفران خطايا الحسني العبادة من أحياء وأموات. وإن امتاز بالخبرة والفضيلة فبعد أن يأخذ السلطان عن الأسقف يسوغ له أن يصلح من يقصده من المؤمنين ويقودهم إلى سبيل الفوز بالملكوت السماوي، ويقام واعظًا في البيعة المقدسة. أما رئيس الكهنة فعلاوةً على تتميمه كل ما يتممه الكاهن؛ لأنه مصدر للأسرار الإلهية ومواهب للروح القدس كما تقدم القول، يحق له وحده أن يصنع الميرون المقدس، وله وحده يحق أن يشرطن ويمنح الرتب والدرجات الكنسية، وله وحده يحق على وجه خاص ومن باب أولى أن يربط ويحل، وحكمه حسن القبول عند الله حسب قول الرب وتعليم الإنجيل المقدس، وهو يناضل عن الإيمان المستقيم ويطرد المخالفين من حظيرة الكنيسة كوثنيين وعشَّارين ويرشق الهراطقة بالحرم والأناثيما ويبذل نفسه عن الخراف. ومما تقدم يتضح لنا جليًّا الفرق بين الكاهن البسيط ورئيس الكهنة، وعدم مقدرة كل كهنة العالم على رعاية كنيسة الله وتدبيرها بدون رئيس كهنة.
وقد أحسن أحد الآباء بقوله إنه ليس بأمر هين أن نجد هرطوقيًّا حكيمًا عاقلًا، فإن الهراطقة بتركهم الكنيسة تركهم الروح القدس فلم يبقَ عندهم حكمة ولا نور، بل ظلام وصلابة قلب, ولولا ذلك لما اعترضوا على أوضح الأمور التي منها سر الأسقفية العظيم حقًّا, وقد علمتنا عنه وأثبتته وأكدته لنا الأسفار الإلهية وكل التواريخ الكنسية والآباء القديسون في مؤلفاتهم، ولا تزال الكنيسة الجامعة تتعاطاه وتعترف به.
- القضية الحادية عشرة: نؤمن بأن أعضاء الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية إنما هم المؤمنون كلهم، الذين يعتقدون اعتقادًا لا يُخامره ريب بإيمان مخلصنا يسوع المسيح الذي لا عيب فيه. وهذا الإيمان قد أعلنه المسيح نفسه والرسل الأطهار والمجامع المسكونية المقدسة، ولئن كان بعضهم قد سقط تحت طائلة خطايا متنوعة؛ لأن مثل هؤلاء لو لم يكونوا أعضاء للكنيسة لما كانت الكنيسة تحكم عليهم. والآن فإذا كانت الكنيسة تحكم عليهم وتدعوهم إلى التوبة والندامة، وتقودهم إلى اتباع الوصايا الخلاصية، فإنهم لعدم قنوطهم وقطع رجائهم ولمثابرتهم على الاعتصام بإيمان الكنيسة الجامعة القويم مع كونهم مدنسين بالخطايا لا يزالون أعضاء للكنيسة الجامعة وهكذا تعرفهم هي.
- القضية الثانية عشرة: نؤمن بأن الكنيسة الجامعة إنما تتعلم من الروح القدس، فإنه هو المعزي الحقيقي الذي يرسله المسيح من عند الآب ليعلم الحق ويطرد الظلام عن أذهان المؤمنين، وتعليمه يزين الكنيسة بواسطة آباء الكنيسة الجامعة القديسين ورؤسائها، فإنه كما أن الأسفار الإلهية بأسرها هي كلام الروح القدس، وهكذا تدعى لا لأن الروح القدس نطق بها رأسًا، بل بواسطة الرسل والأنبياء، كذلك الكنيسة تتعلم من الروح القدس المحيي، وذلك بواسطة الآباء القديسين ومعلمي الكنيسة الذين من المقرر أن دستورهم هو المجامع المسكونية المقدسة، ولا أزال أكرر ذلك مرارًا كثيرة. ولذلك قد اقتنعنا بأن الكنيسة الجامعة لا يمكن أن تخطئ أو تضل أو تؤثر حينًا ما الكذب على الصدق، بل نقر معترفين بصدق أقوالها وصحتها لا محالة، فإن الروح القدس الذي يفصل دائمًا بواسطة الآباء القديسين والرؤساء الخادمين بأمانة يقي الكنيسة من كل ضلال.
- القضية الثالثة عشرة: نؤمن بأن الإنسان لا يبرر بمجرد الإيمان، بل بالإيمان المقرون بالمحبة؛ أي بالإيمان والأعمال. وأما الزعم بأن الإيمان الخالي من الأعمال يتم به تبريرنا بالمسيح فنبلغ الخلاص، فمثل هذا الأمر نعتبره بعيدًا عن كل صحة في الاعتقاد وحسن العبادة، فلو كان الإيمان على هذه الصفة لكان شائعًا لكل الناس وكان الكل يخلصون، وهذا كذب محض. فنحن نؤمن بأننا لا بالإيمان وحده نبرر بالمسيح، بل بالإيمان المقرون بالأعمال. وهذه الأعمال ليست بشهود تثبت ميلنا، بل هي أثمار قائمة بذاتها وبها الإيمان يأخذ صورة عمله ظاهرة، لينال كل واحد من المؤمنين حسب الوعد الإلهي ما يقتضيه عمله، وهو في الجسد خيرًا كان أم شرًّا.
- القضية الرابعة عشرة: نؤمن أن الإنسان قد تهور بعصيانه فماثل البهائم وأشبهها؛ أي إنه شوه صورته وسقط من رتبة الكمال وعدم التألم، ولكنه لم يجرد عن الطبيعة والفاعلية اللتين نالهما من الله الكلي الصلاح؛ لأنه لو تجرد منهما لم يكن بعد ناطقًا، بل لم يكن إنسانًا. ولذا نؤمن بأنه حائز على تلك التي بها خُلق وعلى فاعليتها، وهي الحرية حية فعالة إلى درجة أنه يقدر بطبيعته أن يختار الخير ويكره الشر ويهرب منه. فلا يليق بنا والحالة هذه أن نزعم أن الطبيعة الصالحة المخلوقة من الله الكلي الصلاح هي عادمة الفاعلية الصالحة؛ لأننا بزعمنا هذا نعتقد بأن الطبيعة رديئة، فإن فاعلية طبيعة الإنسان تكون على ذلك معلقة، وأما طبيعة الخالق فلا، ولئن اختلفت الطريقة. أما كون الإنسان يستطيع أن يعمل الخير من تلقاء طبيعته الذاتية فإن السيد له المجد أشار إلى ذلك بقوله: إن الوثنيين أيضًا يحبون الذين يحبونهم، وبولس الرسول علَّم بذلك في رسالته إلى رومة (١: ١٩) وفي مواضع أخرى حيث قال: إن الأمم الذين ليس لهم ناموس يعملون بالطبيعة بما في الناموس، فيتضح من ذلك أن الخير الذي يعمله الإنسان لا يمكن أن يكون خطيئة؛ لأن الخير لا يمكن أن يكون شرًّا. على أن الخير عندما يجري بمجرد الطبيعة ويغدو بتعاطيه جسديًّا لا روحيًّا لا يفيده شيئًا، وهو مجرد بدون إيمان لأجل الخلاص، ولا يفضي بالإنسان إلى الدينونة؛ لأن الخير إن كان خيرًا فحاشا أن يكون مصدرًا للشر. وهذا الخير عند الذين أعيدت ولادتهم بالنعمة يجعل من يفعله بالنعمة كاملًا أهلًا للخلاص. فالإنسان إذن يستطيع قبل إعادة ولادته أن يميل بطبيعته إلى الخير، وأن يختار ويفعل الخير الأدبي، ولكنه بعد إعادة ولادته فلِكي يعمل الخير الروحي، وإنما نسمي أعمالًا روحية أعمال المؤمن المسببة الخلاص المفعولة بنعمة خارقة الطبيعة، يلزمه أن تسبق وتدركه النعمة كما قلنا آنفًا في كلامنا عن سابق التحديد بحيث لا يستطيع الإنسان من تلقاء نفسه أن يعمل عملًا يكون به أهلًا للحياة المسيحية، ولكنه يستطيع على إرادة الرضوخ للنعمة أو عدم إرادة ذلك.
- القضية الخامسة عشرة: نؤمن بأن الأسرار الإنجيلية في الكنيسة إنما هي سبعة، وأن عددها في الكنيسة لا ينقص عن ذلك ولا يزيد، وما خالف هذا العدد في الأسرار هو بدعة هوس شنيعة. وهذه الأسرار السبعة قد اشترعها نفسه كسائر عقائد إيمان الكنيسة، فإن المعمودية المقدسة قد فرضها الرب بقوله: اذهبوا وتلمِذوا كل الأمم معمِّدين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس (متَّى ٢٨: ١٩). وبقوله: من آمن واعتمد يخلص ومن لم يؤمن يُدان (مرقس ١٦: ١٦).وسر الكهنوت سلمه بقوله: اصنعوا هذا لذكري (لوقا ٢٢: ١٩)، وقوله: كل ما تربطونه أو تحلونه على الأرض يكون مربوطًا أو محلولًا في السماء. (متى ١٨: ١٨).وسر الذبيحة الأفخارستية الغير الدموية فقد سلمنا إياه بقوله: خذوا كلوا هذا هو جسدي، واشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد (متى٢٦: ٢٦–٢٨)، وبقوله: إن لم تأكلوا جسد ابن البشر وتشربوا دمه فلا حياة لكم في أنفسكم (يوحنا ٦: ٥٣).
وسر الزواج سلمه بذكره ما قيل عنه في العهد القديم بقوله تثبيتًا لذلك: ما جمعه الله فلا يفرقه إنسان (متى ١٩: ٦). وبولس الرسول يدعوه سرًّا عظيمً (أفسس ٣٢: ٥).
وسر التوبة الذي حليفه سر الاعتراف سلمه لنا بقوله: من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت (يوحنا ٢٠: ٢٣)، وقوله: إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون (لوقا ١٣: ٣).
وسر الزيجة المقدس المعروف باليونانية بأفشيليون قد ورد ذكره في مرقس البشير (٦: ١٣)، وأثبته يعقوب أخو الرب في رسالته جليًّا (٥: ١٤ و١٥).
أما الأسرار فهي مؤلفة من شيئين طبيعي وخارق الطبيعة، وليست هي علامات بسيطة لمواعيد الله، بل نعترف بأنها أثر للنعمة نافذة بالضرورة ومؤثرة فيمن يتلقن معرفة الأسرار. ونرفض الزعم بأن كمال السر يقتضي تناول المادة الطبيعية، ونعتبر ذلك غريبًا عن التعليم المسيحي؛ لأنه مناقض لسر الأفخارستية الذي سن بما قاله المخلص نفسه وتقدس باستدعاء الروح القدس، فكملت به استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. وهذا الكمال يتقدم على التناول؛ لأنه لو لم تكن الاستحالة كاملة قبل التناول لما كان من أساء في التناول يأكل ويشرب دينونة لنفسه متناولًا خبزًا وخمرًا بسيطين، فبتناوله إياهما بدون استحقاق إنما يأكل ويشرب دينونة لنفسه، فالسر إذن يكمل لا حين التناول بل قبله. وكذلك نرفض الزعم بأن السر يخسر كماله بتناوله بقلة إيمان وننبذ ذلك نبذ قذارة ورجاسة؛ فإن الهراطقة الذين بعد رفضهم بدعهم وانضمامهم إلى الكنيسة الجامعة تقبلهم الكنيسة مع عدم كمال إيمانهم تعتبر معموديتهم كاملة، بحيث لا تعيد معموديتهم متى كمل إيمانهم.
- القضية السادسة عشرة: نؤمن بأن المعمودية المقدسة المأمور بها من الله التي تتم باسم الثالوث الأقدس هي من أعظم الضروريات، فإنه ليس أحد يستطيع أن يخلص بدونها حسب قول الرب: «إن لم يولد أحد من الماء والروح فلا يقدر أن يدخل ملكوت السماوات» (يوحنا ٣: ٥). وهي على ذلك ضرورية للأطفال أيضًا؛ لأنهم هم أيضًا تحت طائلة الخطية الجدية وبدون المعمودية لا يمكنهم أن ينالوا المغفرة عنها. والرب تأكيدًا لذلك لم يستعمل التقييد في كلامه في ذلك، بل الإطلاق والتعميم قائلًا: من لم يولد، أعني كل الذين يدخلون بعد مجيء مخلصنا المسيح إلى ملكوت السماوات، يجب أن يولدوا ثانية. فإن كان الأطفال بشرًا وكانوا محتاجين إلى الخلاص فإنهم محتاجون إلى المعمودية أيضًا، ومن لا يتعمد منهم فهو لعدم نواله المغفرة عن الخطيئة الجدية لا يزال تحت قصاص الخطيئة الأبدي اللازم عنها؛ وعلى التالي لا خلاص له بدون المعمودية. ومن ثم كان من باب الضرورة أن يعمدوا. وقد ورد عن خلاص الأطفال قول متَّى البشير: «ومن لا يعتمد لا يخلص.» فمن الضروري على ذلك تعميد الأطفال. وقد ورد أيضًا في أعمال الرسل (١٦: ٣٣) قوله: إن البيوت برمتها كانت تعتمد؛ أي بأطفالها. وقد شهد بذلك الآباء القديسون شهادة صريحة، منهم ديونيسوس في مؤلفه المعنون «في الرئاسة الكهنوتية» ويوستينوس في المطلب السادس والخمسين حيث يقول صريحًا عن الأطفال إنهم يستحقون ما يترتب على سر المعمودية من الخيرات بإيمان مقدميهم إلى المعمودية، وأفغوستينوس يقول: «إن من التقليدات الرسولية أن يخلص الأولاد بالمعمودية.» وفي موضع آخر يقول: «إن الكنيسة تجعل للأطفال أرجل الغير لكي يأتوا إليها، وقلوب الغير لكي يؤمنوا، وألسنة الغير لكي يعدوا.» ويقول أيضًا: «إن الأم الكنيسة تمنح أولئك قلوب أمهات.»وسر المعمودية إنما يجري بالمواد بالماء الصافي لا بسائل آخر، ويتم على يد كاهن. وعند الضرورة القصوى يجوز أن يتم على يد إنسان غيره علماني شرط أن يكون أرثوذكسيًّا قاصدًا الغاية الملائمة لجوهر المعمودية المقدسة.أما فوائد المعمودية فهي بالإجمال هذه؛ أولًا: مغفرة الخطيئة الجدية وكل ما يكون قد ارتكبه المعتمد من الخطايا. ثانيًا: النجاة من العقاب الأبدي الذي يكون مقتضيًا به عليه إما بسبب الخطيئة الجدية أو الخطايا المميتة التي يكون قد ارتكبها. ثالثًا: منح غبطة الخلود؛ لأن المعمودية تبرر الإنسان من الخطايا السالفة وتجعله هيكلًا لله فلا يُسمح لنا والحالة هذه بأن نقول إن الخطايا التي يكون الإنسان قد ارتكبها قبل المعمودية لا تحل كلها، بل تلبث ولكنها لا تقوى، فإن هذا الزعم مفعم من معظم الكفر وهو منافٍ لحسن العبادة على خط مستقيم. بل نقول إن كلَّ خطيئة سبقت المعمودية أو ارتكبها الإنسان قبلها تضمحل بها وتعتبر كأنها لم تكن أو لم تحدث؛ لأن الرمزين الدالين على سر المعمودية وكل العبارات المقبولة التي تدل على كل منهما تجعل السر كاملًا وتشير إلى كمال التطهير.
ثم إن أسماء المعمودية أيضًا تُظهر وتوضح ذلك، فإن كانت معمودية بالروح والنار فمن الواضح أن التطهير للجميع يكون كاملًا؛ لأن الروح يطهر تطهيرًا كاملًا، وإن كان نور فالظلام ينحل وإن كان إعادة ولادة فالقديم يزول، وليس هذا القديم إلا الخطايا. وإن كان المعتمد ينزع الإنسان العتيق فيكون بذلك قد خلع الخطيئة أيضًا. وإن كان يلبس المسيح فيكون قد أصبح بالفعل بواسطة المعمودية بلا خطيئة؛ لأن الله بعيد عن الخطاة، وبولس الرسول يعلِّم بأجلى بيان قائلًا: لأنه كما أنه بمعصية إنسان واحد جُعل الكثيرون خطاة؛ كذلك بطاعة واحد يُجعل الكثيرون أبرارًا. فإن كنا أبرارًا فنحن معتقون من الخطيئة؛ لأنه من المستحيل اجتماع الحياة والموت، وإن كان المسيح قد مات حقًّا فالمغفرة بالروح هي أيضًا حقيقية. فمن ثم يتضح أن كل الأطفال الراقدين بعد تعميدهم يخلصون لا محالة؛ لأنهم قد أعدُّوا لذلك من ذي قبل بموت المسيح، فإن عري الأطفال من كل خطيئة من الخطيئة العمومية تخلصهم بواسطة الحميم الإلهي من الخطايا الخاصة لتعذر ارتكابهم شيئًا منها، وهم لا إرادة لهم فعلًا، فلا ريب بأنهم يخلصون. ثم إن للمعمودية تأثيرًا لا يُمحى، فإن من اعتمد مرة معمودية صحيحة لا يمكن أن تعاد معموديته ثانية ولو ارتكب خطايا لا يُحصى عددها، بل لو اتصل إلى جحود الإيمان نفسه، فإنه إن أراد إذ ذاك الرجوع إلى الرب لنال بواسطة الندامة التبني الذي يكون قد أضاعه.
- القضية السابعة عشرة: نؤمن بأن سر الأفخارستية الكلي قدسه الذي جعلناه فيما تقدم رابعًا في تعداد الأسرار هو ذاك السر بعينه سلمه الرب في الليلة التي فيها أسلم نفسه فداء عن حياة العالم، فإنه أخذ حينئذٍ الخبز وبارك وأعطى تلاميذه الرسل القديسين قائلًا: «خذوا كلوا هذا هو جسدي»، وأخذ الكأس وشكر وقال: «اشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي يهرق عنكم لمغفرة الخطايا» (متى ٢٦: ٢٦-٢٧). ونؤمن أنه في تكميل هذا السر يحضر ربنا يسوع المسيح لا على وجه رمزي أو على سبيل التشخيص أو بفرط نعمة كما يحضر في باقي الأسرار، وأنه لا يحضر حضورًا مجردًا كما قال بعض الآباء عن حضوره في سر المعمودية، ولا على سبيل الامتزاج بحيث يتحد لاهوت الكلمة بخبز الأفخارستية أقنوميًّا كما يعتقد أتباع لوثيروس عن جهل وغرور، بل حضورًا حقيقيًّا فعليًّا، حتى إنه بعد تقديس الخبز والخمر ينقلب ويستحيل ويغدو. أما الخبز فنفس جسد الرب المولود في بيت لحم من الدائمة بُتُوليتها مريم والمعتمد في الأردن والمتألم والمدفون والناهض من بين الأموات والصاعد إلى السماء والجالس عن يمين الآب، والمزمع أن يأتي على سحب السماء. وأما الخمر فيستحيل ويغدو نفس دم الرب الحقيقي الذي أُريق عن حياة العالم على عود الصليب.ونؤمن أيضًا أنه بعد تقديس الخبز والخمر لا يبقى جوهرهما المادي، بل يغدوان نفس جسد الرب ودمه تحت هيئة الخبز والخمر.ونؤمن أيضًا بأن جسد الرب ودمه الطاهرين يناولان ويدخلان في أفواه ومعد المشتركين فيهما سواء حسنت عبادتهم أم ساءَت، غير أنهما يَمنحان مَن يتناولهما عن حسن عبادة واستحقاق مغفرة الخطايا والحياة الأبدية، ومن يتناولهما عن سوء عبادة وغير استحقاق فدينونة وعذابًا أبديًّا.
ونؤمن أيضًا بأن جسد الرب ودمه يجزآن ويفصلان، ولكن ذلك يجري عليهما على سبيل العرض العارض للخبز والخمر اللذين نظن بأنهما منظوران وملموسان، غير أنهما يلبثان بنفسهما غير منقطعين ولا مقسمين البتة؛ ولذلك تقول الكنيسة الجامعة: «يفصل ويجزأ حمل الله الذي يفصل ولا ينقسم الذي يؤكل دائمًا ولا يفرغ أبدًا، ولكنه يقدس المشتركين باستحقاق.»
ونؤمن أيضًا بأن كل جزء وقطعة من الخبز والخمر المستحيلين مهما كان صغيرًا ليس هو بجزء من جسد الرب ودمه، بل هو كل السيد المسيح بجملته هو بنفسه ولاهوته إلهًا تامًّا وإنسانًا تامًّا. ومن ثم فبإقامته قداديس عديدة في ساعة واحدة في المسكونة كلها لا يكون أجساد متعددة للمسيح، بل يحضر المسيح نفسه الواحد حضورًا حقيقيًّا فعليًّا، ويكون كِلا جسده ودمه واحدًا في كل كنائس المؤمنين المتفرقة الأماكن. ولا نقصد بكلامنا هذا أن جسد السيد الموجود في السماوات ينزل ويحل على المذابح، بل إن خبز التقدمة المقدم في كل الكنائس المتفرقة الأماكن يستحيل ويتبدل بعد التقديس فيصير نفس جسده الذي في السماوات؛ لأن جسد الرب في كل الأماكن المتعددة هو واحد لا متعدد؛ ولذلك كان هذا السر عجيبًا، ويدعى عجيبًا، وإنما يدرك بالإيمان لا بسفسطات الحكمة البشرية التي ديانتنا الحسنة العبادة والمسلمة من الله ترفض ميلها الباطل الناشئ عن جهل وغباوة إلى استطلاع الأمور الإلهية والتنقيب عنها بنور العقل البشري.
ونؤمن أيضًا بوجوب تكريم جسد الرب ودمه الذين في سر الأفخارستية مزيد الإكرام، وأن نسجد لهما سجود عبادة، فإن السجود للرب ولجسد ودم الرب واحد. ونؤمن بأنه ذبيحة حقيقية تكفيرية تقرَّب عن كل المسيحيين الحسني العبادة الأحياء والأموات، ومن أجل منفعة الجميع كما ورد في صلوات هذا السر المسلَّمة من الرسل إلى الكنيسة عن أمر الرب الصادر لهم.
ونؤمن أيضًا بأن الخبز المقدس المحفوظ في مستودعات الهياكل لمناولة المشرفين على الموت بعد تقديسه وقبل تناوله هو أيضًا نفس جسد الرب الحقيقي، لا يفرق عنه أصلًا بحيث يغدو بعد التقديس وقبل مناولته وحال تناوله وبعد تناوله نفس جسد الرب الحقيقي بكل الوجوه.
وبحسب اعتقادنا لا نعني بكلمة استحالة الكيفية التي بها ينقلب الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه؛ فإن ذلك يتعذر إدراكه أصلًا على الجميع ما عدا الله تعالى وينسب إلى المعتقدين به الجهل والكفر. بل إنما نعني بها أن الخبز والخمر بعد تقديسهما يتحولان إلى جسد الرب ودمه لا على وجه الرسم ولا على سبيل التشخيص، ولا بفرط النعمة ولا بشركة لاهوت الله الوحيد أو حضوره فقط، ولا بطريق العرض؛ أي عرض الخبز والخمر يغدوا عرضًا لجسد المسيح ودمه على سبيل التحويل أو التبديل، بل يغدو حقيقة وفعلًا وجوهريًّا، أما الخبز فنفس جسد الرب، وأما الخمر فنفس دمه كما تقدم.
ونؤمن أيضًا بأن سرَّ الأفخارستية المقدس إنما يتم على يد كاهن حسن العبادة مُشرطنًا قد مُنح درجة الكهنوت من أسقف قانوني حسن العبادة على مقتضى تعليم الكنيسة الرسولية، فهذا رأي الكنيسة الجامعة واعترافها الصادق وتقليدها القديم جدًّا في هذا السر أيضًا على وجه الإيجاز. ولا يجب أن يشوَّه مطلقًا على أي وجه كان من قِبل حسني العبادة عن رغبة في الأحداث وميل إلى بدع الهراطقة الرجسة وانتحالها، بل يجب أن يحفظ التقليد المفروض المسلَّم سالمًا ثابتًا غير متزعزع؛ لأن الكنيسة الجامعة ترفض وتحرم كل من يُخالفه.
- القضية الثامنة عشرة: نؤمن بأن نفوس الراقدين هي إما في الراحة أو في العذاب بمقتضى عمل كل منهم، فإنها بعد انفصالها عن الأجساد تنتقل في الحال إما للفرح والسرور وإما للحزن وتنفس الزفرات. ومن المقرر أن لا الفوز يكون إذ ذاك كاملًا ولا الدينونة، فإن كل واحد ينال ما يستحقه بفعله من الجزاء كاملًا بعد القيامة العامة حين تتحد النفس بالجسد الذي سلكت وهي فيه سلوكها الحسن أو الردي.أما الذين فسدوا بخطايا مميتة ولم يرقدوا على اليأس، بل نادمين في حال حياتهم وهم في الأجساد بعد، ولكنهم لم يلحقوا أن يأتوا بشيء من ثمار التوبة كذرف العبرات والسهر في الصلوات والحزن وتعزية الفقراء، وأخيرًا إظهار المحبة لله وللقريب بالفعل، فنؤمن أن نفوس هؤلاء أيضًا تذهب إلى الجحيم حيث تكابد القصاص عما ارتكبته من الخطايا، ولكنها تشعر بمستقبل النجاة منه. ونؤمن أيضًا بأن هذه النفوس تخلص بفرط الصلاح الإلهي بواسطة صلوات الكهنة والصدقات التي يعملها أقارب المتوفى من أجله، ولا سيما الذبيحة الغير الدموية التي تقدمها الكنيسة الجامعة الرسولية خصوصًا عنه وذلك بطلب أقاربه وعمومًا عن الجميع كل يوم. ومن المعلوم أن زمن النجاة غير معلوم عندنا، ولكننا نعلم ونؤمن أن عتق مثل هذه النفوس من عذاباتها يكون قبل القيامة والدينونة العامة جاهلين تعيين وقته.
هل يباح لكل من المسيحيين عمومًا أن يقرأ الكتاب المقدس؟
كلا؛ لأننا نعرف أن الكتاب المقدس بجملته موحًى به من الله ومفيد، وهو بهذا المقدار ضروري بحد نفسه حتى إنه بدونه لا يستطيع الإنسان أن يحسن عبادته على وجه ما، ولكننا لا نرى أن الجميع يمكنهم قراءته بسهولة قراءة تفيدهم، بل الذين بالبحث اللائق يتعمقون في معاني الروح ويعرفون كيف يبحث في الكتاب المقدس، وكيف يقرأ بوجه الإجمال؛ ومن ثم كان من المسموح لكل إنسان حسن العبادة أن يسمع تعليم الكتاب المقدس لكي يؤمن بالقلب للبر ويعترف بالفم للخلاص، ولكنه يحظر عليه أن يقرأ بعض مواضع من الكتاب المقدس، لا سيما العهد العتيق للأسباب السابق ذكرها وما أشبهها. وتوصية عديمي الخبرة بعدم قراءة كل الكتاب المقدس هي موازية تمامًا لتوصية الأطفال بعدم اتخاذ قوت قوي.
هل الكتاب المقدس واضح المعنى لكل من يقرؤه من المسيحيين؟
لو كان الكتاب المقدس واضح المعنى لكل من يقرؤه من المسيحيين لما كان الرب له المجد سمح بالبحث عنه للراغبين في نوال الخلاص، ولكان باطلًا قول بولس الرسول: إن موهبة التعليم قد جعلت في الكنيسة، ولما قال بطرس الرسول عن رسائل بولس الرسول: إن فيها ما يعسر فهمه، فيتضح جليًّا أن من المعاني ما هو عويص وسام جدًّا، وأن البحث فيه يختص برجال متألهي الألباب وذوي علم قانون لإدراكه على وجه الحقيقة ولمعرفته معرفة صحيحة وفهمه فهمًا مطابقًا لكل فحاويه ولمقصد مبدعه الروح القدس. وبناء على ذلك فإن الذين قد أعيدت ولادتهم وإن كانوا معتصمين بالإيمان بالثالوث الأقدس وعاملين ومعترفين بتجسد ابن الله وآلامه، وقيامته وصعوده إلى السماء وما قيل عن تجديد الكون والدينونة مما لم يحجم كثيرون منهم عن احتمال الموت لأجلها لا يلزمهم، بل يتعذر عليهم أن يعرفوا تلك الأمور أيضًا التي إنما كشفها الروح القدس للذين تمرنوا بالحكمة وتروضوا بالقداسة.
اترك تعليقاً