إيقونة عَذراءُ فلاديمير
– مقدّمة
إيقونة سَيِّدَةِ فلاديمير أو بالروسيّة Vladimirskaya هي مِن أَشهَرِ الإيقوناتِ المَعروفَةِ في الكَنيسةِ الأُرثوذُكسِيَّةِ عامّةً وفي الكَنيسَةِ الرّوسِيَّةِ خاصّةً، لا سيّما أنّها الشاهد الأكبر لأهمّ الأحداث في تاريخ روسيّا.
فالإيقونة هذه تزخر بالمَعاني اللاهوتِيَّةُ والرّوحيَّةُ بالإضافة إلى دلالاتها التاريخيّة.
– وصف الإيقونة
طولها ١٠٤سم وعرضها ٦٩سم.
تجمع إيقونة فلاديمير بين أيقونَتين نموذجَين مُهمَّين لإيقونات والدة الإله
– النموذج الأوّل يُسمّى “الهادية والمُرشِدة” وهي ترجمة الكلمة اليونانيّة Hodigitria أي التي تُشير إلى الطريق. والطريق طبعًا هو الرب يسوع المسيح كما قال عن نفسه:” “قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.” (٩:١٤).
– النموذج الثاني يُعرف بالعذراء الراحمة Eleousa ، حيث نرى مريم العذراء تَحتضن الرّبّ يسوع، في تعبير واضح عن أمومة والدة الإله وشفاعتها.
– ميزة الجمال في هذه الإيقونة
لا ينفصل اللاهوت في الإيقونة عن الخطوط والألوان. فمهما يعظم شأن الإبداع الفني، يبقى الجمال الإلهيّ هو الهدف، إذ تأتي النواحي الفنيّة ترجمةً للاّهوت، وهذا ظاهر بقوّة في إيقونة فلاديمير العجائبيّة. فجمالها مردّه فيما تُمثِلّه، أي جمال الخالق بين يديّ أجمل امرأة في هذا الكون.
عندما كُشف على الإيقونة في عام ١٩١٩م، تبيّن أنّها خَضعت لعمليّات ترميم متتالية باستثناء الوجهين (والدة الإله والرّبّ يسوع) اللذين بقيا على حالهما. ويلاحظ العلماء تآكل الألوان في جزء كبير من جراء لمس المؤمنين.
جمال وجه العذراء في هذه الإيقونة يَتخَطّى المقاييس الأرضيّة للجمال البشري. إنّه جمال تألّه الإنسان بالنور غير المخلوق.
فوجهها يدل على مجدٍ لا يُعطى إلّا من فوق، أي من العُلى، حيثُ تَسقط كلّ المعايير الأرضيّة الترابيّة التي تظهر في الصور والمنحوتات. صحيح أنّه وجه إنساني ولكنّه أضحى سماويًا ومتألهًا ونورانيًّا.
يدخل الناظر إلى إيقونة فلاديمير في سِرِّ جمال الخالق، ويَسمع في صَلاته صدى عِظةَ القدّيس غريغوريوس بالاماس في رقاد السيّدة حيث يصَف جمال العذراء مريم بالجمال الإلهيّ الذي يَتَخَطّى السماء والأرض والناس والملائكة، ويَنقل المؤمن من الأرضيّات إلى أبعد من السماوات.
من هنا، يجمع معظم أصحاب الاختصاص على أنّ إيقونة فلاديمير تَتربّع على عرش الجمال في فَنّ الإيقونة، حتّى إنّ دارسيها لا يتماسكون من الإنحناء لبهائها.
ويعبّر كلّ من نظر إليها بشوق عن الانطباع الفريد الذي تَتركه في الإنسان مَدى حياته، حيث إنَّها تُخاطب كيانه بنسيمٍ صارخ يشعل القلب والعقل معاً.
– عناصر هذه الإيقونة
١- الرّبّ يسوع المسيح
هو بعيد كلّ البعد عن الطفل العادي المعروف ب Bambino Gesu أي الطفل يسوع.
على العكس تمامًا، هو الكلمة المُتجسّد الآتي بالخلاص لكلّ البشر، ويسمّى “عمّانوئيل” أي الله معنا. وجه يسوع الرصين يترجم المجد الإلهيّ وعظمته، وهو يلبس ثوب البالغين في أيّامه المسمّى Himation. أمّا لون الثوب الناريّ المُنقوش بالذهب الصافي فهو دَلالةً على أنّه الشمس التي لا تغيب.
٢- مريم العذراء والدة الإله
ترتدي والدة الإله مِن الخارج منديلاً يغطّي الرأس والكتفَين معروف بالمافوريون Maphorion (من اللاتينيّة mafors وهو المعطف الرهبانيّ). يبدو لون المافوريون أسود من مرور الزمن والترميم ولكنّه إمّا في الأساس أحمر أو أزرق داكن. وهو أيضًا موشّى بالذهب، ما يذكَّرنا بالمزمور القائل: “منسوجة بذهب ملابسها” (مزمور ١٣:٤٥).
أمّا النجوم الثلاث فهي تشير إلى بتوليّة مريم العذراء قَبل الولادة وأثناءها وبعدها.
وللنجمة أيضًا دلالة أخرى في تاريخ الفن التصويريّ، فهي تَرمز عند الملوك والحكّام إلى السمو والعلى والقوّة والسيادة.
ولكنّ كلّ هذه الصفات أخذت معنى آخر جديدًا في العذراء مريم. فرغم أنَّها أضحت والدة الإله، بَقيت مريم مِثال التواضع وإفراغ الذات والوداعة والخِدمة، وهنا بالتحديد تَكمن قداستها.
ملاحظة
والدة الإله تتكئ على الرّبّ يسوع المسيح وليس العكس، لأنّها وَعت منذ اللحظة الأولى في البشارة أن من سيولد منها هو الخالق والمخلّص والفادي، وهو الله الذي صار إنسانًا لخلاصنا دون أن يفقد شيئًا من ألوهيّته.
يا لهذه العظمة، فلنرتّل مع والدة الإله: ” تُعظم نفسي الرّبّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي”.
– تاريخ إيقونة عذراء فلاديمير:
تَتَكَلَّمُ اللّيتورجيّة الكَنَسِيَّةُ على أَنَّ كاتِبَ الإيقونة في الأَساسِ هو لوقا الإِنجيليُّ، وَتَمَّ نَقلُها مِن أورَشَليمَ إلى القِسطَنطينيَّةِ حوالى عام ٤٥٠م.
بِحسَبِ المراجِع التاريخيّة تعود إلى القَرنِ الثّاني عَشَر المسيحي، حَيثُ قامَ البَطرِيَركُ لوقا القِسطَنطينيُّ الملقّب Chrysoberges بِإِهدائِها إلى أَميرِ مِنطَقَةِ كييف Kievيوري دولغورووكيDolgoruky حوالي سنة ١١٣٠م، ووُضِعَتْ في دَيرِ مَدينةِ فيشغورود Vychgorod مَكانِ إِقامَةِ الأَميرَةِ Olga سابقاً.
تنتمي الإيقونة بوضوح إلى الفن القسطنطيني، وإلى فترة النهضة المقدونيّة بالتحديد. كاتبها مجهول الهويّة والأرجح أنّه يوناني. يعود تاريخها كما يُقدّر الأخصائيّون إلى أوائل القرن الثاني عشر، وهذا ما يُفسّر أنّها رُسِمَت قَبل إرسالها إلى روسيا بوقتٍ قليل، فكانَتْ هذه الإيقونة هَدِيَّةٍ لِشَعبٍ اعتَنَقَ المَسيحِيَّةَ جديدًا.
في عام ١١٥٥م قامَ الأميرُ يوري بِإِهداءِ مِنطَقَةِ فيشغورود إلى ابْنِهِ أَندري، وقد تزامَنَ ذلك مع ذيع شهرة العجائِبِ العَديدةِ الّتي كانَتْ تَجري بَينَ المُؤمِنينَ بِشفاعَةِ العذراء من خلال تلك هذه الإيقونة.
وفي إحدى الأيّام، شوهدت الإيقونة مرتفعة في الهواء في وسط الكنيسة، فأدرك عندها الأمير أندريه أن العذراء مريم تريد مكانًا آخر لأيقونتها، وكان هو أصلاً يُفكّر في نفسه بأن يتبع المؤمنين إلى شمال روسيا وينشئ ولاية جديدة هناك.
فمدينة كييف تميّزت آنذاك بنهضة ثقافيّة وتجاريّة وروحيّة، ولكنّها كانت عرضةً للغزوات القبليّة وحروب المغول نسبة لموقعها الجغرافي.
حينئذٍ، أعلن الأمير بدء السفر وأخذ الإيقونة معه، وفي خلال الطريق أثناء الليل، ولدى وصولهم بالقرب من منطقة فلاديمير، توقّفت الخيل التي كانت تجر العربات وأبت ان تتحرك مِن مكانها، فطلب الأمير القيام بخدمة صلاة مديح وابتهال إلى والدة الإله، وأمر بإنشاء كنيسة في المكان نفسه على اسم رقاد السيّدة العذراء.
وبعد انتهاء العمل الذي دام حوالي السنتين وُضعت الإيقونة في الكنيسة الجديدة، ومنذ ذلك الوقت بدأت تُعرف بإيقونة فلاديمير وكان ذلك في عام ١١٦٠م.
وتتالت الأحداث والشفاءات التي ارتبطت بها، وأضحت محجّة إكرام وصلاة لكثير من المؤمنين من علمانيين وكهنة وجنود كانوا يطلبون حمايتها ويكرّمون الأم الحنون.
وقد نجت الإيقونة بدورها مرّتين بطريقة عجائبيّة
المرّة الأولى كانت في عام ١١٨٥م حيث خرجت سالمة من حريق أتى بالكليّة على الكاتدرائيّة التي كانت موضوعة فيها في فلاديمير، والثانية في عام ١٢٣٧م عندما احتلّت جيوش المغول المدينة وخرّبتها وحرقت كنائسها إلاّ أنّ قائدهم باتي Batyلم يجرؤ ويمسّ بها.
ولكن في سنة ١٣٩٥م اضطرت مدينة فلاديمير التخلّي عن أيقونتها العجائبيّة عندما اجتاح تيمورلنك روسيّا، وكاد أن يصل إلى مدينة موسكو. فأرسل الأمير Vassili وفدًا إلى مدينة فلاديمير يطلب مِن سكّانها السماح له بنقل الإيقونة إلى موسكو حمايةً للشعب الذين بدأوا يُقيمون الصلوات والتضرّعات المتواصلة لوالدة الإله.
وبعد مسيرة عشرة أيّام عاد الوفد إلى موسكو حاملاً معه الإيقونة العجائبيّة فاستقبلها المؤمنون الذين انتظروها بفارغ الصبر، وكانوا يصرخون ساجدين: “يا والدة الإله خلّصي شعبك”. ومِن دون أي عائق أو مبرّر، أوقف تيمورلنك زحفه وأمر جيشه بالانسحاب.
وتقول رواية الأحداث إنّه رأى في أثناء نومه جيشًا كبيرًا ينتظره، وعلى رأسه امرأة تشّع بالنور، فأمر قوّاته بالتراجع فورًا.
وقد سُجّل لاحقًا حدوث عجائب أخرى حصلت بشفاعتها وتضرّعات المؤمنين، ونجت بالتالي موسكو مِن هجوم التاتار وإحراقهم للمدينة في عام ١٤٥١م وفي عام ١٤٨٠م وعام ١٥٢١م.
وإكرامًا لوالدة الإله وأيقونتها العجائبيّة، حدّدت الكنيسة الروسيّة ثلاثة أعياد لهذه الإيقونة
العيد الأوّل في ٢٦ آب ذكرى انسحاب تيمورلنك.
العيد الثاني في ٢٣ حزيران ذكرى تراجع جيوش التتار.
العيد الثالث ٢١آيّار ذكرى تراجع جيوش الخان ونجاة موسكو من الإحراق والسبي كما حصل في مدن أخرى.
ويُرتّل لهذه الإيقونة طروباريّة رائعة مفادها
”اليوم مدينة موسكو تفرح وتبتهج لأنّكِ انتِ أيّتها الحامية أشرقت أيقونتكِ العجائبيّة كالشمس الصاعدة. فنحن المؤمنين نتضرّع إليكِ ونصلي قائلين: أيّتها السيّدة الجميلة، والدة الإله، صلّي للمسيح إلهنا الذي تجسّد منكِ، أن ينجيّ هذه المدينة وكلّ المدن، من خطر الاعداء وخلّصي نفوسنا لأنه إله رحوم“.
مِن ذلك اليوم، وُضِعت الإيقونة في كاتدرائيّة الرقاد في الكرملين وبقيت هناك محج إيمان وإكرام حتى بدء الثورة البولشفيية في القرن العشرين.
وقد تنعّمت مدينة فلاديمير بزيارتها عندما أمر التسار tsar أبان الحرب بنقلها إلى مدينتها الأم، وكان ذلك في عام ١٨١٢م، وبقيت هناك حوالي الشهرين حيث كان يحملها المؤمنون في الشوارع ويطوفون بها وهم يرتّلون ويضيئون الشموع.
ومِن ثم عادت مجددًا إلى موسكو.
وفي عام ١٩١٩م أمرت السلطات الشيوعيّة بنقلها مِن المكان إليها لتباع بالأسواق السريّة إذ كان تجتذب كثيرين مِن المؤمنين.
وانتهى بها المطاف في متحف Tretyakov الشهير في موسكو الذي يحوي مجموعة كبيرة مِن الأيقونات البهيّة.
وجدير بالملاحظة هنا أن الشعب المؤمن مِن كلّ أقطار العالم كان يقصد هذا المتحف لينحني أمام الإيقونة ويصلّي ويطلب شفاعة والدة الإله بحرارة ملفتة.
ويروي المسؤولون في المتحف أن المؤمنين كانوا يرفضون رفضًا قاطعًا أن ينظروا إلى إيقونة فلاديمير العجائبيّة على أنّها تحفة فنيّة، ويرفعون صلوات حارّة أمامها كاشتعال البخور في الكنائس.
وجدير بالذكر أن في المُتحَف كنيسة مبنيّة
في العام ١٩٩٣م أُعيد افتتاح الكنيسة، وَوُضِعت فيها هذه الإيقونة، وهي تنظر إلى كلّ من ينظر إليها وتقول له:
”أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة.
عن بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس بتصرف
Beta feature
اترك تعليقاً