كاتدرائية رقاد السيدة الارثوذكسية في حلب في الوقت الحالي

استشهاد داود الروميّ (+ ٢٨ تموز ١٦٦٠)

استشهاد داود الروميّ (+ ٢٨ تموز ١٦٦٠)

استشهاد داود الروميّ (+ ٢٨ تموز ١٦٦٠)

قبل توجّه البطريرك مكاريوس ابن الزعيم إلى حلب بمدة، حيث كان قد جعلها ابرشيته البطريركية اضافة الى مقره البطريركي الانطاكي في دمشق، جرى في حلب حادث أليم استشهد على أثره أحد كبار طائفة الروم الارثوذكس، المدعو داود الروميّ.

وقد ورد تفصيل الحادث في وثائق معاصرة، اخترنا منها(1) رسالة بعث بها القنصل الفرنسيّ فرنسوا بيكه (Picquet François (من حلب بتاريخ ١٨ آذار سنة 1661،الى مجمع انتشار الإيمان(2) جاء فيها أنّ الحكومة العثمانيّة في ذلك الوقت فرضت على المسيحيّين غرامة باسم “ضريبة العمامة”. فدفع داود الفريضة عن طيبة خاطر. ثمّ عادت الحكومة ففرضت استيفاء الضريبة مرّة ثانية، لكي تسدّ عجز الخزينة. فاغتاظ داود لهذا الإجراء التعسّفيّ وتمنّع عن الدفع، محتجاً بأنّه لا يجوز التمييز بين المسيحيّ والمسلم في تحمّل الضرائب.
فانهال عليه الجباة وجنود الباشا ضربًا ورفسًا، وأوسعوه إهانة وشتمًا. فأخذ الغضب منه مأخذه، وهاج هائجه، وفقد وعيه، فضرب الأرض بعمامته وقال:
“ألِكوني مسيحياً تهينوني وتعذّبوني هكذا”؟. فاعتبر العثمانيّون تلك الألفاظ وكأنّها جحود لإيمانه المسيحيّ. فتركوه للفور وانصرفوا عنه معتذرين له بعبارات لطيفة. ثمّ ذهبوا وأخبروا القاضي بما جرى، ومن ثمّ عادوا إليه. ولمّا رفض الانصياع إلى أمرهم بوجوب جحد دينه، جرّوه خارج داره إلى السرايا.
فالمتسلّم أيّ نائب الوالي بعد أن استنطقه أسلمه إلى القاضي، والقاضي عاد فأرسله إلى السرايا حيث أمر المتسلّم بأن يكبّلوه بالسلاسل الحديديّة. وبقي على هذه الحال مدى شهرين كاملين.
وتقبَّل اعترافه وقال في الاستنطاق بحدة:” انا مسيحي روم ارثوذكس ولن اجحد ايماني”. وفي الصباح  وفي هذا الوقت زاره الأب برونو الكرمليّ الحافي جاءه بالقربان المقدّس(3) وبعد خمسة عشر يومًا رجع الوالي محمد باشا الخاصكيّ من رحلة تغيّب خلالها عن حلب. فرفعت إليه زوجة السجين عريضتين، الواحدة تلو الأخرى، متوسّلة إليه أن يعفو عن زوجها ويطلق سراحه. فلم يستجب لطلبها. واستدعاه للتحقيق معه، فأصر داود على ايمانه المسيحي الارثوذكسي وأنه لن يجحد ايمانه. فأمر الوالي باعادته الى السجن ثمّ إنّ الأب الكرمليّ برونو المذكور زاره من جديد في سجنه، وجاءه بالقربان المقدّس مرّة ثانية، كما زارته إحدى العجائز من أقربائه، وحاولت أن تثني عزمه بعدم جحود ايمانه، فلم تنجح أخيرًا، وبعد ستّين يومًا من السجن، حكم عليه الوالي العثمانيّ بالموت، فقطع الجلاّد رأسه. فنال إكليل الشهادة وذلك في ٢٨ تموز سنة ١٦٦٠ ،عند غياب الشمس. وشُيّع جثمانه في اليوم التالي، وبكاه جميع المسيحيّين على اختلاف طوائفهم.

وكان قد حضر البطريرك مكاريوس ابن الزعيم من دمشق  الى حلب  ليرعاها، فقام بالصلاة على جثمانه في كاتدرائية رقاد السيدة العذراء في حي الجديدة.
وإنّ أحد أولاده، المدعو وهبه داود، أو وهبة االله، وباليونانيّة ثاوذورس، أقتنصه الرهبان الكرمليون كالعادة،(4) واوفدوه إلى رومة، فكان أوّل طالب روميّ ارثوذكسي حلبي دخل معهد انتشار الإيمان البابوي في روما، بتاريخ ٢٩ كانون الأوّل سنة ١٦٦١ .وبعد أن قضى اثني عشر عامًا في رومة، وأنهى في هذا المعهد دروس اللاهوت البابوية، وكانت الدراسة اللاهوتية فيه باليونانية.

ثم عاد إلى حلب. فلم تطب له الإقامة فيها. فرجع إلى إيطاليا وانخرط في سلك الرهبانيّة الكرمليّة. وتعيّن قاصدًا رسولياً في القسطنطينيّة، ثمّ أسقفًا لاتينياً في أزمير، وتوفي في هذا المنصب.

جدير ذكره إنّ استشهاد داود الروميّ سبقه ببضعة أشهر إعدام غلام مسيحيّ بولونيّ

كاترائية رقاد السيدة الارثوذكسية بحلب
كاترائية رقاد السيدة الارثوذكسية بحلب

أقدم على قتل سيّده في حلب لكي يتخلّص من ملاحقته له، إذ كان يبغي إشباع نزواته الرديئة منه. وقد تمّ إعدام الشاب البولونيّ خارج المدينة، قرب سرايا الوالي، ووكان إذ ذاك اسماعيل باشا، في ١٢ شباط ١٦٦٠ .على أنّ العناية الإلهيّة أرادت أن تبقي جثّة هذا الشاب، التي طُرحت للكلاب مدّة عشرة أيام، مصونة من تحرّش الحيوانات، التي نهشت وأبادت جثث رفاقه المعدومين معه. ولمّا أراد أحدهم أن يُثير أحد الكلاب للانقضاض على جثّة الشاب البولونيّ، بطل العفاف والأخلاق، دار الكلب حولها ثلاث مرّات، ثمّ هوى على الأرض ميتًا. فدُهش الجميع، ومجّدوا االله. وأذن الوالي بدفن جثمانه وفقًا للمراسيم
الدينيّة المسيحيّة بعد الصلاة عليه في كاتدرائية السيدة للروم الارثوذكس بحلب.

حواشي البحث

(1) اساقفة حلب الملكيين للمطران ناوفيطوس ادلبي، ومصادر اخرى.

(2) كانت الرهبنات اللاتينية تنشط بضراوة في حلب بعد البراءة السلطانية العثمانية لهم بحرية العمل في حلب منذ ازاخر القرن 16 ” ولا احد يقارشهم” وتستغل كل مناسبة للادعاء بأن اصحابها انحازوا لتبشيرهم وصاروا كاثوليكيين ومنهم هذا الشهيد الذي صرح بالصوت العالي انه لن يبدل دينه فهو مسيحي روم ارثوذكس وعلى هذا تم قطع رأسه.

(3) لاحقاً للحاشية 2 كانت الرهبنات الكاثوليكية البابوية محمية وخاصة في حلب من القناصل ولها حرية الحركة بعكس الكهنة الارثوذكس الذين كان محظورا عليهم دخول السجون ومناولة المساجين المسيحيين وتشديدهم في ايمانهم بعكس الرهبنات اللاتينية.

(4) وفي رواية الكرمليين  عن داود الرومي التالية نثبتها  بالحرف مبينين محاولىهم اقتناص داود الرومي مستغلين محنته وعذابه النفسي وانتظاره الاستشهاد ومظهرين ان كهنة الروم تركوه لمصيره وان نجاته  تتم في الايمان الكاثوليكي، وكيف اقتنصوا ولده وهبة الله بعد اعدامه وارسلوه الى روما…

 ورد في مطبوعة الكرمليين (“الشهيد داود الرومي 1657م

كان  في عام 1657 في مدينة حلب رجل بدعى داود رومي ارثوذكسي، يعمل في صناعة الأحذية، وقامت الدولة العثمانية وقتها بفرض ضريبة جديدة على المسيحيين الخاضعين لها، فقام داود وغيره بدفعها كالعادة، لكن متعهدي الجباية  عادوا ثانية يطالبونه بدفعها، فتمنع عن الدفع قائلاً: “قد دفعتها مرة واحدة وكفى…” فانهالوا عليه فوراً بالضرب  بالعصي مع الشتائم والسباب، فهاج هائجه وضرب الارض بقيعته مستنكراً متأففاً بقوله :” ماهذا الظلم والبلص،  لماذا حالة التركي افضل من حالتي، الكوني مسيحي تعذبوني هكذا؟.

فاعتبر الجباة رد فعله وقوله هذا بمثابة اعترافه بالديانة الاسلامية، وهكذا تركوه بسلام معتذرين له بعبارات لطيفة، فذهب هو الى بيته ، والجباة اسرعوا فرحين لبشروا القاضي بما حدث، وهكذا بعث القاضي جنوده على الفور ليلقوا القبض على داود الحذاء، ويهيئوه لقبول الاسلام واولها الختان.

في تلك الاثناء قص داود على اهل بيته ماحدث معه في هذا اليوم” ظن هؤلاء الجباة المجانين اني جحدت إيماني بالمسيح مخلصي، فليعلموا اني مسيحي وسأموت  اميناً لسيدي”.

وصل جنود القاضي الى بيت داود وطرقوا الباب، ففتح لهم وكان البشر والسرور متلألأن على وجوههم، فعانقه قائدهم، وطلب منه حبياً مرافقتهم في الحال.

سألهم: الى اين تريدون أن ارافقكم ؟ فأجابوه الى سماحة القاضي وهو ينتظرك لتشهد امامه بإسلامك.

فصاح على الفور: معاذ الله، انا مسيحي ولا اريد ان اعتنق الاسلام، وأني أفَّضِّل الموت على ان اصير مسلماً، ياللعجب، انكم يوميا تفترون على العزة الالهية مراراً، وتهينونه تعالى بشتائم شتى وتحتقرون وصاياه، ومع ذلك ليس من يشكوكم بأنكم جحدتم ديانتكم، وأنا لأجل كلمة واحدة صدرت مني في حالة النزق تريدون ان تبنوا  عليها أساساً متيناً بأني جحدت ايماني الذي لا اتركه ولو فقدت الحياة، واعتنقت  ديانتكم؟

فالجنود لما سمعوا هذا الكلام، استشاطوا غضباً منه، وانهالوا عليه ضرباً، وجروه خارج بيته وجرجروه بالاهانات الى السرايا، اما من جهة الوالي فقد كان غائباً عن مدينة حلب، فسأل المتسلم داود عن فكره، فلم  يسمع منه جواباً آخر  سوى انه مسيحي، لذلك ارسله الى قاضي القضاة الذي وجده أكثر حماسة وأشد تمسكاً بالايمان المسيحي ، فالتزم أن يرسله الى السرايا مخفوراً لينالالعقاب، ولدى وصوله،أمر المتسلم أن يكبلوه بالسلاسل الحديدية، وبقي في هذه الحالة التعيسة لمدة شهرين كاملين…

تدخل الرهبان الكرمليون الذين كانوا ينشطون بشدة في حلب تبشيراً واقتناصاً للرعية الارثوذكسية في حلب وكانت الرهبانيات التبشيرية قد أخذت الموافقة على فتح ممثليات لهم في حلب من السلطنة العثمانية وفق الاتفاقيات بهذا الصدد مع فرنسا والنمسا والامارات الايطالية، ومارسوا التبشير  بين المسيحيين  ومعظمهم من الروم الارثوذكس، وقام القناصل لاحقاً بعد ان تم فتح القنصليات التجارية وهي ذات طابع دبلوماسي، برعاية هذه الرهبانيات.

بسبب من ذلك استطاع  الخوري برونو الكرملي الحافي من مقابلة داود الموقوف في السجن، واخذ من جانب يهدئ من روعه ويطمئنه،  اظهر له تقصير كهنة الروم نحوه ، وصار بالمقابل يشرح له تعاليم الكثلكة وان البابا هو نائب المسيح على الارض، وعن اتحاد الكنائس تحت رئاسته، وكان داود السجين يستمع اليه بشغف ولاسيما وانه رأى نفسه بذلك الحديث مهملاً من كهنة الروم الارثوذكس (وفق رواية الكرمليين وغيرهم) والموجودة في ارشيف الفاتيكان اليوم:” لاشك ان الله ارسل لي هذا الاب الفاضل ليردني الى الايمان الكاثوليكي، لذلك اعترف له بموجب سر الاعتراف، وناوله بموجب المناولة اللاتينية في صباح اليوم الثاني خفية عن اعين الحراس لكي لايَعرضْ للتهلكة.

بعد خمسة عشر يوما عاد الوالي من سفرته، فرفعت له امرأة السجين داود عريضتي توسل ، تسترحمه فيهما الافراج عن زوجها المظلوم والعفو عنه.

لما عرف الوالي بالقصة غضي غضباً شديداً ومزق عريضتي الزوجة وبعث رسولاً الى السجن يبلغ السجين مايلي: ” افتكر جيداً بأمور نفسك، فإما ان تعتنق الاسلام وتكون مسروراً مساعَداً  في كل احتياجاتك  طيلة ايام حياتك، واما ان تبقى مصّراً على عنادك فتنتظرك العذابات والموت.”

قام الرسول بذلك واباغ داود بكلام الوالي. وعاد الوالي وبعث له ذلك ثلاث مرات متتالية مع الرسول، لكن داود لم يتزعزع، ثم زاره الراهب الكرملي برونو ثانية واستمع مجدداً الى اعترافه، وناوله الاسرار الالهية مجدداً، فقال له داود: ” ان انقذني الله من السجن ، فسأذهب  لأعيش بقية حياتي في بلاد المسيحيين، حيث الايمان الحقيقي الذي تعلمته منكم، بينما كهنتي تركوني مهملاً في وسط هذه الشدة، (وفق رواية الكرمليين اعلاه) ولوشاء الله أن ينعم علي بلاستشهاد من أجل اسمه، فليكن مباركاً وارادته مقدسة.)

 

 

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature