اطفال غزة وهيرودس اليوم
في احتفالنا بعيد ميلاد ربنا والهنا ومخلصنا يسوع المسيح يسود، عادة، جوٌ من الفرح لكون الله افتقدنا بسكناه الدائم بيننا انساناً مثلنا وروحاً قدوساً، ليبدأ مسيرة إكمال تدبيره الخلاصي لأجلنا. هذا هو مبعث فرحنا في هذا اليوم وفي كل أعيادنا.
قليلون هم من يدركون هذا المبعث. ادراكنا له هو الذي يحدد مضمون فرحنا وتمايزه عن افراح هذه الدنيا ويجعله غير مُنتَزَعْ من قلوبنا، هو الذي يحدّد وعيَنا له وسبلَ عيشِه في هذا العالم.
وعيُ أفراح أعيادنا وعيشُها مترافقان مع ادراكنا أن هذه الأفراح تنزلت علينا من السماء عبر تنازل الهي والأخير بدءُ مسيرةٍ نحو الصليب وتذوقٌ مسبقٌ له. مسيرة ابن الله الخلاصية بيننا هي محطات المٍ ومعاناةٍ وتشرد وخيباتٍ قادت الهنا المتجسد الى صليب الجلجلة. إن غاب عنا وجه التنازل الإلهي الصليبيّ يَغِبْ عنا فرح العيد السماويّ ونُؤسَرْ في افراح هذه الدنيا العاطفية الغرائزية.
إذا تفحصنا السرد الانجيلي الميلادي في الكتاب نلحظ ان أغلبه ذو وجهٍ دراماتيكي. معاناةُ يوسف ومريم بعد حبل الأخيرة في الروح القدس، ميلادُ يسوع من دون مأوى يلبي أبسط متطلبات هذا الميلاد، غضبُ هيرودس وتشرد العائلة ليلاً الى مصر، قتل أطفال بيت لحم، حتى عودة يسوع الى مسقط رأسه بيت لحم لم تكن آمنة لأن حاكمها كان أشد بطشاً من ابيه هيرودس، فكانت إقامة الطفل في قرية مغمورة في الجليل لاتُذكرْ بالصلاح، “أمنَ الناصرة يمكن أن يخرج شيءٌ صالح” (يوحنا1 : 46 ).
من بين كل هذه الأحداث الدراماتيكية أقف عند أكثرها مأساوية ودموية، عند قتل أطفال بيت لحم. اللافت أن البعض يشكك في تاريخية هذا الحدث بحجة أن حدثاً بهذا الحجم المأساوي لم يُذكر عنه شيءٌ في المصادر التاريخية، مع العلم أن حجة e. silentioعادة لايركن اليها للتشكيك في تاريخية حدث ما الا ضمن شروط عديدة وواضحة غير متوافرة في هذه الواقعة. لن أقف كثيراً عند هذا التشكيك، لكن اكتفي بذكر شرط من شروط سريان هذه الحجة: هل يستحيل على منفذ هذه الرواية – هيرودس – أن يقوم بهذا الفعل؟ مع قبولنا بالمبالغة التي طالت اعداد الأطفال14000 طفل شهيد، والتي لم تُذكر في الأناجيل، بل وردت في التقليد المتوارث. يكفي للمرء أن يقرأ ماكتبه المؤرخ إيوسيبوس في هيرودس وشخصيته واجرامه، حتى يقر بسهولة لجوء هذا الرجل الى مثل هذه المجزرة. فهو اغتصب العرش بالدم واحتفظ به لسنين طوال بسفك دمِ اقرب المقربين اليه. ويروي هذا المؤرخ عنه أنه، وهو على فراش الموت وفي ذروة درجات ألمه وضعفه الجسدي أمر بقتل ثلاثة من ابنائه، حتى ان صديقه قيصر روما أوكتافيوس قال عنه بشهادة
” Melius est Herodis por, Markovios cum (…) esse quam filium (…)
أي”من الأفضل أن يكون المرء خنزيراً عند هيرودس من ان يكون ابنا له”.
الغارق في الاجرام يجد دوماً، مبرراً لاجرامه ليُقنع ذاته بأنه على حق في مايقوم به. المبرر والدافع عنده منطقيان في المنظور السياسي المتوحش. مسَّيا هذا الذي أُعْلِمَ بولادته هو عدوه الأول. مسّيا هذا في وعي هيرودس هو الآتي ليطرد الرومان وأزلامهم – وهو اولهم – ويحرر شعب الله سياسياً ويحكمه، فأول عدو سيسحقه مسّيا هذا هو هيرودس، هذا الأدومي الذي حكم الشعب الاسرائيلي بالسيف وسحق كل من عارضه خدمةً لحاكم روما. هو يفعل مايفعل ليزيل عدواً يهدد سلطته وحياته، هو يدافع عن نفسه! كل الحروب وجرائمها بُررت بحجة الدفاع عن النفس والشعب والدين والحضارة. الجدير ذكره أن هيكل أورشليم الذي دمره الرومان لاحقاً كان من نتاج كرم هيرودس الذي سمي كبيراً وتدينه ومحبته لله ولهيكله!
هل يمكن لمسيحيّي العالم اليوم أن يحتفلوا بعيد الميلاد متجاهلين أطفال بيت لحم قرن الحادي والعشرين، آلاف أطفال غزة. هذه الجريمة لم يمر عليها ألفا عام حتى يتناسوها، إنها حاضرة وبوضوح أمام ألحاظ العالم “المتحضر”. المماثَلة بين أطفال بيت لحم وأطفال غزة واضحة وسهلة إلا عند من لايرى فيهم بشراً او عند من يرمي المسؤولية على الآخر ويغسل يديه من دماء هؤلاء الاطفال ويتهرب من مسؤوليته لوقف هذه المذبحة ويتستر خلف دوافع ومبررات حاضرة دوماً عند كل حرب: ارهاب، معاداة للسامية، كثافة سكانية، دروع بشرية، خطر وجودي، أطفال اليوم إرهابيو الغد، نزع الصفة الانسانية عن ضحايا مجازرهم.
العالم الديمقراطي المتحضر يرمي المليارات في محرقة أطفال غزة الذي جُلَّ مايطلبون، على لسان إحدى الفتيات الناجيات من المجازر، “أنّ من حقهم أن يلعبوا”.
هذه المجزرة يجب ان تتوقف وكل من يعرقل وقفها، لأي حجة كانت، هو هيرودس هذا الزمن وما اكثرهم في التاريخ الماضي والحاضر. واذا سها التاريخ، قبلاً، عن ذكر بعضهم فلن يتكرر هذا السهو حاضراً ومستقبلاً وفي ذاكرة الله الأبدية.
المرجع
قدس الأب ميخائيل (الدبس) افتتاحية عدد مجلة النور الارثوذكسية 4 لعام 2023
اترك تعليقاً