الأسطورة والتنوير …*
الأسطورة هي بالفعل )تنوير( لأن الأسطورة والتنوير لديهما شيئا مشتركا هو الرغبة في السيطرة على الطبيعة، ويتجذر في الخوف من الطبيعة والعدوان.وفي الأساطير والدين، حاول البشر السيطرة على الطبيعة (على الأقل إلى حد الحفاظ على الكميات المطلوبة من الشمس والمطر والخصوبة) وذلك من خلال إثارة الآلهة،وتقديم التضحيات وغيرها من علامات التضحية.
وفهمت الأسطورة والدين والطبيعة من خلال الشخصيات، ومن خلال رؤية قوة الشمس والمطر والرياح وأيضا الصفات الإنسانية.
من الجانب الاخر فان المبدأ الأساسي للتنوير، كان سيادة العقل لأنه أعلى مصدر للسلطة الفكرية، وتتفوق نتائجه على الدين وعلى التقاليد. والعقل يحدد قيمة الدين والتقاليد، لكن لا الدين ولا التقليد يستطيعان تقييم العقل. كما وضح ذلك عمانويل كانط في نقد العقل الخالص.
ان عصرنا هو (بشكل واضح ) ، عصر النقد ، والانتقاد وهو ما يجب أن يتقدم كل شيء. قد يسعى الدين من خلال القداسة، والدولة من خلال جلالتها، إلى إعفاء أنفسهم من العقل . لكن ذلك سيثير الشبهات ضدهم ، ولا يمكنهم المطالبة باحترام صادق ويتمثل بذاك الذي يوفره العقل .
وفي الوقت الذي اكتسبت الأساطير والدين المعرفة عن طريق الوحي والتقاليد ، اعتبر التنوير أن المعرفة يتم الحصول عليها عن طريق استخدام العقل .
كما انه في الوقت الذي وصفت الأساطير والدين بوجود الشخصيات الإلهية التي تقف وراء الأحداث الطبيعية فانه نظر التنوير إلى الطبيعة ببرود ، وذهب الى التحقيق في العالم بموضوعية والبحث عن “قوانين الطبيعة” العالمية. وقد انشات هذه القوانين من خلال التماس الحجج والأدلة ، التي تستند إلى ملاحظة دقيقة ، فيمكن لأي شخص عاقل أن يفهم ويقيم نفسه بنفسه.
ان الأساطير والدين “مستنيران بالفعل” لأنهما، مثل العلم، يعبران عن الرغبة في السيطرة على الطبيعة. لكن التنوير (بشكل خاص) “لا يزال أسطوريًا” لأنه أيضًا يعبر عن الرغبة في التحكم في الطبيعة. فالرغبة في تقليص الأشياء والأحداث في العالم الواقعي إلى “حالات” من القوانين المجردة التي تحكم “الطبيعة” هي في النهاية دوافع عدوانية. وكل من الأساطير والتنوير يخشى الطبيعة وينفر منها.
والشكل الأكثر بشاعة هو صورة من يأخذ شكل الخوف والاغتراب عن الطبيعة البشرية.فلا يرغب البشر في ممارسة السيطرة على الطبيعة الخارجية فحسب ، ولكن أيضًا الرغبة في السيطرة على الآخرين واستغلالهم و يأخذ شكل سيطرة الفرد على العواطفوالرغبات. ويتم ذلك عن طريق قمع المعاناة النفسية لديهم وتضيق المشاعر الإنسانية إلى حد كبير ، خاصة ما يتعلق بالتعاطف والانفتاح والعفوية حتى أصبحنا وفقتسمية هربرت ماركوس (أحاديي البعد) .
إن مقاربة الحياة بشكل عقلاني – مع معرفتنا لقوانين الطبيعة واستخدامها في صورة التكنولوجيا – تمكننا من تنظيم المجتمع بشكل أكثر فاعلية وجعل الحياة أكثر أمانًا ، ولوجود دوافعنا الارتيابية وجنون العظمة -وهو ما جعل العالم قابلاً للتنبؤ به- ، فقد تحولنا إلى أدوات مفيدة يمكن التنبؤ بها . ويتم تلبية احتياجاتها بشكل أكثر موثوقية ، مع اقتصار الاحتياجات نفسها على الاحتياجات الفسيولوجية الأساسية والحماية من الخطر وظائف أعلى من ركود تنمية الشخصية.
التنوير ، لذلك ، لا يزال يوصف بالأسطورية بمعنى أنه غير منطقي تماما. إنه عقلاني بمعنى انه يحمل الكفاءة ، يعمل باستمرار على تحسين الوسائل لتحقيق غاياتنا ، لكنه فشل في التفكير في الغايات ذاتها. في نهاية المطاف ، فإن الهدف الوحيد المعترف به هو تحسين الوسائل ، ونتوصل إلى اعتبار أنفسنا مجرد أدوات هدفها الوحيد هو “تفعيل” العالم بشكل كامل.
البديل المتوخى من قبل ادورنو وهوركهايمر هو إحياء ما أطلق عليه سابقا السبب الموضوعي ، وهي الشمولية التي تمكننا من الحديث حول ما يشكل السعادة الإنسانية أو الطريقة الافضل لحياة البشر. بهذه الطريقة ، يمكن للتنوير ان ينتقد وكذلك الأسطورة والدين والتقاليد والسلطة.
هوركهايمر وأدورنو و يوهان فيورباخ (1775-1833) و فريدريش هاينريش جاكوبي (1743) -1819) ويوهان جوتفريد هيردر (1744-1803) جادل كل هؤلاء المفكرين بأن أساس التنوير ، عندما يفهم بشكل صحيح ، يقوض التنوير نفسه من خلال التشكيك في التزاماته الأخلاقية والسياسية ، مثل الحرية والمساواة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
فريدريك دولان : دكتوراه في الفلسفة السياسية، جامعة برينستون
Beta feature
اترك تعليقاً