الأنهار الدولية (قانون المجاري المائية الدولية)

الأنهار الدولية (قانون المجاري المائية الدولية)

الأنهار الدولية (قانون المجاري المائية الدولية)

تعدّ المصادر المائية العذبة والمالحة من الثروات الطبيعية والضرورية لاستمرار الحياة الإنسانية ولوجود الكائنات الحيّة كافة. هذا المصدر الحيوي الذي يمثّل أحد العناصر الأربعة المؤسّسة للكون (الأرض والنار والهواء والماء) يجسّد أيضاً أساس تكوين الفلسفة الدينية والاجتماعية، بل يرمز أيضاً في أيامنا الحالية إلى سيادة الدولة وسلطانها، تماماً كالأرض. إنَّ السيطرة عليه توفر ليس فقط حماية الروح البشرية وكرامة الإنسان، ولكن أيضاً الرفاهية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول ولشعوبها.

ربما لا يدري بعضنا أنّ كميات المياه المتوافرة حالياً على سطح الكرة الأرضية لم تتبدّل منذ أن خُلقت البشرية، لم تزد ولم تنقص. حيث يتم استخدامها استخداماً دائماً بعد أن تتساقط على شكل أمطار وثلوج فوق المحيطات واليابسة، ويتسرّب جزء منها إلى أعماق الأرض ليكوّن ما يسمى بالمياه الجوفية، أو تجري على اليابسة لتشكّل الأنهار والبحيرات والسواقي، لتعود وتتبخّر مرّة أخرى بفعل التنفس والطاقة الشمسية، وهكذا تتكرر الدورة المائية من جديد.

فالمشكلة الحقيقية تتمحور إذاً حول التوزيع غير العادل للمصادر المائية العذبة بسبب ابتكار ما يسمّى بالحدود السياسية بين الدول. إلى ذلك يضاف أيضاً انعدام المساواة الفعلية في تقسيم مصادر المياه السطحية والجوفية وقساوة الظروف المناخية الناجمة عن مشاكل القحط والجفاف شبه المستدامة وظاهرة الاختيار غير المدروس بعناية لنمط معيّن من التنمية الزراعية والصناعية المبذرة لكميات كبيرة من المياه والتوسع السكاني المتزايد والتمدن العشوائي والاستغلال المكثف للمصادر المائية وعدم فعالية أنظمة السقاية وضعف الصيانة وتفاقم مشكلة التلوث المائي… إلخ.

نتيجة لهذا الوضع المقلق وغير المستقر لجأت بعض الدول إلى تخطيط عدة مشاريع ضخمة تعتمد في غالبيتها على أهداف ومنطلقات استراتيجية وتنفيذها بدلاً من اعتمادها على سياسة ترشيد اقتصادي. وهذا ما أدى أحياناً إلى ظهور عدد من النزاعات بين الدول من أجل السيطرة على مجرى المياه العابر أو المجاور لأراضيها.

في الماضي القريب كانت خلافات المصالح المتعلقة باستخدامات المياه محددة بادعاءات ومزاعم متواضعة، إذ إن أغلبية المشاريع (سدود وأقنية) لم تسهم في إحداث تبدلات جذرية بكمية المياه الواصلة أو العابرة للدول المتشاطئة أو نوعيتها. لكن مع تحديث أساليب استغلال المصادر الطبيعية – بالتوازي مع تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية – أصبحت الثروات المائية تُستخدم لغايات متعددة، ليس فقط للملاحة والتنقل كما كان الحال سابقاً، ولكن أيضاً بقصد الزراعة والري وتوليد الطاقة الكهربائية، وكذلك للاستخدامات الصناعية والمنزلية والتجارية والسياحية والصحية. وهنا أصبح ممكناً إحداث تغييرات كبيرة على مجرى المياه؛ مما قد يؤدي إلى نشوب الخلافات بين الدول. فبسبب الأعمال والمشاريع الضخمة  تستطيع دولة ما أن تحتفظ لنفسها بكميات كبيرة من المياه؛ مما يعني حرمان جيرانها الواقعة أقاليمهم على النهر من استغلال هذه المادة الحيوية بما يتناسب ومصالحهم المشروعة. وهذا ما يحصل حالياً لبعض الدول العربية في أحواض الفرات /دجلة/ شط العرب والأردن ووادي النيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة فعلياً.

وقد مرّ القانون الدولي عبر تطوّره التاريخي الطويل بمرحلتين مهمتين. فقد انبثق أصلاً من قاعدة ترسيخ حرية الملاحة النهرية في المجاري المائية القابلة للملاحة، ثم انتقل فيما بعد إلى الاهتمام على نحو رئيسي بموضوع تنظيم استخدامات المجاري المائية الدولية لغايات أخرى غير الملاحة (زراعة، صناعة، توليد طاقة كهربائية). وفيما بعد تمَّ استخراج ما استقرّ عليه التعامل الدولي بهذا الصدد من قواعد ومبادىء عامة، وتقنينها ضمن ثلاث اتفاقيات عامة:

اتفاقية برشلونة لعام 1921م حول نظام الأنهار القابلة للملاحة.

واتفاقية جنيڤ لعام 1923م حول تجهيز الطاقة المائية التي تهم عدة دول. وقد أصبحت في غياهب النسيان لأسباب سترد لاحقاً فيما بعد.

وأخيراً اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997م حول القانون المتعلق باستخدامات المجاري المائية الدولية للأغراض غير الملاحية.

أولاً: اتفاقية برشلونة لعام 1921م حول نظام الأنهار القابلة للملاحة

في السابق كانت المياه النهرية Les fleuves internationaux (le droit des cours d’eau internationaux)

تُعد من الأموال المشاعة، تماماً كالفضاء وأعالي البحار، حيث يستطيع المنتفع التصرف فيها كما يشاء. لكن ما لبث أن تغيّر الوضع ابتداءً من القرن العاشر الميلادي مع ظهور الإقطاعيات، واحتكارها للملاحة في الأجزاء من المجاري المائية التي تعبر أراضيها. وقد واجه نظام الملاحة النهرية المستند أساساً إلى فكرة المرور البريء فيما بعد عدداً من العقبات، والإجراءات التقييدية، كفرض الرسوم الجمركية، وإغلاق بعض الأنهار أمام الملاحة فترات معيّنة، كما حصل لنهر الاسكوت عام 1648م بين بلجيكا وهولندا. منذ ذلك الوقت، بدأ يظهر للعيان الفرق بين ما يُطلق عليه النهر الدولي والنهر الوطني، ولكن دائماً بالاستناد إلى مفهوم الملاحة. فإذا كان النهر صالحاً للملاحة، ويفصل بين دولتين أو أكثر (كنهر الراين بين فرنسا وألمانيا)، أو يعبر أراضي دولتين أو أكثر (كالدانوب)؛ فهو إذاً نهر دولي. ولكل دولة يمر فيها هذا النهر حق حرية الملاحة في الجزء الذي يعبر أو يجاور أراضيها. أما ما يقع من النهر في أقاليم الدول الأخرى، فلم يكن يُسمح لها بالملاحة فيه إلاّ بموجب اتفاقات خاصة ومقابل دفع رسوم معيّنة.

وما لبثت حرية الملاحة أن عرفت أوجها عندما أعلنت فرنسا وجوب إقرار هذا المبدأ في جميع الأنهار الصالحة للملاحة، من منبعها إلى مصبها، ولمصلحة جميع الدول المتشاطئة وغير المتشاطئة. فقد نصّ المرسوم الصادر بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1792م عن المجلس التنفيذي المؤقت للثورة الفرنسية على أنّ: «مجرى النهر ملك مشترك لا يمكن النيل منه من كل الأقطار التي يمرّ بها ويرويها. ولا يجوز لأي أمة الادعاء بحقوق حصرية فيما يتعلق باستخدامه…». وبناءً على ذلك فقد تمّ تدويل عدد لا بأس به من الأنهر الأوربية، كنهري الموز والاسكوت (معاهدة لاهاي لعام 1795م) ولاسيما نهر الراين (معاهدة Campo-Formio لعام 1797م ومعاهدة باريس لعام 1804م).

ثم تكرّست حرية الملاحة بوصفها قاعدة قانونية عامة – على الأقل للدول المتشاطئة – بموجب المواد 108 إلى 116 من الوثيقة الختامية لمؤتمر ڤيينا عام 1815م التي شكَّلت على مدى قرن بأكمله محور القانون النهري الدولي. وفي عام 1866م قرّرت كلّ من البرازيل والأرجنتين إخضاع حوض الأمازون للملاحة الدولية، وهذا ما تقرّر أيضاً عام 1885م لنهري الكونغو والنيجر في إفريقيا. كما أفردت معاهدة فرساي للسلام عام 1919م فصلاً بأكمله (المواد 337-362) لتعميم هذه القاعدة وتطبيقها على معظم الأنهر الأوربية كالراين والدانوب والأودر والألب. وقد أصبحت هذه الأنهر وجميع فروعها الواصلة إلى البحر حرة للملاحة لمراكب جميع الدول المتشاطئة وغيرها، وعلى قدم المساواة في المعاملة. كما نصّت معاهدة ڤرساي لعام 1919م في أحد ملاحقها على أنه سيتوجب على عصبة الأمم التي تمّ تأسيسها بموجب المعاهدة نفسها أن تدعو إلى عقد مؤتمر دولي بهدف تقنين القواعد القانونية الدولية المتعلقة بحرية النقل والمواصلات، بما في ذلك تنظيم حرية الملاحة في الأنهار الدولية. وهكذا تمّ التوصل إلى اتفاقية برشلونة في 20 نيسان/أبريل 1921م حول نظام الأنهار الصالحة للملاحة. والتي لم يصدِّقها سوى عدد ضئيل من الدول (21 دولة من أصل 42 شاركت في المؤتمر الذي أدى إلى اعتمادها).

1- مفهوم مجاري المياه الصالحة للملاحة ذات الأهمية الدولية: نصّت المادة الأولى من النظام الملحق باتفاقية برشلونة لعام 1921 على ما يعنيه مفهوم النهر الدولي – حسبما هو متعارف عليه في ذلك الوقت – الذي يشمل ضمن محتواه العام:

q مجاري المياه الصالحة بطبيعتها للملاحة والتي تفصل بين أراضي عدة دول، أو تجري فيها.

q مجاري المياه التي تعدّ ذات أهمية دولية بمقتضى اتفاق دولي تقره الدول المتشاطئة للنهر.

q مجاري المياه التي تشرف عليها لجان دولية، تضم دولاً أخرى إضافة إلى الدول المتشاطئة في مجرى المياه.

يُلاحظ مما سبق أنّ جميع الأنهار القابلة للملاحة طبيعياً، أو تلك التي تقرر الدول منحها هذه الصفة بموجب اتفاقات ثنائية ومتعددة الأطراف أو بمقتضى قرارات إفرادية؛ تكتسب الصفة الدولية، بما في ذلك أيضاً الأنهار التي تدير شؤون الملاحة فيها لجان دولية مشتركة من دون اعتبار لموقع الدول الأعضاء الممثّلة في مثل هذه اللجان، سواء أكانت من الدول المتشاطئة أم غير المتشاطئة. وهذه الشروط تنطبق في الواقع على معظم الأنهر الأوربية الكبرى كالدانوب والراين والألب والاسكوت والأودر…إلخ.

2- مبدأ حرية الملاحة في الأنهار الدولية: كرّست اتفاقية برشلونة لعام 1921م ضمن سياقها العام على ما استقر عليه العرف والتعامل الدوليان بهذا الصدد. حيث نصّت في مادتها الثالثة على أنه يتوجب تطبيق مبدأ حرية الملاحة لمصلحة مراكب جميع الدول الموقّعة على الاتفاقية، سواء أكانت من الدول التي يقع فيها المجرى المائي للنهر أم من الدول الأخرى. كما تخضع الملاحة في الجزء من النهر الذي يجري في إقليم دولة ما للأنظمة الخاصة بهذه الدولة، ولاسيما ما يتعلق منها بشؤون الشرطة والجمارك والصحة العامة وما شابهها (المادة 6). بالمقابل تلتزم الدولة التي يجري النهر على إقليمها الامتناعَ عن القيام بأي عمل من شأنه عرقلة الملاحة في النهر، وأن تقوم بإجراء ما يلزم لصيانته وبقائه صالحاً للملاحة (المادة 10).

3- المساواة في المعاملة وفرض الرسوم: أعلنت اتفاقية برشلونة لعام 1921م مبدأً مهماً وملازماً لحرية الملاحة النهرية، ألا وهو المساواة في المعاملة. أي منع التمييز بين الدول المتعاقدة في ممارسة الملاحة. حيث نصّت المادة الرابعة من الاتفاقية، على أنه يتوجب على الدول التي يجري في إقليمها المجرى المائي أن تراعي مبدأ المساواة في المعاملة بين جميع السفن ومن دون تمييز بين مراكب دولة ما أو أخرى. ويستتبع ذلك ما أشارت إليه المادة السابعة بأنه ليس للدول التي يجري النهر في إقليمها أن تفرض من الرسوم سوى ما يتعلق منها بالصيانة ونفقات تحسين المجرى، أو مقابل خدمات فعلية تؤديها. ولكن الاستثناء الوحيد الذي يرد على مبدأ المساواة في المعاملة هو ما أعلنته المادة (5) من الاتفاقية، ومؤداه أنه للدولة التي يجري النهر في إقليمها أن تقصر التعامل التجاري في شواطئها المحلية لمصلحة مراكبها حصراً.

4- القواعد الاستثنائية فيما يتعلق بحرية الملاحة النهرية: بموجب المادة التاسعة من اتفاقية برشلونة لعام 1921م يحق للدولة التي يجري النهر على إقليمها الامتناع مؤقتاً عن تطبيق القواعد العامة لنظام حرية الملاحة والمساواة في المعاملة، إذا ما تدخلت أحداث أو أمور خطيرة تتعلق بالسلامة الإقليمية للدولة وبسيادتها أو بمصالحها الحيوية. ولكن على أن تقدر الضرورة بقدرها، وأن تنتهي الظروف الاستثنائية بزوال أسبابها. وقد عبّرت المادة (15) عن ذلك بإعلانها أن القواعد العامة لحرية الملاحة تبقى سارية المفعول وقت الحرب والسلم، ما دامت لا تتعارض مع واجبات المحاربين والمحايدين. على الرغم من ذلك لا تشمل قاعدة حرية الملاحة سوى المراكب التجارية، فلا تمتد إلى المراكب الحربية وتلك المتعلقة بالشرطة والمطاردة وغيرها من المراكب التي تقوم بأعمال السلطة العامة، سوى في حالة وجود اتفاق خاص حول ذلك بين الدول التي تعبر سفنها مجرى النهر وبين الدولة التي يجري النهر على أراضيها (المادة 17).

ثانياً: اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997م حول استخدامات المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية

إذا كان استخدام المجاري المائية لغايات الملاحة النهرية قد عُدّ سابقاً المجال الأكثر جذباً للاهتمام الدولي، فإن تشعب الاستخدامات الأخرى للمياه كان يرافق السرعة نفسها التطور التدريجي للقانون الدولي القابل للتطبيق على جميع الاستخدامات المعروفة في أيامنا الحالية. كما أنه بقدر ما تختلف طبيعة مجاري المياه بقدر ما يستوجب ذلك تطبيق أنظمة قانونية مختلفة. لذلك فإن التطبيق الفعلي لمثل هذه القواعد والمبادىء العامة يستلزم اللجوء إلى عقد اتفاقيات خاصة من أجل التلاؤم وكل حالة على حدة.

فعلياً في 9/12/1923م تمّ توقيع اتفاقية جنيڤ حول تجهيز الطاقة المائية التي تهم عدة دول. وقد نصّت هذه الاتفاقية حينها على حق كل دولة ضمن نطاق القانون الدولي بتنفيذ مشاريع مائية ضمن إقليمها، ولكن بعد إجراء مفاوضات بهدف التوصل إلى اتفاق مع الدول المتشاطئة الأخرى حول استخدام المجاري المائية الدولية. وقد كانت مسألة الإصرار على إعطاء الأولوية دائماً لممارسة حق الملاحة في الأنهار الدولية على حساب الاستخدامات الأخرى للمياه، وإجبار الدول المتشاطئة على التوصل إلى اتفاق قبل المباشرة باستخدام هذه المجاري من العوامل المهمة التي أدت إلى فشل هذه الاتفاقية في الحصول على التأييد الدولي الواسع، إذ لم يصدّق عليها سوى/11/ دولة فقط. كما لا تتقاسم الدول الموقعة أي مجرى مائي مشترك فيما بينها.

ومنذ ذلك الوقت تميَّز الوضع القانوني لاستخدام المجاري المائية الدولية لغايات غير الملاحة بالغموض والتشتت. وذلك للأسباب التالية:

1- التنوع الحاد للاتفاقات الخاصة الثنائية والمتعددة الأطراف، مثل:

q اتفاقية واشنطن المعقودة في 11/1/1909م حول استغلال مياه البحيرات الكبرى بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.

q اتفاق 19/9/1960م حول تقسيم مياه نهر الهندوس (السند).

q اتفاق 30/11/1963م حول استخدام مياه نهر الدانوب لغاية توليد الطاقة الكهربائية.

q اتفاق 23/7/1969م حول استغلال مياه ريوديلبلاتا.

q اتفاقية 11/3/1973م حول تشكيل لجنة استغلال مياه نهر السنغال.

q اتفاقية 9/12/1976م حول حماية نهر الراين من التلوث الكيميائي.

q اتفاق 3/7/1978م حول استغلال مياه حوض الأمازون.

q اتفاق 5/4/1995م حول الاستخدام الأمثل لمصادر حوض نهر الميكونغ.

2- عدم وضوح النظام القانوني لبعض المجاري المائية الدولية، وعدم الاستقرار في محيطها. كما هو الشأن في أنهر الفرات ودجلة والأردن واليرموك والمصادر المائية للأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي حوض النيل.

3- نسبية آثار الحلول القضائية الدولية وقرارات التحكيم الدولي، وعدم إمكانية التوسع في تفسيرها وتطبيقها على نحو شامل وعام (الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الدائمة لعام 1927م حول صلاحيات اللجنة الأوربية للدانوب، وكذلك حكماها المتخذان عام 1929م حول صلاحيات اللجنة الدولية لنهر الأودر، وعام 1937م حول نهر الموز، والحكم المتخذ ً من قبل محكمة العدل الدولية في 25 أيلول/سبتمبر 1997م في قضية المشاريع المنفذة على نهر الدانوب بين هنغاريا وسلوفاكيا، هذا إضافة إلى القرارات التحكيمية المتخذة عام 1957م حول استخدام بحيرة لانو بين فرنسا وإسبانيا، وعام 1968م ضمن قضية سان لوران بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا).

4- تبعثر الجهود المبذولة من قبل بعض المؤسسات الفقهية، ولاسيما تلك المحققة من قبل معهد القانون الدولي وجمعية القانون الدولي.

5- غياب الإجماع في المؤتمرات الدولية وعدم فعالية قراراتها أو توصياتها (تصريح مونتيفيديو لعام 1923م، مؤتمر الأمم المتحدة لعام 1977م حول المياه، مؤتمرات الأمم المتحدة المنعقدة في أعوام 1972و1992و1997 حول البيئة والتنمية، مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في باريس عام 1998م حول المياه والتنمية).

6- انحصار نشاطات الأجهزة المختلفة للأمم المتحدة ولمؤسساتها المتخصصة وكذلك لعدد من المنظمات الإقليمية ضمن نطاق الأعمال التقنية أو إصدار التوصيات غير المجدية.

بالاستناد إلى مثل هذا التطبيق الدولي بادرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم /2669/ تاريخ 18/1/1970م إلى دعوة لجنة القانون الدولي في هيئة الأمم المتحدة لدراسة مسألة التطور التدريجي وتقنين القانون المتعلق باستخدامات المجاري المائية الدولية للأغراض غير الملاحية. وقد توصلت اللجنة – بعد نحو سبعة وعشرين عاماً من المناقشات الفقهية واستطلاع آراء عدد كبير من الدول- إلى عرض النص النهائي لمشروعها عن هذا الموضوع أمام الجمعية العامة التي اعتمدتها بقرارها رقم 229 (الدورة 51) تاريخ 21/5/1997 تحت عنوان «الاتفاقية العامة حول القانون المتعلق باستخدامات المجاري المائية الدولية لأغراض أخرى غير الملاحة». وقد حصل قرارها هذا على أغلبية /103/ دول، وباعتراض ثلاث دول فقط (بوروندي والصين وتركيا).

وهنا يمكن الإشارة إلى أن التعارض بين الرفض التركي للاتفاقية والقبول السوري لها يشير من دون أدنى شك إلى مدى الفرق الواسع في اختلاف وجهات النظر القانونية بين دولتي المنبع والمرور لنهر الفرات، وبالتالي صعوبة التوفيق بين مواقفهما حيال هذا الموضوع. ففي حين ذهبت تركيا إلى أنه يتوجب فقط التذكير ببعض المصطلحات والمبادئ العامة التي يمكن فيما بعد وضعها في التطبيق العملي بفضل التوصل إلى اتفاقات خاصة أكثر ملائمة لظروف كل حالة على حدة بدلاً من تقييد سيادة الدولة بالتزامات محددة، ارتأت من ناحيتها كل من سورية والعراق ضرورة التوصل إلى نصوص دقيقة تتضمن التزامات واضحة تحميها من تعسف جيرانها من دول المنبع.

وقد نصّت المادة الأولى من اتفاقية عام 1997م على أن مجال تطبيقها يشمل جميع استخدامات المجاري المائية الدولية وحمايتها وإدارتها، باستثناء ما يتعلق منها بالملاحة إلاّ في حدود التأثيرات المتبادلة. كما تطبّق الاتفاقية على جميع المسائل المتعلقة بحماية البيئة النهرية من الكوارث الطبيعية والتلوث المائي. من جهتها نصت المادة الثالثة من الاتفاقية المذكورة على أنه لا يمكن لنصوصها تعديل الحقوق والالتزامات الناجمة عن اتفاقات خاصة في حيز التطبيق؛ إلاّ إذا قررت الأطراف المتعاقدة خلاف ذلك وبما لا يتعارض ونصوص اتفاقية عام 1997م، وفيما يلي أهم ما أشارت إليه أو ما تضمنته اتفاقية عام 1997م من قواعد ومبادئ عامة قابلة للتطبيق على استخدامات المجاري المائية الدولية للأغراض غير الملاحية:

أ – الوحدة الطبيعية للمجرى المائي الدولـي: منذ بداية أعمالها تساءلت لجنة القانون الدولي عن ماهية الإطار الجغرافي لمجرى المياه الذي سيجري من خلاله تطبيق القواعد القانونية المباشر بتقنينها من قبل اللجنة. وقد لوحظ تنوع  المصطلحات المستخدمة في عدد كبير من المعاهدات والمؤتمرات الدولية وكذلك التنظيمات الفقهية المختلفة وتعددها.

في السابق كانت تعرَّف الأنهار الدولية بأنها مجاري المياه المتعاقبة أو المجاورة للحدود بين دولتين أو أكثر والقابلة للملاحة، ويطبق عليها بالتالي القواعد المتعلقة بحرية الملاحة وبتحديد الحدود النهرية. لكن في أيامنا الحالية نجد أن من الصعوبة بمكان تقبل مثل هذا التعريف بعد الأخذ في الحسبان الاستغلال المتصاعد للمصادر المائية لأغراض أخرى غير الملاحة والمشاكل الناجمة عنها (زراعة، ري، صناعة، توليد طاقة كهربائية). وهذا ما جعل القانون الدولي يعتمد تدريجياً مفاهيم أخرى ذات معنى أكثر شمولية من تلك المستندة فقط إلى وجود الفواصل الحدودية بين الدول واستخدام مياه الأنهار لغايات الملاحة والتنقل، مثل الحوض النهري والحوض «الهيدروغرافي» الدولي وحوض التصريف الدوليإلخ. وذلك إلى أن توصلت أخيراً لجنة القانون الدولي إلى اعتماد مفهوم المجرى المائي الدولي. وحيث عرّفته المادة الثانية من اتفاقية عام 1997م بأنه «شبكة المياه السطحية والجوفية، المتواجدة في عدة دول، والتي تشكّل بموجب روابطها الطبيعية مجموعة موحدة تصل بشكل طبيعي إلى نقطة التقاء مشترك».

وقد بدا هذا التعريف وكأنه تسوية توفيقية بين أولئك المؤيدين للمفهوم القديم حول الأنهار القابلة للملاحة وأولئك الراغبين باعتماد مصطلح أكثر عمومية مع الأخذ بالحسبان الوحدة الفيزيائية والطبيعية لمجرى المياه. وقد عبّرت معظم الدول التي استشيرت حول هذا التعريف عن موافقتها لمثل هذا الحل الوسط، وإن كانت قد أعطته تفسيرات مختلفة. ومن هذه الدول نذكر على سبيل المثال دولتي المرور والمصب لنهر الفرات: سورية والعراق. بالمقابل اعترضت دولة المنبع: تركيا على مفهوم المجرى المائي الدولي كما أقرّته لجنة القانون الدولي، وأصرّت على ضرورة اعتماد مفهومها الخاص حول مجاري المياه العابرة للحدود. للتذكير: إن الموقف التركي ليس غريباً، فهي تشكّك دائماً بالصفة الدولية لنهر الفرات الذي تعدّه مجرى مائياً عابراً للحدود، والمطلوب هو تنظيم استخدامه مع الدول المتشاطئة الأخرى بدلاً من الاتفاق على تقسيم مياهه. لكن على ما يبدو، تناست تركيا أن طبيعة الحدود البرية بين الدول تختلف عما هي في الحدود النهرية. ففي الحالة الأولى تمارس كل دولة سيادتها على الطرف المقابل لذاك الواقع تحت سيادة الدولة الجارة، أما في الحالة الثانية فيجب الأخذ في الحسبان الخصائص الفيزيائية للمياه وتحرّكها المستمر حيث تمارس عليها عدة سيادات في أوقات وأماكن مختلفة. على سبيل المثال، إذا لجأت دولة المنبع إلى تحويل مجرى المياه الجاري في أراضيها أو تلويثه سيؤدي هذا التصرف حتماً إلى تخفيض كمية المياه العابرة للحدود أو الإساءة إلى نوعية المياه الواصلة إلى دولتي المرور والمصب. هذه العلاقة المميزة من الاعتماد المشترك بين الفعل ونتائجه تثبت أن الوحدة الفيزيائية لمجرى المياه لا يمكنها أن تتأقلم طبيعياً مع الفواصل الحدودية. فالمياه – بحسب قانون الطبيعة – تستجر معها كل ما تحمله من فوائد وأضرار إلى جميع أرجاء المجرى المائي الدولي.

ب- السيادة الدائمة على المصادر الطبيعية: بموجب المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة يتوجب أن يستند النظام القانوني الدولي إلى مبدأ المساواة في ممارسة السيادة بين الدول وضرورة احترام الاختصاص الوطني للدول الأعضاء. لكن السؤال الذي طرح نفسه فيما بعد – وخصوصاً بعدما نالت كثير من الدول استقلالها – كان يتمحور حول محتوى مبدأ السيادة المشار إليه أعلاه. فما القيمة القانونية لممارسة السيادة السياسية إذا لم تكن هنالك سيطرة فعلية على المصادر الطبيعية للدولة والتي تشكل مصدر قوتها المشروعة لممارسة اختصاصاتها كدولة مستقلة؟ بناءً على ذلك لجأت الدول النامية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أصدرت عدة قرارات ما بين أعوام 1958 و 1974 تؤكد فيها ضرورة احترام مبدأ السيادة الدائمة للدول ولشعوبها على مصادرها الطبيعية.

لكن من الملاحظ أن مسألة التكييف القانوني للمبدأ قد أثار سابقاً تفسيرات متناقضة بين عدد من دول المنبع من جهة، ودول المصب أو المرور من جهة أخرى. فمثلاً ضمن حوض الفرات لجأت دولة المنبع (تركيا) إلى تطبيق هذا المبدأ على نحو مطلق. فهي ترفض باستمرار الصفة الدولية لنهر الفرات وفكرة تقاسم مياهه مع جيرانها. بل إنها أخذت على اتفاقية عام 1997م حول استخدام مجاري المياه الدولية لأغراض غير الملاحة عدم إشارتها على نحو كافٍ إلى مبدأ السيادة الدائمة على المصادر الطبيعية وممارسة الدول لحقوقها فيما يتعلق باستخدام هذه المصادر.

إن مثل هذه المواقف المتطرفة ليست جديدة في التعامل الدولي، فهي تترجم التناقض بين النظريات المختلفة التي أثيرت سابقاً حول الموضوع. إذ دأبت بعض دول المنبع على إطلاق ما يسمى بنظرية السيادة الإقليمية المطلقة (مبدأ هارمون) والتي أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية عام 1858م في أثناء نزاعها مع المكسيك حول استخدام مياه نهر ريوغراند، ثم ما لبثت أن تخلت عنها عندما وجدت نفسها في موقع دولة المصب بالنسبة إلى المياه المشتركة مع كندا (نهر كولومبيا). بالمقابل دأبت بعض دول المصب على تأييد نظرية التكامل الإقليمي المطلق، ومضمونها أنه يتوجب على دولة المنبع ترك مياه النهر تنساب بشكل طبيعي دون أي تبديل بكمية المياه الجارية باتجاه دولة المصب أو بنوعيتها. هذه الفكرة المتطرفة أيضاً يمكنها في نهاية المطاف إعاقة تنمية الموارد المتاحة لدى دول المجرى الأعلى للنهر، وهذا ما يتعارض ومبدأ المساواة السيادية.

وقد رفض التعامل الدولي الاعتراف بمثل هذه النظريات المستندة إلى التطبيق المطلق لاختصاصات الدول دون الأخذ بالحسبان المصالح المشروعة للدول الجارة. واستقرّ المطاف أخيراً على التأييد الواسع لنظرية السيادة أو التكامل الإقليمي المقيّدة باحترام الالتزامات والحقوق المتبادلة للدول المتشاطئة. وهذا ما يمثّل حلاً وسطاً بين الفكرتين المتطرفتين السابق ذكرهما. كما يُعدّ التوصل إلى عقد اتفاقية عام 1997م حول استخدام مجاري المياه الدولية لغايات غير الملاحة نصراً بحد ذاته لمؤيدي هذه النظرية. وقد استقر الفقه والقضاء الدوليان على فكرة أن ممارسة السيادة الدائمة على المصادر الطبيعية ليست سوى تعبير خاص لمبدأ المساواة السيادية للدول الذي لا يمكن حصره فقط ضمن مجاله السلبي، أي ممارسة الاختصاص الحصري لنشاطات الدولة من دون حسبان الأضرار الممكن إلحاقها بمصالح الدول الجارة. وقد أعلنت محكمة العدل الدولية بحكمها الصادر في قضية مضيق كورفو بتاريخ 9 نيسان/إبريل 1949م أنه على الدول التزام عدم استخدام أراضيها لغايات الإضرار أو التسبب بالإضرار بحقوق الدول الجارة. كما نصّ القرار التحكيمي الصادر بتاريخ 16/11/1975م في قضية بحيرة لانو على أن ممارسة السيادة الإقليمية للدول لا يمكنها إلاّ أن تنحني أمام احترام الالتزامات الدولية.

نستخلص من ذلك أنه لطبيعة المياه الخاصة لا يقع الاختلاف حول التكييف القانوني لممارسة السيادة على المصادر الطبيعية على تفسير المبدأ نفسه، وإنما على كيفية تطبيقه ضمن إطار جغرافي معيّن. بتعبير آخر: لا يمكن ممارسة السيادة على مجرى مائي دولي بصورة سيادة دائمة على كمية محدودة من المياه موجودة في دولة معيّنة، وإنما بصورة سيادة على جزء من كمية مياه جارية ضمن جزء من حوض نهري يقع تحت سيطرة سيادة معيّنة، وهذه الكمية يمكنها فيما بعد الانتقال إلى جزء آخر من الحوض نفسه يقع تحت سيطرة سيادة أخرى. هذا التلاحم المستمر بين السيادات يستدعي بالنتيجة التنسيق والتعاون بينها للحصول على أفضل الفوائد ولمصلحة الجميع.

ج- الاستخدام العادل والمنصف للمصادر المائية: يتوجب على الدول المتشاطئة احترام مصالح جيرانها وعدم الإضرار بها في أثناء ممارسة سيادتها على المصادر المائية الجارية في إقليمها. وهذا ما يعني ضرورة استخدام المياه على نحو متعقل ومثمر. هذا المبدأ الأساسي المكرّس دولياً نصّت عليه أيضاً المادة الخامسة من اتفاقية عام 1997م حول استخدام مجاري المياه الدولية لغايات غير الملاحة. كما أنه لا يمكن تطبيق هذا المبدأ عملياً إلاّ مع الأخذ في الحسبان ضرورة استبعاد أي أولوية بين الاستخدامات المختلفة للمياه، كما أشارت إلى ذلك المادة (10) من اتفاقية عام 1997م. من ناحية أخرى نصّت المادة (6) من الاتفاقية المذكورة على أنه يجب التوفيق بين جميع العوامل والظروف الخاصة لتحديد معنى الاستخدام العادل للمياه، مثل العوامل الطبيعية والحاجيات الاقتصادية والاجتماعية للدول المتشاطئة والاستخدامات الحالية والمستقبلية وحماية مجرى المياه من التلوث ودرجة الاعتماد على المياه والاتفاقيات المعقودةإلخ.

الجدير بالذكر بأنه في أثناء عملية التقنين التي باشرت بها لجنة القانون الدولي حول مسألة استخدام مجاري المياه الدولية لأغراض أخرى غير الملاحة أبدت تركيا وجهة نظر مخالفة لتلك التي عبّرت عنها أغلبية كبيرة من الدول. فقد طالبت بالاكتفاء بذكر مبدأ الاستخدام العادل للمياه دون الذهاب إلى أبعد من ذلك، وإلى ضرورة تفسير هذا المبدأ في ضوء ممارسة السيادة الإقليمية وخصوصية مجرى المياه وكذلك إعطاء الأولوية للاستخدامات الجديدة لدى دول المنبع. بالمقابل اعتبر العراق أنه يتوجب إعطاء أهمية خاصة لمسألة حماية الأنهار من التلوث والاستخدامات الموجودة في حال وجود تعارض مع استخدامات لاحقة.

ويمكن القول باختصار: إن تطبيق مبدأ الاستخدام العادل والمنصف للمياه لا يعني بأي حال من الأحوال اللجوء إلى تقسيم كمي أو نسبي للمياه بين الدول المتشاطئة، وإنما استخدام المياه على نحو مثمر ومن دون التسبب بأضرار ضد مصالح الدول الجارة، وكذلك تنسيق الجهود للتوصل إلى تحقيق الاستخدام الأمثل ولمصلحة الدول المعنية كافة.

د- المسؤولية الدولية عن الإضرار بالغير: هذا المبدأ المعترف به حالياً بوصفه قاعدة عرفية ملزمة أعضاءَ المجتمع الدولي كافة – منذ إعلانه التزاماً عاماً ضمن حكم محكمة العدل الدولية لعام 1949م في قضية مضيق كورفو- تمّ تكريسه أيضاً في المادة السابعة من اتفاقية نيويورك لعام 1997م التي نصّت على واجب الامتناع عن التسبب بأضرار جسيمة للدول الأخرى عند قيام دول متشاطئة باستخدام مجرى مائي دولي. ولكن عند وقوع مثل هذا الضرر يتوجب على الدولة المتسببة وبغياب اتفاق خاص مع الدولة المتضررة اتخاذ جميع الإجراءات المناسبة وبالتشاور مع الدول المعنية من أجل إلغاء الضرر أو تخفيفه، ومناقشة مسألة التعويض عند الاقتضاء.

وقد ارتأت سورية أنه يتوجب الأخذ في الحسبان مشكلة تحويل المياه وتخفيض جريانها من قبل دولة المنبع، في حين رأت تركيا أن إعلان هذا المبدأ لا ينظر على نحو كافٍ إلى المصاعب المرتبطة بضرورات التنمية لدى دولة المنبع. من ناحيتها ردّت لجنة القانون الدولي على ذلك بأن مبدأ عدم الإضرار بالغير ليس سوى تطبيق لمبدأ آخر، وهو الاستخدام السلمي للإقليم. لكن يتوجب على الدول أن تتسامح أحياناً بحصول بعض الأضرار غير الجسيمة وبحيث يتم التعويض عنها في اتفاقات خاصة. بتعبير آخر: لا تستطيع دولة أن تمنع جارتها من تنفيذ مشاريع تنمية على أراضيها إذا كانت مثل هذه المشاريع لا تتسبّب سوى بأضرار غير جسيمة يمكن التعويض عنها، وإلاّ سيؤدي ذلك إلى عرقلة جهود التنمية لدى بعض الدول المتشاطئة، وهذا ما يتوجب التحقق منه على نحو موضوعي.

من جهة أخرى، إن مبدأ عدم الإضرار بالغير لا يتعلق فقط بحماية البيئة من التلوث المائي كما نصّت عليه المادة (21) من اتفاقية نيويورك لعام 1997م، وإنما أيضاً بالأعمال الهادفة إلى تحويل جريان المياه وتخفيض مستوى المجرى الدولي. وهنا يمكن تطبيق مبدأ المسؤولية الدولية ليس فقط عن الأضرار الناجمة عن أفعال مخالفة لالتزامات القانون الدولي؛ ولكن أيضاً عن أضرار تسبّبها أحياناً أفعال غير ممنوعة دولياً. وهذا ما يسمى بالمسؤولية الدولية على أساس الخطر أو الحيطة المتوجبة، والتي تعني أنه على الدولة اتخاذ ما يلزم من إجراءات الوقاية والحذر لتجنب الإضرار بمصالح الدول الجارة، وإلاّ ستكون حينها مسؤولة عن إهمالها. هذا الالتزام يمثل التزام نتيجة وليس التزام فعل، فإذا لم يقع الضرر فلا يمكن مساءلة الدولة. فمثلاً لا يمكن لسلطات دولة المنبع الادعاء بأن إلحاق الضرر بدولتي المرور والمصب والناجم عن تلوث المياه الواصلة من دولة المنبع لا يعدّ خرقاً لالتزام دولي، إذ كان عليها اتخاذ جانب الحيطة والحذر لتجنب – قدر الإمكان – حصول مثل هذا الضرر الجسيم.

هـ – التعاون والتفاوض بحسن نية: استقرّ التعامل الدولي على أن وجود عدة دول في آن معاً على أطراف مجرى مائي دولي يستدعي ضرورة التزام التعاون المتبادل وإجراء مشاورات ومفاوضات والحصول على أقصى الفوائد من الاستغلال الأمثل للمجرى ولمصلحة الدول المتشاطئة كافة. وقد نصّت المادة (8) من اتفاقية نيويورك لعام 1997م على أنه يتوجب التعاون على أساس المساواة السيادية والتكامل الإقليمي للدول لتحقيق الفوائد المتبادلة وبقصد بلوغ الاستخدام الأفضل للمجرى المائي الدولي. وللدول حق اختيار وسائل تحقيق هذا المبدأ، كما يمكنها تنسيق جهودها ضمن لجان مشتركة. كما تضمّنت الاتفاقية المذكورة بعض الإجراءات العملية والمتوجب تطبيقها على عدة مستويات: التبادل الانتظامي للمعطيات وللمعلومات حول الحالة العامة للمجرى المائي الدولي (المادة 9) وفيما يتعلق بالوقاية والحماية من الكوارث الطبيعية كالجفاف والفيضانات (المواد 27 و28) والتعاون في مجال ضبط تدفق المياه وانتظامها (المواد 25 و26) والتزام تبادل المعلومات والتشاور فيما يتعلق بالمشاريع المخطط لها (المواد 11 و19). وأخيراً نصّت المادة (33) على سلسلة من الإجراءات لتسوية الخلافات سلمياً بين الدول، وتتضمن وسائل متعددة مثل المفاوضات المباشرة والمساعي الحميدة والتوسط والتحقيق والتوفيق واللجوء إلى محكمة العدل الدولية.

مراجع
– عبد المالك خلف التميمي، المياه العربية – التحدي والاستجابة (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999م).- صلاح الدين عامر (إشراف)، «قانون الأنهار الدولية الجديد والمصالح العربية»، مجلة البحوث والدراسات العربية، القاهرة 2001م.

– منصور العادلي، قانون المياه (اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1997م بشأن قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية)، (دار النهضة العربية، القاهرة 1999م).

– Maher MALANDI, Les aspects juridiques du problème de l utilisation des ressources internationales en eau douce au Moyen-Orient، thèse de Doctorat, Université de Paris I (Panthéon- Sorbonne), 1999.

    ( الموسوعة العربية- ماهر ملندي)

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *