الإختِبارُ الأوَّلُ للمجدِ الملكوتيّ… إيقونةُ “الظُّهورِ الأوَّلِ للربِّ المُمَجَّد”
أوَّلاً – مُقدِّمةٌ خاصَّةٌ بالإيقونة
في رِحلَتِنا “على دروبِ القيامة”، نحن اليَومَ على موعد مع إعلان إيمانيّ عظيم… “فها إنَّ السيِّدَ نفسَهُ يُعطينا آية” (أش 7: 14)، مِن خلال ظُهورِ ذلكَ “البُستانيّ”، الذي تَعَرَّفَتْ كُلٌّ مِن مريم المجدليَّة و”مريم الأُخرى” إلى هويَّتِهِ بِعَينِ الإيمانِ التي لا تُخطِئ:
إنَّهُ “البُستانيُّ” الذي إفتَتَحَ بقيامتِهِ “اليومَ الذي لا يَغرُبُ”، اليومَ الذي إنتظَرَتْهُ البشريَّةُ الخاطئةُ لكي تَعودَ إلى “فردوسِها المفقود”، “بُستانيُّ ملكوتِ الله”…
إذاً، بعد العلامتَينِ الأُولَيَينِ على حقيقة “قيامة الربّ مِن بين الأموات”، وهُما “القبر الفارغ” و”بُشرى الملاك”، أتَتِ العلامة الثّالثة والحاسمة، “علامة أتانا بها السيِّدُ بنفسه”، ألا وهي تَرائيهِ أوَّلاً لمريم المجدليَّة (و”لمريم الأُخرى”)، ثُمَّ بعد ذلك لتلاميذه على عدَّةِ مراحلَ وبأشكالٍ شتّى… لقد شاء الربُّ القائمُ أنْ يتراءى لأشخاص، كانوا الأقرَبَ إليه أثناء حياته الأرضيَّة، وذلك:
(1) لتأكيد ما كان قد أنبأ به مراراً عن موته وقيامته،
(2) لإدخال التَّعزية إلى قلوب أُولئك المُقرَّبين وتثبيت إيمانهم بعد “صدمة الصَّليب”،
(3) لتحويل هؤلاء مِن “شهودِ عيانٍ” إلى “حامِلي وديعة الإيمان” و”ناشِري بُشرى الخلاص” إلى البشريَّة جمعاء وحتّى أقاصي الأرض،
(4) لتأكيد حُضوره الدّائم معنا، المُدرَكِ فقط بِعَينِ الإيمان، لا بالعَينِ التُّرابيَّة.
ذلك “التَّرائي” الأوَّل للربّ القائم مِن بين الأموات، سيكون موضوع قراءتنا “الرّوحيَّة – التّأمُّليَّة” للإيقونة الثّالثة المُرتبطة بحدث “قيامة الربّ مِن بين الأموات”، وستتناول قراءتنا فكرة واحدة مُترجَمة في إيقونتَين، يَفصِلُ بَينَهُما فارقٌ واحدٌ (لكنَّهُ أساسيّ)، وهُما إيقونتا “ظهور الربّ لمريم المجدليَّة (وَحدَها)”، و”ظهور الربّ لمريم المجدليَّة ولمريم الأخرى”.
ويُمكننا القول إنَّ إيقونة ذلك “الظُّهور الأوَّل للربّ” (بنسخها المُختلِفة)، هي بمثابة الجزء الثّاني لإيقونةِ “القبر الفارغ”، إذ تُكَمِّلُ إحداهُما الأخرى في الشَّهادة للحدث العظيم الذي لاحَتْ تباشيره عند فجر ذلك “اليوم الأوَّل مِن الأُسبوع”، حدث “قيامة الربّ الثُّلاثيَّةِ الأيّام”.
فَهيّا بنا إلى لقاء الربّ القائم مِن بين الأموات لأجل خلاصنا، ساجِدين وفَرِحين مع مريم والدة الإله ومريم المجدليَّة، وهاتِفين لهُ: “رابّوني”…
—————————————————–
ثانياً – وَصْفٌ سريعٌ لمُحتَوى الإيقونَتَين
بِشَكلٍ عامّ، يَظهَرُ الربُّ القائمُ مِن بين الأموات في الإيقونة الأُولى (الثُّلاثيَّةِ الأشخاص)، مُنتصِباً وباسِطاً يَدَيهِ، في “بُستانٍ” بين جَبَلَين.
وتبدو إمرأتان ساجِدَتان عند قَدَمَيهِ، كُلٌّ مِنهُما بوضعيَّةٍ مُختلِفةٍ عن الأخرى، وعلى وجهَيهِما علاماتُ الشَّوقِ والحُبِّ وفرحِ اللقاء.
أمّا في الثّانية (الثُّنائيَّةِ الأشخاص)، فيَظهَرُ الربُّ أيضاً بوضعيَّةِ الوقوف، فيما مريم المجدليَّة بوضعيَّة السُّجود، تُحاوِلُ الإمساكَ بقَدَمَيهِ، كما يبدو “القبرُ الفارغُ” والأكفانُ في خلفيَّةِ المشهد.
—————————————————–
ثالثاً – الخلفيَّةُ “الكِتابيَّةُ” للإيقونَتَين
يتّفقُ الإنجيليّونَ الأربعةُ في رواياتِهِم لحدث “القيامة”، على التَّفاصيل الأساسيَّة التي مَيَّزَتْ صبيحة ذلك “اليوم الأوَّل مِن الأُسبوع”… فهُم يُجمِعونَ على:
(1) حُضور نسوة يَحمِلنَ طيوباً إلى القبر،
(2) ذِكرِ مريم المجدليَّة تحديداً،
(3) حقيقة “القبر الفارغ”،
(4) بُشرى القيامة التي حَمَلَتْها السَّماءُ بواسطة الملاك.
إلّا أنّهُم يَختَلِفونَ على بعض التّفاصيل العَرَضيَّة:
(1) ملاك واحد أو إثنان عند القبر،
(2) عدد وأسماء النِّسوَة،
(3) ملاك دحرج الحجر أو كان مُدحرَجاً بصيغة المجهول،
(4) عند الفجر أم كانت الشَّمس قد طَلَعَتْ،
(5) كُنَّ خائفاتٍ أم فَرِحات،
(6) أخبَرنَ التَّلاميذَ أمْ لَمْ يُخْبِرنَهُم…
غير أنَّ هذا الإختلاف لا يَمَسُّ أبداً بجوهر “بُشرى القيامة” المُعلَنة مِن قبر السيّد الفارغ… فالقيامة قد حَصَلَتْ والمسيح قد قام مِن بين الأموات، وهذا هو المُهِمّ… وستأتي ظهوراتُهُ لِتُؤَكِّدَ صِدقيَّةَ تلك البُشرى، ولتُثَبِّتَ إيمانَ “شُهودِ العيان”.
في إطار الظُّهورات تلك، وفي ما خصَّ إيقونَتَينا، هناك تَفصيلان جديران بالإهتمام، يَظهَران في روايات “فجر ذلك اليوم”:
* أوَّلُهُما، هو حُضورُ مريم المجدليَّة عند القبر في الرِّوايات الأربع، بمُفردها عند يوحنّا (20: 1)، ومع شخص أو أكثر مِن النِّسوَةِ عند باقي الإنجيليّين… لكنَّ يوحنّا ومرقس يَذكُرانِ أنَّ الربَّ القائم ظَهَرَ لها أوَّلاً وبمُفردها، بشكلٍ أساسيٍّ ومُفَصَّلٍ في يوحنّا (20: 11-18)، وبشكلٍ سريعٍ ومُقتَضَبٍ في مرقس (16: 9-11)… وتُشَكِّلُ هاتان الرِّوايتان، الخلفيَّةَ الكتابيَّةَ لإحدى إيقونَتَي “الظُّهور الأوَّل للربّ بعد قيامته” (رواية يوحنّا بشكلٍ خاصّ).
* ثانيهما، هو حُضورُها مع “مريمَ الأُخرى” عند القبر، وظهورُ الربّ القائم لَهُما أوَّلاً، وذلك في روايةٍ إنفَرَدَ بها متّى البشير (28: 1-10)… وتلك الرِّوايةُ تُشَكِّلُ الخلفيَّة الكتابيَّة للإيقونة الثّانية “لظهور الربّ الأوَّل”.
—————————————————–
رابعاً – القراءةُ الرّوحيّةُ لِرُموزِ ومَعاني الإيقونَتَين
1 – مجد القيامة “الذّهَبيّ”
إنَّ الحدث المُعَبَّرَ عنه في الإيقونَتَين (الظُّهور الأوَّل للربّ)، هو محطَّة في سياق الحدث الكبير الذي تَجَلّى صبيحة ذلك “اليوم الأوَّلِ مِنَ الأُسبوع”، حدث “قيامة الربّ مِن بين الأموات”… لذلك، فمِنَ البديهيّ أنْ يُجَلِّلَ اللَّونُ الذَّهَبيُّ خلفيَّةَ الإيقونَتَين، دلالةً على الطّابع المجيد للحدث في إطاره العامّ (القيامة)، كما على المجد الأبَديّ المُلازم عادةً لِحُضور الربّ يسوع.
تجدر الإشارة إلى أنَّه توجد بَعضُ النُّسَخِ مِن إيقونة “ظهور الربّ لمريم المجدليَّة” على خلفيَّة مُعتِمَة، وذلك طِبقاً لِما وَرَدَ في (يو 20: 1)، حيث أتَتْ مريم المجدليَّة إلى القبر باكراً، وكان الظَّلام لا يزال مُخيِّماً.
في الحالتَين، يَعتَلِنُ الربُّ يسوع “القائم مِن بين الأموات” على أنَّه بالحقيقة “نورُ العالم” (يو 8: 12)، “النّورُ المُضيءُ في الظُّلمة، التي لَمْ تُدرِكهُ” (يو 1: 5).
2 – الربُّ القائم: “بُستانيُّ الملكوت”… “آدَمُ الجَديد”:
يُشَكِّلُ شخصُ “القائم مِن بين الأموات” نقطةَ إستقطابِ الإيقونَتَين، كَونَهُ محور الحدث الكبير، الذي دَخَلَ تاريخ البشر وغَيَّرَ وَجهَهُ وَوُجْهَتَهُ إلى الأبد… إنَّه الظُّهور الأوَّل له بعد قيامته، والإختبار الأوَّل لبشريَّتِهِ المُمجَّدةِ مِنْ قِبَلِ “الآدَميّين” (المُمَثَّلينَ بمريم المجدليَّة ومريم الأُخرى).
يظهر الربُّ “المُنتصِر على الموت”، وعلى وجهه علاماتُ السَّلامِ “الآتي مِنَ العلاء” لا مِنَ العالم، والذي “يُعطيه لتلاميذه لا كما يُعطيهِ العالم” (يو 14: 27)… في إحدى الإيقونَتَين، يَقِفُ باسِطاً ذِراعَيهِ، يَنظُرُ إلينا وكأنَّهُ يُذَكِّرُنا بِقَولِهِ سابقاً “أنا قد غَلَبْتُ العالم”، ويَداهُ مشبوكتان بعلامة البَرَكةِ المُعتادة.
لقد إعتَدْنا أنْ نَراهُ في الإيقونات السيِّديَّة، وهو يُبارِكُ بيُمناهُ فقط… أمّا اليوم، في يوم قيامته هذا، فإنَّه يُبارِكُ بالإثنَتَين، لأنَّ البَرَكةَ فائِضَةٌ ومُضاعَفَةٌ بفعل القيامة، وأيضاً لأنَّه يُبارِكُ الإمرأتَين السّاجِدَتَين له (ومِن خلالهما يُبارِكُنا نحن)… أمّا في الإيقونة الثّانية، فنراه يَمُدُّ يداً بإتِّجاه مريم المجدليَّة، ويحمل بالأُخرى المخطوط الملفوف المُعتاد الذي يرمز إلى “بُشرى الخلاص” التي أتى بها إلى العالم، والتي إكتملت فصولها في ذلك الصَّباح المجيد.
مِنَ الإشارات التي يُعرَفُ بها “القائم مِن بين الأموات”، وهو “المَصلوبُ سابقاً”، هيَ بالطَّبع آثارُ المسامير في يَدَيهِ ورِجْلَيهِ… فتلك علاماتٌ لا تُخطِئ، وهي قد أصبحت بمثابة “العلامة الفارقة” للشَّخص نفسه، وكأنَّها مِن ضمن هويَّته وكيانه.
إنَّها علامات الحُبِّ الإلهيّ الذي دفع بصاحبه ليذهب في حُبِّهِ إلى المُنتهى، الموت على الصَّليب، وهو سَيَحمِلُها إلى الأبد… لكنَّهُ أيضاً أنبأنا مُسبَقاً عن ثمرة ذلك الحُبِّ وهي “القيامة”، حين كَلَّمَنا عن “حَبَّةِ الحِنطة التي يجب أن تَقَعَ في الأرض وتموت، لكي تأتي بثمر كثير” (يو 12: 24).
كما أنَّ هالة البرارة التي تُحيط برأسه هي فريدةٌ مِنْ حَيثُ دَمغَةِ الصَّليبِ التي لا تَخُصُّ سِوى شخصاً واحداً، ومِن حَيثُ حُروفِ كلمة “أو أون” اليونانيَّة، التي تعني “الكائن” بالعربيَّة… بذلك، تكون هالةُ البرارة وَحدَها بمثابةِ “مُلَخَّص” عن هويَّةِ الشَّخصِ ورسالتِهِ.
يَرتَدي السيِّدُ لهُ المجد رداءَهُ الأُرجوانيَّ (المُعتادَ في الإيقونات)، دلالةً على المُلْكِ الإلهيِّ المَصدَر، كما المُلْكِ “المسيحانيّ” الذي إقتَناهُ بِثَمَنِ دَمِهِ الكَريم، وهو الذي أُلبِسَ “الأُرجوانَ” أثناء آلامِهِ بهدف الهُزء منه ومِن مُلْكِهِ، وعُلِّقَتْ في أعلى صَليبِهِ عِلَّةُ صَلْبِهِ: “مَلِكُ اليَهود”… إنَّ قيامته اليوم هي تأكيد على أنَّ “مُلْكَهُ ليس مِن هذا العالم”، لأنَّ مَنْ قام اليوم بسلطانه الخاصّ هو “خالق البرايا بأسرها”.
فوق الرّداء الأحمر، يلتحف بالرّداء الأخضر الذي يرمز إلى الطَّبيعة البشريَّة المُتجدِّدة، وذلك للتَّأكيد على أنَّه “الإلهُ – المَلِكُ” الذي لَبِسَ الطَّبيعة البشريَّة، وللتَّأكيد أيضاً على حقيقةِ “بشريَّةِ” القائم مِن بين الأموات (قيامته بالجسد)، إذ إنَّه ليس خَيالاً ولا روحاً، كما سَيَعتَقِدُ التَّلاميذُ فيما بعد، فيُجيبُهم “جُسّوني وأُنظُروا، فإنَّ الرّوح ليس له لَحمٌ وعِظامٌ، كما تَرَونَ لي” (لو 24: 39).
3 – مريمُ المجدليَّة… “الخاطئة التّائبة”
نَصِلُ إلى المَرأتَين السّاجدتَين عند أقدام “غالب الموت”، ونبدأ مع مريم المجدليَّة، كَونَها تَظهَرُ في إيقونَتَي “الظُّهور الأوَّل”… كما قلنا أعلاهُ، فإنَّ إسمَها قد وَرَدَ في كافَّة الرِّواياتِ الإنجيليَّة المُتَّصِلَةِ بأحداث فجر ذلك اليوم، وهي بذلك تَظهَرُ شخصيَّةً رئيسيَّةً مِن خلال حُضورها إلى القبر وفي إعلان بُشرى القيامة… وهذا إنْ دلَّ على شيء، فبالتَّأكيدِ على عُمْقِ مَشاعر الوفاء لِمَنْ حَرَّرَها مِنْ ماضيها الثَّقيل.
إنَّها تُعرَفُ مِنْ شَعرِها الكثيفِ المُتَدَلّي على كَتِفَيها (أي الغَيرِ مُغَطّى، عَكسَ المرأة الأُخرى)، للدَّلالةِ على حياتِها السّابقةِ التي أمضَتها في الخطيئة، والتي ترمز إليها “الشَّياطينُ السَّبعة” (مر 16: 9).
في هذا الإطار، تَظهَرُ دائماً في الإيقونات، وقد أحاطت هالة البرارة برأسها، دلالةً على أنَّها تبرَّرَتْ بتوبتها العظيمة… ويَنطَبِقُ عليها تماماً، قَولُ الربِّ عَنِ “إمرَأةٍ خاطئةٍ أُخرى” (في إنجيل لوقا)، إنَّها “أحَبَّتْ كثيراً، فَغُفِرَ لها الكثير”… وقد حَدا بها حُبُّها ووفاؤها للمُعلِّمِ إلى أنْ تتبَعَهُ حتّى لحظاته الأخيرة، وإلى أنْ تأتيَ فجراً إلى القبر الذي وَجَدَتْهُ فارغاً، فتَجلِسَ وتبكيَ إختِفاءَ الجسدِ الطّاهر.
فكان مِنَ الطَّبيعيّ أنْ يَظهَرَ لها المُعلِّمُ في أُولى لحظاتِهِ “القياميَّة”، كمُكافأةٍ لِحُبِّها الكبيرِ وأيضاً لِكَفكَفَةِ دُموعِها الغزيرة الغاسلة لخطاياها… لقد ظَنَّتْ في البداية أنَّه “البُستانيّ”، ونَراها في الإيقونَتَين، ساجِدةً عند أقدام السيِّد، تَتَعَرَّفُ إليه وتَهتِفُ “رابّوني” (يا مُعلِّم)، بعد أن كان قد ناداها بإسمِها “مريم” (الرّاعي الصّالح ينادي خِرافَهُ بإسمِها).
إنَّها في وضعيَّةِ سُجودٍ في الإيقونَتَين، لكنَّها رافعة الرَّأس وهي بمُفردها، ومُنحنِيَة بالكُلِّيَّة وهي برفقة “مريم الأُخرى”… إذ إنَّ المجدليَّة تَعتَبِرُ نفسها أدنى كرامةً مِن “مريم الأُخرى”، التي سَنَرى مَن تكون في المقطع التّالي.
أخيراً، نرى على وَجهِها ملامحَ التَّأثُّرِ بفرح اللّقاء مُجدّداً، إذ تحوَّلَتْ دموع الحُزن على موت السيِّد وعلى إختِفاء جسده المائت، إلى دُموع فرح وبهجة بلقائه حيّاً ومُمجَّداً (ويا لها مِن بهجةٍ آتيَةٍ مِنَ العلاء)… وهي أرادت أنْ تَتَمَسَّكَ به خَوفاً مِن فُقدانِهِ ثانيةً، وهو يُطَمئِنُها بأنَّهُ باقٍ معهم حتّى عودته إلى المجد الأبَويّ، لكنَّهُ يُحمِّلُها مَهَمَّةَ إعلانِ بُشرى القيامة، مُحَوِّلاً إيّاها مِنِ إمرأةٍ نائِحَةٍ مُحبَطَة، إلى إمرأةٍ جديدةٍ مليئةٍ بالإيمان، وإلى “رَسولةِ الرُّسُل” (يو 20: 11-18).
4 – مريمُ الأُخرى… المُمتلئة نعمةً
أمّا “مريمُ الأُخرى” (الوارِدُ ذِكرُها حَصريّاً في متى 28: 1-10)، فَهيَ لَيسَتْ سِوى “مريم والدة الإله”، “فتاة النّاصِرة” الوَديعةِ التي:
(1) قَبِلَتْ ذاتَ يومٍ بشارةَ الملاك عن حَبَلٍ بتوليٍّ بِ”قُدّوسٍ مَولودٍ مِنها يُدعى إبن الله… ولن يَكونَ لمُلْكِهِ إنقِضاء” (لو 1: 26-33)،
(2) سارَتْ مع إبنها على مدى كرازته الملكوتيَّة،
(3) “كانت تحفظ كُلَّ الأُمور في قلبها” (لو 2: 51)،
(4) وَقَفَتْ على أقدام الصَّليب، تتأمَّلُ بِصَمْتٍ في التَّدبير الإلهيّ الصّائر بالموت، وقد “جازَ سَيفٌ في نَفسِها”، لا بَل سُيوف (لو 2: 35).
أمّا اليوم، وهو “اليَومُ الذي صَنَعَهُ الربّ”، فقد كان بديهيّاً أن تكونَ هي فعليّاً أوَّلَ مَنْ يَعلَمُ بأمر قيامة الربّ يسوعَ إبنِها وإلهِها، وأوَّلَ مَنْ يَراهُ مُمَجَّداً بعد قيامته، لِمَكانَتِها الخاصَّةِ في التّدبير الخلاصيّ (حوّاء الجديدة) وللدَّور الجديد الموكَلِ إليها، وهو أنْ تُصبح أُمّاً ليوحنّا (الحبيب) ومِن خلاله أُمّاً للبشريَّة جمعاء.
لقد “أشرَقَ الربُّ مِنَ القبر كَمِنْ خِدْرٍ”، وخَرَجَ منه كما وُلِدَ مِنَ البتول، صائناً بتوليَّتَها الدّائمة، التي ترمز إليها “النَّجمات الثَّلاث” الظّاهرة على جبينها وكَتِفَيها، والمُشيرة إلى “بتوليَّتها قَبلَ وأثناء وبعد الولادة”.
ها هي اليوم ساجِدةٌ لربِّها وإلهِها كما مريم المجدليَّة، لكنَّها رافعة الرَّأس لأنّها “أمَةُ الربِّ المُمتلئةُ نعمةً”، بينما المجدليَّة هي “أمَةُ الربِّ الخاطئةُ والتّائبةُ توبةً عظيمة”.
نَراها مُرتديةً الرِّدائَين الأحمرَ والأخضر، كما الربُّ يسوع، ولكن بِشَكلٍ معكوس… فالرِّداءُ الأساسيُّ هو الأخضرُ عند مريم، لأنَّها بالنِّهاية إنسانٌ مخلوق (كباقي البشرِ المَدعوّينَ إلى “التَّألُّه”)، مع الفارق بأنَّها “مُمتلئةٌ نعمةً”… كما أنَّها تلتحف بالرِّداءِ الأُرجوانيّ لأنَّها “أُمُّ المَلِك”، وقد أخَذَتْ تلك الصِّفَةَ مِنْ جَرّاءِ أُمومَتِها للإبنِ المُتأنِّس.
تجدر الإشارة إلى أنَّ متّى الإنجيليَّ يُطلِقُ عليها تسميةَ “مريمَ الأُخرى” بدلاً مِنَ الإشارة إلَيها بِصِفَتِها أُمّ الربّ يسوع، وقد شَرَحَ بعضُ الآباءِ بأنَّ متّى أراد بذلك حمايَتَها مِنَ الأذى الذي قد يَلحَقُ بها جَرّاءَ الإضطهادات، الحاصِلةِ في الفترة التي كانَتْ مريم لا تزال بَعدُ على قَيدِ الحياةِ الأرضيَّة.
5 – مُحيطُ القبر الفارغ
أخيراً، في المشهد الخلفيّ للإيقونة “الثُّلاثيَّة”، لا بدَّ مِن مُلاحظة الجَبَلَين المُحيطَين بموقع “ظهور الربّ”، وهُما تَفصيلان غَيرُ إنجيليَّين… ويرمز الجَبَلُ عن جهة والدة الإله، إلى “العهد الجديد”، فيما يرمز الجَبَلُ عن جهة المجدليَّة، إلى “العهد القديم”… وقد قَصَدَ كاتب الإيقونة مِن وَضْعِهِما، الإشارةَ إلى أنَّ الربَّ يسوعَ هو سيِّدُ العهدَين، القديم والجديد.
أمّا في المشهد الخلفيّ للإيقونة “الثُّنائيَّة”، فنُلاحِظُ جَبَلاً وحيداً يَتَوَسَّطُهُ “القبر الفارغ” مع الأكفان. بذلك، يَجمَعُ كاتب الإيقونة في مَشهدٍ واحد، عُنصُرَين مُكَمِّلَين لبعضهما البعض في الإعلان عن حقيقة قيامة المسيح.
“فظُهورُ الربّ القائم” (العُنصُر الثّاني زمنيّاً) يَحُلُّ لُغزَ “القبر الفارغ” (العُنصُر الأوَّل زمنيّاً)، على أساس أنَّ إكتِشافَ “القبر الفارغ” سَبَقَ زمنيّاً “ظُهورَ الخارِجِ مِنهُ”، الربِّ يسوع المسيح…
—————————————————–
خامساً – الخُلاصةُ الرّوحيَّة
في ختام قراءتنا الرّوحيَّة – التَّأمُّليَّة للإيقونات “القياميَّة” الثَّلاث، نرفع أناشيدَ المَجدِ والفَرَحِ والشُّكرِ للربِّ القائمِ مِن بين الأموات، الذي مات وقام لأجل خلاصِنا.
ونُعلِنُها عالياً مع الملاكِ كما في فَجرِ “ذلك اليوم”:
“لقد قامَ، لَيسَ هوَ هَهُنا”…
فقيامة السيِّد مِن بين الأموات في اليوم الثّالث، هي حَجَرُ الأساسِ لإيماننا المسيحيّ بأكمله، إيماننا بالحياةِ الأبديَّةِ في الله ومع الله.
† فَلَو لَمْ يَقُمِ المسيح، “لَكانَ تَبشيرُنا كُلُّهُ باطِلاً، وكذلك إيمانُنا، ولَكُنّا أشقى النّاسِ أجمَعين”، كما قالَ الرَّسولُ بولسُ بِحَقّ، ولَكانَ الصَّليبُ دونَ أيِّ معنى خلاصيّ.
† وَلَو لَمْ يَقُمِ المسيح، لَما كُنّا نِلْنا (ولا نَزالُ) الرّوحَ القدسَ مِنَ العنصرة وحتّى يَومِنا هذا، فذلك أصلاً هو الهدفُ النِّهائيُّ لقيامةِ المسيح و”للحدثِ المسيحانيّ” بأكمَلِهِ: “عبادةُ اللهِ بالرّوحِ والحَقّ” (يسوع للمرأة السّامريَّة)، “إقتِناءُ الرّوحِ القدس” (القدّيس سيرافيم السّاروفسكيّ).
† وَلَو لَمْ يَقُمِ المسيح، لَما كانَتْ أجيالٌ وأجيالٌ مِنَ القدّيسين تَرَكَتْ مجد هذا العالم، حاملين الصَّليب بفرحٍ ورجاءٍ كبيرَين، سائرين على خُطى المُعلِّمِ الإلهيّ.
† وَلَو لَمْ يَقُمِ المسيح، لَكانَ الكَونُ بأكمَلِهِ بِلا مَعنى فِعليّ، ولَكانَتِ الحياةُ مُجَرَّدَ “بضعةَ أيّامٍ وتَمُرُّ”، ولَبَقِيَ الإنسانُ “أيّامُهُ كالعُشب، إنَّما يُزهِرُ كزهرةِ الحَقل” (مز 102: 15).
† وَلَو لَمْ يَقُمِ المسيح، لَكانَتِ الأفراحُ بِلا معنى، ولَكانَ الحُزنُ والألَمُ أيضاً بِلا معنى…
في كرازة السيِّد لهُ المجد، بَدَأتْ علاماتُ حلولِ “ملكوتِ الله” بين البشرِ بالظُّهور، ولَيسَتِ الأناجيلُ سوى الشَّواهد على ذلك… فكُلَّ كرازةِ الربّ هي تحقيقٌ للوَعدِ الإلهيّ بالخلاص، وقد شاء الربُّ أنْ يَمُرَّ ذلك الخلاص عَبرَ الصَّليب تَحديداً.
لكنَّ التَّدبيرَ الإلهيَّ لا يُمكِنُهُ أبداً أنْ يَتَوَقَّفَ عند “الصَّليب”، لأنَّهُ بذلك سَيَكونُ بِلا أيّ معنى…
لذلك كُلِّهِ، كانَتِ “القيامة”…
“المسيحُ قامَ – حقّاً قامَ”
توفيق ناصر (خريستوفيلوس)
اترك تعليقاً