الارشمندريت ميصائيل حجار “فخر حمص”

الارشمندريت ميصائيل حجار “فخر حمص”

الارشمندريت ميصائيل حجار “فخر حمص”

توطئة

ورد اسمه بعض الأحيان في بعض الوثائق البطريركية المختصة بأبرشية حمص(1) والعائدة زمنياً الى مابعد منتصف القرن 20 لكني لم أجد فيها ما يّوثق لهذه الشخصية الإكليريكية الأنطاكية الأرثوذكسية المدعوة “فخر حمص”(2) سوى أنه كان وكيلاً لمطران الأبرشية مثلث الرحمات المتروبوليت الكسندروس جحا، وبعد وفاته سير امور الابرشية كمعتمد بطريركي بتكليف من البطريرك ثيوذوسيوس السادس الى أن تمكن المجمع من انتخاب مثلث الرحمات الارشمندريت الكسي عبد الكريم متروبوليتاً على ابرشية حمص وتوابعها، وكانت وقتها أمور الأبرشية على فوهة بركان، حيث كانت تلك الفترة العصيبة قد شهدت انقساماً للمجمع الانطاكي لأن الفريق المنشق بقيادة المطران ابيفانيوس زائد وصحبه قاموا بانتخاب مثلث الرحمات الارشمندريت غفرئيل فضول مطراناً من طرفهم على حمص… وكان مثلث الرحمات البطريرك ثيوذوسيوس السادس نزيل مستشفى الروم ببيروت بفالج منذ سنوات أدى بالنتيجة الى ارتقائه الى الأخدار السماوية مطلع عام 1970، لذا حصل هذا الانقسام وامتد ليشمل كل الابرشيات ولكنه كان كبير التأثير في حمص بعد وفاة مطرانها الكسندروس جحا.
لقد استطاع علمنا بحكمته وحسن ادائه كمعتمد بطريركي أن يحافظ ما أمكنه على أبرشية حمص الشهيرة بإيمانها الارثوذكسي، بالرغم من الانقسام المؤلم الذي ضرب المجمع وأبرشية حمص وبفضل مزية الصوت الجميل التي تمتع بها وحسن ادائه وبرأينا انها لعبت دوراً محبباً، إضافة الى مزية الحكمة والتعقل في إدارة السفينة الحمصية وعلى حساب صحته وتوازنه ولمحبة الحمصيين للترتيل المتقن مع جمال الصوت والاداء، أن يرضي الفريقين إلى أن استتب الأمر لمنتخب المجمع برئاسة البطريرك أي الكسي عبد الكريم ودخوله الى الابرشية.(3)
لذا أجَّلت البحث عن هذا العلم إلى أن تتوفر المصادر الوافية إلى أن قرأت ماكتبه عنه البعض من الأدباء والكتاب المعاصرين له في حمص وهي كانت محور مقالي عنه هنا…
وبذا خرجت في مقالي هنا في موقعي عن أسلوبي الكلاسيكي المعتاد في تسليط الضوء على أعلامنا، وبقناعتي، وبالرغم من ضآلة شهاداتهم عنه أدناه إلا أنها تعطي قبساً من ضوء عن هذا العلم الانطاكي الارثوذكسي المعاصر. وان كان قد ذهلني ترتيله وخاصة لما سمعته يرتل بمايفوق الطرب مترافقاً مع الناي ” ان البرايا بأسرها” هذه التسبيحة الخالدة للطاهرة مريم نظم ولحن الدمشقي مجرى الذهب القديس يوحنا الدمشقي، كما ان قدس الاب الموسيقار  الدكتور يوحنا اللاطي المدون الموسيقي والغريد بحث عن تراث هذا العبقري الارشمندريت ميصائيل فخر حمص ودونه واطلقه عبر اليوتيوب فالشكر له وايما شكر…
كاتدرائية الاربعين شهيد في حمص
كاتدرائية الاربعين شهيد في حمص

كتب الاستاذ بهيج جبلي عنه مقالاً بعنوان: “نتذكرهم فيحيون” (4)
“ولد الأرشمندريت ميصائيل حجار عام 1921 للأبوين عبده حجار وندى قرنفلي فأسمياه موسى.
عاش في كنف والده الذي عمل في مدينة طرابلس، وقد اعتاد، إذ حباه الله صوتاً جميلاً، أن يردد بعض الأغاني الشهيرة والصعبة الأداء.
أعجب المثلث الرحمات الكسندروس جحا مطران أبرشية طرابلس آنذاك بصوته الرخيم وبسرعة حفظه للألحان وقدرته على الأداء الصحيح، فطلب من والده أن يسمح له برعايته، فوافق الوالد.. وعاش موسى مذّاك في كنفه ابناً روحياً له..
وهناك، كما روى لي ذلك بنفسه، سمحت الظروف للفتى موسى أن تسمعه المطربة السيدة فتحية أحمد مغنيّاً لها دور (امتى الهوى) لكوكب الشرق أم كلثوم، فأبدت شديد إعجابها بصوته وتنبأت له بمستقبل عظيم وسألت  والده أن تأخذه معها لتدرّبه على أصول الغناء فكان جواب الوالد الرفض!
ومرّة سمعته كوكب الشرق أم كلثوم حين ردّت الزيارة للمطران جحا بعد أن زارها في فندق “كونتينتال” في طرابلس، كما استمع إليه المطرب الكبير محمد عبد الوهاب وأبدى إعجابه طالباً من والده أن يأخذه معه ليتبناه موسيقياً لكنّ الوالد رفض للمرة الثانية.. فاستمرّ موسى في سلك الكهنوت.
ومرت السنون… واستقرّ موسى في أبرشية حمص مع صاحب السيادة المثلث الرحمات المطران ألكسندروس جحا، فعاش بهذا تحت ظلال هرم من أهرامات التقوى والمحبّة والتضحية، عادّاً إياه ابناً روحياً له، فتربى على خصال التفاني والغيرية  التي رافقت كل حياته. وقد تدرّج مع السنين في سلك الكهنوت إلى أن نال رتبة (أرشمندريت) بجدارة محققاً مركزاً مرموقاً في المجتمع الحمصي.
كان ولعه بالمطالعة مميزاً، فقد اعتاد أن يقرأ الكتب والمراجع الدينية والاجتماعية على اختلاف أنواعها، كما اقتنى أجود المؤلفات التي أسس بها مكتبة غنية أقامها في غرفته لا يبخل على احد بأي كتاب فيها أو مرجع يسأله إياه!

أما في مجال الموسيقى فقد كان فيضاً من الفن والحسّ الموسيقي المرهف حين نهل من معين الموسيقى الرومية (الكنسية) وأتقنها إذ أتاحت له خدمته الطويلة في سلك الكهنوت أن يتعلمها وأن يتفوق فيها. كما تشبّعت ملكته الفنية بأعمال وألحان عمالقة الموسيقى العربية في النصف الأول من القرن العشرين كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، فكان ذلك عاملاً من عوامل نجاحه في المزج بين الموسيقى الرومية الارثوذكسية، والموسيقى العربية الأصيلة، والذي بدا جلياً في ادائه الرائع الذي كان يؤثر في المصلين أعمق التاثير.
ولعل المساحة الصوتية الكبيرة التي كان يمتلكها، ادّت به إلى أن يسمو، مبدعاً، بترتيله إلى أعلى الدرجات ثم ينخفض ليساير الطبقات الجهيرة في السلم الموسيقي متأثراً بنصائح صاحب السيادة المطران ألكسندروس جحا مما زاده صقلاً وكمالاً.
ومن الطريف أن المثلث الرحمات البطريرك الكسندروس طحان، والذي كان واحداً من المعجبين بصوته، اعتاد ان يهتف من دمشق ليطلب إليه أن يُسمعه – عبر الهاتف – التراتيل الكنسية ويستمر الترتيل ويطول إلى أن ينبهه المطران جحا باعتراض رقيق:
“طالت المكالمة كثيراً .. الا يكفي؟”
بالأمس القريب جمعتني جلسة هادئة بصديق لي عزيز هو الأستاذ الكبير صباح فخري، أشاد فيها بذائقة أهل حمص الموسيقية وبمحبتهم للفن والاداء الراقي.. وللحظة، ارتسم على وجهه ظل حزن وأسف وهو يقول: كان لي يوماً في حمص صديق حميم يتمتع بصوت رائع وبثقافة موسيقية عالية هو الأرشمندريت ميصائيل حجار.. كم أنا حزين لرحيله المبكر!

ولعل المصلّين يذكرون أداءه المميز في خدمة تراتيل الكنيسة كيوم “الثلاثاء العظيم” حين كان يرتل قطعة “المرأة الخاطئة”… أو يوم “خميس الأسرار” أو “الجمعة العظيمة” حيث كان الخشوع يمتلك جميع المصلين وهم يستمعون إليه مرتّلاً (اليوم علق على خشبة) وكذلك في صباح أيام الآحاد حينما كان يرتل (المجدلية الكبرى) المجد لك يا مظهر النور..
لقد تميز الأرشمندريت ميصائيل أثناء الترتيل بانتقاله، من لحن إلى آخر بليونة ورفق معتمداً على ثقافته الموسيقية الرفيعة، وعلى حنجرته المطواعة القوية.
يملؤني الآن الحزن وأنا أستعيد ذكرى هذا الصديق الذي نذر حياته للرب، وأعاني من جديد ألم فقده. لقد عاش حياته معطاء، مضحياً، محباً برغم مواجهته لقسوة الظروف من حوله، اخص بهذا، السنوات التي سبقت موته، فبعد وفاة المطران ألكسندروس جحا عُيّن معتمداً بطريركياً في حمص، فبقي وحيداً في المطرانية مواجهاً لتيارين متضادين، حاول أن يوفق بينهما بحنكته  وصبره وإرادته القوية، مما ترك أثراً على أسلوب حياته في محاولة التكيف مع واقع أليم وصعب، الأمر الذي ادّى به، بتقديري، إلى إصابته بالمرض.. (رغم بنيته القوية والصحة الجيدة التي كان عليها).. ذلك المرض الذي عجّل برحيله عن دنيانا مبكراً وكان هذا في شهر تموز عام 1979 حيث تم تشييعه بجنازة متواضعة هادئة ضمّت بعض المخلصين له ممّن علموا بوفاته متأخرين ورحل الفقيد تاركاً عَبرةً في العيون وحسرة في القلب!(5)

الأرشمندريت ميصائيل حجار
سعدْتُ بصداقته خمسة وثلاثين عاماً،
إنساناً أميناً وصديقاً وفياً ً”
– قالت فيه الأديبة نهاد شبوع (6)
“إنه من هؤلاء الذين يموتون بشعور المظلوم الظامئ إلى شيء مسلوب يظنونه من صميم حقهم! هؤلاء الذين يخرجون صفر اليدين من معركة الدهر، سواء أكان موضوع العراك معهم أو عليهم! ودعنا الأرشمندريت ميصائيل حجار عام 1979 .. من دون أن يخسر الحب.. (حب حمص).. وربحنا نحن الحزن، وكان جرحه نصره.. وما أقسى ألا يتحقق نصرنا إلا بجرحنا…”
قال فيه السيد أحمد دحبور في مقال له بعنوان “في ذكرى رجل نبيل”(6)
انه رجل دين، بل انه يشغل موقع ارشمندريت للروم الارثوذكس في حمص، وكنت فتى في مقتبل العمر، اتلقى دروسي في الثانوية الغسانية، وقد قادني الطالع السعيد الى بيت صديقي بسام، الذي سيصبح فنانا تشكيليا لامعا عندما يكبر، بعد ان قام بسام هذا برسم صورة عملاقة للسيد المسيح وهو يترجل عن الصليب، كان اكثر ما يبعث الرهبة في تلك الصورة، حبات العرق على وجه المصلوب، وتفاصيل الالوان الساحرة الدقيقة عند ركبتيه، وقد اشتهر في الحي عمل الفنان الصغير الذي ابدع هذا العمل، حتى انه ذات يوم، زارهم السيد مطران المدينة، ومعه لفيف مهيب من رجال الدين، وكان في صحبته الارشمندريت ميصائيل حجار، وبما انني كنت صديقاً ملازماً لبسام، فقد كنت بين الحاضرين، وهكذا حظيت بمعرفة هذا الرجل النبيل الذي لم يتردد ذات يوم، في ايراد حديث للنبي محمد خلال عظة الأحد، وحين عرف انني ولد مسلم من اصدقاء بسام، رحب بي، وناولني حبات من السكاكر التي كان يوزعها احيانا على ابناء الرعية، وهكذا نشأ نوع من الالفة بين الولد الفلسطيني المسلم ونائب مطران الروم الارثوذكس في مدينة حمص

كنيسة مار اليان الحمصي الارثوذكسية في حمص
كنيسة مار اليان الحمصي الارثوذكسية في حمص

الى ذات يوم كادت تقع فيه فتنة طائفية لولا ان تداركها عقلاء المدينة وفي طليعتهم الشيخ وصفي المسدي والمطران جحا والارشمندريت ميصائيل حجار، ولن انسى ما حييت، عظة الارشمندريت يومها، وقد تجاهل تماما تلك الحادثة المؤسفة، لكنه ومن على منبر الكنيسة – أورد حديث النبي المعروف عندما سأله رجل عن أقرب الناس إليه وأحقهم في معاملته، فأجابه الرسول الكريم: أمك، فقال الرجل: ثم من؟ ليجيبه الرسول: أمك، قال ثم من؟ قال: أبوك…
شهد الله اني سمعت تلك الموعظة، من فم الارشمندريت ميصائيل حجار، في كاثدرائية الأربعين شهيدا في مدينة حمص، وكان هذا امراً طبيعياً من رجل مشهود له بالتسامح والانفتاح، وبالحرص على اقامة جسور المحبة بين الناس بغض النظر عن عقائدهم. على أن موضوعي الأساس، في هذه اللحظات يدور حول السيد الإرشمندريت الذي كان نعم المثل في إشاعة ثقافة الإخاء والتسامح وتعميق معنى المواطنة
وإن أنسى لا أنسى، يوم ألقى هذا الرجل عظته في المؤمنين، حاضاً على التوحد عند لحظة الإيمان، انطلاقاً من أن الخلق عيال الله، وهو تعبير – لمن يعرف – منقول عن النبي الكريم، ومثبت في صحيح الاسناد.
وربما لم يكن ذلك الرجل النبيل، في حاجة إلى بذل مزيد من الجهد لتعميق روح الإخاء في المدينة، فتلك هي حمص.. مدينة التسامح والمحبة منذ ان ظهرت على الخريطة، وتلكم هي سورية التي تعلمنا منذ أن كنا على مقاعدها الإبتدائية، انها قلب العروبة النابض، واذا كان لي على المستوى الشخصي، ان افخر بهويتي الوطنية الفلسطينية، فإن لي أيضاً وأيضاً، أن أفخر بحمص التي ربتني وأنشأتني على ما أنا عليه، وزاد من سعادتي أنني لم أتشكل في هذه المدينة وحسب، بل درست في ثانويتها الغسانية، حيث كان يستحيل ان تجد فرقا فيها بين تابع هذا الدين او ذاك مهما اوغلت في التفاصيل.

على ان موضوعي هو إزجاء التحية إلى الإرشمندريت ميصائيل حجار، الذي كان – إلى جانب موقعه الروحي – شخصية مثقفة نادرة المثال، حتى انني كنت أزعم أني لو ألَّفتُ كتاباً في بيتي، لأكتشفت انه مطلع عليه.. والى ذلك فقد كان يرشح تواضعاً وأريحية وحباً للناس جميعاً. وفي يقيني أن سورية العربية ما كانت لتسطع في الفضاء العربي لو لم يظهر فيها أهلها الكرام، من ديك الجن الحمصي الى الشيخ أمين الجندي الى الشعراء نسيب عريضة وعبد الباسط الصوفي وموريس قبق ومصطفى خضر وغيرهم كثير. فهل كثير أن يظهر فيها قدس الإرشمندريت ميصائيل حجار؟

وها أنذا أبدأ في سيرة رجل لأصل الى شخصية مدينة، وما هذا النسغ إلا من تلك الشجرة الوارفة فهنيئاً لمن أُتيح له أن يستظل بفيء حمص الحميم…
هل هو الوفاء؟ هل هي نوبة حنين؟ أم أنه اعتراف لصاحب الفضل بفضله؟ الأرجح ان العرفان يقضي بالامتنان لذلك جميعاً، ولن انسى – وكيف؟ – طلة الارشمندريت المهيب والأنموذج الفريد الذي يقدمه التسامح والعطاء، وأجمل ما في تلك الطلة أنها تلوح من غير مناسبة، فإحياء الوفاء لا يتطلب مناسبات، حتى إذا بدا أنني أبالغ، أو أنني أزج القراء في عالم خاص بي، فالله يعلم أنني لم أفعل سوى ما أنشأتني عليه حمص العدية… أم الحجارة السوداء والقلوب البيضاء، وإلى قدس الارشمندريت الذي لا أعرف أين هو الآن، أقول: شكراً لذكراك الحاضرة وما أوحته لي سواء أكنت الآن في دنيانا أم في ملكوت الرحمة والمحبة.
مصادر البحث
– (1) الوثائق البطريركية- وثائق أبرشية حمص
– (2) شهادات شفهية – من أهل حمص
– (3) الازمة الانطاكية اول عهد البطريرك الياس الرابع وانهاها البطريرك اغناطيوس الرابع بحكمته واعاد الجميع الى حضن المجمع وتمت تسوية اوضاع الذين تمت رسامتهم من قبل الفريق المنشق الذي ضم اضافة الى ابيفانيوس زائد بولس الخوري مطران صور وصيدا، وباسيليوس سماحة مطران بصرى حوران وجبل العرب…
-(4)”مجلة السنونو- العدد 11″بهيج جبيلي

-(5) البعض قالوا بأن جنازته كانت عظيمة جداً وتليق به فقد سجي جثمانه في كاتدرائية الاربعين لثلاثة ايام   للتبرك والصلاة ،وآخرون اضافوا انه حين تشييعه حُمل على اكف الشباب بحضور كبير جداً.
– (6) المصدر ذاته
– (7) “في ذكرى رجل نبيل” أحمد دحبور “الحياة الجديدة 16/6/2015

 

 

  • Beta

Beta feature

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *