الاصطياد في المياه الأرمنية…، في الأمس واليوم
بقلم: المهندس كارنيك سركيسيان
رئيس الهيئة التأسيسية للمجلس الوطني الأعلى لأرمينيا الغربية
خلال عام 1919 ،بينما كانت بريطانيا منخرطة بقوة في مباحثات مؤتمر باريس للسلام وتشكل إحدى
الأركان الرئيسية لهندسة النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الأولى، كان وفدها الرسمي في
المؤتمر يشارك في صياغة العالم المثالي وفق رؤية النقاط الأربعة عشر للرئيس الأميركي وودرو
ويلسون، والذي لم يقبل في المشاركة في الحرب العالمية األولى إلى جانب الحلفاء الا بعد أن نال موافقة
دول الحلف بأنها ستكون خاتمة الحروب وبداية عصر جديد مبني على الاحترام المتبادل بين الأمم
والعلاقات الدولية السليمة، ولكن أذرعها الخفية كانت لها مهام مختلفة تماما التي تمت بالسلام والامن
الدوليين بصلة.
هي أيدت مشروع إقامة دولة أرمنية قوية في الشرق الأوسط ووقعت على معاهدة سيفر للسلام ( 10 آب 1920) وتقدمت بطلب رسمي إلى الولايات المتحدة الأميركية لتقوم بترسيم الحدود الدولية بين
دولة أرمينيا وتركيا بموجب قرار تحكيم دولي قطعي غير قابل للطعن أو الالغاء أو التعديل، وقد صدر
ذلك الحكم بتاريخ 22نوفمبر 1920 وإصبح ساري المفعول منذ ذلك التاريخ. في حين أنها عملت في
الخفاء على دعم دولة أذربيجانية قوية تابعة لها في المنطقة، وأوكلت إلى مصطفى كمال أتاتورك، الذي
كان سبق وتم تجنيده من قبل المخابرات البريطانية في بدايات 1918 ،بمهمة إغتيال الدولة الأرمنية
الجديدة كي تضمن مستقبل مشروعها الأمبريالي في السيطرة على طرق التجارة الممتدة من أوروبا إلى
أواسط آسيا )المشروع الطوراني( بالاضافة إلى حاجتها لآبار النفط المكتشفة قرب باكو.)
وفي نفس سياق سياستها الخفية وعدت بريطانيا الحزب الحاكم في أذربيجان (Musavat (نيتها في
ضم إقليم ناغورني كاراباخ ومنطقة زانكيزور )جنوب جمهورية أرمينيا الحالية ( إلى أذربيجان…! في
يناير 1919 أعلن الكولونيل البريطاني ديجبي إنكلس شاتلوورث Inglis Digby Sir
Shuttleworth تعيين الدكتور سلطانوف في منصب الحاكم العام لاقليم كاراباخ مع تطمين الأرمن
بأنه إجراء مؤقت. حينها إعترض الأرمن بشدة وإعتبروا القرار خرق مرفوض لحقوقهم الوطنية، حيث
كان الأرمن يشكلون نسبة 95 %من إجمالي سكان كاراباخ البالغ حينها 180000 نسمة. فإجتمع
البرلمان الارمني في 23 ابريل 1919 في مدينة شوشي/ عاصمة إقليم كاراباخ وأعلن رفضه لأي سلطة
أذربيجانية في الاقليم وندد بالأعمال العدائية التي كان يمارسها الأذربيجانيون ضد الأرمن في مناطق
مختلفة. فقام الكولونيل شاتلوورث بتوعد الأرمن قائلاً “نملك من القوة ما يكفي لاجباركم على
الخضوع”…! وإستمر الصراع حول كاراباخ رغم الجهود البريطانية لضمه إلى أذربيجان.
كان للديبلوماسية البريطانية دور كبير في منع إتحاد إقليم كاراباخ مع أرمينيا. الأمر الذي إعترف به
لاحقاً المفوض العسكري البريطاني في يريفان الكولونيل جي سي بالودين Plowden. C.J قائلاً:
“كان تسليم كاراباخ إلى أذربيجان الضربة الأكثر مرارة..، كونه مهد العرق الأرمني وملاذهم الأخير عندما
تم غزو بلدهم. لقد كان الاقليم أرمنياً صرفاً وبشكل فريد، وهو أقوى جزء من أرمينيا على كافة
الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية”.
تابع البريطانيون تنفيذ مخططاتهم الخاصة البعيدة عن الأضواء والمؤتمرات الدولية. فمن خلال علاقاتهم
السرية مع القادة البلشفيين من جهة ومصطفى كمال أتاتورك من جهة أخرى. نجحوا في إلحاق إقليم
كاراباخ إدارياً إلى جمهورية أذربيجان، مضافاً إليه إقليم ناخيتشيفان الأرمني الآخر من جهة غرب
منطقة زانكيزور في جنوب جمهورية أرمينيا الحالية، بواسطة قرار تعسفي سطره جوزيف ستالين
ضمن جملة من التفاهمات السرية بين الدولة البلشفية وبريطانيا. حدث هذا عام 1921 في نفس الوقت
الذي كانت الحكومة السوفيتية تقوم بتسليم محافظتي كارس وأردهان الأرمنيتين إلى الحكومة الغير
شرعية التي كان يقودها عميل المخابرات البريطانية مصطفى كمال أتاتورك، بموجب إتفاقيتي موسكو
وكارس.
إن “الدولة العميقة” ليست وليدة اليوم، بل تقف خلف كافة السياسات الخارجة عن القانون الدولي منذ
وضع الجنرال الأميركي المتقاعد ألبرت بايك خارطة طريق احتلال العالم عام 1871 بطلب من
“النخبة الارستقراطية” المالية في أوروبا.
كانت هي صاحبة قرار إبادة الأرمن عن وجه الأرض في الأمس وهي تقف اليوم خلف قرار الحرب
بين أذربيجان وأرتساخ. ضمن سياق نفس المخطط الرامي لافراغ شمال الشرق الأوسط وجنوب القوقاز
من الأرمن لصالح ترسيخ دور ربيبتها تركيا فيهما وحصار كل من روسيا والصين وإيران بطوق
مشروعها الطوراني.
ومن هنا فإن أي مشروع يقوض الأرمن ويعوم الاتراك في المنطقة لا يخدم سوى “الدولة العميقة”
ومشروعها الرامي لاحتلال العالم.
* * *
بعد إفشال ثالثة إتفاقيات لوقف اطلاق النار بإيعاز من أجهزة المخابرات الغربية العاملة لصالح “الدولة
العميقة”، جاءت مبادرة الجمهوريةالاسلامية الايرانية كجارة حكيمة للطرفين المتحاربين، وتأمل منها
خيراً الشعب الأرمني.
جاء مضمون هذه المبادرة صادماً بالنسبة لكل الارمن، وخاصة أرمن أرمينيا الغربية في المهجر. كانت
تركيا قد بدأت بالترنح تحت وطأة سلسلة مغامراتها العدوانية الفاشلة في المنطقة، وبات العببىء
مؤلما وينذر بعواقب وخيمة، فجاءت المبادرة الايرانية لتنشلها وتعوم دورها المشؤوم في اقتصاديات
المنطقة من خالل إقتراح ضمها إلى طاولة المفاوضات حول موضوع إقليم كاراباخ…!!
متى كانت تركيا جزء من أي حل إيجابي بناء في مجمل تاريخ المنطقة؟ بل على العكس تماماً فهي
دوما جزء لا يتجزأ من كل المصائب التي حلت بالمنطقة منذ مئات السنين إلى يومنا هذا. وخاصة عندما
يكون موضوع البحث يمس الارمن بشكل عام.
إن مآرب الغرب و”الدولة العميقة” في دعم وتقوية شوكة تركيا ودورها الهدام في المنطقة أصبحت جلية
ومفهومة، ولكن أن تقوم الدولة الايرانية بخدمة تلك المآرب فهذا ما لم يتوقعه الأرمن أبدا
بريطانيا في تمرير مصالحها مع كل من تركيا وأذربيجان عن طريق الاستقواء والتكبر على الحقوق
الارمنية أمر يتجانس وساساتها التوسعية ومشاريعها العدوانية، أما “إستكبار” إيران على حقوق الشعب
الارمني في كافة أنحاء العالم من خالل تعويم الدور التركي في المنطقة، فهذا أمر لن يكون من السهل
تجاهله أو نسيانه. إذا كانت الجمهورية الايرانية تقصد بهذا الموقف الرد على قيام جمهورية أرمينيا بفتح
سفارة لها لدى الكيان الصهيوني، فهذا سيكون بمثابة إهانة كبيرة تجاه أرمن المهجر، أرمن أرمينيا
الغربية. لأن جمهورية أرمينيا لا تمثل جميع أرمن العالم ولا يمكن لأحد في العالم تجاهل قضية أرمينيا
الغربية التي لا تزال تحت الاحتلال التركي، عضو حلف الناتو، الحلف المعادي لايران و”المستكبر”
عليها..!!
ارمن ارمينيا الغربية الارمن كانوا دوما ينظرون إلى إيران على أنها دولة صديقة وحليف طبيعي للشعب
الأرمني. كانوا يعتقدون أن الجمهوريةالايرانية تعي التاريخ والقانون الدولي فيما يخص حقوق الارمن
في أرمينيا الغربية ضمن صيغة “دولة أرمينيا” الشاملة التي تم الاعتراف الدولي بها في 19 يناير 1920
وبأن قضية أرتساخ مع أذربيجان هي قضية الحدود الشرقية لتلك “الدولة الأرمنية” التي عاجلاً ام آجلاً
ستعود إلى أصحابها الحقيقيين.
لم يطلب الارمن من الايرانيين أن يهبوا إلى جانبهم في كسر شوكة الاتراك ومن خلفهم في هذه الحرب
القذرة المقررة من قبل دوائر المخابرات في دول “الاستكبار”. ولكن كنا نتوقع منها أن تكون عادلة
ومحقة في مواقفها. هل أصبح الجميع يظنون أنه بإمكانهم تدوير زوايا مصالحهم على حساب الارمن
على أساس أنهم “الحلقة الأضعف” في المنطقة؟ هل يصح “النضال ضد الاستكبار العالمي” بإتباع
نفس أساليبه؟؟
الا يعلم “أصدقاء” الشعب الأرمني أن ما يجري في أرتساخ اليوم يعني جميع الأرمن في العالم وليس
فقط حكومة يريفان؟؟ المستكبرون يعرفون ذلك تمام المعرفة فكيف للأصدقاء أن يتجاهلوا هذه الحقيقة؟؟
هل أخذتم بعين الاعتبار رأي أرمن المهجر ورد فعلهم المحتمل قبل مغازلة تركيا وتسليك سياساتكم
معها، ولو على حساب الأرمن؟
تخطيء جميع الأطراف المعنية في مجريات الأمور في المنطقة دون إستثناء إن إعتقدوا أنه من الممكن
الوصول إلى تسويات نهائية فيها دون الأخذ بعين الاعتبار بحقوق الشعب الأرمني في أرمينيا الغربية.
فالأرمن اليوم ليسوا نفس أرمن عام 1915 أو حتى أرمن 1975 .الشعب الأرمني في المهجر اليوم قد
أعلن قراره بالعودة إلى وطنه السليب في أرمينيا الغربية وكيليكيا. وهذا القرار قد تم الاعلان عنه
مراراً بأساليب مختلفة تنم جميعها عن شعور عال بالمسؤولية وتبني إستراتيجية تأخذ بعين الاعتبار المصالح
العامة والمشتركة لجميع الأطراف في المنطقة. إن تجاهل القرار الأرمني من قبل البعض لن يؤدي إلى
إلغائه أو التأثير عليه، فهو قرار سيادي وقد تم إتخاذه، وعلى الأطراف المعنية التعامل إما معه أو
ضده.
تركيا لن يكون لها وجود خارج إطار مشروع الهيمنة أحادية القطب الذي يقتضي إخضاع كافة القوى
الاقليمية والدولية الأخرى. وبالتالي فمن يقول اليوم أنه يسعى لعالم متعدد الأقطاب قائم على العدالة
الدولية والاحترام المتبادل بين مصالح وثقافات الأمم، ولكنه لا يزال يحاول إيجاد صيغ تعايش مع تركيا
ونسج مستقبل وردي معها، فهو إما حالم أو كاذب ومخادع.
الشعب الأرمني إكتفى من الظلم والخديعة. وقد وصلت الأمور إلى حدها. فاليد التي كانت ممدودة
“للاصدقاء” لن تبقى كذلك إلى الأبد..!
كارنيك سركيسيان
رئيس الهيئة التأسيسية للمجلس الوطني الأعلى لأرمينيا الغربية
اترك تعليقاً