البابوية ومسيحيو المشرق خلال الألفية المسيحية الاولى
منذ بداية المسيحية كانت كنيسة اورشليم هي الكنيسة الرئيسة، الا انها واعتبارا من عام 70 مسيحية ومابعد مالت الى التهميش، واحياناً الى التدمير في حدود الثلاثينات من القرن المسيحي الثاني، بعد عصيان باركو شيبا Barkochiba بقليل تم السماح لليهود بدخول اورشليم وأصبح المسيحيون في اورشليم طائفة قليلة الأهمية.
كان التيار الرئيس للمسيحية حوالي عام 70 مسيحية هلينياً في افلبيته. في تلك الفترة لم يكن من الوارد الحديث عن مسيحية شرقية أو غربية كون ان الهوية الثقافية واللغوية للكنيسة كانت اليونانية في المسكونة،ففيها تم الانتشار وكانت هي لغة البشارة، ولغة الانجيل وخاصة في الامبراطورية الرومانية.
تألفت كنيسة رومية ومنذ بدايتها من اقوام قادمة من الشرق، تتكلم اليونانية. وعليه فإن كنيسة رومية هيلينية الأصل بدليل ماورد في الفصل السادس عشر من رسالة بولس الرسول الى اهل رومية، نقرأ في هذا الفصل أن أعداداً غفيرة كانوا من اصول يهودية او وثنية.
إن بدايات كنيسة رومية مجهولة التحديد. وفقاً لما ذُكِرْ في نصر امبروسيستر Ambrsister فإن كنيسة رومية لم يؤسسها أي من الرسل، لكن من المؤكد هو أنها كانت مؤلفة من اقوام قادمة من الشرق الى تواجد بولس الرسول في العاصمة روما معلوم وثابت تاريخيا بدليل كتاب أعمال الرسل، كذلك ان تواجدَ بطرس الرسول في العاصمة روما مثبت في رسالته الأولى حيث يتكلم عن مدينة روما بانها تشبه بابل (13 : 5).
إضافة لما تقدم ونحو نهاية القرن الاول أشار بابا رومية كليمنت الى وجود بطرس الرسول في روما، كما أشار الى ذلك القديس اغناطيوس المتوشح بالله ثالث بطاركة انطاكية بعد بطرس الرسول، وافوديوس، في رسالته التي كتبت في القرن الثاني المسيحي، علماً أنه لم تتم الإشارة من قبل اي من المذكورين الى ماهية نشاطات بطرس الرسول التبشيرية في روما.
إن الدليل الاول لتدخل كنيسة رومية في شؤون الكنائس الأخرى كان في حوالي نهاية القرن المسيحي الاول. حينما قامت بتوجيه بعض المسائل في كنيسة كورنثوس، بالرغم من أن هذا التدخل كان قد تم باسم كنيسة رومية، الا انه من الوجهة التاريخية يعتبر ان هذا العمل قد تم بصفة شخصية من قبل بابا روما كليمنت، الذي كتب نيابة عن كافة الجماعات المسيحية هناك، وذلك في السنوات العشر الأخيرة من القرن المسيحي الاول.
كتب في حوالي نهاية القرن الثاني بأن مطران مدينة ليون ايريناوس Ireenaeus قد تكلم بشكل واضح عن هذا الموضوع، واعتبر ان بولس وبطرس هما مؤسسا كنيسة روما، بدليل نشاطاتهما هناك، حتى ولو كانت تفاصيل أعمالهما هناك غير معلومة بشكل عام، أفاد المؤرخون القدامى بأن بطرس وبولس كلاهما معاً على علاقة بأصل كنيسة روما عاصمة الامبراطورية الرومانية، كما سبق وقبل قرابة عقدين كانا قد اسسا كنيسة انطاكية السنة 42م(ومعهما برنابا ويوحنا مرقس وماتاهين شقيق الملك هيرودس بالرضاعة.
لقد سبق وذكرنا رسالة كليمانت الى أهل كورنثوس في القرن الثاني، إذ أشار لهم فيها أمر الخلاف حول تاريخ الفصح. إنه لمن غير المعلوم على وجه الدقة مايخص موضوع الخلاف هذا، كما ليس لدينا كثير من المعلومات حول هذا الخلاف، وذلك حسبما ورد ذكره من قبل إفسيبيوس Eusebius.
لهذا الغرض جئنا هنا لتفحص مختلف الفرضيات حول نشوء هذا الخلاف.

الخلاف حول تعييد الفصح
يكفي ذلك القول أنه من خلال دور البابا فيكتور (روما 98 – 189م) فقد بتنا نعلم أن مسيحيي منطقة آسيا كان لهم حساباتهم الخاصة فيما يتعلق بتاريخ الفصح ومايحمله هذا العيد من معانٍ عظيمة بالنسبة لهم كشرقيين.
في ذلك الحين وفي أواسط القرن الثاني، قام بوليكاربوس من ازمير بزيارة الى كنيسة رومية، وناقش هناك مسألة تاريخ الفصح مع البابا أنستاسيوس، ولكنهما لم يتوصلا الى اتفاق حول ذلك، وانما اتفقا فقط على إبقاء الحال على ماهي عليه.
اثناء عهد البابا فيكتور وهو البابا اللاتيني الأول، كان التوجه والتطلع نحو اعتبار تاريخ الفصح وفقاً لاعتبارات الكنيسة الآسيوية، الا ان البابا فيكتور سرعان ما ارتد عن ذلك وعارضه بعنف على أثر التشاور مع باقي الكنائس هناك، وأعلنوا معاً بأنهم يتبعون الحسابات الرومانية من أجل تحديد تاريخ العيد كما قرروا أيضاً قطع الشركة مع الكنائس الآسيوية.
هذا التطاول في قطع الشركة الكنسية المؤسف (وهو الاول)، كان موضع معارضة من قبل العديد من المطارنة في مختلف الكنائس حينذاك بما في ذلك أولئك الذين يتبعون ذلك التقويم.
على كل حال، نحن لانعلم على وجه التحديد ما حصل تماماً، ماعدا ان أتباع التقويم الآسيوي تشتتوا شيئاً فشيئاً حتى امسوا طائفة مهمشة لاغير.
كل هذه الأفعال مع بعضها إن دلت على شيء فعلى اخلاقية سلطة كنيسة روما الاستعلائية والاستيلائية في ذلك الوقت.
الجدل والخلاف حول إعادة المعمودية في القرن الثالث
ان المجابهة التي حصلت في القرن المسيحي الثالث بخصوص إعادة معمودية المنشقين والهراطقة وخاصة في كنيسة الاسكندرية لظروف الاضطهاد، ثم عودتهم، لم تكن في المقام الأول مجابهة بين كنائس الشرق والغرب.
يهمنا هنا فقط، تسليط الضوء على سلطة بابا رومية، وكيف كان يمارسها بحق الشرق، وكيف كان الشرق ينظر الى ممارسة هذه السلطة في حقه.!
في البداية، كان هذا الخلاف عبارة عن صراع بين كنيسة شمال افريقيا ( الاسكندرية وتوابعها)، وبين كنيسة رومية منذ بداية القرن المسيحي الثالث (218-222م) كانت كنيسة افريقيا برئاسة أغريبينوس وقد قررت إعادة معمودية كافة المرتدين (الهراطقة) العائدين الى الكنيسة، وكان يقوم بذلك كبريانوس اسقف قرطاج.
حول هذا الموضوع حصل صراع وسجال بين كنيستي رومية وكنيسة قرطاج، فالأولى كانت تعتبر أن قبول الهراطقة العائدين الى الكنيسة، يجب ان يتم عن طريق ممارسة وضع يدي الأسقف لا أكثر. هذا مايعني بكلمة أخرى بأن كنيسة رومية تعتبر هذا الطقس على انه الفصل الأخير لطقوس الدخول الى المسيحية. كان ذلك التأكيد يعتبر بمثابة إعلان شرعية تلك الطقوس.
كان البابا فيكتور شديد التمسك فيما يخص هذا المبدأ المتمثل بوضع اليد ويعتبره كافياً لقبول المنشقين العائدين الى حضن الكنيسة.

تطور فكرة الخلافة البابوية للقديس بطرس خلال القرن المسيحي الثالث
منذ البدء، كان لينوس Linus اسقف رومية الاول يعتبر نفسه منَّصَّبّاً من قبل القديسيَّن بطرس وبولس.
في ذلك الزمن ، كان التوجه نحو اعتبار الأساقفة بمثابة رسل، وعلى هذا الأساس تم اعتبار بطرس هو الاول في لائحة اساقفة رومية، وتم حذف القديس بولس!. في الوقت ذاته كان هناك اتجاه آخر، يمثله القديس سيبريان اسقف قرطاج، الذي كان يؤكد بإلحاح على التسلسل الزمني بدءاً من بطرس الرسول حيث كان كل اسقف هو خليفة للقديس بطرس هامة الرسل.
في القرن الثالث حين تسلم ستيفان العرش البابوي، قام وأكدّ بما لا يقبل الجدل بأنه خليفة القديس بطرس. وهذا ماتؤكده رسالة فيرميليان Firmilian الى القديس سبيريات اسقف قرطاج بأنه يعتبر البابا استيفان خليفة للقديس بطرس.
حسب وجهة نظر كنيسة رومية، كان لهذا المفهوم نتائج كثيرة وواضحة عبر القرون. ولهذا السبب كانت كنيسة روما الغربية غالباً ماتسمى بكاتدرائية القديس بطرس.
في المرحلة الانتقالية
في القرن المسيحي الثالث، تنبهت السلطات الرومانية الوثنية الحاكمة الى ظهور سلطات اكليريكية رومانية نتيجة لاضطهاد الكنيسة عام 249 م وذلك في عهد الامبراطور ديسيوس (249 – 253) اضافة الى هذا الاضطهاد فقد وقع حدث غريب، وذو دلالة في عهد الامبراطور اوروليان (270-275م) وهو التالي:
تم انعقاد مجمع في كنيسة أنطاكية حيث تقرر إقالة أسقف مدينة ساموزاتا ( الاسقف بولس) وذلك بسبب بدعة إضافة الى تصرفات مخزية. حين تمت إقالة بطرس تمنع هذا عن تسليم مقر إقامة الأسقفية، فقام مسيحيو أنطاكية يطالبون بتدخل الأمبراطور الروماني لطرده من دار المطرانية، قرر الأمبراطور اعتبار دار المطرانية تابعاً للأسقف المشارك ( المتحد) مع اسقف رومية ومع الأساقفة الآخرين في ايطاليا. (راجع التاريخ الكنسي في عهد إفسيبيوس).
إن قرار الإمبراطور هذا لصالح القانون الكنسي لايستدل من مضمونه على الأولوية الرومانية لأنه أشار في الوقت نفسه بأن قراره يشمل ليس فقط أسقف رومية بل أيضاً أساقفة ايطاليا كافة.
بشكل عام تجدر الملاحظة الى أن الموقف الإجتماعي حيال المسيحية قد تغير جزئياً.

كانت الفترة الواقعة بين نهاية القرن الثالث وبين بداية القرن الرابع فترة سلام بالنسبة للكنيسة وهذا مايمكن اعتباره اعتراف ضمني بوجود الكنيسة.
في عهد الأمبراطور ديوكليتيانوس Dioclitianos، حصلت تحولات كبرى في إدارة الأمبراطورية الرومانية. بسبب اتساع أطراف الأمبراطورية تملك هذا الأمبراطور الشعور بأنه ليس من الممكن لرجل واحد أن يحكم كامل الإمبراطورية. مع الابقاء على اعتبارها مبدئياً إمبراطورية واحدة إلا أن ادارتها كانت تتم من قبل أربعة قادة بما تم تسميته بالحكم الرباعي Tetrachy. أدى هذا في الواقع الى تفوق القسم الشرقي للإمبراطورية، وهذا ماكان معترف به على انه الأهم. لم يدم الحكم طويلاً بهذه الطريقة، إذ سرعان ماعاد حكم الإمبراطورية من قبل إمبراطور واحد ألا وهو قسطنطين العظيم الذي أحدث عاصمة جديدة على البوسفور وهي القسطنطينية عام 325م.
وضع الامبراطور قسطنطين نهاية لاضطهاد الكنيسة المسيحية، حيث كان ميالاً للمسيحية قبل فترة طويلة من اعتناقه للمسيحية بعد انتصاره على جميع خصومه بشكل نهائي عام 324م وذلك قبل انعقاد مجمع نيقية Nicea (المجمع المسكوني الأول) عام 325م. إن انتقال مركز الدولة الى الشرق بيّنَ غلبة الجزء الشرقي للإمبراطورية الذي كان في ذلك الوقت الجزء الأغنى والأفضل تنظيماً.
بعد ظهور مدينة القسطنطينية، برز مركز القوى الجديد في حين أضحى موقع روما على المستوى السياسي أقل شأناً. كان لذلك بالغ الأثر في العلاقة بين روما القديمة وبين العاصمة الجديدة القسطنطينية التي لقبت بروما الجديدة. منذ ذلك الوقت ومابعده أصبح هناك عاملاً ثابتاً في علاقات العالم المسيحي بين الشرق والغرب.
في الجزء الغربي للإمبراطورية، كان التوجه البابوي الروماني نحو التشديد على أهمية استمراريتها في اتباع التسلسل البابوي بدءاً من يطرس للمكان الأول. بالمقابل وفي الجزء الشرقي كان التوجه نحو التأكيد على اهمية الناحية السياسية. كان في الجزء الشرقي من الأمبراطورية العديد من البلدات التي تم تأسيسها من قبل رسل مما ادى الى التوجه نحو التأكيد على الوضعية السياسية للمدينة وعلى اعتبار أن القسطنطينية هي بمثابة روما الجديدة، إلا أن هذا الاعتبار لم يقبل من قبل البابوية. بعد أن أصبحت القسطنطينية مقراً لإقامة الإمبراطور نشأت علاقة مميزة بين السلطة السياسية وبين السلطة الروحية. كان ينظر الى الامبراطور على أنه صورة الله على الأرض، لذلك فإن هذه النظرة الفلسفية نحَتْ الى التأكيد على دور الأمبراطور بصفته ممثلاً لله على الأرض، في حين كانت هذه النظرة غريبة عن تفكير الغرب. لم يكن يُنظر الى الامبراطور في الغرب على أنه ممثل الله على الارض لأن هذا الدور كان للباباوات وخاصة في غياب الامبراطور.
هكذا نجد بأنه حصل هناك تضارب في وجهات النظر منذ ذلك الحين فيما بين مسيحيي الشرق والغرب.

اعتباراً من نهاية القرن الرابع ومابعده واثناء بابوية البابا دامسكوس (Damascus (384-366 قامت المحكمة العليا الرومانية باختيار النظام الامبراطوري.
كان الجزء الغربي للأمبراطورية هو الأضعف سياسياً وفي نهاية القرن الخامس، أدى اجتياح البرابرة الى نهاية السلطة الرومانية في الغرب عام (475م).
أثناء فترة تخلف الأمبراطورية الرومانية، حصل تغيير في الرؤية ضمن الكنيسة ضمن الكنيسة حيال علاقة الواقع الروماني بالكنيسة. إن الامبراطورية الرومانية في عهد قسطنطين كان ينظر اليها على أنها مؤسسة عناية الهية، وكان ينظر الى البرابرة على انهم أعداء الدولة الرومانية والمدينة المسيحية.
هكذا ومنذ بداية القرن الرابع قام إفسيبيوس Eusebius بتطوير دور الامبراطور في الدولة المسيحية.
في مطلع القرن الرابع لاحت مسألة تسلسل المراتب ( التراتيبية) Hierarchy في مختلف انحاء العالم المسيحي. لم تكن هذه المسألة موضع بحث في السابق وذلك بسبب تركيز الكنيسة على مايخص الأسرار المقدسة مثل موضوع القربان المقدس (الأفخارستيا)، إذ تم التأكيد على أنه أينما أقيمت الأفخارستيا يكون حضور السيد المسيح كاملاً. حتى لاحقاً لهذا التاريخ نجد آثار العقيدة الكنسية التي تشير الى أن جميع الكنائس هي بالأساس متساوية فيما بينها، وهذا مايمكننا رؤيته في المقطع الأول من رسالة القديس جيروم (419م) رقم /146/ حيث ورد: ” أينما وجد أسقف إن كان في روما أو غوبو او القسطنطينية أو ريجيو أو الاسكندرية أو طرطوس نجد أن هناك ذات المعنى وذات القيمة والاحترام للوظيفة الكهنوتية وحيث أن رجال الكهنوت هم وسطاء أساسيين بين الله والانسان (sacerdotum).
في نهاية القرن الرابع تم تعديل النص اللاتيني للقانون الكنسي السادس للمجمع المسكوني الأول المنعقد في نيقية إذ تم تعديله بقصد الاشارة الى اولوية روما حيث نص تعديل هذا القانون على مايلي:
“Ecclesia Rimana semper habuit primatus”
من المؤكد أن روما قد فهمت هذا النص في اواسط القرن الخامس على انه التأكيد على السيادة الرومانية. بينما في الاساس يبدو أن ورود ذكر روما في نص القانون المذكور أعلاه كان بقصد المقارنة مع الحالة الاسكندرانية.
تغيير في العقلية
إن المشكلة الأساسية في الاسكندرية والمتعلقة بالسلطة الأسقفية Metropolitanat” Jurisdiction of the” كانت طي النسيان ولكن الادارة البابوية في روما قامت باستخدام هذا القانون لتعزيز وارسيخ أولوية روما. أثناء مجمع القسطنطينية، الذي اعتبر فيما بعد المجمع المسكوني الثاني، كانت مشكلة القانون الكنسي الأساسية تتمحور حول المنافسة فيما بين الاسكندرية والقسطنطينية.

لقد نص القانون الثالث لهذا المجمع على أن اسقف القسطنطينية يلي بالترتيب مباشرة بعد أسقف روما. الا أن هذا القانون لم يحدد طبيعة هذه الميزة الملحقة بهذا المقام، ولكنها كانت وبكل بساطة موجهة ضد ادعاء مطالبة الاسكندرية التي كانت تريد أن ينظر اليها على انها الاولى في الشرق. أما في الغرب فإن مسألة النظر الى موضوع تسلسلية المقامات فقد أشارت روما الى فكرة النظرة البطرسية الثلاثية (أنطاكية – الاسكندرية -روما). هذه النظرية السائدة في روما كانت ضعيفة الحجة كما لوكانت الحالة هي ان انطاكية تريد ان توضع قبل الاسكندرية. يبدو أنه بعد اعتماد وتصديق قانون القسطنطينية الثالث هذا لم يبدر عن روما أية روما أية ردة فعل إطلاقاً.
في عهد قسطنطين الكبير استتب السلم في الكنيسة وتم بشكل كامل عام (324م). في العام التالي (325م) تم انعقاد المجمع المسكوني الاول في نيقية (نيقية -1)
لم يعالج هذا الاجتماع مسألة الاولوية في الكنيسة العالمية، إنما حصل ذلك لاحقاً في الغرب على أثر تعديل القانونين رقم 2 و6 للدلالة على الأولوية الرومانية.
إن موقف الشرق تجاه البابوية تم التعبير عنه في موقف بطريرك القسطنطينية يوحنا الثاني، وذلك في نهاية الانشقاق الأكاسي “Acacian schism”. اراد البابا من الشرق أن يقر بقبول الأولوية الرومانية. قام البطريرك يوحنا الثاني بقبول هذا المفهوم للأولوية الرومانية بالتكافؤ مع وضع القسطنطينية. بصفتها أنها روما الجديدة، او روما الثانية وعليه فإن القسطنطينية تريد ان يكون لها ذات الوضع الشرعي ومساوية لروما القديمة. دام هذا الغموض طيلة الألفية الأولى.
في القديم ولاحقاً في العصور الوسطى، كانت العلاقة بين رومية وبين الكنيسة الشرقية متأثرة بشكل واسع بعوامل الجغرافيا السياسية. بامكاننا النظر الى الأولوية الرومانية على انها لم تكن مرفوضة من الشرق كما لم تكن معتبرة أنها العامل الأهم. يجب ان ينظر الى هذه المسألة في بيئتها التاريخية. ففي حوالي نهاية القرن الرابع لاحظنا تطور تدريجي لنوع من التغرب (الشعور بالآخر كغريب) بين جزئي الأمبراطورية الشرقي والغربي. ففي الغرب تضاءل الالمام باللغة اليونانية شيئاً فشيئاً في نهاية القرن الرابع، أما في الشرق فوجدنا أن اللاتينية لم تكن يوماً ذات انتشار واسع وتراجعت المعرفة بها الى حد الاختفاء تماماً.
خلافاً لذلك كان في الغرب امبروسيوس يلم باليونانية بشكل مثالي بينما اوغسطينوس وبشهادته لم يكن يعرف اليونانية إطلاقاً. في نهاية القرن الخامس، اختفت الامبراطورية الرومانية في الغرب واصبحت تحت سيطرة البرابرة ودام ذلك حتى عهد يوستنيانوس حين تم إعادة توحيدها مع الامبراطورية الرومية. نجم عن إعادة التوحيد هذه نتائج سياسية لأن البابا كشخص مدني ولكونه من اتباع الامبراطورية الرومانية وبالتالي غالباً ماكان يقع تحت تأثير السلطة المدنية.
كان هذا واضحا تماماً منذ بداية عهد يوستنيانوس حينما تم احتلال روما عام 535م كانت غارقة في خلاف وجدل مع الشرق حول الخريستولوجيا ( التحليل اللاهوتي لشخص السيد المسيح وعمله).
اعترف الأمبراطور يوستنياونس الأول بأولوية بابا رومية، وادخل ذلك في تشريعاته القانونية الدينية “شريعة يوستنيانوس”، وبذات الوقت اراد يوستنيانوس من روما ان تدعم سياساته في الشرق.
لكي نفهم موقف القسطنطينية حيال البابوية، فإنه من المفيد أن ننظر الى حالة كل من البطريرك يوفيميوس ( 489-495م) والبطريرك ماسيدونيوس الثاني إذ انه في الشرق كان اسماهما مذكورين في الذبتيخا (الذبتيخا سجل كان يحفظ في القسطنطينية وتسجل فيه اسماء الأساقفة والباباوات الذين تُذكر أسماؤهم في دعاء الكنيسة أثناء القداس الالهي) علما أنهما لم يكونا في حالة مشاركة مع رومية. ولم تقبل بهما رومية، ولكن الشرق كان يعتبرهما أرثوذكس كما قبلت بهما الكنيسة الرومية واعتبرتهما بطاركة شرعيين.
حين قام بطريرك القسطنطينية يوحنا الرابع (585-595) بتسمية نفسه البطريرك المسكوني ، قام بابا رومية غريغوريوس الاول الكبير بالاحتجاج على ذلك(1)، لأنه يُفهم من ذلك معارضة لأولوية كرسي رومية!، بينما يرى البطريرك يوحنا الثاني بأن ذلك يعتبر ببساطة لقب يستحقه بطريرك عاصمة الامبراطورية.
حاول البابا غريغوريوس الكبير البرهنة على ان مثل هذه التسمية من شأنها التقليل من شأن باقي البطاركة، وبأن مثل هذه الحجة ذاتها يمكن استعمالها مستقبلاً من قبل الأرثوذكس الشرقيين في وجه المطالبات بأولوية بابا رومية. بهذه الحجة أو البرهنة، فإنه من الواضح في ذلك الوقت بأن اولوية رومية لم تكن المعادل أو المساوي للهيمنة العالمية على بقية كنائس المسكونة.
بمساعدة من بطريرك القسطنطينية سرجيوس الأول (610-638م) حاول الأمبراطور هرقل(610-641م)بلورة حل تسوية بخصوص أصحاب الطبيعة الواحدة ( المونوفيزيت) Monophysites مقترحا ان للمسيح طبيعتين ومشيئة واحدة، لكن هذا الحل الوسطي المقترح رفضه الخلقيدونيون الارثوذكس لأنه مازال يتضمن شرحاً في مفهوم لاهوت الطبيعة الواحدة، وفي نفس الوقت رفضه اللاخلقيدونيون (يعاقبة سريان، اقباط، أحباش…) وقبله السريان الموارنة، فزاد الانقسام!!!.
إن صيغة التسوية هذه ومع انها كانت مقبولة من بابا رومية أونوريوس الأول (628- 638م) الذي ومن اجل هذا السبب وقع عليه الحرمان، من قبل المجمع المسكوني السادس. ومن الجدير ذكره أيضاً ان البابا مارتينوس (649-655م) المدافع الكبير عن الارثوذكسية، قد جرى نفيه من قبل الامبراطور. ان الحكم على أحد الباباوات من قبل مجمع مسكوني أصبح بحد ذاته، موضوع هام للنقاش من قبل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وذلك في المجمع الفاتيكاني الأول 1870. ماذا يعني مثل هذا الحكم؟
إن البابوية في بداية القرون الوسطى لم تعارض أو ترفض الحكم على البابا أونوريوس الأول، وانما وصفتها فقط بطريقة تشير الى أن البابا المذكور لم يدافع عن عقيدة الايمان.
بعد عشر سنوات من انعقاد المجمع المسكوني السادس، انعقد مجمع جديد في القسطنطينية لمعالجة أمور النظام والانضباط التي تم تناولها في المجمعين الخامس والسادس المسكونيين وكذلك أمر تطبيق شريعة الامبراطور يوستنيانوس الأول.
كام من شأن بعض القرارات التي أُتخِذتْ في مجمع تروللو trullo عام 691م ان تمت إثارة عدد من المسائل الجديدة مع رومية، لأن هذا المجمع قام بشجب بعض العادات والأعراف الإنضباطية لدى كل من الرومان والأرمن، مثل موضوع الامتناع الإلزامي والمستمر عن بعض الأمور في العلاقات الزوجية بين الاكليروس المتزوج وزوجاتهم. وحول استعمال الخبز الفطير في القربان المقدس لدى الكنيسة البابوية الكاثوليكية، وذلك في عهد شارلمان.
كان ارثوذكس الشرق يرغبون بأن يقوم الشرق والغرب معاً باتباع الطقوس الارثوذكسية، وكان ذلك اول خلاف رسمي يقع بين الكنيستين الرومانية والقسطنطينية.

المجمع المسكوني السابع
إن أزمة الكنيسة التالية كانت حول تكريم الايقونات والتماثيل الدينية. إن أزمة معارضة تقديس التماثيل الدينية قد أثّرت على الحياة ليس فقط مايخص الكنيسة الرومية، إنما ايضاً أثرت على العلاقات بين الشرق والغرب. إن أزمة التماثيل الدينية قد أثرت على ظروف الجغرافيا السياسية في ذلك العصر.
ان الاجتياح الاسلامي في آسيا الصغرى كان شاغل بال الأمبراطور في الشرق مما جعله يهمل الغرب. نتيجة لذلك فإن البابوية لم يعد بامكانها الاعتماد على مساعدة من قبل الأمبراطور ضد اجتياح اللومبارديين. لهذا السبب توجهت البابوية بطلب العون من الفرنك ( الفرنج) (وهم الشعب المحيط بباريس) لحمايتها حين كانت ايطالية الرومية معرضة لخطر الاجتياح اللومباردي.
في عام 751 م سقطت رافينا Ravenna (وهي مقر حاكم ايطاليا الرومي) في يد اللومبارديين.
طلبت البابوية اذاً مساعدة الفرنج Fravks الذين هزموا اللومبارديين، وخلفوهم في البلاد الايطالية التي كانت تحت الولاية الرومية كما بينا. وخلفوا اللومبارديين في حكمها، ولم يقوموا بالتالي بإعادة إيطاليا الوسطى بعد ذلك الى الامبراطورية الرومية، (كما كان الحال قبل الاجتياح اللومباردي)، بل أحدثوا فيها دولة بابوية تحت حمايتهم.
احتجت القسطنطينية على ذلك العمل، إلا انها لم تقو على فعل شيء حيال ذلك. ومنذ ذلك الحين أضحت البابوية تحت النفوذ الفرنجي بشكل عام، اما الامبراطورية الرومية فقد فقدت سلطتها على معظم ايطاليا التي تحولت الى دولة فاتيكانية افرنجية!
في القسطنطينية والشرق قام الامبراطور الرومي ليو الثالث Leo 111 (717-743م) باشعال حرب الايقونات وتحطيمها وملاحقة مكرميها، ولهذه الغاية دخل بصراع مباشر مع البابوية. بسبب موقف الصرح البابوي المعارض له، قام الامبراطور ليو الثالث بمصادرة ممتلكات البابوية في جنوبي ايطاليا، ووضعها تحت تصرف سلطة القسطنطينية ( ربما حصل ذلك عام 732م).
ولقد قام هذا الأمبراطور المضطهد للايقونات وتكريمها ومكرميها، بنفي بطريرك القسطنطينية جرمانوس الذي استنكر كاملاً السياسة الدينية لهذا الأمبراطور الجاحد للأيقونات، وشاركته في ذلك بطريركيات الاسكندرية وانطاكية واورشليم وهي البطريركيات الواقعة تحت الحكم الاسلامي.
أما موضوع مصادرة الممتلكات البابوية، فقد بقيت موضوع خلاف بين القسطنطينية ورومية حتى القرن التاسع.
قام الامبراطور قسطنطين الخامس (741-775م) ابن الامبراطور ليو الثالث بتصعيد اضطهاد الارثوذكس مكرمي الايقونات، وفي عام 754م أقام مجمعاً في ايهيريا، وقد دعم هذا المجمع وجهة نظره، اذ كان هذا المجمع يتألف فقط من اساقفة الأمبراطورية الرومية اذ لم يحضره لا بطريرك القسطنطينية، ولا بابا رومية، ولا بطاركة الشرق الذين كانوا تحت الهيمنة الاسلامية، ولم يشارك أحد من المذكورين في هذا المجمع، وقد تم تسليط الضوء على هذا الواقع من قبل الأرثوذكس للبرهنة على بطلان هذا المجمع وفقدانه الشرعية.
منذ ذلك الحين، قام الأرثوذكس رسمياً بالتأكيد على مبدأ سلطة الخمسة، مثلاً: ان تمثيل الكنيسة حسب القانون الكنسي يستلزم موافقة البطاركة الخمسة. إن مفهوم سلطة الخمسة هذا لم يكن موجهاً ضد رومية وسلطة البابا،وقد أكد على ذلك تيودوروس السيتوديتي.
إن الفترة الاولى لحرب الأيقونات قد انتهت مع موت قسطنطين الخامس.
ان المجمع المسكوني السابع الذي انعقد في نيقية عام 787م قد أعاد تأسيس الأرثوذكسية في الأمبراطورية الرومانية الشرقي / الامبراطورية الرومية، أما في مايخص موضوع إحياء التشريع الروماني في جنوب إيطاليا، وفي شبه جزيرة البلقان، فإنه لم يكن قد توطد بعد.
بدلاً عن إعلان قرار المجمع المسكوني السابع فقد عاد ظهور موضوع مهاجمة التماثيل الدينية في ظل عهد الامبراطور ليو الخامس (813-820). إن العودة الجديدة لموضوع الأيقونات أتى على نهايته عام 843م مع انتصار الأرثوذكسية المهيب.

في شبه جزيرة البلقان، ظهرت منافسة شديدة بين رومية والقسطنطينية، وذلك في تبشير البلغار واستقطابهم وهم الذين تم تنصيرهم وهدايتهم على يد القديسين كيرلس ومتوديوس الشقيقان الموفدان من القسطنطينية، صراع بدأته رومية لوضع البلغار المهتدين للمسيحية بيد الروم تحت سلطتها الكنسية وهيمنة بابا رومية نيقولاوس الأول 858-867.
وكان ذلك عندما اعتنق خان البلغار الأمير بوريس 869 المسيحية بتأثير التبشير الرومي بيد القديسين كيرلس ومتوديوس، ولكنه قام بتوجيه عدة أسئلة حول امور الطقوس والعادات المحلية الى البطريرك القسطنطيني فوتيوس، الا انه لم يكن مسرواً من ردود البطريرك فوتيوس على اسئلته، اذ كانت اجوبة لاهوتية، ولم يبين له الامور العملية فيها، لهذا السبب استدار الأمير بوريس نحو الغرب وحصل على الأجوبة التي ارادها وزوده بها البابا نيقولاوس الأول.
الجدير بالملاحظة هنا هو أن الأجوبة المرسلة الى الخان بوريس من البابا نيقولاوس أشارت بالتحديد الى الخلاف في الممارسة بين الشرق والغرب، نجم عن ذلك ان تم طرد الموفدين الكنسيين القسطنطينين من بلغاريا، وهذا ما ازعج الكنيسة الرومية لأنهم كانوا يعولون كثيراً على كسب البلغاريين الى الكنيسة الارثوذكسية، وتحت نفوذهم من حيث المفهوم الجغرافي السياسي.
متأثراً بالموقف العدائي لبابا رومية، قرر البطريرك المسكوني فوتيوس أن يثأر لذلك، إذ لم يكتف بادانة البابا بل قام بكتابة منشوره الشهير، مديناً ممارسات الغرب اللاتيني. ففي عام 867م ادان فوتيوس ممارسات الغرب فيما يخص بداية الصوم الكبير، وكذلك موضوع إلزامية عزوبية رجال الاكليروس اللاتيني، والأكثر أهمية من كل ذلك فقد اشار الى عقيدة البدعة الغربية، فيما يختص بالفيليوكفي او عقيدة الانبثاق المزدوج ( انبثاق الروح القدس من الآب والابن) Double Procession of Holy Spirit وكذلك فيما يخص إدراج كلمة الابن في دستور الايمان في بعض بلاد الغرب اللاتيني Filioque.
من الواضح جداً ان هدف البطريرك فوتيوس من وراء ذلك هو ان يؤثر على امير البلغار بوريس. ففي منشوره، أشار فوتيوس الى الفرق الموجود في طقوس الليتورجيا في الغرب والى الفرق في عقيدة الانبثاق المزدوج للروح القدس، واضعاً ذلك بشكل واضح بحيث لاتظهر كافة الامور تحت ذات الدرجة من الأهمية، كما استهدف فوتيوس لفت نظر الأمير بوريس الى اعتباره عقيدة الانبثاق المزدوج تشكل أسوأ خطيئة وانتهاك.
إن حقيقة واقع إدراج كلمة (الابن)وموضوع عقيدة الانبثاق كانت من نتاج بلاد الفرنجة، فقد قام الفرنك بادراج كلمة ( والابن) في دستور الايمان بقصد التأكيد على ايمانهم بشكل مميز عن الأرثوذكس الروم، إنها نقطة أساسية لم يتم نسيانها حتى اليوم.
لم يكن الشرق هو البادئ في الجدل بل هم الفرنجة. في مثل هذه الظروف وجدت البابوية نفسها في وضع صعب،لأن رومية لم تصّر او تلّح على كلمة ( الابن)، إلا انها لم تدن ذلك.
على كل حال، كانت ردة فعل الامبراطورية والكنيسة الرومية معلومة في بلغاريا، مما ادى الى تشوش في ذهن الامير البلغاري بوريس. ان عدم اعتراف البابا بانتخاب فوتيوس بطريركاً قسطنطينياً خلق جواً متوتراً في البطريركية المسكونية، نتيجة لذلك تم ابعاد فوتيوس عن كرسي القسطنطينية، وذلك من قبل الإمبراطور باسيليوس الأول عام 867-868م.
بإبعاد فوتيوس تمت إعادة تنصيب إغناطيوس كبطريرك، من اجل إعادة وصل العلاقات الكنسية مع رومية، فقد تم الاعلان عن اجتماع مجمع عام، وذلك من قبل الامبراطور باسيليوس الأول وكان ذلك في القسطنطينية عام 869م، وقد صادق هذا المجمع على إقالة فوتيوس، وإعادة اغناطيوس.
حين سمع الأمير بوريس بأمر هذا المجمع الذي اوفد وفداً اليه ليحدد وبشكل نهائي ما اذا كانت بلغاريا ستصبح تحت التبعية الكنسية لرومية او القسطنطينية. قام ممثل رومية بالاحتجاج، ولكن ممثل القسطنطينية قام وفصّلّ بوصفه محكماً، وقرر بأن للأمبراطورية الرومية السلطة الدينية في بلغاريا. عاد الوفد الروماني الى الاحتجاج ثانيةً، لكن البطريرك إغناطيوس بقي صامتاً.

اغتنم الامير بوريس هذا الخلاف بين موقفي القسطنطينية ورومية، واعلن بأن كنيسة بلغاريا الناشئة هي في الواقع كنيسة مستقلة Defacto، ولم تغير رأيها بهذا الخصوص حتى تاريخه. منذ ذلك الحين لم يقم الغربيون بأية محاولة لبسط قانونهم الغربي هناك لا دينياً ولا ثقافياً.
ولما كانت بلغاريا تحت تأثر رومي كبير، فبالسرور وبمراسم الشرف تم استقبال وفد المجمع القسطنطيني من قبل الأمير بوريس، بعد ان تم في السابق طردهم من مورافيا الواقعة تحت النفوذ الجرماني.
بعد ذلك بقليل تم إحداث كنيسة ارثوذكسية سلافية في بلغاريا، وهكذا تم هناك صون التراث الثقافي والديني للقديسين الشقيقين كيرلس ومثوديوس.
بعد وفاة البطريرك القسطنطيني اغناطيوس، عاد البطريرك فوتيوس للسدة البطريركية باجماع واجلال وتوقير.
كان البابا وقتها يوحنا الثامن (872-882م) الذي قبل الواقع والمصالحة بين القسطنطينية والفاتيكان، وتمت المصادقة على ذلك بمهابة من قبل المجمع المنعقد في القسطنطينية عام 879-880م ، حيث تم نشر مستند ثُبِتَتْ فيه الأعراف والعادات في كلا الطرفين الشرق الارثوذكسي والغرب الكاثوليكي وذلك ضمن إطار عمل وحدة الايمان المسيحي.
من الواجب الاشارة الى أنه حسب بعض اللاهوتيين الأرثوذكس الحديثين، من ان هذا القرار كان وسيبقى الامكانية الوحيدة والأساس الوحيد للمصالحة بين الشرق والغرب.
بما ان البابا نيقولاوس كان مطلعاً بأن هذه المستندات غير موجودة في ارشيف صرحه البابوي، لذا ربما شعر أنه من الأسلم أن يستعمل فقط ماسبقها من مستندات لدعم مطالب
مستندات إيزودوريان المزيفة
من الملاحظ أنه خلال القرن التاسع ظهر شعور وعي ذاتي ونمو سريع لمسيحية الغرب ومركزها إمبراطورية شارلمان التي كانت تعارض بشدة مسيحية الشرق. تجدر الاشارة هنا الى عملية التزييف الرائعة المسماة: ” مزيفات إيزودوريان Pseudo Isodorians “. إن منشأ تلك المستندات، التي كان لها بالغ الأثر على العقيدة البابوية، بقي في الحقيقة جد غامض، مع ذلك فإن معظم الدارسين المعاصرين يسلمون بأن هذه المستندات، كانت من منشأ يقع في الشمال الشرقي للبلاد المسماة اليوم فرنسا.
يبدو أن الغاية من هذا التزييف لم تكن تقصد إثارة البابوية الرومانية بشكل خاص ومباشر ولكن وعلى الأصح كان ذلك لسماع صوت سلطة الاساقفة، في سبيل تحقيق مآربهم، كان عليهم إثارة البابوية ضد سلطة الأساقفة لذا تم التعاطي بشكل واسع مع هذه المستندات لدعم هذا الهدف.
إنه من غير المعلوم تاريخ وصول هذه المستندات المزيفة الى رومية، ربما حصل ذلك في حوالي منتصف القرن التاسع تقريباً. مع ذلك ربما كان البابا نيقولاوس على علم بها إلا أنه تجنب استعمالها لتدعيم مطالباته. إننا لانعلم ما إذا كان على علم واطلاع بواقع عدم وثوقية أصلها، لكنه من الواضح أن هذه المستندات غير موجودة في محفوظات ارشيف الفاتيكان.

بما ان البابا نيقولاوس كان مطلعاً بأن هذه المستندات غير موجودة في ارشيف الفاتيكان، لذا ربما شعر انه من الأسلم أن يستعمل فقط ماسبقها من مستندات لدعم مطالبه، والا يعوّل على تلك المستندات المستجدة حديثاً في حينه.
في نهاية القرن التاسع وطيلة القرن العاشر في فترة مابعد البابا يوحنا الثامن، كانت فترة ضعف كبير في النظرة الرومانية، وبالعكس ففي الشرق كانت فترة عهد لامع، والذي انتهى كذلك الى مابعد نهاية القرن الحادي عشر.
في مايخص البطريركية القسطنطينية، كان كل ذلك الوقت عصر ازدهار وتمرس واسع للكنيسة في تطبيق القوانين الكنسية بعد اعتناق شعوب البلقان وروسيا للمسيحية بحلتها الارثوذكسية. اما في مايختص بكنيسة رومية، فقد كان ذلك الوقت عصر انحطاط حيث كانت البابوية في ايدي مختلف فئات الرومان، فمنهم من كان مؤيداً لرومة الجديدة ( القسطنطينية) وبعضهم كان مؤيداً للفرنجة.
في إطار دعم وتقوية الأمبراطورية، قامت البطريركية القسطنطينية بتحصين وتقوية قوانينها الكنسية في الجزء الجنوبي من ايطاليا، ومع ذلك وفي بداية القرن الحادي عشر، قامت حركة اصلاح خاصة في منطقة البور غندي وفي شرقي فرنسا وتطورت فيها.
من الجدير بالملاحظة أن المسيحية الغربية، بدأت تأخذ شكل معين في بداية القرن 11م، مما ادى الى خلق مصدر صراع كامن مع المسيحية الارثوذكسية ،إن حركة الاصلاح في الغرب حاولت استخدام (مستندات إيزودوريان) لتفسير ودعم نظرية السيادة البابوية واولوية بابا رومية.
كنتيجة لهذا الوضع فقد ترك ذلك بالغ الأثر على مفهوم البابوية ذاتها. كان هذا الاتجاه ظاهراً منذ عهد البابا نيقولاوس الأول، مع ذلك فإن المرحلة الثانية لتراجع سلطة البابوية قد وضعت حداً مؤقتاً.
علاوة على ذلك فقد أصبح العالمين الكنسيين الغربي والشرقي أكثر اختلافاً وغربة الواحد عن الآخر.
إن النفوذ الجرماني وتأثيره على البابوية ساعد الى حد كبير على هذا الاختلاف والتباين، وذلك بسبب الخصومة بين الامبراطوريتين الرومية الشرقية والامبراطورية الغربية، إذاً فمن خلال هذه البيئة وهذا الواقع حصل تمزق العلاقات بين مسيحية الشرق الارثوذكسية والغرب الكاثوليكية.
إن التمزق المسيحي في القرن 11 قد حصل على مراحل. ان التاريخ الحقيقي لانفصال الشرق عن الغرب يبقى في الحقيقة غامضاً نسبياً، إن السبب المباشر لهذا الانشقاق كان نتيجة العداوة السياسية بين باباوات مؤيدين للجرمان وباباوات مؤيدين للأمبراطورية الرومية.
رغم أن الانشقاق النهائي قد أحدث انقطاع الشركة الكنسية بين الشرق والغرب Communion اي بين القسطنطينية وروما، إلا انه ليس هناك تاريخ دقيق متعلق بذلك كما مر معنا…
مانعرفه هو أن اسم البابا يوحنا الثامن عشر (1003-1009) كان قد تم الاعتراف به، وتم رفع الدعاء له في Deptychs “ذبتيخة” كنيسة القسطنطينية. مع ذلك فهو آخر بابا نحن متأكدون بأننا احتفلنا بذكراه. بعد يوحنا الثامن عشر بقيت سجلاتنا غامضة فيما لو كان هناك باباوات آخرين قد ورد ذكرهم في الذبيتيخا العائد لكنيسة القسطنطينية الرومية الارثوذكسية.
كانت اولى المحاولات لإعادة العلاقات الكنسية بين روما والقسطنطينية حينما اقترب من البابا يوحنا التاسع عشر في عام 1024م عدد من سفراء الأمبراطور الرومي باسيليوس الثاني والبطريرك إفستاسيوس. كانت مهمة هؤلاء السفراء إيجاد صيغة توافقية للتسوية بين روما والقسطنطينية.
كان العرض يقترح النص التالي: ” إنه وبموافقة بابا رومية فإن كنيسة القسطنطينية في محيطها، كما روما في العالم يمكن تسميتها واعتبارها عالمية ( يونيفيرسال).
رغب البابا بالموافقة ولكن رغبته هذه أطلقت صرخة داوية في الغرب. نتيجة لذلك لم تحصل الموافقة بسبب هذا الاحتجاج، وخاصة احتجاج البور غندي، كما عارض واحتج الرهبان الغربيون ضد هذا التنازل والحصيلة انه لم يحصل أي شيء.

إن حدث الانشقاق المباشر عام 1054م (2) الذي يعتبر عادة أنه تاريخ ” الانشقاق الكبير “، كانت ترافقه محاولة أخرى للجمع بين الشرق والغرب، إلا أن ذلك لم يتحقق، وكان سبب ذلك في المقام الاول غطرسة الكاردينال هومبرتو سيلفا كانديدا Hambert Silva Candida.
تجدر الاشارة الى ان هذا الكاردينال كان يحمل معه في الاضبارة عدة نسخ عن (مستندات ايزودوريان) حين قدومه الى القسطنطينية كما تجدر الاشارة الى أنه في خلافات القرن 11، نجد ان الجدل قد تناول موضوع الأصول والعادات أكثر من التداول في العقائد. يجب أن لا نسيء فهم هذا الأمر على انه غير ذي معنى لأنه كما في الشرق الرومي كذلك في الغرب البابوي يوجد اكليروس على مستوى عالٍ من الجدية والحكمة، قد أشاروا بالتحديد الى أن الخلاف العقائدي يكمن في موضوع انبثاق الروح القدس من الابن ايضا.
لاحقاً وفي هذا الخصوص قامت محاولة لإعادة تأسيس علاقات حول القوانين الدينية، وذلك في عهد البطريرك قسطنطين ليشودس (1061-1063) Constintin Lichoudes الذي كان له موقف مسالم مع الغرب، كان قد أقر اعتبار موضوع “الابن” بأنه يشكل عائقاً هاماً وجدياً أمام جمع اللاتين واليونانيين.
إن آخر محاولة للاجتماع بين الشرق والغرب حصلت لاحقاً في نهاية القرن في عهد البطريرك يوحنا سيفيلينوس (John Xiphilinos (1089-1088-1072. لقد تم إعادة كتابة اسم البابا مؤقتاً في كتاب الذبتخيا Dptychs العائد لكنيسة القسطنطينية بشرط ان يقوم البابا بشرح موقفه حول انبثاق الروح القدس Procession of the Holy SPIRIT، أما في حال عدم تقديم هذا الشرح، حينها يتم توقيف ذكران اسم البابا احتفالياً في القسطنطينية.
ان حالة الأمور بين رومية والقسطنطينية قد أشار اليها بصراحة وإحكام البطريرك نيقولاوس غراماتيكوس (1085- 1111) وصاغها كما يلي:
” جاء وقت حين كان فيه البابا هو الاول بيننا، حين كان له ذات الشعور والتفكير مثلنا. الآن وبما أن له رؤية معاكسة فكيف يمكن مناداته أول؟ يجب أن يظهر بأن له ذات الايمان، حينها يمكنه الحصول على الأولوية لأنه بالإيمان يثبت المقام العالي وليس بالعنف والطغيان. إذا لم يظهر إيمانه على انه متطابق معنا، فإنه لن يحصل على مايطالب به”.
في الختام
حالة الانقسام المؤسف وماتبعها من تعديات الحملة الصليبية الرابعة في احتلالها القسطنطينية وتدنيس مقدساتها، واضطهاد البطريركيات الارثوذكسية انطاكية واورشليم في كل فترة احتلال الفرنجة التي دامت زهاء قرنين من ظلم الأخ في المسيح، وتلتها ردود افعال انتقامية من الشريك في الوطن الذي اعتبر المسيحيين المشرقيين كالصليبيين ، ولازال كثيرون بهذه العقلية والانفعالية تجاهنا نحن مسيحيو المشرق، ثم مجمع ترانت الذي اعتبر ان الرهبنة اليسوعية هي جنود البابوية، واباح لها التبشير اللاتيني في الغرب وحتى بالقوة ومحاكم التفتيش بحق البروتستانت و اليونان الارثوذكس سكان السواحل الشرقية والجنوبية لايطاليا وفي شبه الجزيرة الايبيرية…
والانتقل بحملات تبشير المشرق الارثوذكسي واقتناص اخوتهم لغاية ترضي الغرور وحب الرئاسة والتسلط وبعيداً عن روح المحبة المسيحية كما اوصانا الرب يسوع، وتجييش البعثات الرهبانية البابوية وما اكثرها من رجالية ونسائية بحماية قناصل الجمهوريات الايطالية وامبراطورية فرنسا والنمسا لدى الدولة العثمانية بفعل معاهدات تتيح لهم التبشير المحمي مع فتح المدارس التبشيرية، التي كانت محظورة على ارثوذكس المشرق و…الخ والقيام بالاستيلاء على رعايا الكنيسة الارثوذكسية والارثوذكسية الشرقية وتأسيس كيانات كنسية جديدة ومذابح كنسية جديدة مقابل الاصلية، وصارت لها بطريركيات باقامة بطاركة هذه نخرت الجسد المسيحي الذي كان ولايزال ينوء تحت حمل التعصب الاسلامي والاضطهادات والجزية ونطام الذمة، وآخرها المذابح الطائفية المدمرة من 1849-1860 في سورية ولبنان.
كله ترك اثراً عميقاً وجرحاً لايندمل عند اتباع المسيحية المشرقية المتألمة اساساً من واقعها في وطنها بفعل التعصب والكره في عصر الانحطاط العثماني وصار الواقع اشد ايلاماً لأنه اتى من اخوة في الايمانعلموه الايمان المخالف وكفروا ايمانه الاصيل، بالأصفر الرنان واقتنصوا كنائسه وادياره التاريخية ومنها كنيسة وبيت حنانيا الرسول في باب توما بيد اللاتين 1848 وبقرار والي دمشق العثماني، وزاد في ذلك الانتداب الفرنسي في القرن 20 الذي كان انتداباً كاثوليكياً بكل معنى الكلمة، واقتناص الكنائس والاديرة ومنها باب بولس في سور دمشق، ودير النبي الياس في معرة صيدنايا…
كل هذه الجروح التي حفرت عميقاً لم تمحها قبلة المحبة عام 1964 على جبل الزيتون في القدس بين البابا بولس السادس والبطريرك المسكوني اثينا غوراث،ورفع الحرمات المتبادلة التي كان قد اوقعها هومبرتو ممثلاً للبابا والرد بحرم مقابل من البطريرك القسطنطيني قبل الف سنة خلت…
ربما اعتذار شجاع من كل من البابا يوحنا بولس الثاني والبابا فرنسيس عما فعله الغرب اللاتيني بالشرق الارثوذكسي بدءاً من عدم مساعدة القسطنطينية حتى استبيحت من العثمانيين 1453، وقبلها الحروب الصليبيةبين القرنين 11 و13م، داوى الجرح سطحياً. لكن لما كانت الكأس المشتركة بعيدة المنال بين الفريقين فالحال باق على حاله، وهو الذي يتألم منه السيد له المجد الرب يسوع، الذي فدانا جميعا بدمه المسفوح على صليب خطايانا،واراد ان نكون جبلة نقية بدمه الكريم، ولكن حب الرئاسة والغرور ابطل هذه الكفارة الالهية، إذ لازلنا نؤلمه في كنيسته التي هو مؤسسها في عنصرته المجيدة، وهو الباقي فيها الى الأبد لا بطرس ولا بولس ولا صفا.
حواشي البحث
1- انظر تدوينتنا في ذلك هنا في موقعنا…
2- الانشقاق الكبير انظر تدوينتنا هنا في موقعنا، ولقاؤنا مع اخوية التعليم الرسولي ايضاً هنا في موقعنا/ تاريخ الكنيسة.