البذخ والقوّة: من إمبراطورية فارس إلى بلاد الإغريق
يتجلّى هذا الانبهار بشكل لافت في شهادة شيخ المؤرخين الإغريق، هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وشهد هذه الحرب الضروس، ونقل فصولها في موسوعته الضخمة المعروفة بـ”تاريخ هيرودوت”. في الكتاب التاسع والأخير من هذه الموسوعة، يروي المؤرخ الفصول الختامية لهذه الحرب، وينقل وقائع المعركة التي انتهت بانتصار مدوٍّ للإغريق على الفرس الذين عجزوا عن الاحتفاظ بتفوّقهم العسكري، رغم ضخامة جيشهم واتساع مملكتهم. جرت هذه المعركة في صيف 479 قبل الميلاد، في منطقة بلاتايا التي تقع اليوم في مقاطعة كينتريكي إلادا، وسط اليونان، وعُرفت منذ ذلك التاريخ بمعركة بلاتايا.
كانت بلاد فارس تحت سلطة أحشويروش الأول، رابع ملوك سلالة الأخمينيين، وكان جيشها تحت قيادة ماردونيوس، ابن جوبارو، أحد النبلاء الفرس. اتحدت الدول-المدن اليونانية، وشكّلت قوّة جامعة لصدّ الزحف الأخميني، وسارت هذه القوى من بيلوبونيز، فتراجع الفرس وبنوا معسكراً قرب بلاتايا. حاصر الإغريق المعسكر الفارسي على مدى أحد عشر يوماً، وبعد قطع خطوط الإمداد، حاولوا التراجع، فأمر ماردونيوس قوّاته بمطاردتهم، لكن اليونانيين واجهوهم وحاربوهم ونجحوا في دحر المشا بأسلحة خفيفة، وقتلوا ماردونيوس.
جبل ميكالي
حوصر عدد كبير من الجنود الفرس في معسكرهم وذُبحوا، وتلت معركة بلاتايا معركة أخرى جرت على منحدرات جبل ميكالي في جزيرة ساموس، إحدى الجزر الأيونية قرب سواحل آسيا الصغرى، وانتهت معركة ميكالي بانتصار تحالف المدن الإغريقية وانهاء الغزو الإخميني.
بحسب شهادة هيرودوت، دخل اليونانيون معسكر عدوهم، “فعملوا على نهب خيمة ماردونيوس، فغنموا الكثير، وكان بين الغنائم مذود أحصنته، وهو من البرونز، وآية من آيات الفن، فوهبوه إلى معبد أثينا أليا، بينما وُضعت بقية الغنائم في المخزن حيث يحتفظ الإغريق بكل ما يستولون عليه من غنائم الحرب”.
بعدها، وصل باوسانياس، وهو القائد الإسبرطي والوصي على عرش الأسرة الأجيسية، وأمر “عبيد اسبارطة بجمع كل ما هو ثمين مما غنموه في هذه المعركة، وألا يقوم غيرهم بذلك. فقام العبيد بتفتيش المعسكر بأكمله، فوجدوا العديد من الخيام الغنية بالأثاث المصنوع من الذهب والفضة. وجرّدوا جثث الموتى من الخلاخل والسلالسل والسيوف المعقوفة ذات المقابض الذهبية، ناهيك عن الملابس المطرزة والتي بدت غير ذات أهمية إذا ما قورنت مع تلك الكنوز التي غنموها. وقد أعلم العبيد رؤساءهم بكل ما عثروا عليه وما كان بوسعهم إخفاؤه، وكان كثيراً جداً، إلا أنهم سرقوا الكثير وباعوه لاحقاً إلى الإيجنتيين الذين اشتروا الذهب بسعر النحاس، فيما اعتقد العبيد بأنه السعر الحقيقي للذهب، فكان ذلك أصل ثرائهم اللاحق”.
تعكس هذه الشهادة ثراء الفرس وترفهم، وتؤكّد أنهم حافظوا على هذا الترف الفاحش حتى في معسكراتهم، وحاربوا مزيّنين بـ”الخلاخل والسلاسل والسيوف المعقوفة ذات المقابض الذهبية”، وكانوا يرتدون الملابس الفاخرة المطرزة بالذهب. في المقابل، كانت الصناعات اليونانية تعتمد على المواد المتواضعة، وتجهل الذهب، وتخال أنه من أنواع النحاس، كما يُستدل من كلام هيرودوت.
حمل اليونانيون جزءاً من هذه الغنائم إلى معابدهم، و”وضع عُشرها جانباً ليقدّم إلى معبد دلفي، ومنه صُنع النصب ثلاثي القوائم الواقع بجانب المذبح والقائم على الأفعى البرونزية ذات الرؤوس الثلاث”. كذلك “كان للآلهة في أولمبيا وممر كورنثة نصيب من الغنائم، ومنها صنع تمثال للإله زيوس من البرونز، بلغ ارتفاعه خمسة عشر قدماً، وتمثال لبوسيدون بلغ ارتفاعه تسعة أقدام ونيف. أما بقية الغنائم فقد تم اقتسامها بين الجنود، وحصل كل رجل على نصيبه”. هكذا سار اليونانيون على خطى الفرس، وبدأوا بصناعة تماثيل كبيرة من المواد الثمينة، منها نصب قائم على أفعى برونزية برؤوس ثلاث، ومنها تمثال برونزي عملاق يمثل سيد الآلهة والبشر، وتمثال عملاق آخر يمثّل بوسيدون، إله البحر والعواصف والزلازل والخيول.
على خطى الفرس
يتجلّى افتتان اليونان بالترف الفارسي بشكل خاص في واقعة أخرى نقلها هيرودوت في تقصيّه لأحداث هذه المعركة. أمام تقدّم اليونانيين، فرّ الملك الأخميني أحشويروش الأول، وترك خيمته الحربية في عهدة قائد جيشه ماردونيوس. دخل القائد الإسبرطي باوسانياس هذه الخيمة، وذُهل “بستائرها المطرزة ذات الألوان المختلفة وزخارفها الرائعة المطرزة بالذهب والفضة”، ثم “قام باستدعاء الخبازين والطهاة العاملين لدى ماردونيوس، وطلب منهم إعداد وجبة طعام كالتي اعتادوا إعدادها لسيّدهم السابق، فأطاعوا الأمر، ولما رأى باوسانياس الأرائك الذهبية والفضية الجميلة، والموائد الذهبية والفضية، وقد أُعدّ كل شيء للوليمة بفخامة لا عهد له بمثلها، لم يكن ليصدّق عينيه لجمال الأشياء الموضوعة أمامه، ومن باب المزاح أمر خدمه بتحضير وجبة عشاء اسبارطية عادية. كان الفرق بين الوجبتين مدهشاً بالفعل، ولما غدت الوجبتان جاهزتين، ضحك باوسانياس، وأرسل في طلب قادة الإغريق. وعند وصولهم دعاهم لإلقاء نظرة على المائدتين وقال: يا رجال الإغريق، لقد استدعيتكم إلى هذا المكان لتروا مبلغ حماقة الفرس، الذين يعيشون في مثل هذا النمط من الحياة، ثم قدموا إلى بلاد الإغريق ليسرقونا نحن الفقراء”.
سار الإغريق “الفقراء” على خطى الفرس “الأغنياء”، وتبنّوا “هذا النمط من الحياة” المترفة، كما تشهد القطع المعروضة اليوم في المعرض الذي يقيمه المتحف البريطاني. بلغت هذه “التبعية” الثقافية ذروتها في عهد الإسكندر الأكبر وورثته، وأدت إلى ولادة تقاليد فنية جديدة مزجت بين الأساليب الفارسية والقوالب اليونانية في المرحلة الهلنستية. سادت هذه التقاليد الجديدة في نواح متباعدة جغرافياً، تقع في أفغانستان وإيران وجنوب شرقي أوربة، وشكّلت استمرارية للأنماط الفارسية في ميدان الفنون اليونانية التي افتتنت بها وتبنّتها أسبغت عليها طابعاً مبتكراً، ظهر في نتاج عابر للثقافات والقوميات المتعدّدة، على مدى قرون طويلة.
اترك تعليقاً