البطاركة الانطاكيون من يوحنا الخامس حتى بطرس الثالث
الفاطميون والكنيسة
843- 1025
يوحنا الخامس: (993-1022) وتدخل اغابيوس في السياسة كما سبق وأشرنا فأغضب الفسيلفس واضطر أن يتنازل عن السدة الأنطاكية فخلفه في السنة 993 خرتوفيلاكس الكنيسة الكبرى كنيسة “الحكمة الإلهية” يوحنا الخامس.
ويفيد يحيى ابن سعيد الأنطاكي أن باسيليوس الفسيلفس حض البطريرك الجديد على اصلاح كنيسة القسيان في أنطاكية على طراز كنيسة الحكمة الإلهية في القسطنطينية ثم يضيف أن اغابيوس توفي في أيلول 994 ولا يذكر شيئاً عن عودته عن التنازل قبل وفاته وعن تنازل خلفه عن أي امتياز تمتعت به كنيسة أنطاكية لقاء بقائه على السدة البطريركية. والإشارة هنا إلى ما أورده نيقون الراهب من أن يوحنا تنازل عن استقلال مطارنة الكرسي الأنطاكي في انتخاب بطريركهم وأنه وضع أمر انتقاء البطريرك الأنطاكي في يد البطريرك المسكوني. والراهب نيقون تنسك مدة من الزمن في النصف الثاني من القرن الحادي عشر في دير القديس سمعان العمودي.
وقدّر ليوحنا الخامس أن يعاصر الحاكم بأمره الفاطمي وأن يتلقى ضرباته المؤلمة في الأبرشيات الأنطاكية الجنوبية وقد سبقت الإشارة إليها في القسم الأول من هذا الفصل. ولكن قدّر له أيضاً أن يرى تراجع الحاكم عن تضييقه بعد ظهور حمزة ابن علي وقيامة بالدعوة الدرزية.
وماشى يوحنا الخامس ملوك الروم في عصرهم الذهبي فسعى معهم لإعادة المجد التالد. ففاوض اورستوس البطريرك الأورشليمي في أثناء مروره في أنطاكية في السنة 1000 في ما كان قد تنازل عنه ثيوفيلاكتوس ابن قنبرة البطريرك الأنطاكي إلى زميله الأورشليمي في القرن الثامن من حقوق الأنطاكية على كنيسة الكرج فاتفق الطرفان على إعادة ذكر البطريرك الأنطاكي في الذبتيخة الكرجية وعلى حق هذا البطريرك إرسال اكسرخوس إلى الكرج يتفقد شؤونهم الروحية ويتولى جباية الأموال من الأوقاف الأنطاكية في بلاد الكرج.
وفي السنة 110 اختلف المسيحيون في مصر في حساب عيد الفصح لاختلاف اليهود في حسابهم. فجعل البعض فصح اليهود يوم السبت في الخامس من نيسان وقال آخرون أنه يوافق يوم الأحد في السادس من الشهر نفسه. فكتب أرسانيوس بطريرك الإسكندرية إلى أهل أورشليم بما صح عنده جاعلاً فصح المسيحيين يوم الأحد في السادس من نيسان. فكتب أهل الشام إلى مصر يتعارفون منهم ما اتفقوا عليه. فلما وصلت كتب ارسانيوس عيَّد جميع المسييحين في يوم الأحد في السادس من نيسان إلا قوم من اليعاقبة من أهل صعيد مصر فإنهم فصحوا يوم الأحد الذي يليه.
الحاكم وسر الإفخارستيا: وحدد الحاكم في رمضان السنة 401 أي في أيار السنة 1011 منع الناس عن صنع النبيذ وشربه سراً وجهراً وكسَّر ما عند الناس منه من الجرار والدنان وحذّر على النصارى تقديمه “في سائر مملكته” ومنعه في قرابينهم فقربوا عوضاً عنه ماء نقع فيه زبيب أو عود الكرم!
الاعتراف ببطريركية نيقيفوروس: وفي السنة 1021 انتهى حكم الحاكم ونودي بالظاهر فعادت السيدة ست الملك إلى سابق عزها فأوفدت نيقيفوروس بطريرك أورشليم إلى القسطنطينية ليعلم باسيليوس “بعودة الكنائس وتجديد كنيسة القيامة المقدسة وسائر البيع في جميع بلاد مصر والشام ورجوع أوقافها إليها واستقامة أمور المسيحيين”. ويرجوه السماح بالاتجار بين البلدين والشروع في “المسالمة والموادعة” فاستكشف افستاثيوس البطريرك المسكوني من نيقيفوروس “أمانته” فأوضحها فألفاها البطريرك المسكوني أرثوذكسية فأطلع الفسيلفس على ذلك الأمر برفع اسم نيقيفوروس في القسطنطينية وأنطاكية على ما كان عليه قبل وصوله. وتوفيت ست الملك فعاد نيقيفوروس إلى أنطاكية ومنها إلى طرابلس في أيار السنة 1024.
نقولاووس الثالث: (1025-1031) وتوفي يوحنا الخامس البطريرك الأنطاكي في السنة 1022 فخلا كرسيه ثلاث سنين ونصف السنة. ثم انتخب نقولاووس رئيس دير الاستوديون بطريركاً على أنطاكية وصلي عليه في القسطنطينية يوم الأحد سابع عشر كانون الثاني سنة 1025 فأقام في الرئاسة خمس سنين وثمانية أشهر وواحداً وعشرين يوماً.
“ورقي إلى رومانوس ارعيروس الثالث (1028-1034) أن لليعقوبيين بطريركاً اسمه يوحنا يقيم في بلد مرعش يسمى ببطريرك أنطاكية ويسيم مطارنة وأساقفة للمدن، فأنفذ أشخصه وأشخص معه ستة من مطارنته وأساقفته وتقدم إلى الكسيوس بطريرك القسطنطينية في أن يحضرهم بمشهد ممن اتفق عنده من المطارنة والأساقفة الأرثوذكسيين ويخاطبه في الرجوع عن اعتقاده والاعتراف بالمجامع السبعة المقدسة وقبول من قبلته ودفع من دفعته. واستدعى نقولاووس بطريرك أنطاكية للحضور معه ومشاركته في الخطاب له لأنه كان يومئذ بالقسطنطينية. فأبى ذلك الأرطوقي وجرى بين الكسيوس البطريرك وبين من اجتمع معه من أصحاب خطاب في هذه المعاني.
ولم يذعن يوحنا بطريرك اليعاقبة للانثناء عن رأيه. واجتمع خلق من العوام وهموا بالايقاع به فدفعوا عنه. ولما يأس الملك من عودته عن اعتقاده نفاه إلى كفربا بالمغرب. واعترف من الستة الأساقفة والمطارنة المشخصين معه ثلاثة. وثبت ثلاثة على ما هم عليه فحبسوا في الحبس. ومات يوحنا هذا بعد ثلاث سنين من نفيه وأقام اليعاقبة لهم بعد موته بطريركاً غيره. فلما عرف رومانوس الملك حاله أنفذ من يحضره فهرب إلى ديار بكر من بلاد الإسلام”.
الياس الثاني: (1032-1033) وفي يوم السبت الكبير في أول نيسان سنة 1032 “صلي على الياس الراهب النيقوميذي بطريركاً على أنطاكية فأقام سنة وخمسة أشهر وثمانية أيام وتنيح”.
وصدرت أوامر الظاهر الفاطمي بترك الفساد وحفظ مجاورة الروم. ووافق الروم على المهادنة. واتفق الطرفان على أن ينفذ الظاهر رسولاً يجتمع برسول رومانوس في ناحية أنطرطوس “آخر حد الروم وأول بلد المسلمين”. واشترط رومانوس على الظاهر ثلاث شرائط إحداها
“أن يعمر الملك كنيسة القيامة ببيت المقدس ويجددها من ماله ويصير بطريركاً على بيت المقدس وأن تعمّر للمسيحيين جميع الكنائس الخراب التي في بلاد الظاهر”. والشريطة الثانية ألا يتعرض الظاهر لحلب. والشريطة الثالثة ألا يساعد صاحب صقلية. وأرسل نصر بن صالح بن مرداش صاحب حلب مال الهدنة إلى رومانوس وشعر القديس يوحنا المعمدان. وكان هذا الشعر في سالف الزمان في كنيسة حمص فنقل منها إلى كنيسة القلعة في حلب “اشفاقاً عليه من أخذ الروم له عند ترددهم إلى حمص”. وبقي هناك إلى أن خرج منصور بن لؤلؤ من حلب. فاستعاده نصر بن صالح وتقرب به إلى رومانوس فأضافه إلى الأثارات المقدسة التي في بلاط الملك.
ثيودوروس الثاني: (1034-1042) وفي يوم الأحد الأول من الصيام الكبير صير جرجس لاسكارس بطريركاً على أنطاكية وصُلي عليه في القسطنطينية وسمي ثيودوروس. فأقام في الرئاسة ثمانين وستة أشهر وواحداً وعشرين يوماً وتنيح. ونفذ ثورودروس الاتفاق الذي تم في عهد يوحنا الخامس حول كنيسة الكرج فأرسل بموجب شهادة نيقون الراهب اكسرخوساً إلى بلاد الكرج ليعاقب ويصلح.
باسيليوس الثاني: ولا نعلم شيئاً عن باسيليوس الثاني. ونجهل أخبار مكاريوس الفاضل والفثيريوس الصالح.
بطرس الثالث: (1025-1056) أبصر النور في أنطاكية ونشأ وترعرع فيها. ثم طلب العلم في القسطنطينية فأحاط به “كله” والتحق بالبلاط الملكي فأصبح سكرتير رومانوس الثالث. ثم قدم النذر والتحق بكنيسة الحكمة الإلهية فأسندت إليه وظائف أهمها وظيفة سكيفوفيلاكس الكنيسة. فكان من الطبيعي أن يُقدم على غيره وأن يرقى إلى رتبة البطريركية.
وكان بطرس الثالث ورعاً ونقياً واثقاً بالله معتمداً عليه وكانت أمه قد نقلت إليه خبر النور البهي الذي أحاط بها يوم ولادته وما طن في أذنها من أصوات سماوية تنبئ بالمستقبل الباهر فنشأ بطرس متوكلاً على الله مستلمهماً وروحه عاملاً بمشيئته على الأرض كما في السماء. ومما زاده حماساً وغيرة أن السيدة العذراء والدة الإله تراءت لقسطنطين التاسع (1042-1054) وأومأت له بترقية بطرس إلى السدة البطريركية ففعل.
وتسلم بطرس عكاز الرعاية وانطلق يعمل في حقل الرب فوجه رسالة الجلوس إلى كل من زميليه بطريرك الإسكندرية وبطريرك أورشليم معلناً تبوأه العرش البطريركي مبيناً إيمانه القويم راجياً ذكره في الذبتيخة. وأسف على انقطاع الصلة بين كنيسته وكنيسة روما مدة طويلة كما سبق وأشرنا فكتب إلى لاوون التاسع متلهفاً على هذا الإنقطاع متسائلاً عن سبب ابتعاد خليفة بطرس العظيم عن جسم الكنائس وانقطاع صوته عن مجامعها وامتناعه عن المساهمة في حل المشاكل الاكليريكية مبيناً الفائدة التي تنجم عن مثل هذا التعاون من حيث التوجيه الأخوي الرسولي. ورجا بطرس زميله الروماني أن يصرح بإيمانه ليتمكن من ذكر اسمه في الذبتيخة إذ لا يجوز الاعتماد على ماضي روما القويم والافتراض قبل إعمال النظر بأن إيمانه خال من الخطأ. ثم ذكر البطريرك الأنطاكي إيمانه بوضوح ولكنه تحاشى البحث في قضية الانبثاق. وعاقت الأقدار هذه الرسالة فلم تصل إلى روما إلا بعد مرور سنتين على صدورها. فكتب بطرس رسالة ثانية أقصر من الأولى فحذف معظم ما جاء في مقدمة رسالته الأولى وأكد تعلقه بدستور نيقية وقرارات المجامع المسكونية السبعة ولعن من لُعِنَ من الهراطقة.
وأجاب كل من بطريركي الإسكندرية وأورشليم برسالة سلام. وردَّ لاوون التاسع على رسالة بطرس الأولى برسالة سلام أيضاً ولكنه أكد بوضوح تقدم روما وعصمة السدة البطرسية. وأضح أن كنيسة روما أم الكنائس وأن محكمتها أعلى المحاكم. ثم نبّه زميله الأنطاكي على تلبد غيوم الهم والشقاق في الشرق وحثه على الدفاع عن حقوق الكرسي الأنطاكي. وتسلم بطرس هذا الرد ولكنه لم يتمكن من قراءته لأنه كتب باللاتينية فطيب إلى الرسول الإفرنجي الذي حمله إليه أن يستنسخه له. ففعل فأرسل بطرس النسخة إلى ميخائيل كيرولاريوس بطريرك القسطنطينية ليأمر بترجمتها إلى اليونانية. وذكر بطرس زميله الروماني في ذبتيخة أنطاكية وحذا حذوه بطريرك أورشليم وبطريرك الإسكندرية.
الشماس عبد الله ابن الفضل الأنطاكي: ولمع في أفق الكنيسة في القرن الحادي عشر الشماس عبدالله ابن الفضل الأنطاكي فخدم بالتأليف والتعريب واشتهر بصورة خصوصية بحسن تعبيره في تفسير الكتب الدينية وبسلامة ذوقه في اختيار المؤلفات اليونانية وتعريبها. وتنافس أبناء الكنيسة باستنساخ مؤلفاته ومعرباته. وكان بارعاً بالعربية واليونانية والسريانية وعرب عن الاثنتين وألّف بالعربية واليونانية.
وأهم مصنفاته كتاب المصابيح. وهو يشتمل على كلام الحكماء والأنبياء والرسل القديسين بوبه تبويباً لطيفاً وأكثر من الأمثلة الكتابية وأقوال الفلاسفة. وله أيضاً كتاب المنفعة وهو مختصر ومطول ويبحث في العقائد في الخالق وجوهره ووحدة طبيعته وتثليث أقانيمه وفي المنطق والفلسفة والجدل والفقه وله كذلك كتاب الروضة في الفضائل وهو منتخبات من أقوال الكتب المقدس والقديسين ورجال اللاهوت وكتاب تفسير ستة أيام الخليقة للذهبي الفم عربه عن اليونانية وتفسير إنجيل متى ويوحنا للذهبي الفم أيضاً. وعرب عن السريانية كتاباً للآباء الأبرار أنطونيوس وارسينييوس ويوحنا اقليمس واسحق وفيلوكسينس. وعرّب عن اليونانية كتاب البرهان في تثبيت الإيمان للقديس صفرونيوس الأورشليمي وعرّب له أيضاً أحاديث الآباء القديسين والرهبان ومن أثار هذا العلامة كتاب مجموع الأمان في إبانة غلط اليعاقبة والنساطرة وميامر غريغوريوس النزينزي ومديح القديسين نقولاووس واندراوس الأقريطشي.
أنطاكية والبندقية: وفي أواخر السنة 1053 تلقى بطرس الثالث رسالة من دومينكوس رئيس أساقفة اكويلية جاء فيها أن القساوسة البنادقة في الشرق يشكون الصعوبات التي يلقونها عند ممارستهم سر الافخارستيا بالفطير وأن هؤلاء القساوسة خاضعون لرئيس أساقفة يستمد البركة من القديس مرقس ويتمتع بلقب بطريرك. فأجابه بطرس الثالث جواباً لطيفاً ولكنه لم يسكت عن اللقب الذي ادعى به دومينيكوس فقال:
“لقد نشأت بين الكتب ودرست العلوم المقدسة منذ الطفولية وإلى سن الشيخوخة ولا أزال مواظباً على مطالعتها ومع ذلك ما تعلمت ولا سمعت أن رئيس اكويلية يسمى بطريركاً لأن النعمة الإلهية دبرت أن يكون في كل العالم خمسة بطاركة وهم الروماني والقسطنطيني والإسكندري والأنطاكي والأورشليمي. ومن هؤلاء الخمسة البطريرك الذي يسمى بطريركاً على وجه الحقيقة هو البطريرك الأنطاكي. فالروماني والاسكندري يتمتعان بلقب بابا والقسطنطيني والأوروشليمي رئيسا أساقفة. وكيف نستطيع أن نقيم بطريركاً سادساً ما دام الجسد ليست فيه حاسة سادسة وما دامت هنالك أبرشيات أعظم من اينوريتك يديرها مطارنة ورؤساء أساقفة كبلاد البلغار وخراسان وسائر الشرق ولم يدع أحد منهم بلقب بطريرك”.
ثم يشير بطرس الثالث إلى رسالة الجلوس التي وجهها إلى البابا الروماني مع الحجاج ويقول أنه لم يتلقَ جواباً عنها وأنه مرسل صورة عنها ليقدمها دومينيكوس إلى البابا حتى إذا رضي البابا بفحواها “اتحد الجميع بنفس واحدة ليقدموا لله جميعاً ضحية واحدة”. ويعرض بطرس بعد هذا إلى مسالة الفطير فيقول “أن شكوى الغربيين من أن بطريرك القسطنطينية يشيع عنهم اشاعات رديئة ويقطعهم من شركة الكنيسة هي باطلة لأنه يعرف حق المعرفة أنكم أرثوذكسيون تؤمنون مثلنا بالثالوث القدوس وبسر التجسد ولكنه يأسف أنكم تخالفون البطاركة الأربعة في تقديم الذبيحة الغير الدموية”
أنطاكية والقسطنطينية: ولم يرضَ بطرس الثالث عن تدخل بطريرك القسطنيطينية في شؤون بطريركية أنطاكية. فاحتج بشدة على ترقية شماس أنطاكي في القسطنطينية بدون موافقة رئيسه الأنطاكي. وعلى توسيع النفوذ القسطنطيني في الولايات الأرمنية مبيناً أن هذه الولايات كانت لسلطة أنطاكية الروحية لا القسطنطينية. ورأى في إلحاح البطريرك ميخائيل القسطنطيني على توحيد الطقوس سياسة غير مجدية لانتشار السريانية والعربية في بعض أبرشيات أنطاكية ولخضوع هذه الأبرشيات عينها للسلطات الإسلامية.
د. اسد رستم
اترك تعليقاً