الجواري أو ثورة الحريم
لكل تاريخ علاماته ومراجعه، نظامه واضطرابه، عصوره الذهبية وتقهقره، وبين الإثنين تمر حوادث توضع في الحسبان. ومن ضمن الأحداث البالغة التأثير والمدروسة من طرف المؤرخين، الذين وضعوا أنفسهم دائماً موضع ملاحظين موالين للقصور، ثورة الزوج التي حدثت خلال العصر العباسي سنة 255هـ ، لقد كانت تلك أول ثورة للعبيد في الاسلام، إلا أنه بإمكاننا القول بأن ثورة العبيد الأولى كانت ثورة النساء، أي الجواري اللائي انطلقن لمهاجمة الخلفاء قبل هذا التاريخ بكثير. والصعوبة الوحيدة تتمثل في تأريخ بداية الحدث، أيرتبط بالتعرف على اسم الخليفة الأول الذي ضعف أمام إغراء جاريته المغنية؟ أهو يزيد الثاني بن عبدالملك الذي تسلم الحكم سنة 101هـ ، والذي وضع زمامه بين يدي جاريته حبابة، حسب الطبري. أم هي الخيزران أم الخليفة العباسي المهدي الذي تولى الحكم سنة 578هـ ؟
لم تكتف هذه الأخيرة كحبابة بإغراء زوجها، ولكنها حملته على أن يقتسم معها الحكم، وبعد وفاته ظل تأثيرها قائماً خلال فترة حكم ولديها الهادي وبعده هارون الرشيد.
استحدثت سلطة الجواري على الخلفاء تغيرات لم تتوقعها الشريعة في مركز النظام، وعلاقة النساء بممثل الله على الأرض. وعلى عكس الزنوج الذين حاولوا الاستيلاء على الحكم من الخارج، فإن الجواري كن يقدن عملياتهن في قصر الخلافة ذاته، على فراش وفي قلب ذلك الذي يجعل منه القانون سيداً مطلقاً على الأرواح والأموال.
إذا ما قارنا التأثير المحدود الذي مارسته ثورة الزنج التي قامت على المستوى العسكري، بثورة الجواري نجد هذه الأخيرة أعمق وأكثر استمراراً، لأنها تمت على مستوى العاطفي والإيروسي.
لم تعلن الجواري الحرب على أسيادهن، ولكنهن أحببنهم.
أثارت صورة الخليفة يزيد الثاني ـ المغرم بجاريته المغنية والشاعرة، إلى حد أنه كان يفقد حواسه وينطق أشياء لا معقولة ـ المؤرخين إلى حد كبير. فحتى المسعودي، الذي يفضل الحكاية عادة، يفقد خفة دمه حين يصل إلى الخليفة يزيد الثاني: ((وكان يزيد ذات يوم في مجلسه، وقد غنته حبابة وسلامة، فطرب طرباً شديداً ثم قال: أريد أن أطير، فقالت له حبابة: يا مولاي، فعلى من تدع الأمة وتدعنا؟)).
عندما توفيت حبابة في حادث إثر اختناقها بحبة رمانة، حزن يزيد إلى حد أنه نسي العالم وواجبه، والمؤمنين والكفار، ووجدت العاصمة الاسلامية نفسها مجبرة على أن تقيم الصلاة في غياب الخليفة، الذي رفض دفن حبابة وظل يبكيها رفضاً لمفارقتها، ناسياً الصلاة والدولة والمساجد وفرائض الجمعة، وبعدها بعدة أسابيع شيع المؤمنون خليفتهم إلى مثواه الأخير، وهو أول وربما آخر خليفة يتوفى من جراء مرض اعتبر ثانوياً حتى ذلك الحين، ألا وهو حب جارية.
تحامل كل المؤرخين على يزيد، بحيث أنه لن يستعيد مكانته واحترامه إلا على يد أبي الفرج الأصبهاني في كتابه ((الأغاني))، الذي ذكر حبابة ضمن الفنانين الذين ساهموا في ازدهار الشعر والغناء حيث اعتبرها شاعرة وعازفة موهوبة، واعتبر يزيداً رجلاً يتوفر على ذوق فني متقدم، أهله لكي يقدرها، وذلك على عكس تأويل المسعودي والطبري اللذين تبنيا وجهة نظر السلطة، ووصفا حبابة كمنحرفة وعدوة لله ودينه.
ورغم كونهما مؤمنين صادقين، لم ير كل من المسعودي والطبري في حبابة أكثر من مجرد جارية تبعد الخليفة عن مهمته. إن المؤرخين يحتقرون يزيداً لأنه أعلن حبه لجارية، إلى حد أنهم تجاهلوا ألبتة مقاربته التي تتسم بالتجديد على مستوى الممارسة السياسية، وأحاطوا بالصمت محاولته التحاور مع المعارضة، في حين أن القضاء على المعارضين كان من تقاليد الخلفاء السياسية وعاداته قبله. أما يزيد الثاني، فقد كان مسالماً، وشجع الحوار وبدا مفاوضات مع الذين يعارضونه، وهو أمر ليس بالهين. وإذا ما استحقت محاولات مماثلة قام بها الخليفة الأموي السابق عمر بن عبدالعزيز، تنويه المؤرخين، حيث أنه الخليفة الأموي الأول الذي تخلى عن قتل معارضيه من الشيعة وشرع في التحاور معهم، فإن شيئاً من ذلك لم يتحقق بالنسبة ليزيد، رغم أنه تابع نفس النهج، وسينظر إليه كرجل منحل وعاجز على المستوى السياسي.
هناك ملك آخر صنف كملك عظيم واستثنائي، أدى به واجبه كمسلم صادق إلى قتل الجارية التي أحبها، بدعوى أن هذا الشغف يتعارض معارضة شديدة مع مهمته السياسية.
يتعلق الأمر بعضد الدولة الذي حكم بين سنوات 338 و 372هـ ، الملك الثاني في دولة الأبايضة الشيعية، التي حكمت بغداد في القرن الرابع، وكانت سلطة الخليفة آنذاك قد استحالت إلى سلطة اسمية ورمزية. كان الأبايضة من الفرس، وكانوا ينتمون إلى الأرستقراطية العسكرية، التي استولت على الحكم محلياً في فارس أولاً، حيث استقروا كحكام على المنطقة، وحين دخلوا بغداد كقوة عسكرية احترموا صلاحيات الخليفة العباسي، الذي كان سنياً، وذلك رغم أنهم شيعة. وقد منحهم الخليفة ألقاباً، ووفروا له بدورهم الحماية التي كان محتاجاً إليها. وقد مكنت مراسيم تتويج الحاكم المحلي من طرف الخليفة، وكذلك الخطب وصلوات الجمعة وغيرها من المراسيم هذا الزواج الغريب إلى حد ما، بين رجال الدين والعسكريين، من البقاء، وإضفاء طابع الانسجام على العلاقات اليومية.
إلا أن عضد الدولة قام بأمرين إثنين يرفضهما كل مسلم وشكلا في الواقع إعلاناً عن بداية انهيار الخلافة كسلطة عليا: أولهما يتمثل في كونه القائد الاسلامي الأول الذي طالب بلقب شاهنشاه، الشيء الذي يشكل سبة فظيعة في وجه الاسلام، لأن هذا اللقب كان لقباً لملوك الفرس قبل الاسلام الذين حاربوه في البداية، وكان عضد الدولة يفتخر بانتسابه إليهم. أما الأمر الثاني فهو مطالبته بأن يذكر اسمه بعد اسم الخليفة في خطبة الجمعة، وفي ذلك منتهى الإهانة لنظام الخلافة نظراً لبعد هذه الخطبة الرمزي.
ولم ينل قتله لجارية بريئة حلت بها مصيبة إعجابه الشديد بها شيئاً من صورته كرجل سياسة. إن ما أقلق عضد الدولة في الحب، هو أنه لم يعد قادراً على التركيز، بعد خلوته الأولى مع الجارية، والتي يبدو أنها دامت عدة ليال، انتبه إلى أن شؤون الدولة قد تراكمت، وأحس بنفسه بئيساً لإهماله واجباته، وقرر أن لا يرى الجارية، ولكن شغفه بها دفعه إلى الالتقاء بها ثانية، حيث تكررت نفس الظاهرة.
من حسن الحظ أن هذه الفكرة الشاذة التي تؤدي إلى قتل المحبوبات لم تراود كل الخلفاء العرب، خاصة وأن الجواري وعلى عكس حبابة، لم يعدن يكتفين بإغراء الخليفة، ولكنهن أبن عن فهم كبير للسلطة السياسية، إلى حد أنهن شرعن في تقاسمها مع الخلفاء.
هناك جارية أخرى ظهرت في الساحة السياسية خلال العصر العباسي، إنها شغف أم الخليفة المقتدر، التي توفيت سنة 321هـ ، حيث نجحت في استمالة النخبة البيروقراطية والدينية والعسكرية بأكملها، لكي تنال الاعتراف بابنها كخليفة، وبما أنه لم يكن يتجاوز الثالثة عشرة، أصر القاضي أحمد بن يعقوب على عدم الاعتراف بالمقتدر، وأكد بصفته ممثلاً للسلطة الدينية بأن هذا الأخير لا زال طفلاً وأنه ليس مؤهلاً ليغدو خليفة. وقد قتل مع مجموعة كانت تقاسمه نفس الرأي.
ما إن حصلت النساء على السلطة حتى مارسن فظاعات لا يحسدهن الرجال عليها، معتمدات على نفس التبرير السياسي المقنع قبل اكتشاف الانتخاب، أي بالقوة الشرسة. وكما هو الشأن لدى الرجال، مارست النساء الاغتيال السياسي حين تدعو إليه الحاجة، معتمدات على وسائل أكثر قساوة، كالخنق أو دس السم عوض القتل بالسيف. ومن ثم، فإن الفرق بين ممارسة الرجال وممارسة النساء هنا، لا يتعدى التفاصيل التقنية. على كل حال لقد أضفى قتل القاضي مصداقية سياسية كبيرة على هذه الملكة التي لم يذكر المؤرخون اسمها مكتفين بذكر وظيفتها البيولوجية ((أم المقتدر))، أو بوظيفتها السياسية ((السيدة))، الذي يعني في البداية النساء الحرائر، ثم غدا يطلق على كل اللائي مارسن السلطة السياسية بشكل رسمي أو آخر.
كان تصور السيدة للسياسة ((نسائياً)) حسب تعبيرنا اليوم، وذلك أن شؤون الدولة تسير بشكل أفضل إذا ما سهرت عليها النساء، وخاصة مجال العدل. وأمام استنكار الوزراء والقضاة، عينت إحدى مساعداتها وتدعى ثومال على رأس المظالم. أي ما يوازي عندنا اليوم وزارة العدل. احتج القضاة الذين سيعملون تحت إمرة ثومال، أنكروا تعيينها واستبشعوها، وأشهروا معاداتهم المكرورة تجاه المرأة، ورفضوا التعاون مع المسؤولة الجديدة. ولكنهم عندما أدركوا بأن السيدة لا تعتزم البتة التنازل بشأن ثومال، طأطأوا رؤوسهم وقبلوا التعاون مع رئيستهم الجديدة، وكانت ذكرى القاضي يعقوب عالقة بأذهانهم.
يجب أن نعترف بموضوعية المؤرخين الكبار كالطبري حين يتعلق الأمر بالنساء، موضوعية نادراً ما نجدها لدى المحدثين. يخبرنا الطبري بأن ثومال قامت بمهمتها أحسن قيام، وأن الناس أحبوها وقدروا طريقتها في العمل رغم أنهم رفضوها في البداية، ويعود سبب ذلك إلى أن أول أمر أعطاه المقتدر بعد تعيينها هو القضاء على الفساد، وتخفيض واجبات المقاضاة، بحيث أصبح على المتقاضين دفع قدر قليل من المال لإنشاء ملفاتهم، هو ثمن الورق. ولا يقدمون مالاً إلى الملحقين أو الموظفين الصغار الآخرين الذين يحيطون بكبار موظفي العدل.
مع المؤرخين المحدثين، سنشهد شيئاً آخر أكثر مهارة، إنه إلغاء التفاصيل بشكل تام، ومن ثم توصف أم المقتدر من طرف د. علي إبراهيم حسن في كتابه ((نساء لهن في التاريخ الاسلامي نصيب))، بأنها نموذج يجسد الانهيار الذي يتهدد الدول ((؛ين تدع النساء يتدخلن في شؤونها)). إن طريقة هذا المؤرخ لا تزرع فينا الرغبة لممارسة السياسة. فالنساء الممتازات في رأيه هن الصحابيات اللائي نلن شرفاً يستحيل الحكم به اليوم، ونساء مثقفات توجهن لدراسة العلوم، لاشيء الذي لا يضمن البتة الوصول إلى الحكم. ونحن نعرف بأن المجال الذي تمكنت النساء المسلمات من التسرب إليه بقوة حتى الوقت الراهن هو الجامعة. ذلك أن المرأة المثقفة لا تزعج النظام، في حين أن السياسيات يزعزعن أسسه.
كانت صبح جارية الخليفة الحكم (وهو من أكبر الخلفاء الأمويين بالأندلس) تشتعل طموحاً، وكانت تحمل عيبين لا يغفرهما المسلمون: كونها أجنبية ومسيحية. وطبعاً لم تكن مثل هذه الأشياء لتمر بسلام إلا في حضارة الأندلس المنفتحة والعالمية.
والواقع أن الروم أقضوا مضجع الأمويين، وكان فتح الأندلس بمثابة عملية مستعادة يومياً، حيث كان الخلفاء يقودون جيوشهم في الغزوات، وفي إحداها سقطت صبح أسيرة بيد العرب.
كيف أمكن لصبح وهي أسيرة حرب أن تأخذ بزمام الأمة؟ يجب التوقف هنا قليلاً عند سر ارتقاء جارية في حريم إسلامي يعج بالسبايا، حيث المنافسة قوية. كيف السبيل إلى التميز وجلب اهتمام الخليفة؟ على عكس ما يمكن أن نفترضه، لم يكن الجمال والشباب كافيين، بل كان يلزم الجارية شيئاً آخر، وهو عند العرب يكمن في الذكاء والثقافة. وكل الجاري اللائي نلن إعجاب الخلفاء إلى حد أنهم قاسموهن الحكم، كن بدون استثناء متوفرات على هذا الذكاء المتميز الذي يضمن النجاح دائماً لمن يكتسبه، وهو أمر يصدق حتى يومنا بالنسبة للنساء والرجال على السواء.
لقد قدر الرجل العربي دائماً هذا الشكل من الذكاء الذي يكمن في رفض الرأي المتسرع، وإطلاق حكم على وضع أو حادث أو شخص قبل تحليله بتأن وتريث، وقد صنعت هذه الصفات نجاح أكثر من رجل وامرأة في الماضي والحاضر على السواء. وحين تتوفر المرأة على هذا النوع من الذكاء، إضافة إلى نوع من التواضع وبعض خفة الدم، فإن ذلك يقودها مباشرة إلى احتلال قلب الخليفة. من البديهي أن هذا النوع من الذكاء يتعلم، على الانسان إذا ما شاء التوفر عليه أن يلتقظ كل الأخبار، ويعرف كيف يختارها ويصنفها لكي يستعملها، حيث يجب وأنى يجب. وكان للعب بالكلمات المنظومة شعراً والاستشهادات القرآنية والإحالات التاريخية مكسباً ضرورياً، ولكي يتلاعب المرء بالكلمات، يجب عليه أن يعرفها، وكثير من الجواري اللائي نجحن في أن يصبحن محظيات لدى الخلفاء، كن يعرفن بدقة ما يجري في الامبراطورية، وكن متبحرات في العلوم الأساسية كالتاريخ والشعر، ولم تكن صبح إلا استثناء يرجح القاعدة.
يرجع الكثير من المؤرخين سبب إهمال الحكم لشؤون الدولة اليومية وانشغال زوجته بها، إلى اهتمامه الكبير بالعلوم والكتب، وخاصة حين تقدمت به السن. ولكن زوجته استشعرت الحاجة إلى من يساعدها، فقدم لها مرشح لكي يشغل وظيفة كاتب سيهز حياتها وحياة الامبراطورية الاسلامية. كان يدعى ابن أبي عامر، في سن السادسة والعشرين وكان عربي الأصل، فائق الجمال والثقافة، مهذباً ومطلعاً على العلوم الدينية، وذا قدرة على استخدام الوقت والناس حسب مشيئته، وسيصرح بعد ذلك بأن هناك فكرة لازمته منذ صغره وهي حكم الأندلس.
انبهرت صبح بالشاب شأنها في ذلك شأن الذين نظموا اللقاء في القصر، ومن هنا بدأت بين الملكة وكاتبها علاقة متينة، لم تخف على الخليفة ذاته، حيث قال للمقربين منه ذات يوم في ثنايا حديثه عن ابن عامر: ((هذا الفتى خلب عقول حرمنا)) هل كانا عشيقين أم أن الملكة ضحت برغبتها في سبيل واجبها كزوجة خليفة أولاً، وكأم خليفة ومسؤولة عن الأمة، بما أنها المكلفة بابنها بعد موت الحكم؟ هل ظلت علاقتها برجل من أكثر الرجال مدعاة للإعجاب في التاريخ الاسلامي أو في التاريخ، في إطار التعاون السياسي فحسب؟ لقد ناقش المؤرخون القدماء والمحدثون على السواء هذه المسألة، ويوفر ذلك فرصة من الفرص العديدة التي تمكننا من تبين العداء الذي يكنه هؤلاء أو أولئك للمرأة.
إن النقاش حول حياة صبح الجنسية دال بهذا الشأن، ويبدأ المقري بالقول بأن ابن أبي عامر سيغدو الحاكم الفعلي للأندلس خلال وقت قصير، وأنه سيبعد صبح ويحتفظ بابنها هشام بن الحكم رهينة في قصره، وقد أثار الحسد الكثيرين دائماً وحيكت حوله الدسائس. ويشرح المقري بأن ذلك ما يحصل حين يتعلق الأمر بانسان محظوظ ذي مواهب متعددة، بحيث ينجح في كل ما يقدم عليه نجاحاً باهراً، وتلك كانت حالة ابن أبي عامر.. ونستشعر موقفه المحايد بشأن العلاقة بين صبح وابن أبي عامر، من خلال ما قاله عن ظروف تعارفهما العادية جداً، بين كاتب مغمور وزوجة خليفة، لقد أتى ابن أبي عامر قرطبة لطلب العلم، ثم امتهن الكتابة أمام باب قصر الحكم، ((إلى أن طلبت السيدة صبح أم المؤيد من يكتب عنها، فعرفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر، فترقى إلى أن كتب عنها فاستحسنته ونبهت عليه الحكم ورغبت في تشريفه بالخدمة)).
يشرع المقري في تبرئة صبح ضد هذه الاتهامات ويخلص إلى أن الله وحده عالم بسر الأمور.
مع ا لمؤرخين المحدثين، ستوضع صبح مبدئياً بأنها متآمرة مبتذلة وغبية في نفس الآن، إذ سقطت في حبال كاتبها الذي كانت السلطة همه الوحيد، ومن هؤلاء محمد عبدالله عنان صاحب كتاب ((تراجم إسلامية)) الذي جعل من الخليفة الحكم وصبح شخصيتين من شخصيات المسلسلات المصرية الرديئة: كان حبها المضطرم لذلك الرجل الذي ملك عليها كل مشاعرها وعقلها، يدفعها دائماً إلى مؤازرته والإذعان لرأيه ووحيه، وكان إعجابها الشديد بمقدرته وثقته يضاعف ثقتها به… هذا إذا لم نفرض أن تلك الفرنجية المضطرمة الجوانح كانت تذهب في حبها إلى حد الائتمار بولدها وتضحية حقوقه ومصالحه. والظاهر أن علائقها بابن أبي عامر.. غدت فضيحة قصر ذائعة، شهر بها مجتمع قرطبة وتناولها بلاذع التعليق والهجو.
ويبدو أن المؤرخين القدماء كانوا يمتلكون رؤية مغايرة للمؤرخين المحدثين بشأن علاقة النساء بالسياسة، لقد كانوا يسمون الملكات بألقابهن ويحاولون فهم دوافعهن كما يفعلون مع الرجال ويقولون بإمكانية زواج الجواري من الخلفاء، وتسييرهن لشؤون الدولة انطلاقاً من الحريم، إضافة إلى أن بإمكان أبناء الخلفاء منهن أن يصبحوا خلفاء.
إن أكثر الطرق تسلية لفهم ظاهرة الجواري، وكيف أن النساء لم يكتفين بالتحكم في الخلفاء فحسب، بل اقتسمن معهم الحكم في مجال إسلامي يخضع للتراتبية ويفرضها، هي اختراق حميمية الخيزران والخلفاء الذين تعاقبوا في حياتها. وبإمكاننا أن ندرك من خلال النموذج الذي تمثله، حدود سلطة الجواري المرتبطة غالباً بمجال تحركهن، وبالتالي فإنه لا يمكن اعتبار أية واحدة من هؤلاء النساء اللائي أطلقن عملياتهن من الحريم رئيسة دولة، سواء تعلق الأمر بأم المقتدر أو بصبح أو الخيزران. كان عليهن من أجل نيل هذا المنصب، أن يتجاوزن الحد الفاصل بين مجال النساء ومجال الرجال.
—————————
المصدر: سلطانات منسيات
موقع الحوار المتمدن/ فاطمة المرنيسي
اترك تعليقاً