الحي النبطي في دمشق(1)
يظهر في الخرائط الأجنبية التي تتحدث عن دمشق في الفترة السابقة على الإسلام حي كبير يحتل الجانب الشرقي من المدينة داخل السور يسمونه «الحي النبطي»، وهذا الحي الذي يحتل موقعه اليوم حي باب توما وحي باب شرقي، ويقع في الجانب الشمالي- الشرقي من مدينة دمشق القديمة بني في زمن الأنباط، في القرن الأول قبل الميلاد، واستمر اسمه حتى العصر الأيوبي، ويعتقد أن المهندس المعماري أبولودور الدمشقي ينتمي له، إذ تشير بعض المصادر إلى أنه كان نبطي الأصل، وكذلك المعتمد المالي للإمبراطور هرقل في دمشق منصور بن سرجون الذي انجز اتفاقية دخول المسلمين صلحا مع قائد الحملة ابو عبيدة بن الجراح حقنا للدماء على ان يتم دفع الحزية وتبقى كنائسهم سالمة بدون تحويل الى مساجد… . فما قصة هذا الحي؟ ومتى نشأ؟ ولماذا احتفظ باسمه حتى العصور الإسلامية؟
تهديدات
كانت مناطق جنوبي سورية بعيدة إلى حد كبير عن العاصمة السلوقية أنطاكية، ولم تكن سلطة السلوقيين فيها قوية بسبب قوة المشيخات والممالك العربية المحيطة بها، فقد مدت السلالة العربية الحمصية بزعامة شمسي جرم نفوذها حتى يبرود، على بعد 70 كيلومتراً شمالي دمشق، وبسطت المملكة الإيطورية نفوذها من البقاع وجبال لبنان إلى القلمون ووادي بردى، ووصل نفوذ الأنباط إلى دمشق ذاتها. وبحسب المصادر التاريخية لتلك الحقبة، فقد سعى الملك السلوقي أنطيوخس الثاني عشر إلى جعل دمشق عاصمة له، ولكنه خسر المعركة أمام الملك النبطي حارثة الثالث في عام 87 قبل الميلاد، ونتيجة لذلك دعا الدمشقيون الملك النبطي لحماية المدينة من زحف الإيطوريين المشهورين بالعصيان، وقطع الطريق واللصوصية. وتشير المعطيات الأثرية المبدئية إلى أن حدود مدينة دمشق في الحقبة السلوقية لم تكن تتجاوز معبد زيوس- حدد غرباً، وهو المسجد الأموي حالياً، وباب توما شرقاً، والسور الحالي شمالاً، والشارع المستقيم جنوباً، ففي هذه المساحة التي لا تشكل أكثر من ثلث دمشق داخل السور، بنى السلوقيون الشارع المعمد، وهو شارع القيمرية حالياً، الذي يمتد من باب جيرون، المحاذي لمقهى النوفرة، إلى الأغورا التي تقع حالياً في حارة الجورة.
موقع الحي النبطي
بنى الأنباط حياً خاصاً بهم في الجزء الشرقي من المدينة، خارج السور السلوقي، في ما يعرف اليوم بحيي باب شرقي وباب توما، ودعي هذا الحي باسم الحي النبطي، حيث احتفظ باسمه مع تحوير بسيط أيام مؤرخ دمشق الكبير ابن عساكر في القرن السادس الميلادي، إذ يذكر في الجزء الثامن والثلاثين من «تاريخ دمشق» ما يلي: «قرأت في كتاب أبي الحسين الرازي، في ذكر الدور في دمشق قال: دار عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي في النبيطن، بحضرة مسجد الحردانة، مما يلي شام (شمال) الزقاق الآخذ إلى حمام حسين الحمال، مع الحمام مع دار ابن خزيم إلى حائط المدينة، والدار التي كانت لأبي كلها مع ما يليها إلى دار ابن الذهبي، كانت عند دار عبد الرحمن بن سراقة، وكان عثمان بن سراقة أمير دمشق في أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان. قال وحدثني إبراهيم بن محمد بن صالح قال: سألت أبا علي عبد السلام ابن الجرجاني، لم سمي مسجد الجردانة؟ فقال لي إن أباه حدثه أنه لما كان في آخر دولة بني أمية، طلب من كان من مواليهم وأحلافهم فهرب أهل قرية جردان هذه التي في الغوطة إلى النبيطن، وإنما سمي النبيطن لأنه كان لا يسكنه غير النبط، فعمروا أهل جردان هذا المسجد، فنسب إليهم فسمي مسجد الجردانة».
أما موقع هذا الحي فقد ذكر ياقوت الحموي بأنه قرب المربّعة، وقنطرة بني مدلج، وسوق الأحد في شرقي جيرون قرب الأساكفة العتق. وحدده ابن عساكر في الجزء الثاني من تاريخه بقوله: «الكنيسة المصلبة (كنيسة حنانيا) باقية إلى اليوم بين الباب الشرقي وباب توما بقرب النبيطن عند السور. والناس اليوم يقولون النيبطون.
مدن الديكابوليس
ورغم أن الملك الأرمني ديكران قد ألحق دمشق بحكمه في عام 72 قبل الميلاد، وأنهى النفوذ السياسي النبطي، إلا أن هذا النفوذ عاد من جديد بعد إخراج ديكران من دمشق على يد الرومان، إذ شجع القيصر بومبي في عام 64 قبل الميلاد على تشكيل تحالف بين مدن الديكابوليس (المدن العشر) بزعامة دمشق لمواجهة مخاطر العصيان اليهودي، وهذه المدن كانت تمتد من دمشق إلى عمان في شرقي الأردن، ومع ذلك بقيت هذه المدن رغم ذلك، خاضعة بشكل أو بآخر للأنباط.
ولا شك في أن ارتباط دمشق بالمملكة النبطية تعزز أيام حارثة الرابع (9 ق.م – 41 م) الذي حول مدينة ضمير شمالي دمشق إلى مركز نبطي ماتزال آثاره باقية حتى اليوم، كما وسع نفوذه إلى مدينة صيدا، وبنى ميناء نبطياً في إيطاليا ذاتها في مدينة بوتيولي قرب نابولي.
ونقرأ في الرسالة الثانية لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس المكتوبة حوالي عام 55 ميلادي ما يلي: «في دمشق والي الحارث الملك كان يحرس مدينة الدمشقيين يريد أن يمسكني فتدليت من طاقة في زنبيل من السور ونجوت من يديه» (كورنثوس 2/ 11، 23-33).
تفسير نبطي لاسم دمشق
وفي تأكيده على علاقة الأنباط الوثيقة بدمشق؛ يقول الفيلسوف الدمشقي دماسكيوس (458 – 538 م) محاولاً تفسير اسم مدينته دمشق، بقوله: «يدعو الأنباط ديونيسيوس باسم دوساريس (ذو الشرى). انتصر ديونيسيوس على ليكورغوس وأتباعه العرب من خلال رش جيش العدو بالنبيذ من الزقّ الجلدي، ولهذا فقد دعا المدينة باسم داماسكوس». أي الاخضاع بزق الخمر. ومن المؤكد أن دماسكيوس يعرف النبطية جيداً، لأن معنى إخضاع باللغة النبطية هو دما، والزق هو زقّا. وهذا أحد التفسيرات ولكنه لافت للنظر، لارتباطه بالإله النبطي (ذو الشرى) إله الخمر النبطي الذي يتماهى مع ديونيسيوس إله الخمر عند الإغريق، بينما يتماهى الإله النبطي الكاره لشرب الخمر «شيع القوم» مع ليكورغوس.. بحسب بعض الباحثين. وطبعاً اسم دمشق أقدم من ذلك بكثير، بل هو موجود في ألواح العمارنة قبل الأنباط بأكثر من 1300 عام، وفي الرقم الآشورية أيضاً.
ابو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ومنصور بن سرجون والقس يونان
بقي الحي النبطي معروفاً باسمه طوال العهد الروماني وحتى العهود الإسلامية المتلاحقة، والتي بدأت بدخول المسلمين الى دمشق عام 635م، وكان الوجيه منصور بن سرجون الدمشقي وهو جد القديس يوحنا الدمشقي عند باب الفراديس يسكن في منطقة باب الفراديس(2) ويدل اسمها على الجنان وكان مكان سكن الاثرياء الدمشقيين، وقد فاوض ابو عبيدة بن الجراح لفك الحصار بعد مرور اربعة اشهر على حصار دمشق وكان عمر بن الخطاب قد عزل خالد من قيادة الحملة لتهوره واسندها الى ابا عبيدة بن الجراح المعروف بحكمته.
و كان قد رابط على كل باب من الابواب السبعة بدمشق صحابي او اكثر على رأس القوات الاسلامية المحاصرة منهم اباعبيدة قائد الحملة المرابط على باب الجابية وخالد يرابط على باب الشرقي، وكما اسلفنا سعى سرجون النصراني الوجيه الدمشقي وعامل الرومان لجهة مسؤوليته عن المال والجباية، وكان الروم قد انسحبوا من دمشق الى عقد مصالحة مع ابو عبيدة لتسليم المدينة صلحا… في الوقت عينه لاحظ القس يونان راعي الاقلية اليعقوبية ان دمشق لابد لها بعد كل مدة الحصار هذه ساقطة لامحالة بيد المسلمين، فسعى من خلف سرجون للاتصال بخالد بن الوليد المرابط على الباب الشرقي (وكان خالد يجهل ان عمر قد عزله من قبادة الحملة وولى بدلا عنه كما اسلفنا ابا عبيدة)، وكان اتفاق سرجون- ابو عبيدة شاملا لكل المدينة، لكن القس يونان الذي كان يبغض الروم كدولة ويعتبرها قوات احتلال و يبغض مذهب الروم الخلقيدوني اتفق مع خالد سرا على ان يسمح لثلة من عسكر خالد بالدخول من نافذة بيته على سور باب شرقي التي قام بتوسيعها وفيها كنيسته (وهي اليوم كنيسة الارمن الارثوذكس).
وقد وعد خالد القس بعدم التعرض لكنيسته او لأي من عائلته او رعيته السريانية التي كان عددها فقط 70 نسمة بشهادة المؤرخ الأب ايوب نجم سميا (3)، ودخل خالد مع شرذمة من جنده من نافذة بيت القس يونان وقت تبديل الحراس وانقضوا على الحرس وفتكوا بهم وكانوا فصائل محلية دمشقية لحماية الاسوار، وكما اسلفنا عن انسحاب القوات الرومية من دمشق وتجمعها في سهل اليرموك للمعركة الفاصلة. وكانت حصيلة الاقتحام الذي تم منتصف الليل مقتل 40 الف دمشقي ذبحاً بيد المهاجمين بعد ان تم فتح الباب الشرقي من قبل القس يونان وخالد وشرذمة الجنود كما مر، فاقتحم المهاجمون فجأة المدينة من الباب الشرقي بشكل مفاجىء للسكان بقيادة خالد وهم يهللون ويكبرون وتقدموا في الشارع المستقيم في حين انه في الوقت ذاته دخلت القوات صلحا بقيادة ابي عبيدة من باب الجابية والتقى جناحا القوات عند الكنيسة المريمية واقيم جامع صغير من بقاياه المئذنة العمرية حاليا بجانب دار بطريركية انطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس، وعلى الفور تحولت كنائس القسم الشرقي وعددها 15 كنيسة ودير الى مساجد وتقابلها بالعدد ذاته في غرب المدينة واولها كاتدرائية دمشق على اسم القديس يوحنا المعمدان واغلقت كنيسة مريم فهي لم تُشمل وفقا لشريعة مايسمى الفتح لاحرباً ولاصلحاً وقد عدت من املاك الدولة من سنة 635م واغلقت واعيدت للأرثوذكس عام 705 عندما صادر الوليد كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان لتحويلها الى جامع بني امية ولم يبق للمسيحيين كنيسة يصلون فيها واحتج المسيحيون فأعاد لهم كنيسة مريم بقوله:” نهوض على النصارى بكنيسة مريم بدلاً من كنيسة يحي” وكما هو معروف فقد كان منصور عربياً، وربما نبطياً، وأصبح وزير معاوية بن أبي سفيان بعد أن أصبح والياً ثم خليفة للمسلمينو كان مسيحياً على المذهب الارثوذكسي الخلقيدوني..
اما القول بأن المصادر المسيحية تتهم سرجون بتقديم المساعدة للمسلمين وتسهيل دخول خالد الى دمشق من الباب الشرقي بالرغم من انه كان على المذهب الملوكاني وصوابه الارثوذكسي الخلقيدوني كما اورد الاستاذ تيسير خلف ( مع الشكر له على هذا المقال) فهذا مرفوض لان من يتهمه بذلك قصد تبرئة القس يونان الذي خان الاتفاق نكاية بالروم والكنيسة الخلقيدونية لينال المكسب!!! وقد نال وجماعته المكسب بحيث ان المسلمين انتزعوا منذ البداية كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان من يد اسقف دمشق الرومي الارثوذكسي ومنحوها للسريان اليعاقبة، وعلى هذا نرى ان بطريرك اليعاقبة حبس الشاعر الاخطل التغلبي واليعقوبي المذهب نتيجة مروقه، في برج كاتدرائية بوحنا المعمدان بحكم ولايته على الكنيسة وطائفته، ولكن معاوية اول والي على دمشق اعاد الكاتدرائية الى اسقف دمشق الرومي الخلقيدوني.
بقي ان نشير الى ان مذهب الروم الارثوذكس لايعني انه يخص حملة الجنسية الرومية بل المذهب الخلقيدوني الذي يضم الى اليونانيين ابناء الكراسي الانطاكي والاسكندري والاورشليمي اضافة الى الكرسي القسكنكيني وهو مذهب الدولة الرومية، كما صارت الكثلكة مذهب روما الفاتيكانية الغربية والامبراطوريات اللاحقة في اوربة الغربية…وكما صارت اللاخلقيدونية مذهب البطريركيات السريانية في سورية والقبطية في مصر والارمنية وتصلي وتتحدث بلغاتها… وهذه الكنائس قامت على وجه قومي اضافة الى المذهبي…
والكنائس الخلقيدونية كانت تصلي باللغات الارامية وخاصة في الارياف والجبال ولنا مثال القلمون معلولا وصيدنايا ومحيطها ويبرود وقارة ودير عطية وهي خلقيدونية المذهب روم ارثوذكس وصار فيها روم كاثوليك وهم ليسوا سريان العقيدة) واليونانية في المدن والساحل كله من كيليكيا وآسيا الصغرى الى السوري واللبناني والفلسطيني والى الغرب من الفرات حماه وحمص وحلب وانطاكية واللاذقية وبيروت وصور وصيدا… ثم ادخلت التعريب بيد رائد التعريب الشماس عبد الله بن الفضل الانطاكي ولاتزال موجودة المخطوطات الطقسية الارثوذكسية بالآرامية ومنها وماهو باللغات الارامية واليونانية والعربية ويجب هنا التمييز بين الكنيسة السريانية ككنيسة تتحدث بالسريانية والكنيسة الرومية وحصرا الانطاكية التي كانت تصلي بالآرامية واليونانية والعربية والرومية كانت لغة الحضارة في الامبراطورية الهلنستية ثم الرومانية فالرومية وليست انتماء الى الدولة المسماة بيزنطية وعاصمتها القسطنطينية وتضم بطريركيات انطاكية واورشليم والاسكندرية الخلقيدونية الارثوذكسية والتي تعربت طقوسها منذ بداية القرن الحادي عشر بفضل الشماس عبد الله بن الفضل الانطاكي…
لتبيان وجه الحقيقة التاريخية…
الحواشي
1- خلف تيسير القدس العربي
2- زيتون د. جوزيف التدوينات ادناه في الموقع هنا
3- سميا الخوري ايوب الشارع المستقيم
من المصادر
خلف، تيسير / القدس العربي/ الانباط والحي النبطي في دمشق
نجم سميا، الاب ايوب /مجلة النعمة البطريركية، ومجلة الايمان / الشارع المستقيم
زيتون، د.جوزيف مجلة النشرة البطريركية / الكاتدرائية المريمية وكاتدرائية دمشق والمئذنة البيضاء وهما في موقعنا
اترك تعليقاً