الخوانق في دمشق الشام
الخوانق في دمشق الشام
توطئة
اذا كانت المذاهب الاسلامية قد تقاسمت الجوامع والمساجد التي تعتبر مدرسة لتعميم المذهب، إضافة الى كونها دوراً للعبادة. فإن المتصوفة بطرقها المتعددة وبنشاطها الهادىء قد أوجدت بدائل… هذه البدائل قد اكتسبت شرعية اجتماعية ودينية مع مرور الزمن وتأثير هذه الطرق على الناس واستقطاب الأنصار والمؤيدين. فكانت الخوانق إحدى ظواهر وأمكنة الصوفية ودعاويها.
في تسميتها وتاريخيتها وانتشارها
الخانقاه بالقاف والكاف حمعها خوانق، هي كلمة فارسية قيل: أصلها خانكاه أو خونكاه أي الموضع الذي يأكل فيه الملك. و تعني ايضاً وفق اللفظة الفارسية بأنها بيت وهي بناء ديني أقيم على نظام الصحن الذي يحيطه إيوان واحد أو أكثر فبعضها تضم بابا ً واحداً وبعضها أربع ، وهي بلا مئذنة وبلا منبر وتضم مسجداً لا تقام فيه صلاة الجمعة ، ويلحق أحياناً به ضريح أو مدرسة أو سبيل ، تُدرس في مدرسة الخانقاه العلوم الدينية على المذاهب الأربعة ، قامت الخانقاه أحياناً ، بدور أوسع من المدرسة في نشر الوعي الديني الموجه.
يعود تاريخ الخانقاه في مطلع القرن الثاني الهجري حسب بعض الروايات التي تقول إن أول خانقاه أقيمت بمدينة الرملة بفلسطين حيث قيل: ” إن أول خانقاه بنيت في الإسلام للصوفية زاوية برملة بيت المقدس بناها أمير النصارى حين استولى الفرنج على الديار القدسية، وسبب ذلك أنه رأى طائفة من الصوفية وألفتهم في طريقتهم، فسأل عنهم ما هذه الألفة والصحبة والأخوة الخاصة بينكم فقالوا له: الألفة والصحبة لله طريقتنا. فقال لهم: أبني لكم مكاناً لطيفاً تتآلفون فيه وتتعبدون، فبنى لهم تلك الزاوية فكانت كمناسك الرهبان.” ، إلا أن هذه الرّواية لم تُؤكد، وأغلب الظن أنها وجدت في القرن الخامس الهجري وكان أول من أسسها السلاجقة ونالت إهتماما ً خاصا ً في العهد الأيوبي واستمرت تُؤدي دورها في العهد المملوكي، وما أن حل القرن الثامن الهجري/ الرابع عشرالميلادي حتى اَفل نجمها وبدأت تتراجع، اذن الخانقاه هي دار الصوفية ينقطع فيها الناس للعزلة والعبادة ويتلقون فيها العلوم الدينية، وترتبط في دمشق بسلطة شيخ شيوخ العارفين وكان في القرن الثامن الهجري في دمشق حوالي 20 خانقاه، ارتفع الى 30 في القرن التاسع وتلاشى في العهد العثماني.
من هذه الخوانق في الشام
– الخانقاه الأسدية وتعود الى سنة 560 هجرية وكانت تقع داخل باب الجابية بدرب الهاشميين “سوق القطن” انشأها اسد الدين شيركوه، لا أثر لها اليوم.
– الخانقاه الاسكافية وتعود الى سنة 650 هجرية، انشأها شرف الدين محمد الاسكاف، على نهر يزيد، بسفح قاسيون، لا أثر لها اليوم.
– الخانقاه الأندلسية وتعود الى سنة 640 هجرية بناها ابو عبد الله محمد بن يوسف الأندلسي كانت تقع بالقرب من الجامع الأموي، لا أثر لهما اليوم.
– الخانقاه الباسطية، وتعود الى سسنة 836 هجرية أنشأها القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل بالجسر البيض غربي مدرسة الأسعردية، لا أثر لها اليوم.
– الخانقاه الحسامية وتعود الى سنة 585 هجرية اوقفتها الخاتون ست الشام اخت صلاح الدين الأيوبي، كانت توجد بالصالحية قرب تربة العفيف ابي الفوارس.
– الخانقاه الخاتونية وتعود الى سنة 575 هجرية انشأتها الخاتون عصمت الدين بنت نعين الدين أنر، وتقع لصق جامع تنكز في منطقة شارع النصر، لا أثر لها اليوم.
– خانقاه دويرة حمد، وتعود الى السنة 400 هجرية وهي أقدم خانقاه في دمشق، وتقع بدرب السلسلة في باب البريد، أما حمد فهو ابن عبد اللهبن علي ابو الفرج الدمشقي.
– خانقاه الرزنهارية، أوقفها الشيخ ابو الحسن الرزنهاري- غير معروفة التاريخ – وتقع لصقباب الفراديس من جهة الشمال على نهر بردى.
– خانقاه السميساطية، وتعود الى السنة 453 هجرية وهي من اشهر الخوانق بدمشق اوقفها ابو القاسم علي بن محمد يحي السلمي السميساطي، كان يقيم فيها شيخ شيوخ العارفين.
– الخانقاه الشبليةن وتعود الى سنة 623 هجرية أنشأها شبل الدولة كافور المعظمي ليس لها أثر اليوم.
– الخانقاه الشريفية وتعود الى السنة 660 هجرية اوقفها شهاب الدين أحمد بن السيد شمس الدين محمد المعروف بابن الفقاعي، وكانت تقع في منطقة سوق الحميدية، ولا أثر لها اليوم.
– الخانقاه الشنباشية وتعود الى سنة 650 هجرية اوقفها ابو عبد الله الشنباشي وتقع في حارة بلاطة، في زقاق المحكمة اليوم.
– الخانقاه الشهابية وتعود الى سنة 670 هجرية اوقفها الأمير ايدكين بن عبد الله الشهابي من أمراء دمشق، وتقع غربي العادلية الكبرى وشمالي المعينية.
– الخانقاه الطواويسية، وتعود الى سنة 504 هجرية بنتها صفوت الملك وكان موقعها في مكان مقهى الهافانا اليوم.
– الخانقاه العزية، أوقفها الأمير عز الدين ايدمر الظاهر نائب السلطنة في الشام، وتقع في الجسر الأبيض على نهر تورا.
– الخانقاه القصاعية، تعود الى سنة 539 هجرية تقع في منطقة القصاعين داخل باب الجابية. أوقفتها الخاتون فاطمة بنت كوكجا لا أثر لها اليوم.
– خانقاه القصر، تعود الى سنة 528 هجريةن تقع في منطقة الميدان الأخضر مطلة على التكية السليمانية. أما واقفها فهو غير معروف بسبب تعدد أسماء واقفيها.
– الخانقاه الكججانية، تعود الى سنة 761 هجرية، انشأها الأمير مجاهد الدين ابراهيم الكججاني كانت تقع بين الخانقاه الطواويسية وبين المدرسة العزية في منطقة الشرف الأعلى.
– الخانقاه المجاهدية، وتعود الى سنة 656 هجرية اوقفها مجاهد الدين ابراهيم أحد أمراء الملك الصالح نجم الدين ايوب، وكانت تقع بالشرف القبلي، مكان مشافي الجامعة.
– الخانقاه النجمية، وتعود الى سنة 560 هجرية اوقفها نجم الدين ايوب الكبير كانت تقع بباب البريد، قرب المدرسة المعينية ولا أثر لها اليوم.
– الخانقاه النجيبية، وتعود الى سنة 677هجرية، اوقفها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي الصالحي، لا أثر لها اليوم.
– الخانقاه النحاسية، أنشأها الخواجا شمس الدين بن النحاس الدمشقي لصق مقبرة الفراديس من الجنوب.
– الخانقاه النهرية، تاريخها هو 794هجرية وتعرف بخانقاه عمر شاه تقع في منطقة القنوات اول شارع القنوات.
– الخانقاه اليونسية وتعود الى سنة 790 هجرية بناها الأمير يونس وودادار الظاهر برقوق في الشرف الأعلى مقابل خانقاه الطواويسية.
وفي مصر كان اول من بناها من الملوك بمصر كما قال السيوطي السلطان صلاح الدين يوسف ورتب للفقراء الواردين أرزاقاً معلومة. وقال المقريزي:” إن الخوانك حدثت في الإسلام في حدود الأربعمائة من سني الهجرة، وجُعلت ليتخلى الصوفية فيها لعبادة الله تعالى، وإن أول من اتخذ بيتاً للعبادة زيد بن صوحان بن صبرة، وذلك أنه عمد إلى رجال من أهل البصرة قد تفرغوا للعبادة وليس لهم تجارات ولا غلات فبنى دوراً وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يقوم بمصالحهم من مطعم ومشرب وملبس وغيره.”
وفي التاج أن معاوية كان يكتب إلى أطرافه وعماله وإلى زياد بالعراق بإطعام السابلة والفقراء وذوي الحاجة في كل يوم أربعون مائدة يتقسمها وجوه جند الشام
ولقد كان بدمشق من هذه الخوانق أو الخانقات ست وعشرون خانقاً على ما في الدارس.
يُعتقد أن أقدم مثال للخانقاه ما يزال قائماً في مصر على مخطط المدرسة هو خانقاه
الجاشنكير التي تأسست عام 606هـ / 1307م ويليها خانقاه الفرافرة بحلب التي عُرفت بالرباط الناصري والتي تأسست عام 635هـ / 1337م في العهد الأيوبي، ولا شك أن هناك أسباباً سياسية وأخرى دينية وراء ظهور الخانقاه وتطورها، وهذه الأسباب مجتمعة تخدم ترسيخ أركان الدولة وشّد أزرها في الجهاد ضد الإفرنج في بلاد الشام الذين هددوا مصروبلاد الشام منذ نهاية القرن الحادي عشرالميلادي.
شغلت الخانقاه أول الأمر دوراً سكنيه كانت قائمة في بلاد الشام ومصرثم اختصت بمبان شُيدت خصيصاً لها تتوفر فيها شروط معينة كوجود قاعات للدرس وأخرى للنوم والإقامة ولأغراض أخرى.
يبدو أن كلمة “الخانقاه” على رأي جمهرة من الباحثين ظهرت لأول مرة عند كتاب القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي ، حيث يصفونها بقولهم إنها عمارة خاصة بزمانهم ويجعلون مكانها الأول في خراسان وما وراء النهر، ويزودنا صاحب كتاب “حدود العالم ” الذي كان يكتب في جوزجان سنة 372 هـ / 982م بمعلومات عظيمة القيمة حول هذا الموضوع، وإن لم تؤيدها حتى ذلك الوقت مصادر أخرى
وهناك شاهد آخر سـاقه معاصر للمقدسي تحدث عن الخانقاوات في عهدها الأول إذ قال إن الخانقاوات تنتمي كاملاً (لفرقة الكرامية الكلامية المتقشفة) وكانت تلك الجماعة في أول أمرها تنتشر في خراسان وما وراء النهروجرجان وطبرستان ثم انتشرت في فلسطين إلى الغرب من بيت المقدس حول قبر ابن كرّام هناك المتوفى سنة 225 هـ (869م) ويبدو أن المقدسي أطلق على أتباع أبن كرّام نسبة خانقائي وقد كانت هذه التسمية مقصورة عليهم دون سواهم. طرأ تطور على الخانقاوات على ما يبدو منذ نهاية القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي فقد ظهر قيمون في نيسابور على الخانقاوات فأصبحت عمائر ترتبط بجماعات من الصوفية تخفي أصولهم . تربط بينهم وبين الشافعية والأشعرية أواصر وثيقة في كثير من الأحيان
لقد كان النصف الأول من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي فترة مهمة في تاريخ الخانقاوات فقد قام الصوفي أبوسعيد بن أبي الخير المتوفي عام 440 هـ (1048م) بوضع نظام لأهل الخانقاوات يتكون من عشرة أحكام ، وحسب رأي من جاء بعد أبي سعيد بان أبا سعيد هو أول من نظم الحياة الجماعية في الخانقاوات وفقاً لنظام أبي سعيد. أما النصف الثاني من القرن الخامس الهجري فقد شهد تحالفاً بين أهل الخانقاوات والسلطة السلجوقية الحاكمة في تلك الفترة وبفضل ذلك التحالف انتشرت الخانقاوات خارج خراسان: في العراق وبلاد الشام ، كما استطاع أصحاب المذهب الحنفي التواؤم والتحالف مع هذه الحركة ، وقد كان انتشار الخانقاه في كثير من الأحيان يرتبط مع السياسات الروحية التي يلتزم بها الحكام وقد سار على درب السلاجقة الأمراء والقادة الذين كانوا يتبعونهم في بلاد الشام في الربع الثالث من القرن الخامس الهجري خاصة في حلب ودمشق. يتحدث ابن جبير في رحلته في نهاية القرن السادس الهجري/ الثاني عشرالميلادي عن الشام في العهد الأيوبي قائلا ً:” إن الرباطات وهي تسمى في بلاد الشام بالخانقاوات كثيرة ويؤمها الصوفية، ويضيف بأنها كانت قصوراً فخمة لأن الصوفية كانوا هم الملوك في تلك البلاد، أما في العراق فقد غلب أسم الرباط على اسم الخانقاه وفي مصر أتبعت خطة السلاجقة في إقامة الخانقاوات فبدأ فعلياً في أيام الأيوبيين بعد زوال الدولة الفاطمية في أواخر القرن السادس الهجري. استمرت الخانقاوات تؤدي وظيفتها وتطورها في العهد المملوكي في مصر والشام إلا أن تلك الوظائف وذلك التطور أخذ في التباطؤ بعد النصف الثاني من القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي وأخذت الخانقاوات تتحول شيئاً فشيئاً إلى مؤسسات حكومية وبذلك أصبحت تابعة للحكومة تُشرف وتنفق عليها، ولم تعد للطرق الصوفية أية صلة بها . إلا أن الصوفية لم يستسلموا وإتجهوا إلى العمائر التي تتمتع باستقلال أكثر ، وفي هذا العصر أصبحت الخانقاوات مختلطة تشمل عدداً من المؤسسات كالمسجد والمدرسة والضريح. واختلط الأمر على المؤرخين حيث لم يستطيعوا في العصور الوسطى الاتفاق على إسم هذه المؤسسة أو تلك نظراً لإختلاط الوظائف.
الخانقاه في العصر العثماني
تغير اسم الخانقاه في العهد العثماني ليصبح “التكية” كما تغيرت الوظيفة الأساسية التي أقيمت من أجلها فجُعلت لطائفة أطلق عليها أسم “الدراويش” التي أدخلت بدعا ً لم تكن مألوفة سابقاً ولا تمت للإسلام بصلة على حد تعبير البعض، خُصت التكايا بالعهد العثماني بأوقاف كثيرة مما جعل الكثير من الناس يعيشون في هذه التكايا والتمتع بما تقدمه الأوقاف من أكل ولباس وخيرات أخرى. وهي في هذا شابهت الرهبانيات التي كانت منتشرة في أوربة، وربما تسربت تلك الأساليب إلى الدولة العثمانية عن طريق جنوب أوربة التي إحتلها العثمانيون لينشروها بدورهم في سائر البلاد المحتلة من قبلهم.
استمرت الخانقاه حية في العصر العثماني إلا أنها ظهرت في صورة التكية العثمانية ولا يزال عدد كبير من هذه المؤسسات حتى يومنا هذا، وإن تقدم دورها الاجتماعي والديني في الوطن العربي بعد أن حلت محلها مؤسسات أخرى.
وهنا نخلص للقول بأن الخانقاوات لم تتجاوز مصر وظلت حبيسة الأملاك السلجوقية الأصلية، في حين أن التكايا التركية العثمانية سارت مع الاحتلالات العثمانية إلى أن بلغت المغرب الأقصى.
وفي الشرق انتشرت الخانقاوات فيما وراء الأملاك التركية السلجوقية حيث بلغت حدود إيران الشرقية وأفغانستان في منتصف القرن السـادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي أمـا في مستهل القرن السابع هجري / الثالث عشر الميلادي، عندما فر السلاطين الغوريون إلى الهند بعد أن طردهم أمراء المماليك، وتلا ذلك هجرة الصوفيين وبالتالي تأسست طريقتان من طرق الدراويش هما: (الجشتية) و(السهروردية) وقد اعتمدتا على شبكة واسعة من الخانقاوات ظهرت في السلطة الجديدة، وفي القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي فرض السلطان محمد إصلاحات على الحركة الصوفية بالهند ، اتخذت تلك الإصلاحات صورة العودة إلى الخانقاوات وتوسيع شبكتها في الهند، وهذا النمط من العمائر الذي جُلب من إيران في القرن السابع الهجري ازدهر ازدهاراً كبيراً لم يشهده أي مكان آخر حتى العصر الحديث وهو يُعد من المظاهر الخاصة للإسلام بالهند.
الوظيفة الاجتماعية للخانقاه
كان للخانقاوات وظيفة اجتماعية إضافة إلى الوظيفة الدينية والعلمية، فهي وإن رَعَت الراغبين في التثقف بالدين الذي كانوا في غالبيتهم من الفقراء والمحتاجين وأبناء السبيل حيث قدمت لهم الزاد الفكري بمفهوم العصر الذي نشأت فيه وقدمت لهم إلى جانب ذلك الغداء والكساء والمأوى، وقد ضمت تلك الخانقاوات جميع أصناف الناس والمحتاجين الذين أقبلوا عليها للتفقه بالدين، كما ضمت أيضاً كثيراً من صغار التجار والفعلة الذين رأوا في اللجوء إلى الخانقاوات الراحة الفكرية والنفسية والجسدية إضافة إلى إبعاد شبح العرى والجوع عنهم وبذلك ساهمت هذه الخوانق في تخفيف وطأة الجوع عن المحتاجين، وفي هذا خدمة للسلطان الذي قد يخطر في باله أن يتفاخر بأنه لا يوجد جائع أو محتاج في سلطنته.
والسؤال الذي يبرز إلى الذهن هو: من أين كانت تنفق تلك الخانقاوات ؟ لقد كانت هناك أوقاف كثيرة من أراضٍ ودور وأشجار أوقفها ذَوو اليسار من أجل بنائها والإنفاق عليها ودفع مرتبات شيوخها والإنفاق على روادها من التلاميذ والمحتاجين وعمل الإضاءة والتدفئة الخ…
لقد شهدت الخوانق في أول عهدها حياة مزدهرة، ساعدت على تثقيف الناس بدينهم، وقضاء حاجاتهم المعيشية، وبث روح الحماس في نفوسهم إبان العهدين النـوري والأيوبي، وكذا العـهد المملوكي للدفاع عن البلاد الإسلامية، جنباً إلى جنب مع المدرسة، نظراً لتعرضها إلى الخطر الخارجي الذي اغتصب البلاد والمقدسات . إلا أن الإهتمام بهذه المنشآت أخـذ في التراجع معا لزمن وسيطر المتولون على أوقافها وعليها فأكلوا وارداتها وعصي البعض في أوقافها، وبالتالي تراجعت خدمات الخوانق فإنفض الناس عنها وتراجعت أعدادهم وكذلك تراجعت الخدمات تدريجيا ً إلى أن تحولت إلى خِرَبْ تؤي اللصوص والحشاشين والخارجين على القانون والمجتمع.
في نهاية العهد العثماني هُجِرت أكثر الخانقاوات بسبب نقص الموارد المالية التي قلت بسبب الإستيلاء على أوقافها، وتشغل بقايا الخانقاوات الفقراء والمتسولون ومن لا يوجد لهم مأوى، إضافة إلى النازحين من الأرياف إلى المدن طلباً للعيش الكريم إلا أن ذلك كان سبباً في تخريب ما بقي منها وذهاب كثير من الزخارف والكتابات والنقوش.
الوظيفة الدينية والعلمية للخانقاه
تعني الخانقاه أو الخانكاه ،كما اسلفنا، بيت أو دار للتعبد والاستغفارأو المكان الذي يشعر فيه الإنسان بضعفه وضآلته أمام الخالق، أُطلقت التسمية في باديء الأمر على المنشأت الدينية المخصصة لانقطاع الصوفية بغرض العبادة وممارسة التصوف أي إقامة الصلوات الخمس وقراءة القرآن وإقامة الذكر والتسبيح والاعتكاف والاستغفار حدث تطور في العصر المملوكي في حركة التصوف وأسلوب العمارة فقد تطور مفهوم الخانقاه حيث أصبحت في عصر المماليك مسجداً وبيتاً للصوفية المجاهدين والشيوخ المحاربين أو مسجداً ومدرسة ومساكن للطلبة الذين يمارسون التصوف
تُدرس في الخانقاه العلوم الدينية كالحديث والشريعة والفقه والتفسير حسب المذاهب الأربعة رغبة في نشر الفكر الديني السني.
وفي العهد العثماني وكما قلنا تغير اسم الخانقاه ليصبح التكية مع الحفاظ على الوظيفة مع بعض الاختلافات الطفيفة فقد حافظت التكية على وظائف الخانقاه في إيجاد سكن للصوفية ومدرسة للتعليم وكانت تأوي الفقراء وتُطعم الدراويش وأبناء السبيل . وتتألف التكية من عدة أجنحة إثنان منها أحدهما للمسجد ذي البناء المستقل عن البناء الثاني المتمثل بالمجمع السكني المتكامل المرافق ، وهناك مرافق أخرى قد تُلحق بالتكية وتحتل غرفاً أو قاعات مستقلة وغرفة للضريح الخاص ببعض الأولياء والأمراء … الخ والمدرسة المُعدة لتدريس الأولاد القرآن الكريم والخط والحساب بالإضافة إلى المكتبة.
أما المؤسسة الثالثة التي تداخلت وظيفتها مع مؤسسة الخانقاه ومؤسسة التكية فهي الرباط فقد كان يطلق على الخانقاه اسم الرباط كما بينا في موضعه، فخانقاه الفرافرة بحلب كان يطلق عليها أحياناً أسم الرباط الناصري، وشاع اسم الرباط للدلالة على الخانقاه في العراق، كما شاع استخدامه في المغرب العربي. ورد ذكر الرباط في القرآن: ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عـدو الله وعدوكم ” (الأنفال 1 – 60)، وورد في آية أخرى: “يا أيها الذين آمنوا إصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون”(آل عمران آية 200)
ارتبط إسم الرباط بالجهاد ضد “أعداء الله وأعداء الإسلام” فقد كانت الرباطات مركزاً للجهاد إلى جانب كونها مكاناً للمواظبة على الطهارة والصلاة ، فمن رحم الرباطات انطلقت (دولة المرابطين المجاهدين في المغرب) التي وجدت نفسها وجهاً لوجه مع الأسبان فخاضت ضدهم حروباً طاحنة استمرت ردحاً طويلاً من الزمن ، ومع زوال خطر الحروب اصبح الرباط موئلاً للمنصرفين إلى ذكر الله وعلى أبناء السبيل على اعتبار أن الإقامة في الرباط تفرض على المقيم فيه طاعة الله يدفع بدعائه البلاء عن العباد والبلاد وعليه فقد حرص الحكام والسلاطين الأثرياء على إقامة الرباطات وإيواء بعض الصوفية بها لعبادة الله والاستعداد للحرب والدفاع عن بلاد الإسلام فتحولت الرباطات من حصون وأبراج مراقبة وإتصال إلى خانقاوات وتكايا وبذلك غلبت عليها صفة الملجأ. تضم الرباطات في تكويناتها أبراجاً ركنية وضلعية وأسواراً محصنة ومداخل محصنة إلى جانب مصلى يضم محراباً وحجرات وميضأة، كل ذلك متسماً بالرصانة والقوة والتقشف فغلب عليها الطابع العسكري ومن أمثلة تلك الرباطات رباط سوسة في تونس.
الخاتــمة
إطلعنا على نشأة الخانقاه وتطورها وعلى طبيعة الوظائف التي قامت بها وعلى المكانة الرفيعة التي كان يتبوأها القائمون عليها خاصة في العصر الأيوبي، فقد ذكر أبن جبير في رحلته عند الحديث عنهم وعن الدور التي كانت تشغلها الخانقاوات فذكر بأنهم الملوك الحقيقيون. لقد أدت الخانقاوات دوراً هاماً في الحياة الدينية والإقتصادية والإجتماعية والعسكرية حيث كانت مراكز جهاد حقيقية تَخرّج فيها كثير من المجاهدين الذين ابلوا بلاء حسناً في الحروب ضد الإفرنج وضد الأسبان وفي المساهمة ضد الغزو الإفرنجي عن طريق المتطوعين الذين كانوا يفدون إلى بلاد الشام.
أن نجمل الفوائد التي قدمتها منشأ الخانقاه ( الرباط ) إلى الحضارة الإسلامية مما يلي:
– لقد ساعدت هذه المنشأة على تعليم القرآن الكريم والسنة والعلوم الأخرى لروادها وبالتالي تعميق الفكر الديني.
– ساهمت في تشجيع المتصوفة والدراويش والمحتاجين في اللجوء إليها لتعلم الإسلام، ودفع شبح الجوع والعرى عن كثير من طبقات الشعب وهو إسهام في حل المشاكل الاجتماعية.
– كانت الخانقاه مدرسة يتعلم فيها الناس روح الجهاد في سبيل الله والتضحية في سبيل الدين والوطن وقد شارك نزلاء الخانقاوات في الحروب ضد الفرنج في بلاد الشام.
– ساهمت الأوقاف الإسلامية التي كانت توقف على الخانقاوات في إنعاش الحياة الإقتصادية في بلاد المسلمين وحل مشاكل اجتماعية كثيرة.
– أنعشت حركة التصوف وازداد عدد المتصوفين واغتنت حركة الثقافة الإسلامية عن طريق الندوات والمناقشات والمجادلات التي يعقدها المتصوفة ورجال الدين بالخانقاوات والمدارس.
ساهمت في تطوير الحركة العلمية عن طريق مساهمتها في تأسيس المدارس وتشجيع طلبة العلم على ريادتها، وبما كان يلقيه الشيوخ من دروس على روادها في علوم اللغة والفقه والحساب إلى جانب علوم الدين والكلام والفلسفة
ختاما ً يمكن القول إن الخانقاه لعبت دوراً إيجابياً في حياة المسلمين وبالتالي في الحضارة الإسلامية، إلا أنها تراجعت في نهاية العهد المملوكي وقل شأنها ومما زاد في تراجعها سيطرة الدولة عليها. وما أن جاء العصر العثماني حتى أصبحت تلك المنشـآت مـأوى للفقـراء واللصوص والحشاشين وغيرهم من الآبقين وقطاع الطرق فتحولت إلى تكايا يلجأ إليها العاطلون عن العمل وغيرهم مما ساعد في تلاشيها وإختفائها وحل محلها مؤسسات جديدة.
المراجع
– محمد كرد علي “خطط الشام”
” الخوانق والروابط…” – د. شوقي شعث
– كامل الغزي” نهر الذهب في تاريخ حلب.”-
– اسعد طلس ” المباني الأثرية والتاريخية بحلب”
– ايوب سعدية ” الخوانق في دمشق الشام”
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
اترك تعليقاً