الدكتور إلياس بك مطر
من تاريخ الصحافة العربية
جاء منكوبو حاصبيا إلى بيروت سنة ١٨٦٠ وهم بحالة يرثى لها ثكلًا ويتمًا عدا الرعب والتعب، وقد بعثرتهم المذبحة وشتتت شملهم بعد أن نهبهم الثوار وصادروهم فلجئوا إلى بيروت عائلاتٍ مفردةً وجماهير، ولكن العناية عوَّضت عليهم أضعاف ما خسروا، فتعلم بعضهم وامتاز بالعلم وأثرى البعض الآخر واشتهر بالثروة وجمع غيرهم بين الأمرَين معًا، وكان بمقدمة المستفيدين علمًا ومالًا الدكتور فارس نمر أحد أصحاب «المقتطف» و«المقطم» في مصر والدكتور إلياس بك مطر منشئ مجلة «الحقوق» التركية العربية في القسطنطينية.
وقد وُلد إلياس في حاصبيا سنة ١٨٥٧ وكان أبوه ديب بن إلياس مطر تاجرًا فيها وأسرته ارثوذكسية متينة الايمان ممارسته وهي اكبر أسر حاصبيا عددًا ومن أهمها مكانةً، وكانت أمه خاتون بنت يوحنا دوماني لبنانيةً من دير القمر وعائلتها معروفةً بالوجاهة والفضل، فلما حدثت مذبحة حاصبيا الطائفية سنة ١٨٦٠ هجر ديب مطر وعائلته تلك الربوع وجاءوا بيروت عن طريق «المختارة» بحماية سعيد بك جنبلاط أحد زعماء الدروز واستقروا هنا، ونشأ منهم الطبيبان الدكتور إلياس والدكتور إبراهيم والصيدليان ملحم وفيليب.
فتلقَّى إلياس مبادئ اللغتين العربية والفرنسية في مدرسة طائفة الروم الأرثوذكس الكبرى «ثلاثة الأقمار» على عهد مديرها إلياس بك حبالين محرر جريدة «لبنان» الرسمية، ثم دخل «المدرسة البطريركية» للروم الكاثوليك وأتقن فيها لغة العرب على سليم بك تقلا مؤسس جريدة «الأهرام» والشيخ ناصيف اليازجي العلامة الشهير، وبرع بلغة الفرنسيس وألمَّ بالتركية، وبعد أن لازمها خمس سنوات انتقل منها إلى «الكلية السورية الإنجيلية» للأميركان حيث درس الكيميا والنبات فالصيدلة، وكان يمارس هذا الفن عند أخيه ملحم في صيدلية «النحلة» الباقية إلى اليوم بعهدة أخيهما فيليب، وكان يأخذ منه أجرة شغله ويدفعها راتبًا للدكتور فارس نمر ليعلمه الكيميا علاوةً على الدروس المفروضة، وألف بأثناء ذلك تاريخًا لسوريا، وكان شديد الرغبة في المطالعة والدرس فلم يصرف ساعةً من فتوته باللهو إلا ما استوجبته الرياضة، وكثيرًا ما اختلى في غرفة وارتقى الفرش في الخزانة كمنبر وأوقف المساند وخطب فيها كأنها بشر وأشبعها نصحًا وإرشادًا أو تأنيبًا وانتقادًا وهو دون الثالثة عشرة من عمره، وقد امتاز بين أترابه بالذكاء والاجتهاد، ولما بلغ العام الثامن عشر مذ أبصر نور الشمس سافر إلى القسطنطينية ليؤدي امتحانًا بالصيدلة وينال شهادةً رسمية، وبعدما أدى الامتحان ونال الشهادة طلب من وزارة المعارف رخصةً بطبع كتابه «تاريخ سوريا» فأجازت له بطبعه، وقابل وزيرها جودت باشا العالم المشهور والد الكاتبة التركية فاطمة علية وقدم له قصيدة؛ فسُرَّ الوزير بجرأة الفتى وأعجب باستعداده، فدعاه إلى تعليم ابنه علي سداد بك ومعاشرته والمعيشة معه في بيته، فأقام عنده معزَّزًا مكرمًا زهاء عشر سنوات درس جيدًا في خلالها لغة الأتراك وأتقنها على ممدوح بك أحد علمائها الذي صار بعد ذلك وزيرًا للداخلية وبقي فيها إلى إعلان الدستور. وقد اختار جودت باشا هذا الأستاذ لمعلم ابنه احترامًا منه لأهليته، ثم أشار عليه بدرس الطب في المكتب السلطاني فدرسه ونال الشهادة الطبية رسميًّا، وعينه ملازمًا في وزارة المعارف وأبقاه عشيرًا لولده ونزيل قصره.
وإذ تعيَّن جودت واليًا للشام جاء معه إلياس وتعيَّن طبيبًا لبلدية دمشق، ولما ترك الولاية عاد وإياه إلى العاصمة فوظفته وزارة المعارف مفتشًا للمدارس العالية وعيَّنته نظارة المكتب الطبي طبيبًا لهذه المدارس، وحالما أنشئ مكتب الحقوق دخل يدرس فيه حقوق الناس وشرائعهم ونظاماتهم مع بقائه في الوظيفتين، وهو من أول صفٍّ نال شهادة هذا المكتب إلا أنه بعد نيله هذه الشهادة ترك طبابة المدارس واشتغل بالمحاماة مدة، وانتظم عضوًا في محكمة التجارة في بك أوغلي (بيرا) وانتقل منها إلى عضوية محكمتَي الحقوق فالجزاء، واتفق حينئذٍ أن تلاميذ المكتب الطبي نفروا من أستاذ حفظ الصحة واستُبدل بغيره وهذا لم يوافقهم، فتعين الدكتور مطر أستاذًا لهم وبقي عضوًا في محكمة الجزاء، فسُرُّوا به كثيرًا وصفقوا لأول درس منه تصفيقًا حادًّا، وإذ بدت مقدرته بهذا العلم عيَّنوه أستاذًا له أيضًا في المكتب الملكي الشاهاني وفوق ذلك عينوه لتدريس المواد الجزائية في مكتب الحقوق؛ وهكذا كان أستاذ ثلاثة مكاتب عالية رسمية في وقت واحد. وظل يأخذ رواتب أربع وظائف معًا نحو عشرين سنة إلى أن أُحيل على التقاعد سنة ١٩٠٩ لداء اعتراه مع حفظ الحق له بالرجوع إليها حالما يشفى.
ومع وفرة أشغاله وتعدد وظائفه قد اعتنى كثيرًا بالعلم والأدب وألَّف اثنين وثلاثين كتابًا طبعها كلها في العربية والتركية منها بلغتنا «تاريخ سوريا» «وشرح مجلة الأحكام»، وأنشأ مجلة «الحقوق» في اللغتَين العربية والتركية بالاشتراك مع المحامي إلياس بك رسام وأصدرها خمس سنوات، وله كتاب في «علم حفظ الصحة» قررت وزارة المعارف تدريسه في المكاتب العالية.
وقد تدرج بالرتب الرسمية إلى أن بلغ الأولى صنف أول ونال الوسامَين العثماني والمجيدي واكتفى بلقب بك، وكان عضوًا في «الجمعية الطبية العثمانية» و«دائرة التأليف والترجمة» في نظارة المعارف، وكانت الدولة تعتمد عليه في درس بعض المسائل وفضِّ بعض المشاكل؛ مما زاد عن واجباته في مأمورياته، وبحكمته جمع ثروةً وافرة وقد ربح من تدريسه الطب وتآليفه فقط نحو خمسة آلاف ليرة، وتزوج آنسةً يونانية وولد ابنتَين وصبيَّين، وكان ضليعًا في العربية والتركية والفرنسية يحسنها كلها تكلُّمًا وكتابة، وملمًّا بالإنكليزية، ومتقنًا التكلم بلغة اليونان.
عاد إلى بيروت في أواخر عام ١٩٠٩ يشكو الزلال داءً به وهو في الثانية والخمسين؛ فما أفاده تغيير الهواء ولا مهارة الأطباء. وفي الرابع والعشرين من شهر آذار سنة ١٩١٠ توفي فجرى له مأتمٌ حافل اشتركت فيه الحكومة رسميًّا وعزَّزته بفرقة من الجند تكريمًا للفقيد، وقد أُقيمت الصلاة عليه في كنيسة القديس ديمتريوس وابنه المطران جراسيموس مسرة متروبوليت بيروت للروم الارثوذكس، ودفن في (مقبرة النبي إلياس بطينا الارثوذكسية) منضمًّا إلى رفات والدَيه، وكان قصير القامة، ممتلئ الجسم، أبيض اللون، أسود العينين.
Beta feature
اترك تعليقاً