الدكتور جميل صليبا رئيس الجامعة السورية
الدكتور جميل صليبا رئيس الجامعة السورية
(1902ـ 1976)
مقدمة لابد منها
لامجال للشك في ان علمنا الدكتور جميل صليبا كان من ابرز رجال العلم والفكر والتربية والفلسفة والادب، ليس في سورية فحسب بل في العالم العربي كله لما امتاز به من سعة الثقافة وغزارة الانتاج، والدقة في البحث، والاخلاص في العمل والصدق في التحري والتدقيق والايمان بالقيم السامية…
كان علمنا رائداً طليعياً فقد اسس عدداً من المعاهد والكليات والمجلات التربوية والادبية في سورية، وكان اول من ادخل تدريس الفلسفة الاسلامية في مناهج التربية في سورية، وعَّرَّفَ الغرب بهذه الفلسفة، وعمل مع ساطع الحصري على تطوير المناهج التربوية ورفع مستواها، كما شغل عدداً من المناصب العلمية والتربوية والادارية في سورية، وكان آخرها عمادة كلية التربية، ورئاسة جامعة دمشق عام 1968.
السيرة الذاتية
جميل بن حبيب بن الخوري داود صليبا”مربٍ وتربوي سوري. ولد في قرية القرعون في محافظة البقاع. كان والده حبيب يعمل متعهداً لأعمال البناء في بلدته والمنطقة البقاعية وهو ابن الخوري داود صليبا وقد نشأت العائلة منذ اجيالها الاولى وجدها الاكبر “صليبا” منذ القرن 16م في كنف الكنيسة الارثوذكسية وخدمتها من خلال رجال الاكليروس والترتيل والتعليم في المدارس والكائنة في اروقة الكنائس اذ كان ممنوعاً على المسيحيين افتتاح مدارس والتعليم خارج الكنائس تحت طائلة اقصى العقوبات لدرجة الاعدام.
تخرج من اسرة الجد المؤسس صليبا عدد كبير من المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات كان منهم مثلثي الرحمات متروبوليت نيويورك السابق فيليبس صليبا ومتروبوليت حماه السابق ايليا صليبا ومتروبوليت اوستراليا السابق بولس صليبا… وعدد لايحصى من الاكليروس..خدموا ابرشيات الكرسي الانطاكي في المشرق والمهجر.
رب سائل يسأل عن السبب في انتقال حبيب صليبا باسرته الى دمشق وليس الى بيروت… واكيد كان السبب في الانتقال هو ضيق الاحوال المعيشية في المنطقة، ونجيب: ان الشائع ان نرى ان اهل سورية هم من ينتقل الى بيروت (تحديداً) منذ مابعد مذبحة 1860 في دمشق، لكن في واقع الامر ومن يتتبع الحركة الديمغرافية منذ ذاك التاريخ، وماقبل الى اواخر القرن المنصرم، ثمة تساوي في حجم الهجرات والهجرات المعاكسة في ارجاء الشام الكبرى (سورية الكبرى قبل سايكس بيكو واقامة دولة لبنان، وشرق الاردن، وتحقيق وعد بلفور)، إذ لم يكن الامر مستغرباً ان ترتحل عائلات محسوبة اليوم لبنانية الى دمشق وبقية المناطق (السورية اليوم) وتقيم فيها وتكتسب جنسيتها السورية، ولنا أعظم مثل في اسرة الشهيد في الكهنة القديس يوسف الدمشقي /وهو ابن ازرع من آل الحداد في القرن 15/ ان ينتقل والده من بيروت الى دمشق ويتزوج منها ويعمل بحرفة تسدية الحرير وابنه يستشهد ذبحاً في فتنة دمشق الطائفية 1860… واسرتنا آل زيتون مثلاً هي اساساً من حوران ازرع ايضاً ولكنها انتشرت منذ القرن 15 اما فرعنا فكان من حاصبيا وراشيا وامتد الى زحلة وبيروت واتى كبير احد الفروع هذه والد جدي نقولا الذي اتى الى دمشق من راشيا ومعه عائلته … وعمل واستقر بدمشق وكانت اسرة زيتون الشامية المتأصلة بجذورها الراشانية ونعتزنحن بانتمائنا السوري الدمشقي وباللبناني…
والكثير الكثير من العائلات المسيحية الحرفية، فعلى ارض الواقع كانت فرص العمل الحرفي عند المسيحيين اكبر في دمشق فمعظم الحرف كانت يمتهنها المسيحيون حصراً ولنا في ذلك اكثر من مقال في موقعنا هنا، بينما تتأصل التجارة في بيروت اكثر وخاصة عند المسيحيين الارثوذكس بعكس الشوام المسيحيين الحرفيين…
ودمشق كبقية المدن السورية كانت تفتح ذراعيها للوافدين بترحاب واحتضان وتنمية فرص العمل، فالاقامة و الاندماج بالمحيط المرحب بكل لاجىء (وحتى الآن) سهلة جداً…ومن كل الارجاء السورية ايضاً ومن (اللاجئين اليونان وبلغاريا والروس نتيجة الحروب والازمات السياسية في بلادهم وخاصة استيلاء الشيوعيين على الحكم وذلك في النصف الاول من القرن 20) وكيليكيا وديار بكر في آسيا الصغرى هاتان الابرشيتان الشهيدتان بالغدر التركي- الكردي ثم بالتطهير العرقي لليونان والسوريين الروم الارثوذكس في كيليكيا وديار بكر مابين 1918-1924 وسبقتهم ارضروم 1910 ثم لواء الاسكندرون السليب وعاصمته انطاكية 1938وحلب وحمص واللاذقية وعكار ووادي النصارى والشمال الشرقي…
في التاريخ الحاضر والمعاصر انتقلت الكثير من العائلات اللبنانية المسيحية الى دمشق خصوصا وبقية المدن السورية عموماً واعرف الكثيرين منهم ومنهم من اسرتنا وانسبائنا أتوا الى دمشق ووادي العجم ( جديدة وقطنا وصحنايا…) من زحلة وراشيا وحاصبيا والبقاع ومشغرة وحتى من بيروت واستقروا وعملوا بأعمالهم الاصلية كالدباغة تربية المواشي والزراعة والنجارة… وحازوا الجنسية السورية اضافة الى الجنسية اللبنانية من المعاصرين الحاليين.
آل صليبا في دمشق
انتقل حبيب والد علمنا بعائلته إلى دمشق في عام 1908. وسكن كالعادة في حي “آيا ماريا” المسيحي( القيمرية) بصبغته المسيحية الارثوذكسية المطلقة، وتابع العمل في مهنته “كمعماري معلم” وكان كما كل آل صليبا يربي اولاده منتمين الى الكنيسة الارثوذكسية، لذلك كان علمنا يقوم بالخدمة طفلاً في المريمية وكنيسة القديس يوحنا الدمشقي بجانب مدرسته الآسية، فأحبه البطريرك غريغوريوس الرابع (1906-1928) وكان والده قد صار من المقربين من غبطته والمجلس الملي الدمشقي نظراً لاندفاعه للخدمة في مرافق البطريركية في كل مجال يُطلب منه وخاصة في تخصصه بالبناء، ووضع اولاده في مدرسة الآسية الارثوذكسية الدمشقية، حيث التحق علمنا بالآسية كأقرانه وكان ذلك في عهد مديرها القدير العلامة الاستاذ عيسى اسكندر المعلوف(1910-1913)، (1)بعد 1913 عاد الى موطنه زحلة، وتولى خلفاً له في عام 1913 الاب اثناسيوس كليلة الدمشقي العائد وقتئذٍ من روسيا والحائز الدكتوراه في اللاهوت من جامعة موسكو، حيث لفت انتباههما (الأول والثاني) وبقية الاساتذة نبوغ علمنا منذ حداثته فاعطياه ثقتهما وافهماه بأنه سيكون له شأن في التربية والتعليم في المستقبل القريب. لذلك كنا نرى علمنا ينهل العلوم والمعارف بشغف وحقق رؤيتهما بهذه المكانة العلمية والفلسفية العظيمة التي حققها وساهم فيها مربياً ومعلماً في التجهيزية الارثوذكسية الدمشقية الآسية.
وفي عام 1914 مع بدء الحرب العالمية الاولى تخرج علمنا الفتى جميل بتفوق من مرحلة الدراسة في الآسية وحاز شهادتها، ثم تابع دراسته الإعدادية في المكتب السلطاني العثماني(مكتب عنبر) /وكانت هي المدرسة الثانوية الوحيدة في سورية آنذاك/ في توجه لاختصاص الإدارة وبقي فيها حتى عام 1918. انتسب بعدها إلى مدرسة التجهيز الرسمية بدمشق لإكمال دراسته الثانوية وتخرج فيها بتفوق عام 1921.
ايفاده الى فرنسا
بنتيجة تفوقه أوفدته وزارة المعارف السورية إلى فرنسا لدراسة الفلسفة في جامعة السوربون، وهناك حصل على إجازة في الآداب (فلسفة) عام 1924 ودبلوم التربية وعلم النفس عام 1925 وإجازة في الحقوق 1926، وتوج دراسته بأطروحة الدكتوراه الموسومة «دراسة في ميتافيزيقية ابن سينا»، وفي عام 1927أنجز أطروحته المكملة «النظرية الاجتماعية في المعرفة» وصار أول من حمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة في الجمهورية السورية.
العودة الى دمشق
فور عودته إلى دمشق عام 1927، عين مدرساً لمادة الفلسفة في مدرسة التجهيز الرسمية بدمشق، وكانت هي التجهيزية الدمشقية الرسمية الوحيدة،( اضافة الى بعض المدارس التجهيزية الخاصة منها الآسية) وكان أول عمل قام به هو تعريب مادة الفلسفة وتدريسها لطلاب التجهيز الرسمية باللغة العربية بدلاً من الفرنسية.
وفي سنة 1930م انتخبه المجلس الملي البطريركي الأرثوذكسي الدمشقي (باقتراح من لجنة المدارس الارثوذكسية بالاجماع) مديراً عامّاً للمدارس التجهيزية الارثوذكسية الشهيرة ب(الآسية) فتولى ادارتها وتدريس مادة الفلسفة وباللغة العربية(2) إضافة إلى عمله في مدرسة التجهيز الرسمية. وحقق القفزة المرجوة في مدارس الآسية من النواحي الادارية والعلمية وتطوير المناهج لكل المراحل من الطفولة الى الشهادة الثانوية، وزادت موارد المدارس لكثرة الطلاب المنتسبين اليها من كل الاديان والطوائف ( انفتاح المدارس الارثوذكسية في الكرسي الانطاكي على الجميع) من الذين تسلموا ارفع المناصب العلمية والوظيفية والسياسية في سورية والذين فاخروا بتخرجهم من الآسية، إضافة لإشرافه على المدارس الدمشقية الارثوذكسية الاخرى (القديس يوحنا الدمشقي الابتدائية، ومدرسة القديس نيقولاوس (داخل الصرح البطريركي)، اضافة الى مدارس الآسية للبنات (قبل ان تُضم الى المدرسة الكبرى) وانتخب عضواً عاملاً في المجلس الملي البطريركي الارثوذكسي الدمشقي بالاجماع، وكان خير مستشار للشؤون التربوية للبطريرك الكسندروس الثالث(1931-1958) المعروف عنه عشقه للتربية والتعليم، وخير دليل للجنة المدارس الارثوذكسية التابعة للمجلس الملي البطريركي الدمشقي.
في التعليم
عُين مديراً للتعليم الثانوي والفني والإكمالي في وزارة المعارف عام 1935، فمديراً لدار المعلمين في السنة 1944م، فرئيساً للجنة التربية والتعليم في 1945م في وزارة المعارف ( التربية) السورية، فأميناً عامّاً لوزارة المعارف في 1949م. ثم انتقل إلى جامعة دمشق، وشغل منصب عميد (كلية التربية) من 1950م إلى 1964م، وعُين في أثناء ذلك نائباً لرئيس الجامعة سنة 1958م ثم اسندت له رئاسة الجامعة اضافة الى عمله التدريسي وانشطته العلمية الاخرى.
الدكتور جميل صليبا المجمعي
انتُخب الدكتور جميل صليبا عضواً عاملاً في المجمع العلمي العربي بدمشق وذلك في 26 كانون الثاني 1942م، وصدر مرسوم تعيينه في 28 شباط 1942م عن رئيس الجمهورية الشيخ محمد تاج الدين الحَسْني.
عُين الدكتور صليبا عضواً في لجنة المجمع الإدارية (مكتب المجمع) في 22 تشرين الثاني 1944م، وجُدّد تعيينه في 20 آب 1950م، وايضاً في 15 كانون الثاني 1955م، ثم في 3 تشرين الثاني 1960م، وظل يشارك في أعمال هذه اللجنة إلى حين إحالته على التقاعد سنة 1964م، فقدَّم استقالته منها في 9 تموز 1964م بسبب ظروف عمله في وظيفته الجديدة في بيروت كمشرف خبير في اليونسكو، وانتقل إلى بيروت، لكنه بقي على صلة بالمجمع إلى حين وفاته.
تجلَّت أعمال صليبا خلال عضويته في المجمع في مجموعة من الدراسات في الفلسفة والمنطق والتربية والنقد وعلم النفس والتراجم وغيرها…وفي تحقيق المخطوطات، ووضع المصطلحات، وتمثيل المجمع في عدد من المؤتمرات والمهرجانات المحلية والاقليمية والدولية.
نشر الدكتور صليبا زهاء 100 مقالة في مجلة المجمع في المدة (1925 – 1977م) فقد كان ينشر في مجلة المجمع قبل أن يكون عضواً فيه. ومن جملة هذه المقالات:
- في الفلسفة: (الاصطلاحات الفلسفية – 36 مقالًا)، و(الطريقة الرمزية في الفلسفة العربية)، و(الغزالي وزعماء الفلسفة)، و(موقفنا من الفلسفة)، و(نظرية الخير عند ابن سينا)، و(معاني العقل في الفلسفة العربية)، و(حدود العقل عند الغزالي)، و(الغزالي وعلم الكلام)، و(بين ابن سينا وابن رشد) و(فكرة الخير عند الفارابي)، و(الإنتاج الفلسفي).
- في البحوث والدراسات: (دراسات عن مقدمة ابن خلدون)، و(تعريب الاصطلاحات العلمية)، و(المدينة العادلة)، و(الحدس والفكر)، و(الاتجاه القومي في التربية العربية).
- في التقارير: (التقرير السنوي عن سير المعارف في العراق)، و(مؤتمر اليونسكو الثالث)، و(المهرجان الألفي لذكرى مولد ابن سينا).
د.صليبا كتابه كتابه من افلاطون الى ابن سينا - في التعريف بالكتب: (تهذيب الأخلاق)، و(فيلسوف العرب والمعلم الثاني)، و(علم الاجتماع الديني)، و(تاريخ حكماء الإسلام)، و(شخصية الحيوان)، و(عمر الخيام)، و(أشباح ورموز)، و(تحت قناطر أرسطو)، و(مستقبل المرأة العربية في البيت والمجتمع).
انشطته العلمية
وكان في عام 1931قد أصدر مع مجموعة من زملائه في دمشق مجلة تربوية باسم «المعلمين والمعلمات» توقفت عن الصدور عام 1935 لأسباب مادية. وفي عام 1933 اشترك مع مجموعة من الأدباء في تأسيس وإصدار مجلة «الثقافة» استمرت في الظهور عاماً واحداً، ثم توقفت لأسباب مادية أيضاً. وفي عام 1936 اشترك مع لفيف من زملائه في إصدار مجلة «التربية والتعليم» ولكنها لم تلبث أن احتجبت بعد سنة للأسباب نفسها. وفي عام 1948 أسس مجلة «المعلم العربي» وهي مجلة لاتزال تصدر عن وزارة التربية حتى اليوم.
أنشطته في الميدان الدولي
مثَّل الدكتور صليبا بلاده سورية في كثير من المؤتمرات والمهرجانات والندوات الدولية في كل من دمشق وبيروت وبغداد والقاهرة والكويت وطهران وموسكو وروما… منها: مؤتمر الأدباء العرب، ومؤتمر المجامع العلمية العربية، والمؤتمرات الثقافية لجامعة الدول العربية، ومؤتمر اليونسكو لدراسة الحاجات التربوية في العالم العربي، وحلقة نظم التعليم في العالم العربي، وحلقة إعداد المربي، ومهرجان المتنبي، ومهرجان المعري، ومهرجان ابن سينا، واحتفال المجمع العلمي السوفييتي بمرور 40 عاماً على تأسيسه.
وألقى سلسلة من المحاضرات في جامعة باريس في موضوع الفلسفة العربية وتطورها.
نُدب الدكتور صليبا كخبير رفيع ليحاضر في المركز الاقليمي لليونسكو في بيروت لتدريب كبار موظفي التربية العرب من عام 1964 الى عام 1970، ومنذ انتخابه عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق عام 1942 كما مر معنا، عمل على إحياء التراث العربي، ووضْعْ المصطلحات العلمية التي تحتاجها اللغة العربية لتستطيع الوفاء بمتطلبات العصر، ثم عضواً في اللجنة الدولية لترجمة الروائع الانسانية التابعة لليونسكو عام 1955
الهيئات العلمية التي انتسب إليها
- عضو المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية
- عضو اللجنة المركزية للجمعية الدولية لعلوم التربية
- ممثل اليونسكو في اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية
حيث انتخب في لجان عربية ودولية عديدة، ومثَّل سورية في مؤتمرات عديدة على المستويين العربي والدولي منها: مؤتمرات اليونسكو كما مر، ومؤتمرات الجامعة الأمريكية في بيروت ومؤتمر أوسلو لتدريس علوم التربية ومؤتمر الأدباء العرب في روما وغيرها.
تقاعده ووفاته
ظل الدكتور صليبا يحمل نفسه فوق طاقتها، ويعيش فكره وعلمه على حساب صحته الى ان اعتلت…واقعده المرض عن متابعة العمل.
أحيل على التقاعد في 1964، فانتقل إلى بيروت ( كما مر) حيث ندبه المركز الإقليمي لليونسكو في بيروت لتدريب كبار موظفي التربية في العالم العربي وبقي حتى1970.
توفي الدكتور جميل صليبا في بيروت في 12 تشرين الاول 1976 وسط موجة من الحزن العارم بصفوف المشتغلين بهذا الفن، واصدقاء الفقيد واقاربه في لبنان…. ثم نقل إلى مثواه الأخير في دمشق، تلك المدينة المضيافة التي احتضنته طفلاً ويافعاً، ورعته شاباً وكهلاً، اهلته ككبير رواد الفلسفة العربية والتربية… فرد لها المعروف بتربية اجيالها، وشهدت ولادة معظم آثاره المتنوعة الغزيرة التي ستبقى ذخراً للأجيال العربية لأنها خلاصة فكره النير، وعلمه الواسع، وآرائه السديدة.
صُلي على الجثمان برئاسة مثلث الرحمات البطريرك الياس الرابع(1970-1979) وبحضور عدد من مطارنة الابرشيات الانطاكية من سورية ولبنان وكل الاكليروس البطريركي الدمشقي، وغصت الكاتدرائية المريمية بدمشق بالمشيعين يتقدمهم وزراء التربية والتعليم العالي والثقافة واعضاء مجمع اللغة العربية والموسوعة العربية في سورية، ووفد من اليونسكو واساتذة المدارس الارثوذكسية الدمشقية، ورفاق دربه في الفكر والادب والفلسفة. والقيت كلمات التأبين بداية من الخطيب المفوه البطريرك الياس الرابع الذي عاشر الفقيد وعاصره في المحافل العلمية وتلته الكلمات الآسفة فكأننا في مباراة بالادب والشعر والعلم بسوق عكاظ حديث شهدت له مريمية الشام… ثم نقل الجثمان بموكب كنسي وشعبي حافل سيراً على الأقدام الى مقبرة القديس جاورجيوس الارثوذكسية في منطقة باب شرقي ودُفن بمدفن العائلة فيها.
ترك علمنا ثروة ضخمة من المؤلفات القيمة التي تتوزع بين تأليف وتحقيق وترجمة، إضافة إلى مقالات عدة للصحف، وبحوث كثيرة للمؤتمرات، وإشرافه على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه.
دوره في التربية وعلم النفس والفلسفة
يعد جميل صليبا من خبراء التربية والتعليم في الوطن العربي، إذ ضمَّن مؤلفاته ومحاضراته الكثير من آرائه الشخصية، التي تنم على تفكير ثاقب في مجال التربية والتعليم، كمعالجة مشكلة الأمية عن طريق التعليم الإلزامي وهو من طرح مبدأ الزامية التعليم في سورية. ومن أجل تحقيق الإلزامية في التعليم، دعا صليبا إلى مجانية التعليم، لأن «المجانية نتيجة ضرورية للإلزامية، لأنه لا يمكن فرض التعليم على جميع أفراد الشعب إلا إذا قُدم إليهم مجاناً، وهذا واجب اجتماعي مطلق ينبغي على الدولة أن تقوم به حفاظاً على المصلحة العامة وتحقيقاً لمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، ليس فقط بين الأغنياء والفقراء، بل بين الرجال والنساء أيضاً».
كما دعا إلى إعداد المناهج إعداداً علمياً وتربوياً، بحيث تعكس الأهداف العامة للمجتمع في الوحدة والتقدم، وتضع طرائق تدريس فعّالة تؤمّن تطبيق المنهاج على أفضل وجه. وهذا يتطلب إعادة تأهيل المعلم في معاهد لإعداد المعلمين.
ويعدّ كتاب جميل صليبا «مستقبل التربية في العالم العربي» من أبرز كتبه في مجال التربية، عالج في جزئه الأول أهداف التربية في الوطن العربي وموقعها بين التربية العربية وبين القومية والعالمية. كما عالج الاتجاهات الثقافية في الشرق العربي، فتكلم على تطور الثقافة وعلى العلاقة بين الثقافة والحضارة ومستقبل الثقافة العربية، وفي الجزء الثاني من الكتاب ذاته، عالج المشكلات التربوية في التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي وإعداد المعلمين. ويعد هذا الكتاب من أهم مراجع التربية في الوطن العربي.
أما في علم النفس، فكان من أبرز ما كتبه د. جميل صليبا في هذا المجال، كتابه القيّم «علم النفس» (1936). كان هذا الكتاب أول كتاب حديث في علم النفس يظهر في سورية، تناول فيه بالبحث المدقق الشامل كل أبحاث علم النفس المتعارف عليها آنذاك. وبذلك شقّ جميل صليبا طريقاً في التأليف السيكولوجي وطرح للتداول عدداً من المفردات لم تكن موجودة باللغة العربية والتي مايزال استعمالها جارياً حتى اليوم بوصفها خير ما يمكن التعبير به عن المفاهيم السيكولوجية العلمية الدقيقة. ويرى بعضهم أن هذا الكتاب كان بداية تاريخ علم النفس الحديث في سورية، على الأقل، وإليه يرجع الفضل في كل تقدم لاحق.
أما في مجال الفلسفة فيعدّ جميل صليبا من أبرز المهتمين بالفلسفة عموماً، والفلسفة العربية خصوصاً، على الصعيدين المحلي و العربي، إذ قدّم خدمات جليلة للفلسفة العربية من خلال اهتمامه بإظهار معالمها وإبراز رجالها وكشف أصالتها وعالميتها وتوضيح مصطلحاتها، فكانت دراسته الأولى حول «فلسفة العالم ابن سينا» التي حصل من خلالها على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون بباريس. وبعد عودته إلى دمشق انكبّ على دراسة أعلام الفلسفة العربية والإسلامية، منهم ابن سينا والفارابي والغزالي وابن رشد والمتنبي والمعرّي.
ولتعزيز علوم الفلسفة، قام جميل صليبا بإدخال مقرر «الفلسفة العربية الإسلامية» على منهاج طلاب المرحلة الثانوية 1933التي عرّفت الأجيال على الفكر الفلسفي العربي وأعلامه. وأصدر كذلك المعجم الفلسفي، الذي وطّد المصطلح الفلسفي، والذي يعدّ قمة أعمال صليبا، وهو أقرب إلى الموسوعات الفلسفية منه إلى مجرد معجم ألفاظ، ويقع المقرر في مجلدين ويحتوي على 1160 مصطلحاً فلسفياً عربياً، وإلى جانب كل مصطلح منها وضع مقابله باللغات الفرنسية والإنكليزية واللاتينية، وقد شرح كل مصطلح مبيّناً أصله اللغوي ومعانيه في المنطق والأخلاق وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال وما وراء الطبيعة والدين وعلم الكلام واللاهوت.
تآليفه
الف علمناخلال حياته التي امتدت 74 عاما 33 كتابا في التربية وعلم النفس والمنطق والادب والنقد والفكر القومي، وقد صدرت هذه الكتب كلها عن مجمع اللغة العربية بدمشق.
منها
1ـ ابن خلدون: درس وتحليل منتخبات 2ـ من أفلاطون إلى ابن سينا 3ـ الإنتاج الفلسفي خلال المائة سنة الأخيرة والفلسفة العامة وفلسفة العوام 4ـ الدراسات الفلسفية 5ـ تاريخ الفلسفة العربية 6ـ المنطق 7ـ علم النفس 8ـ مشاهير الرجال في تاريخ التربية العربية 9ـ الاتجاهات الفكرية في بلاد الشام 10ـ اتجاهات النقد الحديث في سورية.
الا ان اهم عمل توج به مؤلفاته القيمة هو المعجم الفلسفي الذي صدر 1971 (كما قلنا) في مجلدين كبيرين، ويضم حوالي ثلاثة آلاف مصطلح بالعربية والفرنسية والانكليزية شرح كل واحد منها شرحاً وافياً وهذا المعجم اقرب الى الدراسات الموسوعية منه الى قوائم المصطلحات المختصرة ولم يقدم على تأليف هذا المعجم الا بعد ان لمس ان المصطلحات الفلسفية المترجمة عن اللغات الاجنبية، لاتخلو من اللبس والغموض، وكل مؤلف أو مترجم يختار من الاصطلاحات مايرضيه، حتى انك لتجد للمعنى عند بعض المؤلفين الفاظاً مختلفة، او تجد للفظ الواحد عدة معانٍ.
اما آراؤه في التربية فقد بسطها في كتاب “مستقبل التربية في الشرق العربي” الذي ألفه عام 1962 ويرى فيه ان معالم التربية يجب ان تقوم على العروبة وقومية التربية، والاهتمام باللغة العربية الفصحى، والدعوة للوحدة الثقافية، وعلى الديمقراطية وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، وتعميم التعليم، وعلمية التربية والتجريب فيها…
ومن اهداف التربية أيضاً تنشئة افراد اقوياء الأجسام مثقفي العقول، حسني الأخلاق وإعداد أجيال عربية واعية مؤمنة تحب التعاون والتكامل والعدل والنظام والتقدم وتراعي الحق والواجب وتقدس الوطنوتعتز بتراثه، وتؤمن بأصالته، وتخلص لوحدة الامة العربية.
بقي ان نقف وقفة ولو قصيرة عند كتابه” من الخيال الى الحقيقة” فقد بحث في هذا الكتاب مسألة المَثل الأعلى الذي يجب ان يتجلى في الحياة الاجتماعية بثلاث صور هي الخير والجمال والحقيقة، اما الخير فيظهر في القوانين والشرائع والاخلاق، واما الجمال فيتجلى في الفنون الجميلة من شعر وتصوير وموسيقى، واما الحقيقة فتبدو في العلوم النفسية والتاريخ والفلسفة، لأن الهيئة الاجتماعية جسد، والمثل الأعلى روحها.
كان د. صليبا يهدف في كتاباته عامة الى ان يصلح الانسان ويرشده الى طريق الخير فيسير فيها والى طرق الشر فيحيد عنها…
ترجم الكثير من الكتب منها
1ـ “مقالة الطريقة” لديكارت 2ــ “التطور المبدع” لهنري برغسون 3ـ “إعداد المربي” لروجيه كوزينيه 4ـ “أحسن القصص” لمارك كوين وأليكسي تولستوي.
وحقق أيضاً مجموعة من الكتب هي
1ـ المنقذ من الضلال (لأبي حامد الغزالي) 2ـ حي بن يقظان لـ (ابن طفيل) 3ـ الرسالة الجامعية 1 و2 لـ (المجريطي).
أمّا المقالات التي كتبها فهي كثيرة جداً، نشرها في المجلات الآتية
1ـ مجلّة الحديث الحلبية 2ـ مجلّة الطليعة الدمشقية 3ـ مجلّة الطريق البيروتية 4ـ مجلة المعلم العربي 5ـ مجلّة العربي 6ـ مجلّة المعرفة السورية 7ـ مجلّة الايمان الدمشقية 8ـ مجلّة المجمع العلمي العربي 9ـ مجلّة كلية التربية.
الخاتمة
هذا غيض من فيض من حياة العلامة جميل صليبا وأعماله. لقد عاش الدكتور جميل صليبا مع ربه بايمان مسيحي ارثوذكسي نقي وقد طوع الفلسفة ايمانياً وعاش بها حياة ايمان وممارسة للصلوات سواء في الكنائس او في خلواته…وبلاشك ان حالة الخير والمثل العليا التي جسدها في تآليفه عاشها عملياً مع السيد المسيح له المجد من خلال الكتاب المقدس بعهديه وبالاخص العهد الجديد فيسوع كان اكبر من اكبر فيلسوف من خلال الامثال الواردة عن لسانه في الانجيل المقدس ومن خلال التطويبات على الجبل ومعجزاته وماقاله فيها، ومن عاصردكتور جميل كان يراه دوماً مصلياً في كنيسة المريمية وانا وقتها عرفته في بدء الشباب عرفته من ذلك الارتياد المستمرللكنيسة والورع في الصلاة من رجل متقدم في العمر والهيبة، وكنت اشعر بالارتجاف كلما وقعت عيني على عينه فلا اتردد من الانحناء والتحية له، ويرد بكل مودة علي تحيتي الخجولة امام عظمته فهو الدكتور صليبا الشهير، ولكنه الدمث واللطيف الذي لاتفارق الابتسامة ثغره وكان المؤمن المصلي بايمان حقيقي…
عاش حياة مليئة بالعمل، غنية بالنشاط المتواصل والعطاء الدائم مقتدياً بقول الرب له المجد” مَن عَمِلَ وعَّلَّمَ دُعيَ عظيماً في ملكوت السماوات”
كانت لا تلهيه مباهج الدنيا ومفاتها عن الانصراف للبحث والتأليف والابداع، يصل نهاره بليله وليله بنهاره ليقرأ ويكتب ويترجم ويحقق ويبحث في العلم والفلسفة والادب والنقد والتربية وعلم النفس بمنتهى التجرد والموضوعية والنزاهة، فقد وهب نفسه للعلم وتفانى في تحصيله، حتى غدا علماً بارزاً من اعلام النهضة الفكرية في سورية وسائر الوطن العري ورائداً عظيماً من رواد الفكر الحر، وداعية الى التجديد والتقدم، اذ انه كان يؤمن بأن لاسبيل الى الاصلاح الا عن طريق البحث العلمي.
لقد زرع في جميع من تتلمذ عليه في الفترة من مطلع الثلاثينات الى منتصف السبعينات حب البحث والشوق الى تحصيل المعرفة ومنهج التثقيف الذاتي.
يكفي الوطن فخراً بهذا العالم الفيلسوف والمربي والعروبي الاصيل والمؤمن الفذ بالله الخالق والممارس لايمانه المسيحي بنقاء ملفت ويكفيه هو فخراً انه كان من اوائل من نقلوا الاجيال الجديدة من عالم التقليد والجمود الى عالم المعاصرة والاخلاق.
لقد احب كأبيه دمشق وبرع فيها واخلص لها…رحمات الله عليه…
حواشي البحث
1- جوزيف زيتون، كتابنا الآسية مسيرة قرن ونصف 1840-1990
2- المصدر ذاته
من المراجع
– د.جميل صليبا موقع الموسوعة العربية
– د.جميل صليبا /موقع مجمع اللغة العربية
ـ حسان بدر الدين الكاتب، الموسوعة الموجزة (مطابع ألف باء، دمشق1973).
ـ عمر رضا كحالة، المستدرك على معجم المؤلفين (مؤسسة الرسالة، بيروت 1985).
ـ جميل صليبا، وسائل تخرج المعلمين، مؤتمر الثقافة العربي الأول (جامعة الدول العربية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1948).
ـ عاقل فاخر، ما أسهم به المؤلفون العرب في المائة سنة الأخيرة في علم النفس (هيئة الدراسات العربية،الجامعة الأمريكية، بيروت 1960).
– عيسى فتوح، شموع في الضباب ( المنارة بيروت ودمشق 1992)
ـ جميل صليبا، المعجم الفلسفي (دار الكتاب اللبناني، بيروت 1971).
-جوزيف زيتون الآسية مسيرة قرن ونصف 1840-1990 البطريركية 1992
-التجربة الشخصية
Beta feature
اترك تعليقاً