الدكتور ميخائيل مشاقة
الدكتور ميخائيل مشاقة
عبقري من العباقرة الأعلام في شتى المجالات، خصه الله بالعبقرية لينعم المجتمع بمواهبه، فان كان الفضل للقرية التي ولد فيها، فالفضل ايضاً للمدينة التي ترعرع فيها ومنها اكتسب نبوغه وعبقريته، وفي قولنا هنا قياس على ان ليست الأم من تلد اولادها فقط بل الأم التي هي تربيهم.
البيئة الاجتماعية الدمشقية التي صاغت عبقرية الأعلام من ابنائها صاغت عبقرية علمنا الوافد اليها الدكتور ميخائيل مشاقة…
الأسرة
مؤسس الأسرة هو جده يوسف بتراكي يوناني من اعيان مدينة كورفو اليونانية، التي كانت تحت حكم مشيخة البندقية اما لقبه (مشاقة – الخواجه مشاقة) فهو لاتجاره بلحاء او قشر القنب والكتان، بمركب له كان يقصد به الساحل السوري والمصري وخاصة ميناء طرابلس، كان يشتري المشاقة (1) للتجارة بها الى معامل المراكب في بلاده وبسبب هذه التجارة لقبوه بالخواجه مشاقة.
وقد استوطن أخيراً في مدينة طرابلس وتزوج بها بفتاة من قرية انفه من عائلة قلفاط المشهورة، ثم ولد له ولد واحد اسمه جرجس من زوجته المذكورة، ثم ادركه العجز وتوفيت زوجته ، وبعد مدة قصيرة توفي هو ايضاً. حينئذ كره جرجس البقاء في طرابلس وانتقل الى صيدا السنة 1752 بعد ان باع مركب أبيه وجمع امواله وكانت وافرة، فتعاطى تجارة التبغ مع مصر، وبسبب من ذلك توطدت صداقة مع مشايخ المتاولة حكام صور وبلاد بشارة المنتجة للتبغ (2).
اراد جرجس مشاقة الزواج فاختار ابنة من اسرة منسى اصلهم من اقرباء امه في انفة، وعندما تقدم لطلبها اجابوه بأنهم صاروا كاثوليك وبذلك لايزوجون الروم، فطلب منهم معرفة من هم الكاثوليك، فأخذوه الى دير المخلص (3) هناك بالغوا في اكرامه فأقام عندهم عدة ايام وحضر صلواتهم فوجدها كصلوات كنيسته الأرثوذكسية ويستعملون ايضاً اللغة اليونانية وقيافتهم الكهنوتية كقيافة الكهنة الأرثوذكس، فقال اذن الكاثوليك هم الروم لماذا تغيرون اسمكم فهذا هو ذات مذهبي، فحينئذ اشهر نفسه بمذهب الروم الكاثوليك، وتزوج اخت الحاج موسى منسى وحيث نظر فوجد ان الدير يحتاج الى اشغال كثيرة فأكملها واحضر قبة واعمدة رخام من اوروبة للمائدة واحدث واجهة للكنيسة وايقونسطاس وابواب الأيقونسطاس الثلاثة واوقف للدير املاك كثيرة اشتراها من ماله منها قرية الوردية في جبل الريحان واربعة بيوت في صيدا وغيرذلك، وكانت مساعداته للرهبنة مستمرة وبكثافة قابلته هي بترتيب قداس الهي عن نفسهالى الأبد، وباقامة قداس احتفالي بعيد شفيعه القديس جاورجيوس ونقشوا اسمه منقوشاًفي المرمر” لقد احب جمال مجدك جرجس مشاقة عبدك سنة 1757″ (4) السيرة الذاتية “منتخبات من الجواب على اقتراح الأصحاب.”
بنتيجة تشويق اصدقاءه حكام صور انتقل للاقامة فيها سيما وانها اوفق لأشغاله م اهالي بلاد بشارة لقربها وكثرة حاصلاتها من التبغ والحبوب والأخشاب، وكانت صور وقتئذ لا وجود مسيحي فيها، فحضر اليها ومعه اقرباؤه بيت منسى وغيرهم. وعندما صار فيها عدد معقول من السكان المسيحيين وردوا من امكنة أخرى وكانوا جميعهم من الروم الكاثوليك. عندها بنى كنيسة لهم على اسم القديس توما الرسول، وبنى بها مسجداً للسنة وكان فيها فقط مسجد للشيعة والكنيسة والمسجد من جيبه الخاص، فاستدعاه وزير صيدا وسأله عن سبب قيامه ببناء مسجد، فأخبره اني رأيت المسلمين الذين يفدون الى صور لأعمال لهم او عابري السبيل او الدراويش لا يوجد لهم جامع للصلاة ولا مكان يؤويهم،” وان عدم وجود جامع في المدينة هو من الأمور الجالبة المذمة لأهاليها عند الناس والباري تعالى لاسمح بقصور كهذا. وحال كوني توطنت البلدة المذكورة فلابد من جهدي في كل عمل يعود لعمارها وراحة من يأتي اليها.وهذا يعد من محاسن
الأعمال في ايام دولتكم. فالوزير انحظ ن هذا الجواب والبس جرجس مشاقة فروا من جلد السمور. وقال لهبارك الله في عملك، لكن يلزم ان تترك بناء المئذنة لي لكي ابنيها من مالي وتكون لي شركة في هذا العمل الخيري وهكذا تم عمار الجامع والكنيسة.” (5)
شرع جرجس في توسيع بيته في صور مع بناء بيت ثان في بلدة قانا التي بعد ذلك توفي ودفن فيهان وجدد في صور عدة دكاكين ومخازن، وصار من وجهاء القوم المعتبرين عند جميع سكان المنطقة ومشايخها، ورزقه الله بولدين ذكور ابراهيم وبشارة الذي هو جد عائلة مشاقة المقيمة في الاسكندرية، اما ابراهيم فهو جد علمنا ميخائيل وقد فاق على ابيه بحسن الادارة والتدبير وكان معدوداً بين الرجال الأغنياء وتزوج ابنة من مدينة عكا رزقه الله منها بأولاد، عاش ابراهيم في زمن احمد باشا الجزار والي عكا وقد نجاه الله من اذيته وشروره، وكان قد اقطعه بلاد بشارة والشقيف ليجبي الضرائب في هاتين المقاطعتين ويقدمها في حينه، ثم اراد ان يبتز المال منه ابتزازاً فتوفي ابراهيم مغموماً، وقد اراد تزويج ابنه جرجس وذلك في السنة التي رقد فيها، وكان له في صور شركة تجارية مع جرجس سرور الدمشقي فتزوج جرجس مشاقة من شقيقة جرجس سرور ابنة حنا عنحوري من اغنياء دمشق، بعد وفاة الأب ابراهيم مشاقة استقدم الجزار ابنه جرجس وحجز عليه وطلب منه مالاً كثيراً وكان هذا بنميمة من احد كارهيه، وقد اوغر صدر الجزار عليه فسلبه كل امواله وممتلكاته ومصاغ العائلة، ولما افلس تماماً وصارت عليه ديون باهظة لاصدقاء له امر
الجزارباطلاق سراحه. غادر جرجس مدينة صور والتجأ الى أقارب زوجته في دمياط الى آل العنحوري واطلعهم على ماحل بهن فخشي العنحوريون غضب الجزار وبقية الولاة وطمعهم واشاروا على جرجس بالعودة الى برالشام والالتجاء الى دير القمر الى ب الأمير بشير الشهابي الثاني الكبير وكان ملاذ الحرية الوحيد آنئذ في جميع انحاء السلطنة العثمانية.
فقصد جرجس ير القمر، وأقام فيها باسم مستعار، وتعلم الصياغة واشتغل بهان ثم علم الأمير بقدومه فعطف عليه وجعله أحد كبار كتابه لا بل كاتبه الخصوصي، فاستقدم جرجس عائلته من صور واسكنها دير القمر، وصادف ان غضب الجزار على الأمير بشير متهماً اياه بالتواطؤ مع الحملة الفرنسية 1799-1802بقيادة بونابرت واضطره للنزوح عن جبل لبنان، فنقل جرجس عائلته من دير القمر الى رشميا وسار بمعية الأمير، وقد سعى الأمير بشير لدى قائد الأسطول البريطاني الذي كان يحاصر الحملة الفرنسية واخبره بصادق اخلاصه للدولة العثمانية فعفا عنه السلطان العثماني بمساعي القائد الأنكليزي وامر الجزار بعدم التعرض له، فأصدر الأخير فرماناً يسمح للأمير بشير بالعودة الى دير القمر فعاد وعاد معه جرجس مشاقةكاتباً واميناً على الصندوق.
ميخائيل مشاقة
لدى عودة جرجس مشاقة الى دير القمر كانت زوجته قد ولدت له ابناً في 20 آذار 1800 في رشميا هو علمنا ميخائيل مشاقة ، نشأ ميخائيل في دير القمر وترعرع فيهان وتعلم الكتابة والقراءة ومبادىء علم الحساب على والده وكان نبيهاً ذكياً يجالس كبار القوم ويستفيد من أحاديثهم، فسمع من يهود دير القمر انهم يعرفون اوان الخسوف والكسف قبل حدوثهما، فاتصل بأحدهم اسحق الاذرعي وطلب ان يعلمه الحساب العالي لقاء مبلغ وافر من المال. ولم يدر ميخائيل آنئذ ان الحاخامين كانوا ينقلون اخبار الخسوف والكسوف عن كتب الألمناك التي كانت تأتيهم من اوربة وان اسحق وعد بما يجهل فلم يأخذ عن هذا الحاخام سوى درس في المماطلة والتسويف، ثم طلب اليه والده أن يتصل بالقس كيرللس فرح أحد رهبان الروم الكاثوليك في دير القمر لقضاء حاجة معينة، فدخل ميخائيل على هذا القس فوجده يطالع كتاباً مخطوطاً فيه جداول وارقام واشارات الى الشمس والقمر. ففرح وقال للقس: ماهذا الكتاب.؟
فأجابه بوجه عابس: هذا شيء عميق لاتقدر على فهمه. هو الكيكليس نعرف بواسطته وقوع الأعياد وحساب الأشهر والسنين الرومية والهلالية. فرجاه ميخائيل ان يسمح له باستنساخه ففعل. وعندما تم له ذلك اكب على درسه فاكتشف امرين اثنين، اولهما: ان هذا القس كان ضعيف القراءة يلفظ الكلمات احياناً خلاف منطوقها، والثاني ان الكتاب كان خالياً من البحث في الكسوف والخسوف.
ولدى مجيء خاله بطرس عنحوري من دمياط لاحظ ان خاله يعرف هذه العلوم فتعلمها عليه ويقول:” ففي ثاني يوم ابتدأت بدرس المأخذ الحديث. وفي مدة شهرين خلصت منه مع عدم تعطيلي عن الشغل في صناعتي. فأخذت في كل يوم من ايام الشغل درسين صباحاً ومساء وايام البطالة بتمامها. ولم يحضر وقت سفر خالي حتى تمكنت من صناعة القويم وفهمت ماتيسر لي من علم الهيئة والطبيعة.”
وفي السنة 1817 ارسل جرجس مشاقة ابنه ميخائيل الى دمياط ليلتحق بأخيه اندراوس ويشتغل معه في مخزن عمه. فقام ميخائيل الى دمياط، وعمل في مخزن عمه وتعاطى التجارة لحسابه بمبلغ صغير من المال. وبعد سنة بدأ يطالع سياحة المعلم فولني الفرنسي وكان قد عربها باسيل فخر قنصل فرنسا في دمياط.” فتبلبلت افكاره في امور الديانة، ورأى الكثيرين من اهالي دمياط مسلمين ونصارى مبلبلي الأفكار أكثر منه.” في اثناء قامته في دمياط ورغم عدم ارتياحه هناك درس الموسيقا فدرسها على ابرع الموسيقيين واتقنها، ثم الف فيما بعد رسالة في اصولها اصبحت افضل مماصنف من نوعها بالعربية (6)
أقام في دمياط مدة ثلاث سنوات، ثم عاد الى دير القمر في السنة 1820 تعاطى علمنا نسج الأقمشة الحريرية، وثق به الأمير بشير فانتدبه للقيام بوظيفة مدبر عند امراء حاصبيا فأكرموه ووهبوهم جزءاً من عقاراتهم في الحولة ثم اعطوه قرية في منطقة القنيطرة. فترك ميخائيل نسج الحرير وبدأ يعمل في السياسة والزراعة…
من مزايه التي حُبي بها انه كانلم يكن يرى شيئاً او يسمع به الا احب استطلاعه ومعرفته بالعمق لذا تعلم الجبر والمقابلة لمجرد عثوره على كراس للشيخ بهاء الدين العاملي عنوانه:” خلاصة الحساب” وعندما اصيب بداء الملاريا في السنة 1828 وشفي منه عكف على مطالعة الكتب الطبية، وما ان فعل ذلك الا واحس بعجزه عن معرفة كل شيء تفهم بعض ا اصطلاحاتها، فاستعان على ذلك ببعض الأطباء. ثم استدعى الشهابي الكبير طبيباً ايطالياً شهيراً هوالدكتور جوزيف كارلياني لمعالجة بعض الأمراء، فجاء برفقة هذا الطبيب طبيب آخر هو صهره زوج ابنته، فحث ميخائيل الامراء على ابقاء الصهر في دير القمر، فأجابوا سؤاله وأعطوا الطبيب الشاب بيتاً لسكناه، فأحضر عائلته وأقام في دير القمر مدة درس عليه ميخائيل اموراً واموراً وبعد سفر هذا الطبيب الى الشام، أخذ ميخائيل يمارس الطب مجاناً، ثم عاد الى حاصبيا للقيام بأعباء الوظيفة لدى امرائها.
جاءت الحملة المصرية الى بلاد الشام وحاصرت عكا عام 1831 فهرع ميخائيل
مشاقة الى الأمير بشير الشهابي يفاوضه في موقف امراء حاصبيا وكان يرى وجوب التعاون مع محمد علي باشا وابنه ابراهيم، وبالفعل فان الأمير بشير ساند ابراهيم في فتح دمشق وانضم اليهما أمير حاصبيا سعد الدين وتابعا فتح المناطق وصولاً الى حمص ففتحوها. وكان معهم علمنا ميخائيل، ورافق الطبيب الفرنسي المشهور كلوت باشا، فذهب مع الحملة الى حمص ودمشق يطبب جرحاها ويعتني بمصابي الطاعون الذي فتك بالحملة المصرية.
رأى الأمير سعد الدين وجوب تعيين وكيل له في دمشق يتابع دعاويه امام حكوتها الجديدة المعينة من قبل ابراهيم باشا، فعين ميخائيل مشاقة ممثلاً له فيها.
فاشترى علمنا ميخائيل منزلاً له في دمشق وأقام فيها.
دمشق وطنه
كانت دمشق ومازالت قرة عيون اللبنانيين النازحين اليها في كل الأحوال السلمية والملمات وقد اقاموا لهم احياء خاصة بهم في منطقة الميدان كحي الرياشنة، والتيامنة… عدا من سكن داخل دمشق القديمة، قبل توسعها خارج اسوارها وخاصة منطقة باب توما حي المسيحيين، ولا يزال الكثيرون مقيمين فيها مع احتفاظهم بجنسيتهم اللبنانية، كانوا ينعمون بظلالها فتتقد قرائحهم ويرونها مرتعاً خصباً لنضوج مواهبهم وميداناً واسعاً لاستثمار نبوغهم.
جاء ميخائيل علمنا دمشق 1831 كما اسلفنا اعلاه وكيلاً للأمير سعد الدين وأقام فيها، قامت الحملة المصرية بإعادة تعمير البلاد واحياء القرى و استصلاح الأراضي وادخال انظمة حديثة في استصلاح وري الأراضي وزراعتها، تعهد ميخائيل بدوره إعادة إعمار قرية ايب في اللجاه والخريبة والمنصورة في الحولة والتزم الضرائب فيها. ولما اندلعت الثورة ضد الوجود المصري في بلاد الشام سطا الثوارعلى قراه فخسر اموالاً كثيرة ، فاشتغل بالطب ، وكان يتعلم من كل طبيب أجنبي انواع
الأمراض والعلاجات في زمن كانت فيه البلاد السورية محرومة من المدارس العالية، وقد اقامته الحكومة العثمانية في دمشق وواليها رئيساً للأطباء، ومع انهماكه بأعماله فقد حصل علم المنطق فبرع فيه وفاق، وكان في الوقت ذاته ترجماناً لقنصل دولة انكلترا وكان هو من الفريق الطبي الذي كشف على عظام البادري الذبيح توما بيد اليهود (انظره في موقعنا هنا بعنوان الذبائح التلمودية).
وكما اسلفنا كان علمنا قد التحق بابراهيم باشا الذي كان يحاصر عكا، ورافق الطبيب الفرنسي المشهور كلوت باشا رئيس اطباء مصر ورافقه، فذهب مع الحملة الى حمص ودمشق يطبب جرحاها ويعتني بمصابي الطاعون الذي فتك بالحملة المصرية. وقد أحبه كلوت باشا واهداه جميع الكتب الطبية العربية التي كانت متداولة في مصر مع ادوات الجراحة، ثم جعله رئيس اطباء دمشق. فكثر احتكاك ميخائيل بأعيانها وبقناصل الدول فيها.
وقد استمرت هذه الحملة تسع سنوات حتى 1840 بقي فيها حتى جلاء المصريين.
وفي عام 1845 التحق طالباً في المدرسة الطبية المصرية المعروفة (القصر العيني) في القاهرة وواظب على دروسها ومستشفياتها بمساعدة خاله بطرس عنحوري حتى نال لقب دكتور وكلوت باشا الذي سمح له بمشاهدة اعمال التشريح والجراحة، واخضعه لامتحان من قبل لجنة من ثلاثة اطباء خريجي باريسفوافقوا على منحه شهادة الطب وكان ذلك عام 1846 فعاد من مصر الى دمشق ومارس مهنة الطب فيها وادى للانسانية خدمات جلى فيها. ولكن مدخوله من الطب لم يعد يكفيه اضافة الى مدخوله من اراضي الحولة بعد ان خرب معظمها في الثورة على المصريين اواخر عهدهم، فعاد الى ممارسة الأعمال التجارية ووكالات الأعمال.
اعتناقه البروتستانتية
كان من الذين توطدت علاقته بهم المرسل الأميركي عالي سميث، فطلب مساعدته بعد ضيق احواله المادية في رسالة ارسلها له بتاريخ تشرين الثاني 1844 ليتوسط له لدى القناصل او لدى الحكام العثمايين وعند التجار الأوربيين الأمر الذي يدل على قوة المرسل الأميركي المذكور في كل المجالات وعند الجميع.
وكان البطريرك الأنطاكي الأرثوذكسي متوديوس (1825-1850) قد اشتكى لأولي الأمر، ولوالي دمشق على الأمير خليل (درزي) في حاصبيا الذي سهل عمل المرسلين البروتستانت في اقتناص الرعية الأرثوذكسية مطالباً بعزله، بعد ان انحاز قسم كبير منهم الى البروتستانتية وخاصة الفقراء ومعدومي الدخل، وكان البطريرك متوديوس قد أوفد الخوري يوسف مهنا الحداد (القديس يوسف الدمشقي) وقتئذ الى حاصبيا لارجاع الناس الى الحضن الأرثوذكسي(7)، فارسلت الدولة لجنة للتحقيق ضمت مفتي دمشق الشافعي وبعض المتنفذين في بلاط والي دمشق نظراً لمعارضة قنصل اميركا الداعم للمرسلين البروتستانت وضد عزل الأمير خليل. وتدعم الموقف ضد العزل بنتيجة صداقة علمنا ميخائيل ( الذي ل يكن بعد قد ترك مذهب الروم الكاثوليك ) مع المعلم بطرس البستاني الذي كان قد اعتنق المذهب الانجيلي، وبدأ العمل لأجله وللتبشير المكثف به، وتكررت زياراته الى حاصبيا لمتابعة التبشير وتحصين الطائفة الجديدة، وله في ذلك رسالات طويلة لاتزال محفوظة لدى المرسلين الأميركان في بيروت. ويبدو انه اصطدم جدلياً ان صح التعبير مع القديس يوسف
الدمشقي في حاصبيا الذي كان يجاهد لاعادتهم الى الحظيرة الأرثوذكسية. وجدير ذكره ان المرسلين البروتستانت وفي مقدمهم عالي سميث استمالوا عدداً من الشخصيات العلمية المتنفذه الى المذهب البروتستانتي امثال بطرس البستاني واليازجي… وفي سيرة القديس يوسف الدمشقي انه انتصر واعاد العديد من العائلات الى الرعية بعد ان بقي عدة اشهر في حاصبيا، كما انتصر على اسقفهم في دمشق وافحمه في جدال علني اضطر الأسقف الى الاذعان بصحة العقيدة الأرثوذكسية.
بيد ان ميخائيل مشاقة لم يقدم على اعتناق المذهب البروتستانتي، وترك الكثلكة قبل الثامنة والأربعين من عمره، ولكنه كان مبلبل الفكر من حين عودته من دمياط عن الايمان، وصار يقرأ للفلاسفة الوجوديين فولتير وروس… حيث كان يقول: “… فكيف بهؤلاء الفلاسفة يسمحوا بهلاك انفسهم الأبدي، ويرفضوا جميع الأديان فلو كانواوجدوا دليلاً على صحة أحدها لتمسكوا به…” وفي الوقت عينه اتخذ من نيوتون المؤمن جداً مثالاً مضاداً للملحدين، وفي هذه الأثناء عثر على كتاب طبع في مالطة معَّرَبْ عن الانكليزية لواضعه المعلم البروتستانتي كيث الانكليزي بعنوان:” البينة الجلية على صحة الديانة النصرانية” فوجده يخالف ما تعلمه كنيسته الكاثوليكية على قوله، حيث يقول:” … ولم انته من مطالعته والتروي من براهينه حتى رسخ في ذهني صدق الديانة المسيحية فكان تركي لكنيستي سنة 1848 وذلك بعد تكرار مطالعة الكتب المقدسة مراراً وثلاثة كتب للتقليديين رداً على معتقدات البروتستانتيين وكتب عدة مضادة من البروتستانتيين، حينئذ اشهرت نفسي بالمذهب الانجيلي…”
وفي سنة 1859 عُيِّنَ نائباً لقنصل الولايات المتحدة في دمشق فقام بأعباء وظيفته خير قيام ثم استقال وعكف على التأليف حتى توفاه الله في دمشق سنة 1888.
الحالة الاجتماعية في دمشق
الحالة الاجتماعية في عهده لقد كان من ابرز العناصر النبيلة لعمل الاصلاح والسلام تشهد مواقفه الوطنية واخلاصه للوطن في عهد اضطرب بالفوضى، فضعف الأتراك في الادارة، وقيام الأجانب بالدس والتفرقة بين الطوائف كل ذلك من كان من جملة العوامل التي أدت الى وقوع المذبحة الطائفية بحق المسيحيين عام 1860 وراح ضحيتها معظم مسيحيي دمشق، والقديس يوسف الدمشقي ورفقته.
كان الدكتور مشاقة حبيباً لجميع الولاة والرؤساء والأعيان وشيوخ الكار والتجار وطبقات الحرف واهل العلم والفضل من سائر الملل.
ولما حضر المصلح العثماني الوالي فؤاد باشا الذي اوفدته الحكومة مفوضاً بضبط الأمور في دمشق، ووضع تقريره وزودته بصلاحيات مطلقة بفضل حكمتة لإعادة الأمن الى نصابها أبلغه علمنا ميخائيل بأن سياسة الدولة العثمانية الراهنة هي السبب وهي العامل الطبيعي في هذه الكارثة التي قضت على ثلاثة ارباع المسيحيين الدمشقيين.
كانت بينه وبين العلامة مفتي دمشق محمود حمزة مودة عظيمة ومذاكرات في علم المنطق والرياضيات، وكذلك بينه وبين الأمير الجزائري عبد القادر الجزائري الذي حماه من اعتداء الرعاع وابو طاقية الذي اصابه بجوح خطرة بمنجله الضخم وساعده الخشبي الطويل واراد ان يحز به رقبته وكان قد خرج لتوه من بيته في باب توما ، وكان ميخائيل بالأساس مصاباً وكان قنصل بريطانيا وفي الوقت نائب قنصل الولايات المتحدة في دمشق.
علمه ومؤلفاته الدينية والمذهبية
دافع بشدة عن البروتستانتية التي اعتنقها ورد فيها على الكثيرين من الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك كما في كتابه:” الدر المنظوم في الرد على السيد البطريرك مكسيموس مظلوم” وهنا يرد على ما كتبه البطريرك الكاثوليكي مكسيموس مظلوم بحق العقيدة البروتستانتية، وكتب غيرها رد فيها على كتابات من ارثوذكس ضد تعاليم الكنيسة البروتستانتية منها “رسالة الدليل الى طاعة الانجيل” سنة 1848، وجواب لصديق ارثوذكسي حمصي لاقناعه بصحة المذهب الانجيلي السنة 1852، و”كشف النقاب عن وجه المسيح الكذاب” سنة 1860، و”البراهين الانجيلية” سنة 1863.
العلوم الأخرى
برع علمنا في الطب والرياضيات والفلك والموسيقى وعلم الهيئة بقسميه النظري والعملي والجغرافيا بأقسامها، وله مؤلفات عديدة في العلم اهمها: “الرسالة في الحسان الموسيقية العربية” وهي بيت القصيد في هذالبحث الفني، و”التحفة المشاقية في علم الحساب والمعين على حساب الأيام والأشهر والسنين” ، و”الجواب على اقتراح الأحباب”، وكتاب في الدروز ارسل مخطوطاً الى المانيا وهو مفقود من سورية، وكتاب في آثار سورية القديمة، وكتاب في تقاليد اليهود وعوائدهم، ورسالة في “السعد والنحس والعين” و”جواب لصديق” و”كشف النقاب” و”تبرئة المتهم” و”رد المنشور” و”البرهان على ضعف الانسان”، و”الرد على النصيري المرتد” و “الرد على ابن الحموية” و”جغرافية دمشق ومتعلقاتها” و”رسالة في مساحة المنحرفات” و”رسالة في النسبة الهندسية” سهل بها كثيراً من المسائل الجبرية، وغير ذلك عدة كتب فُقدتْ.وكانت آخر كتبه هو: “الجواب على اقتراح الأحباب” وقد كتبه وهو في سن العجز ودون فيه سيرة عائلته آل مشاقة وحوادث لبنان وبقية بر لشام وانهانهاه في 22تشرين الثاني 1873 في دمشق التي كان قد احبها بشدة وقد تميزت روايته بأهميتها لأنه لم يكن له مصلحة فيما يروي ولم يزين ويحسن ليسوق القارىء الى استنتاج معين ولم يخضع لظروف قاهرة تكرهه على النطق بالباطل ولم يشايع فئة من الناس على حساب أخرى، وهذذا جلي في معالجته لأخبار الدروز والمسيحيين في جبل لبنان، أما كتاب “مشهد العيان في حوادث سورية ولبنان” المنسوب له وقد طبع في القاهرة عام 1908 لمنشئيه ملحم خليل عبده واندراوس حنا شخاشيري فإنه وعلى تأكيد المؤرخين د. اسد رستم وصبحي ابو شقرا فانه بعيد عن ميخائيل مشاقة بمفرداته واسلوبه وترتيبه واضافاته.
ميخائيل مشاقة فنان
لقد بلغ به النبوغ الفني انه كان يحسن توقيع الألحان على كل ذوات الأوتار، عوَّدَ يده اليسرى إحكام العمل كاليمنى، فكان يعزف بها على العود، واصبحت له بعد ذلك أحسن معين، يوم اصيب بالفالج في شطره الأيمن السنة 1870، ولم يترك أي أثرفي الألحان ممايدل على انه كان عالماً لا ملحناً في الفن الموسيقي وفروعه.
اما الرسالة الشهابية في الألحان الموسيقية العربية التي وضعها فهي رسالة شيقة جمع بها كل ما له علاقة في الفن الموسيقي العربي، وأهم ابحاثها حول تفسير الأنغام المسماة ابراجاً، وفي تقسيم الأرباح، وجدول حسابي في الفرق الكائن بين الأبراج والأرباع العربية، والأبراج والدقائق اليونانية، وفي قسمة الديوان الى ديوانين متشاكلين وفي افتراق الألحان عن بعضها، واقتسامها الى انواع، وفي ترتيب آلات الموسيقى المعروف بالأوزان، وفي آلة العود وترتيبها، وفي شتى الآلات الموسيقية. وفي التصوير الموسيقي او مانسميه اليوم الموسيقى التصويرية، أو قلب العيان، وفي تعريف الألحان، وكيفية اجرائها وما استعمل من الأرباع في الألحان، واعترف بأنه لم يكن مجدداً صنفه فيها بل نقل عن غيره من الفنانين الأقدمين، وارتكز في الأخذ والجمع عن الفارابي وصفي الدين، وهذا اكبر دليل على سمو أخلاقه وابتعاده عن الأنانية والادعاء.
كان حسن الانشاء منسجم العبارات، يستحسن من البديع التورية والاستخام وحسن التعليل، ويستظهر كثيراً من اشعار العرب والمولدين ويعجب بحكم المتنبي واشعاره.
أخلاقه واوصافه
كان على جانب عظيم من حسن الخلق مهاباً وقوراً طويل القامة جسيماً أحمر الخدين اسود العينين واسع الجبهة ذا سمرة زهيدة حسن المظهر اشتهر بالتواضع واللطف والفطنة والذكاء والنظر في العواقب وشدة الرغبة في مجالسة العلماء والأدباء واعلاء مجالس زائريه ولو كانوا من فقراء الناس. يسدي الخير الى المجموع، كان يهوى المساجلات الأدبية والماظرات العلمية، وقد وقعت بينه وبين بطريرك الكاثوليك السيد مكسيموس مظلوم بكتاب ” الدر المنظوم في الرد على غبطة البطريرك مكسيموس مظلوم” مناظرة جاهر ميخائيل مشاقة على إثرها بانتمائه الى مذهب الانجيليين في نهاية 1848 وكتبها برسالته هذه وكانت كبيرة.
مرضه ووفاته
كان علمنا ميخائيل مشاقة متكلاً على الله ايام صحته بلواه، الم به مرض الفالج فكان صابراً في مرضه نحو ثماني عشرة سنة ولما اشتدت وطأته الى حد عزفيه العلاج وكانت الفاجعة بوفاته في يوم الجمعة 6 تموز 1888 ودفن بمقبرة اسرته في الباب الشرقي بدمشق، وكانت جنازة حافلة بالمشيعين وفاضت قرائح الشعراء برثائه وتعداد مناقبه منهم تلميذه الشاعر الحمصي ابراهيم الحوراني وهو معه بروتستانتي المذهب حيث قال في قصيدة مطلعها:
لم يبق بعدغروبكم من مطلع……………في شرقنا لسوى نجوم المدمع
يانور أهل العلم بعدك أظلمت…………..حلل العلوم فانها لم تلمع
يارمس ميخائيل لو درت العلا…………أمسيت محسود المحل الأرفع
علمتني صبر الكرام من الصبا………..واليوم بت ألوم من لم يجزع
والصبر يأباه الكريم لحادث……………من هوله شابت رؤوس الرضع
والحزن ناف للعزاء كغصة……………تنفي الخطاب عن الخطيب المصقع
مصادر البحث
السيرة الذاتية بكتابه:” منتخبات من الجواب على اقتراح الأحباب” تحقيق د. اسد رستم، وصبحي ابو شقرا طباعة بيروت 1955.
الوثائق البطريركية: السيرة الذاتية للخوري يوسف مهنا الحداد ” القديس يوسف الدمشقي”
موسوعة اعلام الفن والأدب
حواشي البحث
1- ماسقط من الشعر او الكتان والحرير عند المشط او ماطار او ماخلص وقيل المشاقة مايبقى من الكتان وهو ان يجذب في ممشقة وهي شيء كالمشط حتى يخلص خالصه ويبقى فتاته وقشوره. عن ( محيط المحيط) لصديق ميخائيل مشاقة ومعاصره العلامة بطرس البستاني.
2- بلاد بشارة هي مايقع بين صفد وصور من جهة وبين مرجعيون وعكا من جهة أخرى.
3- دير المخلس المختص بالرهبنة المخلصية وهو بالقرب من صيدا ، وكان المطران افتيموس الصيفي ربيب الرهبنات اللاتينية قد اعلن عام 1700 حين صيرورته اسقفاً على ابرشية صور وصيدا خضوعه لبابا رومية خارجاً عن المجمع الأنطاكي المقدس، وانشأ هناك رهبنة المخلص، وقد ثبته البابا اول اسقف على الروم المتحدين برومه، وفي عام 1724 وبعد وفاة البطريرك الأنطاكي اثناسيوس الدباس قام الصيفي برسامة ابن شقيقته كيرلس طاناس بطريركاً بشكل منفرد واعلن خضوعه لبابا رومة فطلب اعضاء المجمع الأنطاكي وشيوخ الشعب الدمشقي من البطريرك المسكوني ارسال بطريرك للكرسي وتمت رسامة الراهب سلبسترس القبرصي بطريركا وارسله على عجل الى دمشق عندها انتقل طاناس مع كهنته ومعهم كل موجودات المريمية من لوازم كنسية وبدلات بطاركة … الى صيدا عند افتيموس ابن شقيقته وجعل مقره دير المخلص، وهناك رسم مطارنة على الأبرشيات وانشأ رهبنات… واعترف البابا بنشوء طائفة الروم المتحدين بالكرسي البابوي…
4- السيرة الذاتية “منتخبات من الجواب على اقتراح الأصحاب.”
5- المصدر ذاته.
6- صحح عبارتها الشيخ ناصيف اليازجي سنة 1844 ثم نشرها الآباء اليسوعيون في المشرق 1899.
7- الوثائق البطريركية، ابرشية دمشق و سيرة القديس يوسف الدمشقي د.جوزيف زيتون انظره في موقعنا هنا.
اترك تعليقاً