الشام في النصف الأول من القرن العشرين.. دمشق في عيون محمد كرد علي
لم يكن الخلفاء العباسيون ليرتضوا دمشق عاصمة للخلافة الجديدة، لا سيما أنها كانت مركز الثقل السياسي لمنافسيهم الأمويين، وهذا ما انعكس على المدينة ودورها السياسي، فيرى محمد كرد علي أن دمشق تحولت في عهد الخلافة العباسية إلى مجرد “قصبة ولاية”.
يغذى بها القلب أنفاسا بلا كدر فن يحل الوبا أطراف ثاويها
إن الهواء إذا رقت مناسمه في بلدة لطفت أخلاط أهليها
فكل صورة إنس في منازلها وكل نزهة نفس في روابيها
لولا أمور وأرزاق مقدرة لم يرتحل عن دمشق حاضر فيها
هي أبيات من القصيد جسد فيها البحتري -شاعر العصر العباسي الذي ولد في منبج إلى الشمال الشرقي من حلب مطلع القرن الثالث الهجري- جمال دمشق وروعتها، تلك المدينة التي كانت عاصمة لواحدة من أعظم وأكبر الدول على مر العصور؛ الدولة أو الخلافة الأموية (41-132هـ).
مدينة سحرت كل من وطئ ثراها لعراقة حضارتها وجمال عمارتها وخضرة غوطتها، فهي واحدة من أقدم المدن في التاريخ وأقدم عاصمة مأهولة منذ 10 آلاف عام، على نقيض واقعها الحالي الذي شهد إغلاق مكتباتها الشهيرة واحدة تلو الأخرى مما يهدد ذاكرتها العريقة بالتصحر والاندثار، بعد أن عرفت أول أبجدية في العالم قبل نحو 3500 عام.
عراقة جعلت محمد كرد علي (1876–1953) -أول وزير سوري للتربية والمعارف، ومؤسس أول مجمع للغة العربية في دمشق ورئيسه- يقضي عشرات الأعوام في محاولة التأريخ لها ولغوطتها، فكتب كتابيه “دمشق مدينة السحر والشعر” و”غوطة دمشق”.
وفي هذا العرض نسعى إلى إبراز دمشق كما بدت في عيني هذا المفكر والمؤرخ، الذي قضى في هذه المدينة معظم أيام حياته عاشقا متغنيا.
دمشق.. بين النهضة والانحطاط
عرف أهل دمشق اللغة العربية قبل الفتح العربي الإسلامي بقرون، بفضل نصارى العرب الذين سكنوا الشام آنذاك، والذين سرعان ما آثروا انتماءهم القومي على انتمائهم الديني، فوقفوا إلى جانب الفاتحين العرب؛ ففتحت دمشق على أيدي أبي عبيدة الجراح وخالد بن الوليد بعد قتال أعقبه التفاوض مع الحامية البيزنطية على الاستسلام، وتسلمها الخليفة عمر بن الخطاب سلما سنة 14 للهجرة.
ووضع الخليفة معاوية بن أبي سفيان الأموي أساس ملك بني أمية في دمشق، وكان متسامحا؛ فعيّن في بعض المناصب العليا في الدولة عربا نصارى، وكان في جيشه خليط من العناصر غير العربية أو الإسلامية من الأنباط والجراجمة أو المَرَدة الذين قاوموا الأمويين، وخلف معاوية يزيد ثم معاوية فمروان بن الحكم وبعده سلسلة من خلفاء بني أمية؛ فجعلوا من دولة بني أمية واحدة من أكبر الدول الحاكمة عبر التاريخ؛ فامتدت على عهد هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي العاشر من الصين شرقا إلى جنوب فرنسا غربا.
ورغم أن الخليفة مروان بن محمد كان من أكثر خلفاء بني أمية عدلا وإحسانا فإن الخلافة سقطت على عهده، فسيطر العباسيون على دمشق، ودخلوا في صراع دام مع الأمويين إلى أن استولوا على المدينة سنة 132 للهجرة، بعد شهر ونصف الشهر من المقاومة الأهلية.
لم يكن الخلفاء العباسيون ليرتضوا دمشق عاصمة للخلافة الجديدة، لا سيما أنها كانت مركز الثقل السياسي لمنافسيهم الأمويين، وهذا ما انعكس على المدينة ودورها السياسي، فيرى محمد كرد علي أن دمشق تحولت في عهد الخلافة العباسية إلى مجرد “قصبة ولاية”.
وسيطر على دمشق بعد ذلك الطولونيون؛ فأسسوا إمارة ضمت مصر والشام (254-293هـ) ثم الإخشيديون (323-356 هـ) وتولى بعدهم الفاطميون ( 297-559 هـ)، حيث يصف محمد كرد علي آخر قرن لدمشق تحت الحكم الفاطمي بأنه “أشأم القرون”، حيث ضربت البلاد مجاعة وتفشى الطاعون، ولم يبق من سكانها الـ500 ألف إلا 3 آلاف.
ولم تشهد بعد ذلك دمشق عزا إلا في عهد الدولتين النورية والصلاحية، حيث أعاد الأمير التركي نور الدين زنكي لدمشق مكانتها السياسية، وعمرت على عهده عمرانا عظيما، ورفعت عن أهلها المظالم، وانتهج من بعده صلاح الدين الأيوبي النهج ذاته؛ فعادت المدينة لسابق عهدها كمركز ثقل سياسي وعسكري.
أما على عهد الدولة العثمانية فيرى محمد كرد علي أن الخلفاء العثمانيين -رغم بنائهم المدارس والمساجد والتكايا والخانات- لم يحسنوا إدارة دمشق.
أبواب دمشق
جامع بنصف مدينة .. ونهر وغوطة خميلة
دمشق في أوصافها جنة خلد راضية
أما ترى أبوابها وقد جعلت ثمانية
هكذا لخص أحد الدمشقيين المتأخرين وصف المدينة التي تنبسط على شكل مستطيل مربع الأضلاع، ولها 8 أبواب لم يبق منها اليوم إلا 5، وأشهرها: توما، وشرقي، والجابية. وتحيطها من الشرق والغرب والجنوب غوطة غناء تكثر فيها الأشجار من جوز وتين وتوت وزيتون؛ جذبت الملوك والأمراء، فأقاموا فيها وبنوا قصورا مسحورين بخمائل تخلب الألباب.
ويبدو الشارع الأعظم المستقيم الذي يقطع المدينة من الشرق إلى الغرب واحدا من أجمل الآثار القليلة التي خلفتها أمم وحضارات ما قبل الإسلام، إضافة إلى بعض القلاع والحصون.
وشهدت المدينة على عهد الأمويين طفرة معمارية تجلت في قصر الإمارة والجامع الأموي، والأخير كتب محمد علي كرد في وصفه “بني على أعمدة رخام في خلالها صورة كل مدينة وشجرة في الدنيا، معمولة بالفسيفساء وبالذهب وبالخضرة والصفرة، وكان طول الحرم الأصلي 1300 قدم، وعرضه ألف قدم، وأنفق الوليد عليه خراج الشام سنتين؛ فجاء أجمل جامع في الإسلام يليق بعاصمة الخلافة الإسلامية، وقيل إنه كان يشكل نصف المدينة”.
ولم يكتف الخليفة وليد بن عبد الملك بالجامع الأموي زينة لدمشق فزادها بحفر الآبار ونشر المنارات في الطرقات وتشييد دور المرضى والمساجد، وكل ما يسهل العيش ويجلب الراحة.
وفي وصف عمارة دمشق في العصور الحديثة، يدون محمد كرد علي “وجاء زمن والعمران متصل بدمشق من الغرب إلى الربوة، وكانت هذه عامرة أشبه ببلدة صغيرة فيها مدارس وجوامع وأسواق ومقاصف وحمامات، وفيها قصور الأغنياء، وإلى جانبها قصر الفقراء الذي بناه نور الدين زنكي ليصطافوا فيه كما يصطاف السراة”.
ومن أجمل آثار العهد التركي سكة الحجاز، التي كتب محمد كرد علي في وصفها “كان طولها 1303 كيلومترات، وكانت تمتد من دمشق إلى المدينة المنورة، عمرت بإعانات العالم الإسلامي، ومحطتها من أجل الآثار حديثة الهندسة، وبالسكك الحديدية التي ربطت دمشق بحيفا وبيروت وحلب والموصل، وبالترام الذي ربط شمالها بجنوبها وغربها بشمالها الشرقي حتى بلغ دوما حاضرة الغوطة”.
وإلى حين دخول العثمانيين كانت في دمشق 7 دور للقرآن، و18 دارا للحديث، و122 مدرسة ببن حنبلية وشافعية وحنفية ومالكية، و4 مدارس للطب، ومدرسة للهندسة، و26 خانقا (مجرى ماء)، و23 رباطا (ملجأ للفقراء)، و26 زاوية (مأوى للفقراء).
مدينة بلا مكتبات
احتضنت دمشق الأدباء والعلماء والفنانين منذ فجر التاريخ، ووفرت لهم مناخا حرا أبدعوا فيه فكرا وشعرا ووعظا، حتى سميت المدينة في عصر الأمويين عاصمة الألف شاعر وشاعر لكثرة ما وفد إليها من شعراء من كل أنحاء الخلافة.
وعرف أهل المدينة حتى قبل الفتح العربي علماء في الطب والجغرافيا والهندسة والرياضيات والفلك، وفي الوعظ والبلاغة والحكمة، وبذخ اسم القديس يوحنا الدمشقي الملقب “بفم الذهب”، وإلى جانبه مجموعة من النساطرة واليعاقبة.
وعلى عهد الأمويين أمر بشر بن الوليد الأموي -الملقب بحكيم آل مروان وعالم قريش- بإحضار جماعة من الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا يتقنون العربية من مصر إلى دمشق، فنقلوا الكتب اليونانية في الطب والفلك وغيرها إلى العربية، وكان بشر بن الوليد أول من أنشأ خزانة كتب في الإسلام، وكانت في دمشق.
ومن شعراء تلك الحقبة من كان يفد إلى دمشق ومن كان يسكنها، كالأخطل التغلبي ونابغة بني شيبان وخالد بن يزيد بن معاوية، الذي كان شاعرا وخطيبا وفصيحا جامعا.
ومن يومها عرفت دمشق غنى لا مثيل له في العلم والأدب والفقه والشعر، واستثمر صلاح الدين الأيوبي من بعد في الفقه والهندسة والطب؛ فأغدق أمواله على 600 فقيه، ويشير محمد كرد علي إلى أنه على زمان صلاح الدين خلد علماء وفقهاء من الإسلام اسمهم؛ “ففي الطب والهندسة يحيى الدباس ومحمد أبو الحكم وابن النقاش وابن البذوخ، ومن الفقهاء والمحدثين ابن عساكر الدمشقي والحسين الأسدي مسند دمشق”.
واشتهرت دمشق في عهد الخلافة الأموية بالغناء والموسيقى حتى نبغ من آل أمية أنفسهم ملحنون ومغنون، ومع حلول القرن السادس للهجرة كثر الموسيقيون من طنبوريين وقانونيين. ويسجل هنا محمد كرد علي أن الدمشقيين “لم تخل سهرة من سهراتهم ولا نزهة من نزهاتهم من موسيقيين ومغنيين، وحتى أن أرباب المظاهر لم يستنكفون قط من رفع أصواتهم بالإنشاد والغناء”.
وشتان بين دمشق في سالف الأزمان ودمشق اليوم؛ فالمدينة تحولت من حاضنة لأول خزانة كتب في الإسلام ومئات المكتبات، إلى مدينة طاردة للناشرين والمثقفين الملهوفين على الكتب؛ ففي الأعوام القليلة المنصرمة اضطرت العديد من المكتبات الدمشقية العريقة إلى إغلاق أبوابها مثل “مكتبة ميسلون” و”مكتبة اليقظة” وأخيرا “مكتبة نوبل”، التي كانت تعد -منذ سبعينيات القرن الماضي- معلما ثقافيا بارزا من معالم العاصمة دمشق.
Beta feature
Beta feature
اترك تعليقاً