القديس الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي
تمهيد
تعود بي الذكرى تحديداً إلى عام 1987، وهي السنة التي شرّفني بها مثلث الرحمات غبطة أبيتا البطريرك إغناطيوس الرابع بتكشيف الوثائق البطريركية، وكان ذلك استمراراً لما كان قد بدأه هو بتسليط الضوء على التراث الأنطاكي من خلال إحداث دائرة الوثائق البطريركية بدمشق عام 1987 وأحدث في السنة التالية “مركز الدراسات والأبحاث الأنطاكية” في جامعة البلمند عام 1988 واعتبرني عضوا مشاركا فيه وكان العمل مشتركاً حيث اقوم بتكشيف الوثائق والمخطوطات الموجودة في دار البطريركية بدمشق وارسل الكشافات والفهارس الى المركز حيث يتم اعدادها للطباعة هناك وبعد ذلك صارت تُدفع للطباعة ككتب، وتم بذلك اصدار ماقمت بتكشيفه….وآخر الكتب التي ضمت الفهارس اصدرها المركز عام 2008.
وقد جرت العادة منذ اللحظة الاولى لتكليفي، ان اطلع غبطته على كل الوثائق بطلب منه وكان رحمه الله يمر على المكتبة تقريبا في كل امسية للاطلاع على مايصدر ويسعدني بحواره العميق.
في العام ذاته 1987، وبعد شهر تماماً اكتشفت شهيدنا الخوري يوسف مهنا الحداد (الدمشقي) في الوثيقة التي رقمتها بالرقم 278. وكانت عبارة عن جواب من كاتبها يوسف الحداد ابن شقيق شهيدنا إلى تلميذ الخوري الشهيد, الأرثوذكسي الكبير والقديس المجهول ديمتري نقولا شحادة الصباغ الدمشقي المقيم من عام 1846– 1890 في اسطنبول بقصد العمل ويروي فيها سيرة عمه الشهيد وهو من رافقه منذ ابصر النور ونعتبر هذه الرسالة اساس السيرة والنضال والاستشهاد.
قمت على الفور بتلخيص السيرة ورفعتها باليد إلى غبطته كالعادة، فعلت السعادة وجهه، وكلفني ان اكتب السيرة، فرجوته ارشادي الى مصادر ادعم بها نص الوثيقة التي تعود الى زمن فتنة دمشق الطائفية عام 1860، فكان جوابه بعدم معرفة بقوله” مابعرف انت ابحث واكتب مشروع السيرة وبسرعة لأني اريد ان نطوبه قديس في المجمع قريبا وعندها نقوم بالطباعة ليعرفه الجميع”.
وللتنفيذ اعتمدت على الوثيقة 278 وغيرها من وثائق السيد ديمتري شحادة وهي من اعظم محفوظات الوثائق البطريركية من 1846 في اسطنبول الى حين عودته الى الوطن واقامته المؤقتة في بيروت ثم الدائمة كراهب بدون مسوح في دير البلمند البطريركي ودير سيدة حماطوره ووفاته هناك عام 1910، وهذا الوثائق تشتمل على كل مفاصل التاريخ الانطاكي الحيث ودوره فيها كوجيه ارثوذكسي انطاكي دمشقي، وبحثت سواها من الوثائق المتزامنة وراجعت الدوريات الأرثوذكسية و الكتب التي سلطت الضوء على فتنة 1860 وكان الاهم فيها المقالة التي كتبها الطيب الذكر العلامة عيسى اسكندر المعلوف في مجلة النعمة البطريركية وكان في الوقت نفسه امينا لمكتبة البطريركية بتكليف من مثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس الرابع اضافة الى قيامه بادارة مدرسة الآسية بين اعوام 1910-1912 وربما اطلع على وثيقتنا ذاتها وبنى عليها للترابط الوثيق الجامع بينهما…
بعد اقل من شهر من البحث المكثف كتبت مخطوط السيرة المطلوبة وسلمتها إلى غبطته الذي أعطاها فوراً إلى الصديقة السيدة د. سعاد ابو الروس سليم (صاحبة مشروع “مركز الدراسات والابحاث الانطاكية بجامعة البلمند” وكان معها الصديق الدكتور طارق متري، وكانا بالمصادفة وقتئذٍ يقابلان غبطته في دار البطريركية بدمشق، وبالكاد أخذتُ صورةً عنها للحفظ. وكانت رغبة غبطته وقتئذٍ أن يقوم مركز الدراسات الذي كان السيدان المذكوران يقومان بالاعداد لاحداثه لطباعتها، ولكن تأخرت الطباعة.!!
عدت في سنة 1988، وأنشأت السيرة مزيدة ومنقحة بمخطوطة جديدة، واحتفظت بها إلى السنة 1992، حيث سلمت صورة منها ومن مخطوطة كتبتها بيدي ايضا فيها سيرة الكاهنين الشهيدين نقولا وحبيب خشة إلى قدس الأرشمندريت توما البيطار بطلب من سيادة الأسقف جوزيف الزحلاوي، سكرتير غبطته، ليقوم بضمهم في كتابه “قديسون منسيون” الذي كان يقوم بالإعداد له مشكوراً. وكنتُ قد أدرجت السيرة ملخصة في كتابي” الآسية، مسيرة قرن و نصف 1991″ بمناسبة الاحتفال بمرور 150 سنة على اعادة تأسيسها بهمة الخوري يوسف مهنا الحداد, ثم كتبت السيرة ملخصة في مقالٍ بعنوان “أعلام أرثوذكسيون” في النشرة البطريركية 1991 في اصدارها الاول وكذلك سيرة الشهيدين نقولا وحبيب خشة كذلك، وبعد فترة سيرة الخوري الشهيد سليمان سويدان ولم يكن بعد كتاب “قديسون منسيون” لسيادة الارشمندريت توما قد صدر بعد.
في 8 تشرين الأول 1993 اتخذ المجمع الأنطاكي بدوره الموسع المنعقد في البلمند قراراً مجمعياً بإعلان قداسة الخوري يوسف ورفقته من شهداء 1860، وأن يُعيّد لذكراهم سنوياً في 10 تموز. وقد بكيت تأثراً عندما طالعت الخبر منشوراً في جريدة النهار وهو بعنوان: “كاهن بيروتي يتتلمذ على يد شيخ دمشقي”. بكيت لأن أمنيتي تحققت بتطويبه قديساً, ولكني فوجئتُ بالعنوان بإعتباره “كاهناً بيروتياً”، في حين أنه دمشقي من مواليد دمشق، والدته دمشقية ووالده كان قد مر في بيروت قبل مجيئه إلى دمشق عام 1793 وتزوج فيها ابنة من آل كرشة الغيورين وأنجب أولاده، ومنهم الخوري يوسف. (وطبعاً)، وهنا اود الايضاح اني لست من هواة التمسك بالاقليمية بل بالارثوذكسية الانطاكية التي تجمعنا كلنا ولا التمسك بالدمشقية بقدر التمسك بالواقعية والحقيقة، سيما وأن آل الحداد وجدّهم مهنا هم من حوران وقصبتها الاكبر إزرع، وهم من الغساسنة الحورانيين، مع التأكيد على أن المجمع المقدس اعتبره دمشقياً “يوسف الدمشقي” وقراره قاطع وهو صاحب السلطة في كنيستنا الانطاكية الواحدة ليس في المشرق فقط بل في كل المسكونة واعتمدته الكنيسة الارثوذكسية العالمية كقديس انطاكي.
واقول في هذا المقام إن ملاك بيروت مثلث الرحمات غفرئيل شاتيلا (1870-1902) سبق وقال: “كواكب دمشق ثلاثة بولس الرسول, يوحنا الدمشقي, يوسف الحداد” وقد اتبر ان ولادة رسولية بولس كانت بعد انسحاق شاول المضطهد على طريق دمشق وحلول الروح القدس حل عليه في عماده بيد حنانيا الرسول اول اساقفة دمشق تم في بيت يهوذا الدمشقي في دمشق، وفي مكان لايبعد عن مريمية الشام اكثر من مائة متر، وتشاء الارادة الالهية ان يكون مكان استشهاد القديس يوسف في موقع استنارة بولس في منطقة البزورية بدمشق القديمة محلة مئذنة الشحم بالتسمية الحالية…وقوله المطران شاتيلا هذا أتى بعد استشهاد الخوري يوسف، معلمه اذ كان شاتيلا من تلاميذه مع ديمتري شحادة وملاتيوس الدوماني… في مدرسة دمشق الأرثوذكسية الآسية، وتولى مطراناً على “أبرشية بيروت ولبنان” من عام 1870-1902 وكانت ابرشية واحدة.
من نسب آل الحداد البطريرك الخالد غريغوريوس الرابع من عبيه، والأسقف استفانوس حداد ابن عرمان من جبل العرب في سورية، ما يدل على انتشار آل الحداد في أرجاء سورية الواحدة.
الكراس الذي تضمن سيرة الشهيد وخدمته الطقسية وقعت فيه بعض أخطاء تاريخية (قد أدرجت في السنكسار).
سألني قدس الشماس ( الخوري) أثناسيوس شهوان، عندما استضافني في محطة نورسات اللبنانية في الحلقة الخاصة بالشهيد يوسف الدمشقي التي أعدّ لها وقدّمها يوم السبت 8 تموز 2006 عشية الاحتفال بذكراه وعلى الهواء مباشرة, سألني راجياً الجواب عمن اكتشف الخوري يوسف فذكرت له ما ذكرته في مقدمة هذا المقال وبصريح العبارة ” أنا”, وسألني عن صحة موطنه دمشق أم بيروت، فأجبته بما سبق وبصريح العبارة “دمشق”، وكان سؤاله الثالث والمحرج لي، فيما لو كان القديس يوسف الدمشقي قد لقي اهتماماً في موطنه دمشق (مسقط رأسه ومثوى استشهاده ودفنه) حيث مر على إعلان قداسته من عام 1993.
فأجبته إن الحق يقال بأن غبطة مولانا وجّه كهنة دمشق للاهتمام والتعريف به ولكن غياب النص المطبوع كان عائقاً. وقد قام بعض الآباء في دمشق وكتبوا عن القديس معتمدين على السنكسار وقد وقعوا في الهفوات عينها في كتيب سيرته المطبوع مع اجترامي الشديد وتقديري لسيادة الارشمندريت توما، وراجعوني بعدما شاهدوا الحلقة التلفزيونية للاستيضاح. وهنا أقول أن معظم رعايانا تجهل الشهيد القديس يوسف، وقد سرني بأن عدداً من آباء كنيسة الروم الكاثوليك بدمشق راجعني للتعرف به خاصة بعد بث الحلقة على النور سات.
من هنا, ووفاءً مني لذكراه، سيما وأنني كنت أول من تعرف به (وأنا صديقه منذ عام 1987 وصديق تلميذه ديمتري شحادة) واعتمدته شفيعا ثانياً لي حيث شفيعي الاول بالمعمودية هو القديس يوسف الرامي،
وتنفيذاً لتوجيه غبطته، أجد لزاماً علي أن أعود لتسليط الضوء على شخصيته وسيرته وفضائله على بيعة دمشق الأرثوذكسية ومدارسها، وتحديداً الآسية التي جعلها عام 1851 جامعة, ولولا استشهاده ودمار الآسية عام 1860، لكانت أسبق من الجامعات التي نشأت في القرن (19) بعد عقدين من الزمان وهي /اليسوعية والأميركية/ في بيروت.
لذا أبدأ مقالي المختصر هذا بنص القرار المجمعي بإعلان قداسة الخوري يوسف والترتيبات الطقسية المرافقة. ثم أتابع في سيرته… وصولاً إلى استشهاده وجميعها مختصرة وأقول هنا ما قلته في ختام الحلقة التلفزيونية في محطة النور سات: “إن أردنا التحدث عن القديس يوسف الدمشقي لا تكفينا ساعة ونصف لا بل حتى أربعة أيام متصلة فهو رائد النهضة في الكرسي الأنطاكي”.
قرار مجمعي
إن المجمع الإنطاكي المقدس المنعقد في دير سيدة البلمند البطريركي بتاريخ الثامن من شهر تشرين الأول عام 1993 قد اتَّخذ بإلهام الروح الكلِّي قدسه القرار التالي:
إنَّ الكنيسة الأنطاكية التي عاشت بقداسة القديسين وشهدت لها ترى اليوم نفسها عطشى إلى أن تتجدد بهم وهي تعي نفسها “محاطة بسحابة كثيفة من الشهود” (عبرانيين 1:12).
إنّ كنيسة أنطاكية تحس نفسها مشدودة إلى واحد من هؤلاء الشهود الخوري يوسف مهنا الحداد الذي وعظ وعلّم وأشاع نور معرفة اللّاهوت وكان فقيراً, عميق الإيمان, صبوراً, وديعاً, متواضعاً, شفوقاً, دمثاً وكلّل حياته بمجد الشهادة في دمشق في العاشر من تموز السنة ال1860 فجاء بذل دمه نُطقَ الروح فيه (راجع متى 20:10, مرقس 10:13). وإذ نحن تأملنا سيرته و”هالة مجد الله” عليه (رؤيا 11:21) “حسن لدى الروح القدس ولدينا” (أعمال الرسل 8:15) أن نعلن قداسة الخوري يوسف مهنا الحداد وحددنا تاريخ العاشر من تموز من كلِّ سنة ذكرى “للقديس الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي ورفقته”.
ترتيب الخدمة في صلاة الغروب
السبت في 9 تشرين الأول 1993
بعد قرار التطويب يقدِّس كاهن الدير بصمتٍ الأيقونة ويضعها على المائدة في كنيسة السيدة.
يستقبل كاهن الدير قبيل صلاة الساعة التاسعة البطريرك عند الباب الغربي حيث يرتدي المنتيه ويستلم العكاز.
يدخل إلى الكنيسة ويتقدمه الشمامسة والكهنة ثم الأساقفة وأخيراً المطارنة حسب ترتيب الأقدمية.
يقف في الكرسي وتبدأ الساعة التاسعة.
تُختم صلاة الساعة التاسعة. ويُعطى البطريرك البطرشيل والأموفوريون وكذلك رؤساء الكهنة ويقيمون التريصاجيون عن روح الخوري يوسف مهنا الحداد. يأخذ البطريرك مكانه عند الباب الملوكي.
يقف البطريرك عند الباب الملوكي ويتلو قرار المجمع.
تُقام صلاة الغروب مع الليتين والأغريبنية. يُطاف بأيقونة القديس ويقبلها البطريرك. بنهاية الأغريبنية تبقى الأيقونة مصمودة في الوسط ويتقدم رؤساء الكهنة فالكهنة الشمامسة فالشعب لتقبيلها.
القديس يوسف الدمشقي
في أسرته و أصله
ينتسب القديس يوسف إلى آل الحداد وهم من الغساسنة المتنصرين الذين حلّوا في أراضي حوران, فنشأ منهم بطن في إزرع و اشتهر منهم كبيرهم شرفان بن داوود بن جبرائيل الممتهن للحدادة.
رزق شرفان بسبعة ذكور جميعهم تركوا حوران نحو سنة 1554 بعد انتشار الأمن عقب الفتح العثماني لبلاد الشام، وحلوا في قرية الفرزل البقاعية بالقرب من زحلة. ثم انتقلوا إلى بسكنتا ومنها تفرقوا فتفرع عنهم بنو الحداد في دمشق وسواها وبيروت وبسكنتا والشوف… وبنو مسلّم في زحلة وبنو الصائغ في الشوير.
في نشأته
لما تكاثرت أسرة الحداد الغسانية في بسكنتا, وانتشر أبناؤها في بقاع بلاد الشام, سكن بعضهم في بيروت مؤقتاً منهم جرجس بن موسى بن مهنا الحداد، ومنها انتقل إلى دمشق في الربع الأخير من القرن (18) ومارس فيها صناعة النسيج و تزوج فيها ورزق بثلاثة ذكور (موسى وإبراهيم ويوسف). أحب موسى العلوم والعربية واقتنى في بيته مكتبة صغيرة, توفى عازباً ولم يتجاوز 25 عاماً في مطلع القرن 19. أما شقيقه إبراهيم فقد تزوج ورزق أولاداً سلالتهم الآن في بيروت والمهجر ومصر ومنهم يوسف .
من هو الخوري يوسف؟
هو ابن جرجس بن موسى بن مهنا الحداد, ولد في دمشق (أيار 1793) وتلقى مبادئ العربية واليونانية على المرحوم المعلم جرجس بن صروف (سيرافيم) بن اليان الحموي , لم يكمل تعليمه لفقر والده الذي شغّله في صناعة (سدي الحرير) وهي من الصناعات الشهيرة التي اختص بها المسيحيون الدمشقيون . بيد أن نفسه كانت تتوق إلى العلم والمعرفة، فكان يدرس في الليل حتى بلغ عمره 14 عاماً, عندها أخذ بمطالعة كتب شقيقه الأكبر المرحوم موسى, فلم يفهمها فحزن وناجى نفسه قائلا: “ألم يكن مؤلف هذه الكتب إنساناً مثلي فلماذا أنا لا أفهم معناها؟ لا بد لي من فهم ذلك؟”
فانصب بكليته على الدرس, واتصل بعلامة عصره الشيخ محمد العطار الدمشقي فحصّل عنه العربية والمناظرة والمنطق والعلوم العقلية مع رفيقيه نقولا سبط الدمشقي وجرجس نعمة الله اليان الدمشقي.
أعيت الفتى يوسف مجدداً نفقات التعليم الكبيرة، إن كان من ناحية أجرة الدرس أو من ناحية ثمن الكتب. لأنه كان فقيراً ومعيلاً بنفس الوقت لأسرته فانكب على نهل العلم ليلاً وبمفرده.
وقع بيده قاموس (عربي-يوناني) لأحد المستشرقين, فاستعان به في دراسته لليونانية وقابل التوراة والمزامير على أصلهما حتى أتقن الترجمة من وإلى اليونانية، وقد اتصل بقريبه جرجس شحادة الصباغ الدمشقي وأخذ عنه العلوم الدينية والتاريخية.
خاف عليه والداه جداً لميله المفرط إلى نهل العلم في أن يلقى مصير شقيقه موسى حيث علل الأطباء موته بسبب الدرس المفرط، فوقفا من دراسته موقف الممانع وبشدة. إلّا أنهما كانا يتساهلان حينما يشاهدانه متلذذاً في اغتراف العلم وتقديمه إلى أقرانه الذين كانوا يتقاطرون إلى بيته طلباً للمعرفة والعلم. بالإضافة إلى ما كان يكنه له البطريرك الأنطاكي سيرافيم من تقدير واحترام لكنهما سرعان ما يعودان إلى تقريعه ولومه عندما يتذكران بكرهما الراحل موسى وموته شاباً بسبب العلم.
لما عيل صبرهما منه، أرادا أن يصرفاه عن العلم بتزويجه, وقد زوجاه عام 1812 من مريم الكرشة الدمشقية وكان عمره 19سنة، ولكن ذلك لم يشغله عن درسه (حتى أنه وفي ليلة عرسه كان يشتغل بالمطالعة).
شموسيته وكهنوته
لفضائله وعلمه وفضائله في خدمة ابناء البيعة وتعليمهم، اختارته دمشق اكليروساً وشعباً بالاجماع كاهناً، فرسمه البطريرك سيرافيم شماساً ثم قساً بعد أسبوع بالرغم من أنه لم يبلغ بعد 25 عاماً، أي سن الكهنوت القانوني، وكان ذلك سنة 1817 وكان الخوري يوسف يقول: “لم أشبع بعد من خدمة الشموسية“.
ذاعت شهرته وتجرده لخدمة البيعة الأرثوذكسية وعظاً وإرشاداً وتعريباً ونسخاً وتنقيحاً وخدمة البطاركة في الكتابة والمراسلة بدون عون وبغيرة منقطعة النظير.
استظهر المزامير والكتاب المقدس بعهديه عن ظهر قلب، وقد سبق أن تعلم العبرية من تلميذ يهودي كان من عداد تلاميذه .
مدرسة دمشق الارثوذكسية ( الآسية)
أعاد فتح مدرسة دمشق الأرثوذكسية (الآسية) 1836 وضم إليها الكثير من تلامذته الذين كانوا يتعلمون في كتّابه (بيته)، ورشح الكثير منهم للكهنوت المقدس بعدما زرع فيهم حب هذه الخدمة الشريفة.
كانت الآسية تدّرس وقتئذٍ العربية واليونانية والتركية والإيطالية، إضافة إلى اللاهوت والرياضيات، فاختص هو بتدريس العربية والرياضيات والدينيات ومبادئ اليونانية والخط, فيم اختص زميله يني بابا دوبولس بتدريس اليونانية بآدابها، وكان ينهل عن الخوري يوسف العربية. وكانت وقتها مدارس دمشق عموماً، عبارة عن كتاتيب ومنها الآسية ككتاب في دار البطريركية، فأخرج الآسية من هذا المفهوم وصارت في بيت وقفي فيه شجرة آس كبيرة، بالرغم من أنها عملياً لم تكن إلّا غرفة واحدة مقسومة بساتر قماشي في وسطها. فبادر إلى تنظيمها وفقاً للمدارس الأوربية, وأبدل السبتية برواتب محددة تدفعها إدارة المدرسة أسبوعياً للمعلمين وعين لها وكلاء. وفي ستينات القرن (19)، أصبح عدد طلابها 378 طالباً وهو أعلى رقم تحققه عدة مدارس مجتمعة وقتئذٍ. في دمشق .
القيادة الروحية
كافأه البطريرك مثوديوس (1824-1850) على أتعابه في المجالات كافة فعيّنه ايكونوموساً للكرسي البطريركي في دمشق، فأخذ يسعى في تأهيل وتثقيف الكهنة روحياً ولاهوتياً وإدارياً، إضافة إلى عمله الرعائي في دمشق, إذ كانت عظاته البديعة في كنائس الصرح البطريركي( المريمية ومار نقولا وكبريانوس ويوستينة إضافة إلى كنيسة القديسة كاترينا )، أقوى نفير وأمضى سلاح في حث الأرثوذكسيين على نبذ العادات السيئة اجتماعياً وروحياً، إضافة إلى تحذيرهم وتحصينهم باستمرار من الوقوع في الشراك الغريبة عن إيمانهم الأرثوذكسي القديم بيد الرهبنات البابوية والارساليات البيوتستانتية التي كانت تستلب اولاد الرعية الفقيرة بالاغراءات المادية كما الآن وفي كل آن.
الخوري يوسف يكافح الاستلاب
وتعدى عمله الرعائي دمشق ومحيطها إلى مناطق حاصبيا وراشيا التي شردت بعض رعاياها للبروتستانتية بسبب الفقر وغياب الرعاة، وإن وجد رعاة إلّا أنهم كانوا بسطاء أمام القساوسة المبشرين وأسلوبهم المتقن وتقديمهم المساعدات المادية والعينية والطبابة والدواء لهؤلاء الفقراء. فأوفده البطريرك مثوديوس إليهما حيث مكث فيهما عدة أشهر, ورد الرعية إلى الحظيرة الأرثوذكسية بعدما أفحم القساوسة وأبطل إدعاءاتهم, وكذلك فعل مع المبشرين برئاسة كبيرهم (جريم)، الذي كانوا يسمونه المطران، فأفحمهم في النقاشات اللاهوتية والفلسفية حتى أنه استطاع جذبهم للأرثوذكسية وأدخلهم الكاتدرائية المريمية في القداس الإلهي الأحد الأول من الصوم الكبير، حيث ارتجل يومها (عظة كانت على الأمانة) شبه معها بأنه يوحنا الذهبي الفم الثاني.
في عام 1845 سعى لتجديد كنيسة القديس نيقولاوس، وهي الكنيسة الثالثة بعد كنيسة مريم وكنيسة القديسين كبريانوس ويوستينة في الحرم البطريركي بدمشق.
مشروع انتقاله الى القدسفي عام 1849 عرض عليه البطريرك الأورشليمي كيرلس الثاني (1845-1872) أن يتولى إدارة مدرسة المصلبة الاكليريكية في القدس بعدما ذاعت شهرة مدرسة الآسية الأرثوذكسية الدمشقية ودوره الريادي في تطويرها، على أن يقوم ايضاً بتدريس العلوم بالعربية فيها، وحدد له راتباً شهرياً مقداره 25 ليرة ذهبية وهو أضعاف ما كان يرده شهرياً في دمشق، لكنه لم يقبل.
عاود مجدداً إغراءه بتقديم دار سكنية مجانية مع المبلغ المرقوم مع احتفاظه ببطرشيله وتعويضات أخرى من رهبنة القبر المقدس، إلّا أنه تمنع قائلاً: “لقد زرعت في كرمة المسيح الحقيقية في دمشق، وأنا بانتظار الحصاد”. وأضاف: “إنني دعيت لخدمة هذه الرعية دون سواها منه وهو الذي دعاني” . وقد أرسل بدلاً عنه طيب الذكر الخوري اسبريدون صروف الدمشقي وهوكان أحد نوابغ طلبته، وزميله في كهنة المريمية.
مشروع جامعة الآسية اول جامعة ارثوذكسية في بلاد الشام والكرسي الانطاكي
وكان يطمح ليجعلها كجامعات أثينا وموسكو وبطرسبرج… وقد بدأ في التخطيط والإعداد من خلال توفير ما يلزم وأخصها الطباعة واقتناء مطبعة، فاتصل بتلميذه المحسن ديمتري شحادة راجياً معرفة سعر المطبعة الحجرية (الليثوغرافيا) (السائدة ذاك العصر) في اسطنبول، لكنه عدل مؤقتاً عن المشروع عندما عرف بارتفاع ثمنها الذي لا قدرة له أو للمدرسة وحتى للبطريركية أن توفره لحيازتها.
ولولا استشهاده ودمار المدرسة 1860، لكان تحقق حلمه بتحويل الآسية إلى جامعة ولكانت أول جامعة في بلاد الشام وذلك بعقدين من الجامعة الاميركية والجامعة اليسوعية في بيروت والمشرق.
وكان يطبع إنتاجه في مطبعة القبر المقدس في أورشليم أو في مطبعة القديس جاورجيوس الأرثوذكسية في بيروت أو في المطابع العربية في روسيا. وكانت بعض هذه المطابع ترسل إليه ما عُرب ليصححه قبل الطبع مكتفية بتوقيعه شهادة على صحة النص.
الانشقاق في طائفة الروم الكاثوليك
في عام 1857 حدث انشقاق كبير في طائفة الروم الكاثوليك الشقيقة في دمشق والإسكندرية، وخاصة بين اوساط النخب الكاثوليكية المثقفة من كتاب وادباء ولاهوتيين وشمل العديد من الأبرشيات كنتيجة لفرض تطبيق الحساب الغربي في تعييد الفصح بأمر بطريرك الكاثوليك السيد اكليمنضوس بحوث، وقد قام القديس يوسف برعاية هذا القطيع ورده إلى الأرثوذكسية وكان بدمشق برعاية الخوري ايوانيكيوس مساميري وفي الاسكندرية برئاسة الخوري غفرئيل جبارة وقام بطباعة كتاب أحدهم، شبلي أيوب (تنزيه الشريعة المسيحية عن الآراء الفلكية)، الذي دحض فيه كاتبه التقويم الجديد، وقد تناول أفراد هذا الفريق القربان المقدس بيد القديس يوسف في قداس الشعانين عام 1858 في المريمية بدمشق .
استشهاده
لما ذاع صيته دخل عليه يوماً أحد الوجهاء المسلمين الدمشقيين، وهو مصطفى بك العظم سكان منطقة مئذنة الشحم، في بيته الكائن في منطقة المريمية، راجياً صداقته، وراغباً أن يتعلم منه المسيحية، فردّ القديس يوسف بالاعتذار سيما وأن ثمة تعارض بين ما يورد القرآن مع لاهوت السيد وقيامته من بين الأموات، إلّا أن مصطفى أصر على طلبه مبيناً أنه قد يعتنق المسيحية. فخجل قديسنا من الحاحه، وأبان له وبصراحة الإجابات الدقيقة، الأمر الذي أفحم السائل واضطر أن يعترف مرغماً بصحة الإيمان المسيحي ولكنه أضمر له الشر.
وعند حلول بوادر الفتنة الطائفية في (10) تموز 1860 بدمشق، وكانت الطرق المحيطة بالصرح البطريركي وداخله وأحياء المسيحيين ملأى بالمسيحيين اللاجئين من مناطق جبل الشيخ وجبل العرب والغوطتين إضافة إلى أبناء دمشق، وكانت منطقة المريمية هي الخط الأول الذي تعرّض لموجات هجوم الرعاع والجنود العثمانيين والأكراد بقيادة شمدين آغا…
وقد تم ذلك بتدبير من والي دمشق أحمد باشا، وبمساعي اليهود المحليين وبمباركة من الدولة العثمانية للتخلص من نظام الامتيازات.
قام القديس يوسف بتشديد المسيحيين متنقلاً بينهم وبجعبته القربان المقدس ليناولهم وباتوا ليلة 10 تموز تحت الحصار والتهديد بالقتل وكان وقتئذٍ يرتجل فيهم العظات يحضهم فيها على عدم الخوف من الاستشهاد بالمسيح، وناولهم القربان المقدس،
وفي صباح 10 تموز ش (28 حزيران شرقي 1860) كان الجميع قد استشهدوا وحرقت المريمية والصرح البطريركي، أما هو فالتف بعباءته متنكراً متنقلاً بين الجرحى والشهداء، ليناول من بقي منهم حياً متمماً لهم واجباتهم الدينية. وفي منطقة مئذنة الشحم التي تبعد حوالي 100 متر عن المريمية وكان الشهداء المسيحيون على قارعة الطريق مايدل على ان الأحياء المسيحية (كما نقول دوما) كانت تصل غرباً الى محلة البزورية والباب الصغير.
تعرف عليه مصطفى العظم (بالرغم من تنكره بالعباءة) فقال للمهاجمين: “اقتلوه هذا هو إيمام النصارى وبقتلكم له كأنكم تقتلون كل النصارى”، فانقضوا عليه بالبلطات في وجهه ورأسه وصدره وبالرصاص في ظهره، فما كان منه إلّا أن تناول بفمه البقية الباقية من القربان المقدس الموجود معه كي لا تدوسها أقدام المعتدين. ثم ربطوه بحبل من رجليه وسحلوه وهم بنشوة عارمة بقتلهم (كوكب الشرق) كما أسماه مصطفى العظم، حيث ألقوه أمام المريمية (وكان قد أسلم الروح) مع بقية الشهداء الذين كان عددهم فيها ينوف عن 6000 شهيد من الجنسين، ومن كل الاعمار نصفهم من مسيحيي جبل الشيخ وحوران والتجأوا الى المريمية منتظرين معجزة من العذراء مريم تحميهم… فقضوا فيها واحرقت المريمية والمقر البطريركي وكنائسه الاخرى، وامتدت الابادة والقتل والحرق والنهب وهتك الاعراض وسبي النساء التي قام بها الرعاع وتكفيريو ذاك الزمن وقد اتوا من الغوطة المحيطة بدمشق ومن منطقة القلمون ومن وادي بردى ومن جنوب دمشق ومن الاكراد ومن كل احياء دمشق في المنطقة الغربية وهجموا على هذه الاحياء وعلى حي آيا ماريا” او القديسة مريم التي تعرف اليوم بالقيمرية القيمرية وكانتآيا ماريا من اهم احياء المسيحيينسكنياً واقتصاديا تحوي بيوتهم وخانات: سدي الحرير، والأنوال، والنسيج، والمصابغ، وورش النجارة وحفر الخشب والخراطة والصدف، وكل ذلك تم اما بمشاركة من القوات العثمانية او بتغطية منها للقتلة.
الخاتمة
أكتفي بهذا القدر من الحديث عن القديس يوسف الدمشقي وقد اجتزأته من مخطوطي العائد إلى عام 1988، آملاً أن أحظى بشرف طباعة سيرته وسيرة تلميذه المجاهد ديمتري شحادة لتكامل الدور بين الاثنين.
ويسعدني أن أورد الخاتمة التي ختمت بها مخطوط 1988 المرفوع إلى غبطته وهي بالحرف:
“يعد هذا البار رائد النهضة الحقيقية في الكرسي الأنطاكي عموماً وفي عاصمته دمشق خصوصاً, على الرغم من أن إمكانياته المتواضعة فاقت العمل المطلوب للوصول إلى هذه النهضة وعلى الرغم من الصعاب الهائلة التي جاهد في وسطها، سواء كانت من داخل الكنيسة متمثلة بالرئاسة اليونانية التي كان هم معظمها جمع المال ووقفه على مواطنيها- مثالها: وصية متوديوس /14 ألف ليرة/ لصالح مواطنيه في جزيرة ناكسوس, ووقفية ايروثيوس الذي أودع باسمه في بنك أثينا مبلغاً كبيراً اقتطعه من تعويضات ضحايا رعية دمشق 1860- أو من خارج الكنيسة المتمثلة بالاقتناص المنتظم للخراف الأرثوذكسية بفضل الأصفر الرنان من قبل البعثات التبشيرية الغربية (كاثوليكية – بروتستانتية).
كل ذلك كان حافزاً لمطوب الذكر قديسنا يوسف الدمشقي أن يهتم أولاً بالجيل علمياً وروحياً، في وقت كان الجهل رائده، فأسس المدارس العلمية والكهنوتية. وجاهد حتى الدم شهيداً عن المسيح.
إن هذا العظيم يحتاج إلى وقفة تأمل في تطويبه قديساً أنطاكياً في العصر الحديث، وإنني أرفع الصوت مدوياً تأييداً لرغبة غبطة مولانا البطريرك إغناطيوس الرابع فائق القداسة.
وقد أفصح عن رغبته بذلك حينما كلفني بإعداد هذه الدراسة عندما عرضت عليه الوثيقة 278.
دار البطريركية دمشق: 23 أيار 1988″ انتهى.القديس الشهيد في الكهنة العظيم يوسف الدمشقي اتخذته منذ تعرفي عليه وانشائي سيرته كأول من كتب عنه اتخذته شفيعاً ثانياً لي والاول هو القديس يوسف الرامي.
أرجو أن أكون قد أعدت إلى الأذهان هذا القديس الذي استشهد بمعمودية الدم في الموقع عينه الذي اعتمد فيه شاول قبل 1900 سنة على بعد 100 متر عن دار البطريركية في دمشق.
وعمد بدمه ورفقته مريمية الشام وكنائس الشام وازقتها…
نحتاج ياقديسنا العظيم والمتواضع المتنكر للمجد الزمني ومغريات المادة الى شفاعتك انا الخاطيء ياشفيعي الحبيب لدى رب الكنيسة.
كلمة في الشهادة شهادة الدم حبا بالرب يسوع
القديس الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي ورفقته
كتبوا الشهادة بدمائهم فرووا ارض الشام ومريميتها وكنائسها وبيوتها
” عزيز في عيني الرب موت اتقيائه “
( مزمور 115: 15)
في العاشر من تموز تعيّد كنيستنا المقدسة بعيد القديس العظيم الشهيد الخوري يوسف مهنا الحداد. ورفقائه الشهداء الذين يترواح عددهم بين 4 آلاف و7 آلاف شهيدا، استشهدوا اثناء الفتنة الشهيرة عام 1860 في دمشق ومعظمهم كانوا لاجئين مرتاعين الى باحات مريمية الشام والدار البطريركية….هنا نسأل ما أَهميَّة الشُهداء في الكنيسة المسيحيَّة؟ الربُّ يسوعَ المسيح لهُ المجد، أَعلَمَ رُسُلَهُ بأَنَّ مصيرَهُم في العالم سيكونُ قاسياً لأَنَّهم سيتعرَّضونَ للإِهاناتِ والمحاكماتِ والموتِ من أَجلِه. ولَفتَ نظرَهم الى أَنَّهم لا يجوز أَن ينكُرهُ أَحدُهُم وإلاّ نكَرَهُ هوَ أَمامَ أَبيهِ السماوي.الإِعتراف بربِّنا يسوعَ المسيح هو أَمرٌ حتميٌّ ومَن يَنكُر ربَّنا يسوع المسيح أَمامَ الصعوبات، يتعرَّض لنكران ربِّنا يسوع لهُ أَمامَ أَبيهِ السماوي. كلامُ ربِّنا يسوع قاطع.لا يرضى الرب بأَن يكونَ المسيحي جَباناً. المطلوب من المسيحي أَن يكونَ بطلاً يتقَدَّم الى منابرِ الإِستشهاد بِبَسالةٍ مُطلَقة وبِلا خوفٍ لأَنَّ الرُّوح القُدُس يَعضُدهُ ويُعطيه فَماً وحِكمةً فلا يستطيع المقاومونَ أَن ينتصروا عليهِ.لذا اتخذ الشهداء مكانة كبيرة في ضمير المسيحيين الأوائل، اذ كان الموت شهادة على الإيمان بيسوع دافعا للمسيحيين لكي يكرموا الشهيد ويقدموا له الاحترام .يقول اوريجنس (القرن الثالث): “ليس من شرف اكبر للكنيسة من ان تقدّم شهيدا للسماء. وليس هنالك لقب لدى البشر يساوي لقب الشهداء.لا يوجد في كل تاريخ البشرية شهداء مثل شهداء المسيحية، في حماسهم وشجاعتهم وإيمانهم ووداعتهم وصبرهم واحتمالهم و فرحهم بالاستشهاد ، فقد كانوا يقبلون الموت في فرح وهدوء ووداعة تذهل مضطهديهم.ايها الاحباء:كل مسيحي اعتمد وختم بالميرون المقدس هو مشروع استشهاد،هو ذبيحة ليسوع المسيح،هو نفسه يقربنا للآب ذبيحة محرقة قربانا بالروح القدس الساكن فينا .في المعمودية نلبس ثوب الاستشهاد ولذلك الخوف والمسيحية لا يجتمعان. الإِنهزامُ والمسيحيَّة لا يجتمعان.المسيحيُّ بطلٌ روحيٌّ مستعدٌّ دوماً للموتِ من أَجلِ المسيح. لا يهرب من المعركة، لا ينهزم، لا يتضعضع، لا ينهار. وإِن ضَعُفَ خسِرَ الإِمتلاء من الرُّوح القُدُس.كيف احتَمَلَ الشُهداء العذابات المضنِيَة؟ هذا هو الرُّوح القُدُس الساكن فيهم هو الَّذي جعَلَهم يحتملونَ كلَّ هذه الآلام المضنيَة فكانوا في فرَحٍ وغِبطة.كيفَ استَمَرَّت كنيستنا الارثوذكسية الإِنطاكية عبر التاريخ رافعة الرأس رُغمَ كل الظروف؟ بِفضلِ دماء الشهداء. آباؤنا وأَجدادُنا الَّذينَ حافظوا على الايمان الأُرثوذكسي في هذا الشرق، إِنتَقلوا الى النعيم الأَبَدي. هم مفخُرتُنا إِن كُنَّا نعلم بهم أَو لا نعلم. عدَدُهم كبير وهُم الآن لدى العرش السماوي في المجد الأَبدي عند الله له المجد.ونحنُ في هذا المشرق اصطبغنا بدِماء الشهداء، علينا أَن نشعُر دائماً بأَنَّنا أَبناء الشهداء، الَّذينَ حمَوا الإِيمان الأُرثوذكسي بدِمائهم، بصبرِهِم، بِطول أناتِهم، ترَكوا لنا هذه الجوهرَة العظيمة جداً.ايها الاحباء:أن مُعلمي الكنيسة على مر التاريخ المسيحي ، علَّموا أن المسيحي الحقيقي لا يضطرب من شيء ابدا ولا يخشى الموت أو يخافه ، ويتشح بالسواد ، أو يضع شريطة سوداء على صورة شهيد ، بل يفرح ويضع اللون الأبيض في كل مكان ويعتبر هذا اليوم عيد ، حتى أن الآباء في يوم استشهادهم اعتبروه ميلادهم الجديد.فمن هو الذي يقبل الشهادة أو أن يُهان بسبب أنه مسيحي، بل ويقبل الموت بسهولة وفرح لأجل اسم الرب،إلا من كان له إيمان حي بالمسيح الرب وله نفس ذات البذرة التي تنمو في داخله ، وهي بذرة ملكوت الله التي تم زرعها فينا كخليقة جديدة اعتمدنا لموت المسيح وقمنا بقيامته في سر معموديتنا التي ينبغي أن نعيشها بسر الصليب في مجد قيامة يسوع من بين الأموات …أيضا علَّم الآباء بأن كل من لا يستعد ليموت آلام المسيح الرب الذي مات لأجلنا بالحب، فإن حياة الله ليست فيه ، وكل من هو مُهيأ للاستشهاد هو شريك مع المسيح.
- Beta
Beta feature
- Beta
Beta feature
اترك تعليقاً