الطبيب إبراهيم حقي: مدوّن ذاكرة دمشق في القرن العشرين

الطبيب إبراهيم حقي: مدوّن ذاكرة دمشق في القرن العشرين

الطبيب إبراهيم حقي: مدوّن ذاكرة دمشق في القرن العشرين

رحل عن دنيانا في الأيام الماضية الطبيب والمؤلّف الدمشقي إبراهيم حقي عن عمر تجاوز القرن 1920 ـ 2023. وعُرِف الراحل بنشاطه الواسع في عالم الطب النسائي، إذ استمر عمله لقرابة ستة عقود في هذه المهنة، معالجاً خلالها 70300 ألف مريضة! وفق ما يذكره هو، اعتماداً كما يؤكد على أضابير المرضى التي ظل يحتفظ بها في مجلدات في مكتبه. ولذلك لم يكن أمرا غريباً في حياة الدمشقيين ولادة سيدة وابنتها وحفيدتها عند هذا الطبيب، بحكم الفترة الزمنية الطويلة التي قضاها في العمل. وبالإضافة لهذا المسار المهني، ومساهمته في تأسيس عدد من المشافي الخاصة مثل، دار الشفاء، فإنّ ما يُحسبُ للطبيب الراحل أيضاً اهتماماته الفكرية والثقافية المتعددة التي عبّر عنها في عدد من الكتب، ولاسيما في العقدين الأخيرين. إذ بدا حقي التسعيني آنذاك، شاباً على صعيد التأليف. وهذا ما ظهر من خلال عدد من الكتب التي تمحورت حول العائلة والقيم ومعجم للطب النسائي، والأخلاق، والإسلام بعيد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. لكن ربما يبقى الأهم في هذا المشروع الكتابي، ما دونه حقي في سنوات الحرب في سورية من ذكريات عن سيرته وعن مدينة دمشق، والتي ستعبّر عن نفسها في أربعة مجلدات ضخمة وغنية، ولن نبالغ إن قلنا، إنّ الراحل استطاع في خططه الشامية تدوين واحدة من أغنى الذكريات عن المدينة وتقلباتها في الثمانين سنة الماضية، ما وفّر لنا وثيقة حية عن المدينة ويومياتها وأوضاع الناس وثقافتهم ولباسهم وطعامهم والأشياء الصغيرة التي كانوا يشترونها. والمهم أيضا في ما دونه، أنّ أسلوبه في الكتابة عن دمشق جاء مغايرا لجيل كامل من الكتاب الذين أرّخوا للمدينة.

كان المصلح الدمشقي جمال الدين القاسمي 1866- 1914 قد ألّف عدة مجلدات بعنوان «تعطير المشام في مآثر دمشق الشام». وفي هذه المجلدات، التي حُقِّقت مؤخرا بعد عقود طويلة من إهمالها، قرّر القاسمي اتباع أسلوب كلاسيكي في الكتابة عن المدينة، يبدأ بالعصور القديمة وحتى أواخر أيامه. وجاء لاحقا العلامة محمد كرد علي وألف أيضا موسوعته المشهورة خطط الشام، متبعاً الأسلوب ذاته تقريباً في التأريخ للمدينة منذ القدم وحتى زمنه. ولعل هذا الأسلوب السردي سيبقى يحكم رؤية عدد من الذين عملوا على التأريخ للمدينة وأهلها. لكن الملاحظ في المجلدين اللذين كتبهما الطبيب الراحل حقي «دمشق ثمانون عاما» أنّ أسلوبه في السرد بدا مختلفا. فعوضا عن العودة للماضي، قرّر الكتابة عن المدينة من خلال ذكرياته ومشاهداته عنها على مدار ثمانين سنة وأكثر (1930ـ 2010) وهو أسلوب عادة ما عبّر عنه في بداية كل فصل بالقول «بعد الثلاثينيات» وكان حقي آنذاك قد تجاوز العشر سنوات من العمر. ولعل التركيز على الماضي الدمشقي القريب بدلا من البعيد، جعل من موسوعته مادة غنية تزخر بتفاصيل صغيرة ودقيقة عن المدينة وأهلها وشوارعها. فقد تعامل الطبيب حقي أحيانا مع بعض زوايا الذاكرة، وكأنه في درس للتشريح، ولذلك نراه مثلا يأتي بمعلومات ربما لم تعد موجودة في مصادر أخرى. والطريف أنه لا يكتفي بذكر بعض المعلومات عن الأحياء التي كتب عنها، بل أيضا يصوّر لنا مشهد الحياة اليومية في الحي أو الحارة، مع ذكر لأسماء بعض الأشخاص والمحال، ما يجعلنا نتخيل معه صورة بعض الحارات. ففي الجزء الأول مثلا، يتحدث عن باب البريد في سوق الحميدية خلال الخمسينيات، ومما يذكره التالي «وهو سوق مغطى في أوله ومكشوف في آخره، يتفرع من الجهة الشمالية لسوق الحميدية قبل المسكية مباشرة.. وكان في أوله بعد بضعة محلات من اليسار بائع حلويات مشهور «أبو حرب» وأمامه إلى يمين السائر مكتبة كبيرة «مكتبة القصيباتي» مختصة ببيع الكتب المستعملة القديمة والنادرة، صاحبها رجل مسن عبوس عصبي يجلس على «دكة» مرتفعة في مدخل المخزن يسأله الناس عن كتاب ما.. وفي باب البريد محلات لبيع بعض أنواع الأحذية والمأكولات منها «محل أبو العز» (الشهير) الذي كان محلا صغيرا يشغل مدخل أحد الدور يبيع الشواء و»الصفيحة». وفي الستينيات استعمل الدار كلها.. وكان أول مطعم من هذا النمط في دمشق، يقصده كثير من السياح للجو الشرقي». وهذا الرسم الدقيق للأحياء ووجوه الناس وأسماء المحال نراه أيضا في حديثه عن صالونات مسح وتصليح الأحذية في المدينة. إذ يكتب في أحد هوامش مجلده، أنّ أول صالون افتتح في أواخر الأربعينيات في المرجة في مدخل بناء العابد (أصبح محل حلويات مهنا بعد ذلك). ثم فُتح صالون آخر في زقاق رامي، وآخر في شارع العابد، ورابع في شارع النصر قبل جامع تنكز. وكانت محلات يتسع كل منها لبضع كراسي (لتلميع الأحذية) مع مكان فيه مصلح الأحذية (إسكافي).

عيادة الطبيب ابراهيم حقي في منطقة عرنوس في دمشق 1947
عيادة الطبيب ابراهيم حقي في منطقة عرنوس في دمشق 1947

وسيطبع هذا الاهتمام باليومي تفاصيل مجلده الثاني أيضا، مع التركيز على تتبّع أشياء صغيرة. فمثلا يخصّص فصلا للحديث عن تاريخ أقلام الرصاص في دمشق خلال ثمانين سنة، ويروي في فصل آخر قصصا عن صناعة الخبز في المدينة، وأيضا عن الطعام عموما. ونلاحظ أنّ حقي يتبع أسلوبا تكتيكيا في الدفاع عن تقاليد المدينة، لكن بأسلوب مغاير للكتاب الدمشقيين. فعلى صعيد الطعام، وخلافا لما فعله فخري البارودي في تدوين وصفات الطعام التقليدي في المدينة، نلاحظ حقي يركّز على تتبع الجديد (الأكل الجاهز) ومحاله، التي أخذت تنتشر في الستينيات. ففي السابق، كان تناول الرجل للطعام خارج منزله عادة غير محبوبة، وقد تتسبّب بكلام كثير عن زوجة الرجل التي لا تطبخ في المنزل، ما يجعلها «زوجة زقاقية» (نسبة للزقاق) وهي صورة ستبقى آثارها باقية إلى يومنا هذا، من خلال ربط الزوجة بالطبخ وإعداد الطعام، لكن في العقود الأخيرة، كانت دمشق تشهد تحولات اجتماعية وذوقية جديدة. وهذا ما نراه من خلال تتبّع حقي لأكلة الشاورما، ومحاولة تأريخه للمحال التي عملت فيها، ولاسيما مطعم الصديق في الاربعينيات في المرجة، ولاحقا أبو العبد. كما يقف عند أكلة الفروج المشوي، والمحال التي أخذت تبيعه. وكما أشرنا، فإنّ حقي في تأريخه لهذه التفاصيل، يبدو أن له هدفا آخر. فهو بدلا من ذكر تراث الماضي، حاول رصد التغيرات الجديدة وتدوينها، للدفاع عن الماضي أحيانا من خلال مقارنته بالحاضر، بدلا من تدوين تفاصيل عن الماضي فقط.
في المقابل، لا يعني هذا الدفاع عن الماضي بالمقابل، عدم موافقة حقي على المعاصر، وإنما القبول به بشروط وظروف وتعديلات. وربما يعكس هذا الشيء شخصية حقي المحافظة، وأيضا أهالي مدينة دمشق المحافظين، ولا أقول المتزمتين، بل هو نفسه محافظ إصلاحي ظل يحكم رؤية جيل حقي من الدمشقيين، وهو جيل لم يبدِ مواقف صلبة من الحداثة، بقدر ما كان يسعى لحداثته الإسلامية الناعمة مقارنة بالإسلامية الصلبة، وربما نرى هذا النفس في مجمل ذاكرة الراحل عن المدينة وأهلها، ولذلك نلاحظ في نهاية كل فصل يسارع إلى الاعتراف بسنة الحياة وتغيراتها، مع الإشارة إلى ضرورة الحفاظ على التقاليد. ونشهد الأمر ذاته والاهتمام باليومي في الفصل الذي خصّصه للباس في المدينة، وهنا يظهر لباس الدمشقيين مقارنة بصور اليوم، أنيقا، ونظيفا، بألوان معتدلة. كما وفر لنا أسماء الخياطين الذين عملوا، وما عرفته مهنتهم لاحقا. وحاول تتبّع لباس السيدات الدمشقيات منذ الأربعينيات، ما شكّل لنا صورة جيدة عن الأذواق والأخلاق والإسلام الجديد الذي أخذت ملامحه تظهر من خلال الفتاة التي ترتدي حجابا ملونا وبنطال جينز في شارع الشعلان والمولات في العقد الماضي.

سيرة مهنية

في سياق تتبعها للسيرة الذاتية الدمشقية في التسعينيات، لاحظت الأنثروبولوجية كريستينا سالامندرا، أنّ السيرة الذاتية الدمشقية افتقرت لوجود سيرة مهنية. إذ ركّزت معظم السير على تفاصيل دمشق القديمة، في ظل شعور كتابها بحصار المدينة في الثمانينيات والتسعينيات، واعتبار التراث بديلا للدفاع عنها. ومع أن هناك من كتب سيرا مهنية (سيرة بدر الدين الشلاح مثلا) لكن ربما ظل تركيز سالامندرا على النخب. وبالعودة للراحل حقي، فقد بقي في سنواته الأخيرة مشغولا بتدوين ذكرياته عن المدينة. ولذلك ما إن فرغ في عام 2015 من مجلديه الأولين حتى انكبّ على تدوين مذكراته ولتصدر بمجلدين أيضا بعنوان «سيرة طبيب دمشقي في القرن العشرين» لنكون أمام سيرة مهنية طويلة لم تعثر عليها سالامندرا في التسعينيات. ولعل أهم ما ميز هذه السيرة هي ثلاث نقاط: الأولى أنه سيؤرخ لسيرته، ليس اعتمادا على ذاكرته فحسب، بل نرى الطبيب حقي محتفظا بيوميات كتبها في فترة شبابه، وبوثائق دونها خلال عمله معيدا لكلية الطب في دمشق ومديرا لمشفى التوليد ولنقابة الأطباء في دمشق. وبالتالي نحن أمام نص يجمع بين أكثر من مصدر.

الطبيب إبراهيم حقي: مدوّن ذاكرة دمشق في القرن العشرين
الطبيب إبراهيم حقي: مدوّن ذاكرة دمشق في القرن العشرين

النقطة الثانية تتعلق بالصور التي رافقت السيرة، إذ ضمت سيرته ألبوم صور كاملا عن حياة حقي وأسرته منذ عام 1920، وهي صور تُظهِر أيضا إقبالا من قبل الدمشقيين على مظاهر عديدة من الحداثة، رغم الطابع المحافظ الذي ظل يحكم سلوكهم اليومي. فوفر لنا حقي من خلال هذه الصور، فرصة لدراسة مسار عائلة خلال مئة سنة، وما شهدته حياة العائلة هذه من تغيرات نراها في اللباس وطريقة تسريح الشعر وحتى أسلوب الابتسامة في الصور. النقطة الثالثة في السيرة، أنها ضمّت تفاصيل عن واقع الطب في دمشق ومشافيها، بدءاً من مشفى التوليد إلى المواساة إلى المجتهد ومشفى الطلياني، التي عمل فيها وأدار بعضها. ونرى في هذا المسار كيف أخذ القطاع العام الصحي يتدهور منذ الستينيات في البلاد، ما جعل الراحل حقي يترك عمله في الثمانينيات بعد معارك طبية إدارية، ويقرر المساهمة في بناء مشفى الشفاء الخاص. كما لم تخل سيرته عن المشافي من بعض الطرائف والتفاصيل الشيقة عن حياة المشفى وطواقمها، وهذا ما نراه مثلا في رصده الدرامي لحياة الممرضات ولباسهن ونوع الأحذية التي كن يرتدينها وأسلوبهن في السير داخل المشفى بكعب عال، والرنة التي ترافق ذلك.

على نهر جقجق: الواقع والذاكرة

وقبل أن نختتم الحديث عن الراحل ونتاجه، نشير إلى أن تدوينه للذاكرة، بدا ناجما من جانب عن محاولته هو وعدد من كتاب المدينة الدفاع عنها. فاللجوء للتراث والكتابة عن المدينة يصبح مدخلا لصناعة تقاليد حضرية تتيح لأهل المدينة الدفاع عنها. لكن في حالة حقي أيضا هناك عامل الحرب في البلاد، الذي بلا شك لعب دورا في دفعه لتدوين سيرته وذكرياته، وأيضا الكشف عن أوراق أخرى له ظلت مهمشة، وربما لم يكن لينشرها واكتفى بدمشق، لولا الحرب. وهنا نشير إلى كتيبين صغيرين نشرهما بعنوان «الجزيرة الباكية.. محافظة الحسكة في أربعينيات القرن العشرين» و»رحلة الصيف والشتاء» (ضمت عددا من الرسائل التي كتبها لصديقه الطبيب راتب كحالة عن رحلته للجزيرة). ومما يلاحظ في هذه اليوميات القديمة (كتبها 1946) أنّ ما دفعه للكتابة هي التغيرات التي باتت تعيشها الجزيرة وسوريا عموما. كان حقي في عام 1943- 44 ما يزال في السنة الخامسة من الطب، ووافق على السفر للجزيرة للمشاركة في الحملة التي أطلقتها الحكومتين السورية والفرنسية للتلقيح ضد التيفوس. لكنه لن يقتصر على معاينة وتلقيح الناس هناك، بل سيعمل أيضا على تدوين تفاصيل دقيقة عن حيواتهم وعاداتهم وتقاليدهم. وربما هذا الاهتمام باليومي، ظل يميز مهنة الأطباء في سوريا حتى يومنا هذا، ولذلك وجدت اليزابيث لونغنيس في سياق تتبعها لمهنة الطب في سوريا، أنّ قرب الأطباء من الناس جعلهم في مقدمة العاملين في حقل السياسة من أيام عبد الرحمن الشهبندر، مرورا بالجيل الأول من البعثيين (سامي الجندي، نور الدين الأتاسي) وغيرهم. والطريف في ما دونه حقي، قدرته على التقاط تفاصيل نادرة عن دير الزور والحسكة، ففي مقهى كربيس (مدينة القامشلي) القريب من نهر جقجق (أحد روافد الخابور) نرى حقي يجلس مستمعا في الأربعينيات لمغني شعبي يردد أغنية من التراث المردلي (نسبة لماردين) وبلهجة مردلية (وهي لهجة يصعب فهمها على أبناء المدينة، فكيف بشاب قادم قبل أيام قليلة من دمشق). تروي الأغنية قصة شاب توفيت حبيبته على غفلة، فأخذ يبكي مطالبا أهالي قريته بعدم تصديق ما يقولونه «تحبون الله لا تقولوا لي سعاد كلماتت (أي توفيت).. دلالي دلالي .. وانبارح العصر (العصرية كما تلفظ) في الحارة كلفاتت (مرت من الحارة).. دلالي دلال». وقد ظلت هذه الأغنية الشعبية، يرددها ويستمع إليها أهالي ماردين والقامشلي والموصل، كلما شعروا بالحزن والفقدان على عزيز ما أو الحنين لمدنهم. وربما هذا ما سيفعله كاتب هذا المقال بعد الانتهاء منها، حزنا على الراحل إبراهيم حقي، الذي عرفه من خلال مذكراته، وحنينا وشوقا إلى دمشق حقي وعدنان سالم ونجاة قصاب حسن وعشرات الأسماء والتفاصيل الصغيرة الأخرى.

محمد تركي الربيعو / القدس العربي

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *