العذراء الطاهرة…
لا توجد امرأة تنبأ عنها الأنبياء وأهتم بها الكتاب مثل مريم العذراء…رموز عديدة عنها في العهد القديم، وكذلك سيرتها وتسبحتها والمعجزات في العهد الجديد. وما أكثر التمجيدات والتأملات التي وردت عن العذراء في كتب الآباء التي تلقبها بها الكنيسة مستوحاة من روح الكتاب.
إنها أمنا كلنا، وسيدتنا كلنا، وفخر جنسنا، الملكة القائمة عن يمين الملك، العذراء دائمة البتولية،قبل واثناء وبعد الولادة المملوءة نعمة، القديسة مريم الأم القادرة، المعينة، الرحيمة، أم النور، أم الرحمة والخلاص، الكرمة الحقانية. هذه هي التي ترفعها الكنيسة فوق مرتبة رؤساء الملائكة فنقول عنها في تسابيحها وألحانها: ارتفعت يا مريم فوق الشيروبيم، وسموت يا مريم فوق السيرافيم.
لم يرد في الكتاب المقدس تاريخ القديسة حنة والقديس يواكيم – والديّ العذراء مريم – بل حتى تاريخ السيدة العذراء قبل خطبتها لأن الكتاب المقدس يركز كل اهتمامه على شخصية السيد المسيح له االمجد وترك باقي الأشياء للتقليد ليدونها ويذكرها للكنيسة المقدسة.
يذكر التقليد أنه كان في بلاد اليهودية رجل اسمه يواكيم (يهوه يقيم) وزوجته اسمها حَنَة (الحنون) وقد كانا متقدمين في السن ولم يرزقا بذرية .. ولأن بني إسرائيل كانوا يُعَّيرون من لا ولد له لهذا كانا القديسان حزينين ومداومين على الصلاة والطلب من الله نهاراًَ وليلاً أن يعطيهما ابناً يخدمه في بيته كصموئيل، فاستجاب الرب الدعاء فظهر ملاك الرب جبرائيل ليواكيم وبشره بأن امرأته حَنَة ستحبل وتلد مولوداً يسر قلبه، كما ظهر جبرائيل الملاك لحَنَة وزف إليها البشرى بأنها ستلد ابنة مباركة تطوبها جميع الأجيال لأن منها يكون خلاص آدم وذريته، وقضت حَنَة أيام حملها في صلواتٍ وأصوام إلى أن ولدت بنتاً وسمياها مريم (سيدة). ولما بلغت مريم 3 سنوات قام والداها بتقديمها للهيكل لتخدم الرب مع بقية العذارى. وظلت تخدم في الهيكل حتى بلغت الثانية عشر من عمرها، وكان أبواها قد ماتا وعندما بلغت سن الزواج تشاور الكهنة معاً على زواجها فاختار زكريا الكاهن من شيوخ وشبان يهوذا وأخذ عصيهم وكتب على كل واحدة اسم صاحبها ووضعهم داخل الهيكل فصعدت حمامة فوق العصا التي كانت ليوسف النجار ثم استقرت على رأسه فعقد الكهنة خطبتها على يوسف وعاشت في بيته الذي في الناصرة.
بشارة الملاك جبرائيل للعذراء
ظهر جبرائيل الملاك للعذراء مريم وبشرها بميلاد الطفل يسوع (لو 1: 26-38) وذلك بعد ستة أشهر من ظهوره لزكريا الكاهن وبشارته بميلاد يوحنا المعمدان.
فضائل العذراء
إذا كانت العذراء قد استطاعت أن تحوي بداخلها الغير المحوى فلقد تجملت بالفضائل الكثيرة التي أهلتها لذلك، وما كان يوجد من يفوقها من بعدها نقاءً وقداسة لكان الله قد أبطأ قدومه حتى جاء منها لذلك نحن نقول عن العذراء أنها قديسة الأجيال وقديسة القديسين.
1- الإتضاع والوداعة
لعل الفضيلة الأساسية والعظمى التي جعلت الرب ينظر إليها أنها كانت وديعة إذ قالت “لأنه نظر إلى اتضاع أمته”(لو 48:1).
وقد ظهرت وداعة العذراء مريم في عدة أمور
أ- احتمال الكرامة
قد يظن البعض إن احتمال الآلام صعب ولكن يجب أن نعرف إن احتمال الكرامة يحتاج إلى مجهود أكثر من احتمال الآلام والإهانات وقد قال أحد القديسين: “هناك الكثيرون يحتملون الإهانات ولكن القليلين يحتملون الكرامات”.
حينما صارت العذراء أماً لله لم تتكبر بل قالت للملاك البشير “هوذا أنا أمة للرب فليكن لي بحسب قولك…” و”…هامنذ الآن تطوبني جميع الأجيال”.
العذراء احتملت كرامة ومجد التجسد الإلهي منها، مجد حلول الروح القدس فيها، مجد ميلاد الرب منها. ومجد جميع الأجيال التي تطوبها. احتملت كل ظهورات الملائكة لها وسجود المجوس أمام ابنها والمعجزات الكثيرة التي حدثت من ابنها بل ونور هذا الابن الالهي في حضنها.
ب- إنكار الذات
حينما كان الرب في الهيكل وهو طفل صغير وبحثت عنه العذراء ولم تجده مع الأقرباء والمعارف وكان معها يوسف النجار. وأخيراً وجدته في الهيكل جالساً وسط المعلمين (لو2: 44-49) قالت له العذراء: “… هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين”.
العذراء كانت تعرف أن ابنها ليس ابناً ليوسف ومع ذلك كانت تدعوه أباً له. والأفضل من ذلك أنها كانت تقدمه على نفسها فتقول: ” … هوذا أبوك وأنا …”، معطية له كرامة أكثروهو من رباه وتعلم على يديه مهنة النجارة وحتى اتت الساعة…
ج- خدمة الآخرين
خدمة الآخرين تكون مبنيَّة على المحبة والتواضع، القديسة مريم ذهبت إلى اليصابات لتخدمها عندما علمت أنها حبلى مع إنها أم المسيح. إلاَّ إنها لم تمنعها كرامتها من أن تذهب إلى اليصابات في رحلة مضنية شاقة عبر الجبال وتمكث عندها 3 شهور تخدمها حتى ولدت يوحنا (لو 1: 39-56), فعلت ذلك وهي حبلى برب المجد.
ايمان العذراء الطاهرة
قالت اليصابات للعذراء: ” … طوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من قبل الرب …” (لو 45:1).
في بشارة الملاك للعذراء كشف لنا جوهر الإيمان العميق في حياتها. هذا الإيمان الذي تسلمته من أبويها وازداد نمواً بوجودها في الهيكل وصلواتها وتضرعاتها المستمرة وحفظها لكلام الرب الذي كانت تخبئه داخل قلبها.
ولكي ندرك مقدار وعظمة إيمان العذراء لنقارنه بإيمان زكريا الكاهن. إن الكاهن الشيخ لم يصدق كلام الله الذي يتم في حينه (لو 20:1) فلم تكن معجزة ولادة يوحنا من أم عاقر وأب شيخ. هي المعجزة الأولى في التاريخ إذ سبقتها معجزات. فهوذا إسحق قد وُلد من إبراهيم ذو المائة عام وسارة العاقر (تك 18). وآخرون كثيرون: صموئيل من حَنَة (1صم1). وشمشون من منوح وزوجته (قض13). ويعقوب وعيسو من رفقة (تك 25). ويوسف من راحيل (تك 31:29).
ولكن المعجزة التي لم يسبق أن حدث مثلها في التاريخ من قبل هي معجزة ولادة المسيح من عذراء بدون زرع بشر. ولكن مع ذلك فإن الأمر السهل لم يصدقه زكريا. والأمر الأصعب قبلته العذراء إذ كان لديها رصيد جبار من الإيمان.
كان إيمان العذراء يتصف بثلاث صفات
1- إيمان بلا شك
عندما بشر جبرائيل الملاك العذراء بميلاد المسيح قالت له مريم :”… ليكن لي كقولك …”. (لو 38:1).
لقد فاقت العذراء الكثير من القديسين والقديسات فهوذا سارة عندما سمعت بشارة الملائكة بميلاد إسحق ضحكت وقالت: ” … أبعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ …”. (تك12:18).
ليس سارة فقط لكن هذا توما الرسول يشك في قيامة السيد المسيح من بين الأموات، وبطرس الرسول الذي اشتهر بكلمة: “إن شك فيك الجميع فأنا لا أشك”. قال له السيد المسيح: “… يا قليل الإيمان لماذا شككت…”.
مع أن العذراء مريم سألت الملاك : “… كيف يكون هذا …”. إلاَّ إنها حينما رد عليها الملاك: “… الروح القدس يحّل عليك …” لم تتساءل للمرة الثانية بل آمنت وقالت: “… ليكن لي كقولك …”.
2- إيمان بلا جدال
هناك الكثير من النعم التي نفقدها إذا جادلنا وناقشنا وسألنا بعقلنا الجسدي وحكمتنا البشرية.لم يكن غريباً أن عاقراً تلد ..!! ولكن الغريب أن تلد عذراء لهذا قال الرب على لسان أشعياء النبي العظيم: “… يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابناً …”. (أش14:7) ومعروفة قصة سمعان الشيخ وتفكيره في هذه الآية.
هناك الكثير من أنبياء العهد القديم قد طلبوا من الرب علامات
– موسى النبي حين أرسله الله وأعطاه علامات تحويل العصا إلى حية وتحويل يده السليمة إلى برصاء (خر 4).
– جدعون وعلامة جزة الصوف (قض 6).
– حزقيا الملك ورجوع ظل الشمس 10 درجات (2مل 20: 9)
– زكريا الكاهن وعقوبته بالصمت.
– أما العذراء مريم فلم تطلب لا من الرب ولا من ملاك الرب أي علامة.
3- إيمان بلا خوف
كثيرون من الذين رأوا الرب أو تكلموا معه أصابهم الخوف مثال أشعياء النبي (أش 5:6), ومنوح وزوجته (قض 23:13).
أما العذراء فلم تؤمن لأنها خافت بل آمنت وهي في كامل ثباتها وقوتها. حقاً لقد اضطربت بعض الشيئ. كان في قلب مريم خوف الله ولكن لم يكن في قلبها خوف من الله لأن المحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج.
بين إيمان إبراهيم وإيمان العذراء مريم:
لقد وعد الله إبراهيم بنسل في الوقت الذي كان فيه قد صار شيخاً، وزوجته سارة كانت عاقراً ولكن “آمن إبراهيم بالله فحسب له براً” (تك 6:15).
“فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكي يصير أباً لأمم كثيرة. ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله بل تقوى بالإيمان معطياً مجداً لله وتيقن أن ما وعد به الله قادر أن يفعله …” (رو 4: 18-21) فكان إبراهيم بهذا أعظم نموذج للإيمان في العهد القديم.
لقد وضع الملاك جبرائيل القديسة مريم في موقف مشابه للموقف الذي كان فيه إبراهيم وسارة حينما سمعا كلمة الله من فم الملاك.
أخبر الملاك العذراء مريم عن حبل اليصابات التي كانت عاقراً فآمنت.
والثلاثة رجال أخبروا إبراهيم عن حبل سارة امرأته التي كانت عاقراً فآمن.
الملاك يقول لمريم: ” ليس شئ غير ممكن عند الله …” (لو37:1). وقال الرب لإبراهيم: “… هل يستحيل على الرب شيء …” (تك 14:18).
على العكس تماماً سارة لم تؤمن بكلام الملاك وكذلك زكريا الكاهن حتى إن نفس الكلام الذي قالته سارة في (تك 18: 12) كرره زكريا في (لو 1: 18).
كل بركات العهد القديم من إبراهيم حتى العذراء مريم كان بدايتها إيمان إبراهيم…
وكل بركات العهد الجديد كان بدايتها إيمان العذراء مريم.
اترك تعليقاً