القدّيس البارّ الشّيخ يوسف الهدوئيّ الآثوسيّ (١٨٩٨ – ١٩٥٩)
رقد يوم عيد رقاد والدة الإله في ١٥ آب شرقي (٢٨ آب غربي)، ولكن يُعيّد له في ١٦ آب شرقي (٢٩ آب غربي).
ولد فرانسيس (هذا كان اسمه) في باروس من جاورجيوس وماريا عام 1898.
في سن المراهقة ذهب للعمل في بيراوس وبقي يعمل في لافريو إلى أن انضمّ إلى القوات البحرية لإداء خدمة الوطن.
في جبل آثوس
في سن الثالث والعشرين ابتدأ يقرأ كتب الآباء القديسين، الأمر الذي شكّل نقطة تحوّل في حياة فرانسيس. إذ إن هذه المسيرة وحلماً أبصره ذات مره دفعاه إلى اقتبال الحياة الرهبانية. فابتدأ بالصلاة والصوم في الضيع القريبة غير المأهولة ومن هناك انتقل إلى جبل آثوس.
كان الشاب فرانسيس ينشد اقتناء الصلاة القلبية ولكنه لم يجد أباً روحياً يستطيع أن يعلّمه إياها عوض ذلك وجد لامبالاة عند الرهبان إزاء مطلبه.في خضم هذا البحث، اختبر رؤية للنور غير المخلوق اخترق قلبه ووهبه الصلاة القلبية.
الهدوئية
كان الشاب فرانسيس دائم التجوال في الجبل يمضي وقته في أماكن منعزلة لتلاوة صلاة يسوع. في إحدى المرات، على قمة جبل آثوس، التقى الأب أرسانيوس الذي أصبح رفيقه في النضال وكانا يتوقان سوية إلى الهدوئية. أخذا بالتفتيش عن أبٍ روحي مختبر يستطيع مساعدتهم. ولم يمضِ عليهما وقت طويل حتى تعرّفا إلى الشيخ أفرام صانع البراميل المقيم في كاتوناكيا في كوخ البشارة. رتبا حياتهما هناك للحصول على أكثر هدوء ممكن لتلاوة صلاة يسوع.كان الشيخ يوسف، إضافة إلى عمله اليومي وقانون صلاته، يلتجئ إلى كهف عند مغيب الشمس لتلاوة صلاة يسوع ست ساعات. بعد فترة وجيزة، نظراً لعدم تمكّنهما من الحصول على الهدوء الكافي في كوخ البشارة، انتقلا والشيخ أفرام إلى ناحية القدّيس باسيليوس حيث رقد الشيخ. منذ ذلك الحين أمضيا، الأب يوسف والأب أرسانيوس، الصيف متجوّلَين في جبل آثوس. وفي الشتاء عادا إلى ناحية القديس باسيليوس. كانا يملكان فقط ثيابهما الرهبانية. كان الأب يوسف يأكل القليل من الخبز اليابس في اليوم مع بعض الأعشاب البرية المسلوقة أحياناً. في هذه الفترة حورب الأب يوسف بشهوة الجسد مدة ثماني سنين ضاعف خلالها جهاداته من أصوام وأسهار وصلوات إلى أن انتصر بنعمة الله على هذه الشهوة ولم يعد يخالجه أي شعور بذاك الهوى.
رقاده
في هذه الفترة تعرفا إلى أب روحي مختبر في النسك والهدوئية هو الأب دانيال.وبمرور الزمن ازدادت شهرة الأب يوسف الذي أصبح أباً روحياً للشركة التي اقتبلت ثلاثة رهبان. عام 1938، وفي محاولة لإيجاد هدوء أكبر انتقل والشركة إلى ناحية كوخ القدّيسة حنة حيث نمت الشركة إلى سبعة رهبان. كان العيش هناك صعباً جداً وخالياً من كل تعزية. جاهد هناك الرهبان الجدد بإرشاد الشيخ لإقتناء الصلاة القلبية. كانوا يصنعون الصلبان الخشبية الصغيرة من الخشب، ومن إيرادها كانت الشركة تعيش وتوزع الحسنات. لم يكن الشيخ يوسف يسمح لنفسه بأي تعزية، كما لم يتخل عن نمط نسكه رغم ضعف جسده. بعد حوالي ثلاث عشرة سنة ونظراً للجهاد الجسدي الكبير المطلوب من الرهبان للعيش في اسقيط القدّيسة حنة، مرض معظم الآباء. هذا دفع الأب يوسف إلى نقل الشركة إلى الإسقيط الجديد. هناك رقد في 15 آب شرقي أي ٢٨ آب غربي عام 1959.
اعلان قداسته
أعلن المجمع المقدّس للبطريركيّة المسكونيّة قداسته في ٩ آذار ٢٠٢٠ وحدّد التّعييد له في ٢٩ آب غربي (١٦ آب شرقي).
قال احد تلاميذه عن ايامه الأخيرة
أيّام الشيخ يوسف الأخيرة كانت مؤلمة جدًّا، لأنّ حالة القلب المتدهورة الّتي عانى منها أثّرت في تنفّسه؛ فبات تعبًا جدًّا. بالنّسبة إلينا (أي شركته الرّهبانية)، كان هذا درسًا وفرصة لممارسة التّحمّل الصّبور. كنّا عارفين بجهاده، وفيما كنّا نحاول إراحته قليلًا، كان يعزّينا بطرق موافقة وأمثلة عمليّة، محدِّثًا إيّانا، خصوصًا، عن بطلان العالم. قال: “إنّ يوم مفارقتي قد دنا. الحالة الّتي أضحيت عليها تجعلني غير نافع لشيء؛ ولا أستطيع، في آن معًا، أن أجاهد، بعد”. لم ينس الشّيخ المخلّد الذّكر البتّة، ما كان يرمي إليه، فكان بما أوتي وبما وفّرته له المناسبات يجد سببًا للجهاد ويأخذ ثمرًا. وإذ لم يكن قادرًا على الحركة أو التّمدّد بسبب علّته، قعد على كرسيٍّ مرتجَل بذراعين، وكان كرسيًّا يمكن طيّه. كان دائم البكاء على بطلان الحياة. انتظر إطلاقَه من هذه الحياة كأسعد وقت في حياته، وكان يُهَمْهِم طروباريّات الرّاقدين حين لم تكن صعوبة التّنفّس تقضّه. قال لأرسانيوس مازحًا: “متى يكون الرّحيل؟ إنّك لا تصلّي كما يبدو وقد تأخّر الوقت”. ولأربعين يومًا تقريبًا، أيّامه الأخيرة، لم يأكل شيئًا، فقط تناول القدسات يوميًّا، وأخذ بعض البطّيخ الأحمر. لقد أظهر الشّيخ اهتمامًا فائقًا برحيله حتّى بدا للمرء كأنّه كان، في ذلك الوقت، يتهيّأ لرحلة، وكان في انتظار وسيلة النّقل. حاولنا، على الأقلّ، إنّما من دون جدوى، أن نريحه بعض الشّيء بأيّة وسيلة ممكنة، طبّيّة أو عمليّة؛ إذ كانت هناك فترات بلغت فيها صعوبة التّنفّس لديه حدًّا خطيرًا. قال لنا: “لا تُتعبوا أنفسكم، يا أولادي. لن أبقى، بعد. لقد انتظرت هذه الفرصة طويلًا! فقط، صلّوا لئلّا يقف في وجه رجائي أيّ عائق. ما دام الإنسان على قيد الحياة فلا يمكنه أن يخلو من الهمّ”. في اليوم السابع و العشرون من شهر آب من السّنة 1959، كان الشّيخ مستغرقًا في إعداداته. وإذ ارتحل ذهنه إلى اليوم التّالي، الّذي كان مصادفًا فيه ذكرى رقاد والدة الإله، انتظر بفارغ الصّبر. كان في انتظار شيء ما. في ذلك الوقت عينه، ساءت حاله. قبل ذلك، جاء إليه بعض أصدقائه من المؤمنين لإلقاء التّحيّة؛ ولمّا تمنّوا له الشّفاء، قال لهم: “كلّا، كلّا، أنا مغادر قريبًا! حين تسمعون الأجراس في سحابة ثلاثة أيّام، فستعرفون أنّ صاحبكم قد ارتحل. وإنّي لَأحسب أنّ ذلك سيكون في عيد السّيّدة الكلّيّة القداسة”. في اليوم التّالي، كان عيد والدة الإله، وفي القدّاس الإلهيّ، قال بصعوبة التّريصاجيون، وتناول القدسات للمرّة الأخيرة، قائلًا: “زاد لرحلة الحياة الأبديّة”. شخَص في أيقونة السّيّدة الّتي طالما أحبّها، وكأنّه يطلب منها شيئًا – شيئًا لأنّها هي تعرف كلَّ شيء عنه. دموعه الهادئة شهدت لطلبة نفسه العميقة إليها، وهي الّتي طالما عزّته، ونصحته أن يمكث على الرّجاء الرّاسخ برأفتها.
لكن، ألا تخبر سيّدتنا الكلّيّة الحلاوة سريًّا، كلّ واحد منّا، نحن المقيمين في هذه الحديقة الإلهيّة، خاصّتها، أن نضع رجاءنا عليها؟! أليس تدبيرها الحيويّ والثّابت، في حياتنا اليوميّة، تذكيرًا دائمًا لنا أنّ محبّتها الأمّهيّة باقية معنا أبدًا؟! أيّتها السّيّدة الكلّيّة الحلاوة، مرساة رجائنا، أيّ شيء آخر بإمكاننا، نحن الوضيعين، أن نتّكئ عليه، في هذه الأياّم الشّرّيرة، بعدما انقلب كلّ شيء رأسًا على عقب، غير حمايتك الّتي لا تخيب، ودالّتك الأمّهيّة عند ابنك؟ كم هي موافقة تلك الطّروباريّة من قانون سيّدتنا، الّتي وضعها يوحنّا الأوخاييطيّ )ثيوتوكاريون، أحد اللّحن السّادس، الأودية التّاسعة) الّتي لا يمكن، على ما أظنّ، إلّا أن تكون معروفة لدينا جميعًا، نحن الآثوسيّين: “كما يرفع الخادم عينيه الخارجيّتين إلى يد سيِّده، أيّتها السّيِّدة الكلّيّة التّسبيح، كذلك أرفعُ عينيّ الخارجيّتين والدّاخليّتين إليكِ، أيّتها السّيِّدة، الأم، سيّدتي وحياتي، لكي تترأّفي بي.” بهذا الإيمان والحميّة بدأ شيخنا المخلّد مسيرته، وبهذا الرّجاء وجّه طلبته الأخيرة إلى حامية آثوس المقدّس ومغذّيته! جبل آثوس الّذي هو حلبة مصارعة روحيّة تستمر إلى نهاية المهمّة النّبيلة، الّتي اقتبلها منذ نيّف وألف سنة. لقد نفّذتْ سيّدتنا وعدها للشّيخ بالكامل – أن يضع رجاءه عليها – وذلك بالهبة الأخيرة الّتي أسبغتها عليه، حين تلقّت روحه، يوم رقادها المقدّس الخاصّ بها.
جلس على كرسيِّه يحارب، بصعوبة متزايدة، لالتقاط أنفاسه، وقد بَقِيَ الأب أرسانيوس بجانبه، كما كان حاله دائمًا، فيما أعطى الباقين كلّهم البركة. ولمّا شاء الأب أرسانيوس أن يفرك له قدميه للحظة، عساه يريحه قليلًا، لم يدعه، بل قال له: “كفاك، أيّها الأب أرسانيوس، لا تفعل شيئًا. كلّ شيء قد انتهى. أنا راحل”. أخذ بيد رفيقه الدّائم في الجهاد النّسكيّ كما ليودّعه للمرّة الأخيرة؛ وإذ تطلّع للحظة إلى فوق، أسلم روحه المقدّسة بسلام. لمّا التأمنا حوله، كان قد غادرنا. ما إن احتفل معنا بالعبور الإلهيّ لسيّدتنا والدة الإله حتّى انطلق عنّا، ليحتفل بهذا اليوم البهج في السّماء أيضًا. كان اليوم الجمعة صباحًا، بعد شروق الشّمس. في اليوم التّالي، لمّا جرت جنازته – هناك في البقعة الّتي رقد فيها، كما طلب – كلّ آباء الإسقيط جاؤوا. أحبّ كلّ واحد منهم، وأحبّه الجميع. في الأيّام الأخيرة، قبل رقاده، قال لأحد إخوتنا، الّذي كان خارج المنسك يوم الجنازة: “متى غادرتُ، سوف أستفقدك حيث تكون”. وفعليًّا، كما أخبرنا ذاك الأخ، فيما بعد، في اليوم الأربعين لوفاته، بالضّبط، زاره الشّيخ في قلّايته؛ فامتلأت الغرفة كلّها من رائحة الطّيب. كذلك، عاشت، في تسالونيكي، امرأة مسنّة تقيّة كان الشّيخ يعرفها جيِّدًا. هذه أخبرتنا أنّه في الخامس عشر من شهر آب؛ بكلام آخر، اليوم الّذي رقد فيه الشّيخ، جاء ليراها، بصورة منظورة، حيث كانت تقيم؛ فسألته بدهشة واستغراب: “كيف جئت إلى هنا، أيّها الشّيخ؟ هل حدث أنّك رقدت؟!”؛ فأجابها: “أجل، وقد أتيتُكِ مودِّعًا”. هناك، طبعًا، العديد من القصص الأخرى كهذه الّتي رويناها. مرّات عديدة، بعد رقاده، إذ ظهر لبعض النّاس وعزّاهم، لكنّنا نعبر بهذه القصص، لنفسح في المجال للمعنيّين أنفسهم أن يحدّثوا بما جرى لهم، ولأنّ الشّيخ لا يهتمّ كثيرًا بظهورات من هذا النّوع.
Beta feature
اترك تعليقاً