المتروبوليت أثناسيوس ، مطران الحماصنة ، وتلامذته كهنة سان باولو
لعلها إحدى الظواهر النادرة، التي قلّما تحصل في تاريخ الكنيسة شرقاً وغرباً. نعني بها حقيقة شعور أبناء حمص من طائفة الروم نحو راعيهم الوقور على أنه أبوهم الروحي وراعيهم، لا في حمص وحدها، مدينةً وريفاً، بل وفي المغتربات أيضاً: في طنطا بمصر، في نيويورك بأميركا، وخصوصاً في سان باولو بالبرازيل.
لا نعثر قطّ في الأدب الكنسي والرعوي، الأنطاكي تحديداً، بما فيه الشعر، على محبة فائقة كهذه التي يكنّها الحمصيون في كل بقعة من بقاع الأرض لراعيهم المطران أثناسيوس، وهي المحبة البنوية المقرونة بالعرفان، والاستعداد التام والدائم لتلبية نداءاته، لعون المنكوبين وعضد الفقراء والمساكين ودعم المشاريع الخيرية. لا في النطاق الجغرافي لأبرشيته وحسب بل وعلى مدى بلاد الانتشار التي وُجدوا فيها، فلم ينسوا إطلاقاً أباً حانياً عليهم جميعاً حتى في غربتهم وسائلاً عن أحوالهم ومفتقداً لشؤونهم أينما ارتحلوا وحلّوا.
في العام 1896 انطلقت من حمص طلائع المهاجرين إلى أميركا الجنوبية ولاسيّما البرازيل، وسرعان ما حققوا النجاح والتميّز، متكلين على الله ومعتمدين على الاجتهاد بالعمل، فوصلوا إلى حالة جيدة من الرخاء المادي والاجتماعي. واحدة فقط أعوزتهم، وهي توحيد قلوبهم وتجميع قواهم لتأسيس رعية وإنشاء كنيسة، يؤدّون فيها فروض عبادتهم العريقة التي نشأوا عليها.
وفي هذا الأمر كان المطران أثناسيوس خير معين، حيث أنفذ إليهم أولاً تلميذه الأرشمندريت سلبستروس صغير، رجل الله المشهود له بالعلم والتقوى والفضيلة، الذي كرّس حياته لتهذيب ناشئة الشبيبة الحمصية في حمص أولاً، برفقة معلمه، ثم في سان باولو. وخلال عام واحد من وصوله إلى العالم الجديد في العام 1904، تمكن الأرشمندريت سلبستروس من تأسيس أول رعية أنطاكية في البرازيل، على اسم نياح السيدة. ولقد واظب على الخدمة الروحية اللائقة حتى رقاده بالرب عام 1916، فكان الراعي الصالح الذي جمع أبناء حمص المشتتين فبلغوا ما بلغوا من الازدهار، ولم ينسوا إخوة لهم في الوطن يرعاهم بكل حكمة مطران متفان في غاية النشاط والحيوية.
ومع تأسيس أول رعية في في سان باولو على يد تلميذ مطران حمص، تأسس المفوض الملي للطائفة الذي سرعان ما استدعى أعضاؤه الغيورون، للعناية الروحية بهم، أحد أقدم تلامذة المطران أثناسيوس حين كان لا يزال رئيساً لدير مار الياس شويا، هو الأب الجليل موسى مرهج من الشوير (+ 1928)، الذي كان في ذلك الوقت من العام 1907 كاهناً في معلقة زحلة. وفي العام التالي، توجه إلى سان باولو بطلب من الجالية الحمصية فيها الأب الفاضل والشديد الورع الخوري نقولا شكور (+1933)، ابن حمص البارّ الذي تتلمذ على مطران حمص منذ تسلّمه رئاسة الأبرشية فكان من أوائل الكهنة الذين رسمهم، وكان بالفعل رسول الرحمة.
وبجهود الأباء الثلاثة وغيرة أبناء الرعية تمّ بناء كنيسة سورية أرثوذكسية حسنة الهندسة وتشكيل العديد من المنتديات الأدبية والجمعيات الخيرية، والتي ازدهرت ازدهاراً كبيراً و لا يزال أكثرها قائماً إلى اليوم.
وفي السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني 1923، نعى البرق إلى الجالية في البرازيل مصلح حمص وباعث نهضتها، فكان لنعيه رنّة أسف شديد في قلوب الحمصيين، الذين يقدّرون الفضل والفضيلة، فأغلق الجميع محلاتهم التجارية وشاركهم في ذلك الأفاضل من إخوتهم المسلمين كالسادة آل محرم وآل عكام، فظهر الشارع التجاري الشهير 25 دي مارسو بمظهر رهيب، وأقيمت الحفلات التأبينية التي تليق بمقام الراحل العظيم، وتليت الخطب والتقاريظ التي تلقي الضوء على فضائل الطيب الذكر وتعبّر عن هول الفاجعة بانتقال فقيد المبرّات.
اترك تعليقاً