في عام ٤٥١م اجتمع في مدينةِ خلقيدونية (في القسم الشرقي من آسيا الصغرى ٦٣٠ أب من آباء الكنيسة جمعاء لمعالجة موضوع عقائدي وجوهري وإيماني يتعلّق بالرّب يسوع المسيح. لذا عُرف بمجمع خلقيدونية.
نجم عن هذا المجمع انشقاق الأقباط والأرمن والسريان عن الكنيسة الروميّة وبالتالي فسخ الشراكة معها.
المعارضون لهذا المجمع رفضوا أن يُطلق اصطلاح “طبيعتين” على الرّب يسوع المسيح، إذ كان اصطلاح طبيعة يوازي عندهم “شخص”، وبالتالي لا يمكن بالنسبة لهم أن يكون الرّب يسوع شخصين متّحدين مع بعضهما بعض، وخاصةً أن مقولة القدّيس كيرلس (٤١٢-٤٤٤م) بأنّه هناك “طبيعة واحدة للإله الكلمة المتجسد” كانت سائدة بقوّة.
يتكلّم الباحثون التاريخيّون بأنّه هناك عدّة عوامل أدّت إلى هذا الإنشقاق، فبالإضافة إلى الخلاف اللغويّ هناك عوامل إتنيّة وسياسيّة عدا عن النزعة الإستقلاليّة التي كانت سائدة في المناطق الأرمنيّة والسريانيّة والإسكندرانيّة عن الإمبراطوريّة الروميّة، كما يمكن إضافة العوامل التي نتجت عن المجمع الذي انعقد في أفسس عام ٤٤٩م ويُعرف بالمجمع باللصوصي.
أكدّت الكنيسة في هذا المجمع إيمانها بوحدة شخص المسيح وبـ“الطبيعتين في المسيح”، الطبيعة الإلهيّة الكاملة والطبيعة الإنسانيّة الكاملة.
– الأسباب الداعية لعقد المجمع
أعلن افتيخيوس، وهو كان رئيس دير في القسطنطينيّة يضم أكثر من ٣٠٠ راهبًا، يدعمه ديوسقورس بطريرك الإسكندرية، أنّ طبيعتَي المسيح، الطبيعة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة، اتّحدتا وصارتا بعد تأنّسه طبيعة واحدة، إذ ابتلعت الطبيعة الإلهيّة الطبيعة الإنسانيّة.
وبرّر افتيخيوس قوله هذا مستنداً إلى عبارة استعملها القدّيس كيرلّس الإسكندريّ: “الطبيعة الواحدة المتجسّدة للإله الكلمة”.
وقد يكون لسوء الفهم اللغويّ بين مسيحيّي تلك الأيّام (وبخاصّةٍ في القسطنطينيّة وأنطاكية والإسكندرية)، قد ساهم في تغزية الإنشقاق الذي نتج عن هذا المجمع، عدا عن عوامل سياسيّة وإتنيّة أخرى.
آمن افتيخيوس بوجود طبيعتين للمسيح قبل التجسد (ربما يكون قد شايع اوريجنس الإسكندري في نظريّة الوجود الأزلي للأرواح)، غير أنّه لم يعترف سوى بطبيعة واحدة بعد التجسد معتقدًا بأن اللاهوت قد امتص الناسوت الذي ذاب في اللاهوت كما تذوب نقطة عسل عندما تسقط في محيط من الماء.
كرلس وتعبير الطبيعة الواحدة
لا ريب أنّ القدّيس كرلّس كان يقصد بلفظ “طبيعة” (فيسيس باليونانيّة) الشخص الواحد، إذ كان يقول إنّ يسوع هو “طبيعة واحدة” مكوّنة من عنصرين، عنصر إلهيّ وعنصر إنسانيّ، أي إنّ يسوع هو “كائن فرد”، “شخص واحد”، إله وإنسان معاً.
أمّا في أنطاكيّة والقسطنطينيّة، فكان لفظ “طبيعة” يعني الخصائص التي تحدّد الكائنات وتميّزها بعضها عن بعض. ففي هذا المعنى تتميّز الطبيعة الإلهيّة عن الطبيعة الإنسانيّة بالأزليّة والقدرة اللامتناهية من جهة، والخلق من العدم من جهة اخرى. وهذا ما درج إلى اليوم عن لفظ “طبيعة”، أي إنّ الخصائص والميّزات التي يتمتّع بها أيّ كائن هي التي تحدّد طبيعته.
– مجمع القسطنطينية ٤٤٨م
في مجمع عُقد في القسطنطينية العام ٤٤٨م رئسه فلافيانوس رئيس أساقفتها، قدّم اسابيوس أسقف مدينة “دورله” شكوى مكتوبة، قبلها فلافيانوس، ضد تعاليم افتيخيوس يتّهمه فيها بالهرطقة.
وكان اسابيوس قد اطّلع على مجلّد من ثلاثة أجزاء عنوانه “الشحاذ” (والمقصود افتيخيوس)، وضعه ثيودوريتوس أسقف قورش (الذي سيدين المجمع المسكوني الخامس كتاباته ضد كيرلس)، وقام بنشره في العام ٤٤٧م، والذي على أساسه اعتبر أن تعاليم افتيخيوس غير أرثوذكسيّة.
أثبت هذا المجمع انحراف رأي افتيخيوس وجرّده من رتبته الكنسيّة والرهبانيّة وقطعه عن الشركة، ولكن افتيخيوس، الذي لم يرتدع، رفع قضيّته إلى مجامع رومية والإسكندريّة وأورشليم لإنصافه، ممّا جعل أن ديوسقوروس بطريرك الاسكندريّة اتّخذ، في مجمع محلي، قرارًا اعترف فيه بدرجات افتيخيوس الكهنوتيّة وأعاده إلى ديره.
غير أن لاون بابا رومية -على عكس قرار الإسكندريّة- وافق على أعمال مجمع القسطنطينيّة (٤٤٨م)، وأصدر رسالة مجمعيّة شهيرة دان فيها هرطقة افتيخيوس، وشرح قضيّة أقنوم الكلمة الإلهيّ الواحد في طبيعتين.
– مجمع أفسس ٤٤٩م (المجمع اللصوصي)
من المعروف أن افتيخيوس كان مقرَّبا من الإمبراطور ثيوذوسيوس بسبب كريسافيوس وزيره، لأن افتيخيوس كان عرّاب كريسافيوس في المعموديّة، وعليه فقد استطاع إقناع الإمبراطور بدعوة مجمع آخر للبحث في تعاليمه، وتمّ ذلك في افسس في السنة ٤٤٩م.
رئس هذا المجمع بطريرك الإسكندريّة ديوسقوروس الذي تمكّن من فرض رأيه على الآباء ال ١٣٥، وذلك بمؤازرة أساقفة مصر المتحيّزين لافتيخيوس وقوّة سواعد زمرة من الرهبان المتعصّبين يتزعمهم برسوم السوري.
برر المجتمعون افتيخيوس من كلّ التهم التي أُلصقت به، وحرموا بعض الأساقفة مناوئيه مثل فلافيانوس بطريرك القسطنطينيّة -الذي رقد بعد أيام معدودة وهو في طريقه إلى منفاه متأثرًا بجراحاته بسبب الضرب الذي انهال عليه في إحدى جلسات المجمع -ودمنوس الأنطاكي وثيودوريتس القورشي.
استطاع موفدو روما الهرب إلى بلادهم حاملين الاستدعاء من ضحايا هذا المجمع إلى لاون الكبير الذي سارع إلى عقد مجمع في رومية ودعا مجمع افسس بـ”المجمع اللصوصي”.
حاول أسقف رومية مرارًا عديدة إقناع الإمبراطور ثيوذوسيوس بعقد مجمع مسكوني في إيطاليا، غير أن محاولاته كلّها باءت بالفشل.
– إلتئام المجمع
في السنة ٤٥٠م رقد الإمبراطور ثيوذوسيوس الثاني فخلفته بوليخاريا شقيقته التي وافقت على الزواج من مركيانوس قائد جيشها لمشاركتها بإدارة المملكة شريطة أن تبقى عذراء.
أرجع مركيانوس الأساقفة المنفيّين واستجاب لطلب البابا لاون، فدعا إلى مجمع في مدينة “خليقدون” اعتبرته الكنيسة الشرقيّة والغربية المجمع المسكوني الرابع.
التأم مجمع خليقدونية في السنة ٤٥١م وشارك فيه٦٣٠م أسقفًا، أبطلوا جميعهم مجمع افسس اللصوصي، ودانوا هرطقتي افتيخيوس ونسطوريوس معًا، وحرموا ديوسقوروس أسقف الإسكندريّة لتمنُّعه عن المثول أمام المجمع، على الرغم من دعوته ثلاث مرات إلى الحضور، وتاليًا لتحيّزه وعدم أخلاقيته اللذين أظهرهما في مجمع أفسس.
قابل الآباء بحرارة رسالة لاون التي حال ديوسقوروس – في مجمع افسس (٤٤٩م) – دون قراءتها، وفيها يُفرّق لاون بوضوح خالص بين الطبيعتين – يشرح بوضوح وجود الطبيعتين في الأقنوم الواحد. وأعربوا عن إيمانهم بالابن الواحد “الكامل من حيث الوهيته والكامل من حيث إنسانيته، الإله الحقّ والإنسان الحقّ، واعترفوا “باتّحاد الطبيعتين اتّحادًا جوهريًا بلا انقسام ولا انفصال ولا اختلاط… وبأنّه اتّحاد حقيقي في الجوهر والتركيب”
فـ “في المسيح اقنوم واحد مؤلَّف من طبيعتين متميّزتين: اللاهوت والناسوت”.
ومن أهمّ ما ورد في هذا التحديد
“إنّ المسيح هو نفسه تامّ في الألوهة وتامّ في البشريّة، إله حقّ وإنسان حقّ. إنّه مساوٍ للآب في الألوهة ومساوٍ لنا في البشريّة، شبيه بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة. قبل كلّ الدهور وُلد من الآب بحسب الألوهة، وفي الأيّام الأخيرة هو نفسه، لأجلنا ولأجل خلاصنا، وُلد من مريم العذراء و الدة الإله، بحسب البشريّة. واحدٌ هو، وهو نفسه المسيح، ابن الله، الربّ، الذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحدٌ هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الربّ يسوع المسيح”.
* في هذا التحديد الخلقيدونيّ أعاد الآباء التشديد على دستور الإيمان. كما شدّدوا
على أمرين هامّين في ما يختصّ بشخص يسوع المسيح
– الأوّل، وحدة الشخص في السيّد المسيح، وهذا ما تدلّ عليه إشارة “واحدٌ هو، وهو نفسه”؛ فيسوع شخص واحد، وهو نفسه كلمة الله الأزليّ المولود من الآب قبل كلّ الدهور والمولود من السيّدة مريم في البشريّة. – الثاني، محافظة كلّ طبيعة من الطبيعتين على خصائصها في وحدة الشخص.
فالكلمة صار بشراً واتّخذ الطبيعة البشريّة كلّها ما خلا الخطيئة، دون أن يتخلّى عن طبيعته الإلهيّة.
برّأ مجمع خليقدونية ثيودوريتس القورشي وإيفا الرهاوي وبعض الأساقفة الآخرين، وذلك بعد تأييدهم قطع نسطوريوس واعترافهم بان مريم هي والدة الإله وإنكارهم تقسيم الابن الوحيد إلى اثنين.
وسن المجمع ثلاثين قانونًا، أشهرها القانون الثامن والعشرون المتعلّق بالمساواة بالكرامة بين أسقفي روما القديمة وروما الجديدة (القسطنطينيّة)، وحرّر أورشليم من سلطة القيصريّة وأعطاها المرتبة الخامسة بين الكنائس الكبرى.
الخاتمة
مع أنّ هدف الآباء الخلقيدونيّين بتّ مسألة وحدة الشخص في المسيح مرّة وإلى الأبد، مع التشديد على الطبيعتين فيه، بقيت الكنائس الشرقيّة ذات التقليد القبطيّ والأرمنيّ والسريانيّ تعتبر الألفاظ المستعملة في هذا المجمع تشير إلى وجود “شخصين في المسيح”، وهذا بالضبط ما رفضه الخلقيدونيّون رفضاً باتّاً، بتأكيدهم وحدة الشخص في المسيح.
مِن هنا الأفضل عدم إطلاق على تلك الكنائس أنّها مونوفيزيّة، أي “القائلة بالطبيعة الواحدة” بل استعمال تعبير “غير خلقيدونيّة” لحين إزالة كلّ الإشكالات.
رجاؤنا كبير بأن ترى أعيننا دفن هذا الخلاف بين الكنائس والتعيّيد للوحدة.
– القديسة أوفيميّة والمجمع الرّابع
لمّا اجتمع الآباء الستمائة والثلاثون في المجمع المسكوني الرابع (خلقيدونيا ٤٥١م)، بهمّة الإمبراطورين التقيين مرقيانوس وبلخاريا، في البازيليكا الفسيحة للقدّيسة أوفيمية، كان سعي الآباء دحض الآراء الهرطوقيّة للأرشمندريت أفتيخيوس المدعوم من رئيس أساقفة الإسكندريّة ديوسكوروس.
والتماسًا لحكم قاطع من الله في هذا الشأن اقترح البطريرك القدّيس أناتوليوس أن يحرّر الفريقان كتاباً لكلّ منهما يتضمّنه دستور إيمانه الخاص به، وأن تُجعل الوثيقتان في الصندوق الذي يضمّ جسد القدّيسة أوفيميّة.
فلمّا وُضع الكتابان على صدر القدّيسة خُتم الصندوق وانصرف الآباء إلى الصلاة. بعد ثمانية أيام عاد الجميع إلى المكان. فما أن فتحوا الصندوق حتى اكتشفوا أن القدّيسة كانت تضمّ كتاب الإيمان الأرثوذكسي إلى صدرها، فيما وُجد كتاب الهراطقة عند قدميها.
وثمّة رواية قديمة أخرى لِما حدث مفادها أنّ الآباء جعلوا الوثيقتين في الصندوق، للحال مدّت القديسة يدها وأخذت كتاب الإيمان القويم وقبّلته وسلّمته إلى الآباء.
وفي الرسالة التي كتبها آباء المجمع للقدّيس لاون الأول الرومي قالوا
“إنّ القديسة الشهيدة أوفيميّة إذ اقتبلت منّا التحديد العقيدي، قدّمته إلى عريسها بوساطة الإمبراطور والإمبراطورة باعتباره الإيمان الذي تدين به، فثبّتت باليد واللسان المرسوم الموقَّع من الجميع”.
⁜ اختار آباءُ الكنيسة لإنجيلِ اليوم بمناسبة هذا المجمع قولَ المسيح التالي:
“أنتم نورُ العالم”.
كلمةُ نورِ العالم كلمةٌ كبيرةٌ وهامةٌ وعظيمةٌ. دون نورٍ لا تنتفع أعيننا من الرؤية، الرؤيةُ تحتاجُ إلى نورٍ، هنالك الشمسُ وهنالك الكواكبُ وهنالك الأنوارُ الساطعةُ بوساطة الكهرباء كلّها تعطي نورٌ، وكلّ هذا آتٍ مِن أنّ الله يوم خلقَ العالم خلقَ فيه نور.
ولكن النور المقصود اليوم هو نورٌ إضافيٌّ استثنائيٌّ يكشفٌ لنا أنّ الإنسانَ الذي يُرى بنورٍ يشعُ منه هو إنسانٌ يحملُ الله، يحملُ المسيحَ، وبداخله نورُ الألوهة التي أعطت النورَ وهي التي نحتاجها اليوم لتكون النورَ، مِن أجل أن نرى من خلالها بعضنا البعض.
يقول الرب يسوعُ المسيح متابعاً لآيته الأولى “أنتم نور العالم” “هكذا ليضئ نوركم قدّام الناسِ ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات”.
نحن أدواتٌ أيضاً نساعدُ الآخرين بالنور الذي نحمله لكي يتواصلَ مع مصدره الذي هو الله الآب فيمجّدونه ويسبّحونه، وهكذا نحيا كعائلةٍ حقيقيةٍ، الله في السماء أبونا وربّنا وملهمنا ونحن كأعضاء لأسرته بعضنا مع بعض نتحابب ونخدم ونلبّي طلبات بعضنا بعض بقلوبٍ نقيةٍ وأيادٍ نظيفة.
على هذه الصورة نكون قد حققنا إرادة الله.
الإنجيلُ هذا وُضع من أجل وصفٍ لهؤلاء الآباء ٦٣٠ الذين شكلّوا المجمع الخلقيدوني ، المجمع المسكوني الرابع، أي أنّهم كانوا حقّاً نوراً للعالم، ونحن بحسب تعليمهم الذي علّموه، الذي أعطونا إيّاه والذي نسير على سنّته، هو آتٍ من الاستنارةِ الحقيقيةِ مِن ذاك النورِ الذي ألهم عقولهم وقلوبهم لكي يخطّوا لنا العقيدة المسيحيّة والطريقَ نحو الملكوت.
فلنكن مقتدين بهم، وليكونوا هم دائماً قدوةً لنا من خلال المسيح الساكن فيهم ليسكن فينا.