المطران اثناسيوس أبو شعر الدمشقي
المطران اثناسيوس أبو شعر الدمشقي
مقدمة
نادرون هم من عرفوا هذا العَلَمْ الإكليريكي الأرثوذكسي الدمشقي، وخاصة بعد مضي أكثر من قرن عليه، كان معروفاً في زمانه كما تشير بعض الروايات من كبار السن، ولكن بكل أسف تسكت المصادر المكتوبة المؤرخة للكرسي الانطاكي، وبخاصة لشيخ مؤرخي انطاكية العظمى الدكتور اسد رستم في كتابه الأشهر “تاريخ انطاكية” عن إتيان ذكره ولا غيره فعلها، وسعينا كثيراً في كتب مماثلة دون جدوى!!! ثمة إشارات وردت من خلال بعض الوثائق البطريركية التي تصدينا لتكشيفها وخاصة في مرحلة صيرورته وكيلاً بطريركياً ولكنها لم توثق له كما يتوجب وان كانت قد اعطتنا صورة عن حسن خدمته للرعية بصفته وكيلاً بطريركياً.
راجعنا عائلته لتزودنا بمعلومات شخصية عنه فأفادتنا بتاريخ عن عائلة “أبو شعر” (أدناه) مع صور ضوئية لأيقونات باسم المذكور، وقرصاً الكترونياً مدمجاً بالأوسمة التي مُنحت له، ولكن بدون أية معلومات ذاتية عنه، ما اضطرنا للافتراض تحديداً بهذه التواريخ من خلال الشهادات الشفهية وبعض خصاله للقلة المسنة الذين تواردت إليهم واختزنوها في ذواكرهم.
وقد اورد العلامة الاستاذ عيسى اسكندر المعلوف في ثنايا كتابه الاشهر عن آل المعلوف ما اقتنصنا منه التالي:
” ان اصل عائلة ابو شعر من ازرع حوران، ولعلها من فرع او بطن (فرح)، هاجر جدها الأعلى نصر الله الغساني او الغسيني في اثناء القرن 12م مع الكثير من افراد اسرته وغيرها من الاسر الى دمشق وسكنوها فهي حاضرة الديار وعاصمتها ،واشتهر منهم الطبيب عيسى من اطباء صلاح الدين الايوبي الخاصين. وفي اوائل القرن 17 لقب فرع منهم ب”بني العرقجي”، وذهب بعضهم الى مصر ومازالوا بلقبهم هذا، وأحدهم منصور بن فضل الله، الذي هاجر من دمشق في اوائل القرن 18 الى روسا وسكن في موسكو، وعرفت سلالته ب”بني منصور” وهم من اسرها الوجيهة و نشأ من بني العرقجي في دمشق عيسى بن ميخائيل فلقب بأبي شعر لوفرة شعره وكان ذلك في منصف القرن 18.
صار لهذه الاسرة كلمة نافذة /كما منذ القديم/ في شؤون الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية وانتخاب بطاركتها واحدهم نعمان بك ابو شعر قنصل الدولة العثمانية في بلجيكا، ومن ابناء عمهما كان حبيب بك ابو شعر ابن فضل الله ابو شعر وكيل البطريرك الانطاكي ملاتيوس الدوماني (1899-1906) في الاستانة سابقا وقد استمر في عهد البطريرك غريغوريوس حداد ومن كبار المحامين في العاصمة اسطنبول).
انتهى الاقتباس.
صفحة من التاريخ الانطاكي الحديث
انتخاب البطاركة الوطنيين
ظهر علمنا وكيلاً بطريركياً للبطريرك ملاتيوس الدوماني الدمشقي منذ تنصيبه بطريركاً عام 1899- وحتى انتقاله عام 1906- عرفنا ذلك من بعض الوثائق وخاصة العائدة لعام 1900.
ولابد من الاعتراف بأن هذه المرحلة كانت عصيبة جداً، وكانت مفصلية على الكرسي الانطاكي برمته عموما وعلى البطريرك ملاتيوس خاصة، لأنها جسدت انتقالاً جذرياً من فترة ترؤس رئاسة يونانية وافدة على السدة الأنطاكية تمثلت بستة بطاركة من إكليروس القسطنطينية استمروا منذ عام 1724 إلى عام1850، ثم ثلاثة غيرهم من اكليروس أورشليم من 1850 – 1898.
وانتهاء بالفترة الوطنية التي تمثلت باعادة السدة البطريركية الانطاكية الى ابنائها، وبإجماع مطارنة الكرسي واراخنة الشعب الدمشقي والانطاكي و… على مطران اللاذقية “ملاتيوس الدوماني الدمشقي” كأول بطريرك وطني.
كانت قبل فترة الدوماني فترة البطريرك اسبريدون خلال ثمان سنوات من 1891-1898)، فترة انتفاضة مستمرة شعبية دمشقية متضامنة مع المطارنة الوطنيين والعديد من الإكليروس الوطني عالي الثقافة أمثال الأرشمندريت روفائيل هواويني وكان معتمدا بطريركيا انطاكيا في موسكو (مطران اميركا لاحقاً ومؤسسا للأبرشية الانطاكية في العالم الجديد اميركا وواضع اسس تنظيمها
والارشمندريت جراسيموس مسرة مطران بيروت (1902-1935) و. وقد بدأت تحديداً حين تولى السدة الانطاكية لأنه كان متعجرفاً متعالياً على العنصر الوطني مختلسا للأوقاف وواردتها كأسلافه ايروثيوس ومثوديوس مع (وقفية ايروثيوس في بنك أثينا)،
و(وصية متوديوس (1824-1850 لأهله في اليونان) وعبثية واستهتار سلفه جراسيموس (الذي تنازل عن الكرسي الانطاكي عام 1891 وعاد الى اوشليم بطريركاً)…
لاسيما وان اسبريدون نكل عن تنفيذ تعهداته التي قطعها أول بطريركيته للمجمع الأنطاكي ولأبرشية دمشق في إصلاحات شاملة على صعيد البنيان الروحي والمادي وترميم الصرح البطريركي المتداعي زمن سلفه جراسيموس 1885 – 1891، وضبط الأوقاف في ابرشية دمشق، وعدم هدرها، وترميم المدارس الآسية ودعمها تربوياً ومادياً ومعنوياً، فنفذ تحت الضغط الشعبي بعض ما تعهد به وضبط أوقاف البطريركية في بيروت وسجل بيت البطريرك فيها باسم اوقاف البطريركية بعدما
نقله من اسمه الشخصي وكان من اوقاف صيدنايا في بيروت، وبنى برج الجرسية الحالي في المريمية.
ولكن فساد ادارته وعدم نزاهته وحاشيته الفاسدة مالياً وادارياً، وعدم متابعة شؤون الرعية الدمشقية وتهميش الإكليروس الوطني على حساب حاشيته اليونانية وافقاره، وأولهم الأسقف أثناسيوس أبو شعر المطيع… دفعت بالدمشقيين للانتفاضات المتلاحقة ضد البطريرك كما أسلفنا والمطالبة علناً مع اعتصامات شعبية وكهنوتية ليستقيل من السدة الأنطاكية، وبالفعل استقالوتولية بطريرك وطني، وهذه المساعي كانت قد بدأت بقوة عند وفاة ايروثيوس 1885 وتحريك المجمع والشارع الشعبي في كل الابرشيات واولها دمشق وبيروت… من قبل الوجيه الدمشقي والمحسن الكبير ديمتري شحادة الدمشقي المقيم في القسطنطينية وتسليط الضوء على الدوماني مطران اللاذقية، وشاتيلا مطران بيروت، وديمتري شحادة… ولكن مؤامرات بطريركية القسطنطينية والضرب بعرض الحائط برغبة المطارنة الوطنيين والشعب الانطاكي وخاصة الدمشقي أثمرت بإجهاض حتى هذا المسعى وتعيين جراسيموس 1885 وتكرر المشهد بتعيين اسبيريدون 1891..
المهم بالنسبة لعلمنا اثناسيوس أنه كان مطراناً لكنه كان محيداً عن أي شأن ذي أهمية في البطريركية.
وعندما تسلم السدة الانطاكية البطريرك الدوماني جعله وكيلاً بطريركياً له في دمشق.
واسند اليه المتابعة بكل الشؤون كما تذكر الوثائق القليلة التي بين أيدينا العائدة اليه، والتي تظهر مدى تعب المذكور في الشأن الرعائي الدمشقي والحوراني سهلا وجبلا (التابع للبطريرك لعدم وجود مطران خاص وابرشية خاصة بها) وخاصة عندما غاب البطريرك الدوماني وتحديداً في جولته الرعائية الطويلة عام 1900 التي بدأها ببيروت وزار كل الابرشيات
الانطاكية وقيامه بحراً بزيارة أبرشية كيليكياس، والإسكندرونة وانطاكية.
هذه الفترة كانت عصيبة فالمقاطعة الارثوذكسية للكرسي الانطاكي كانت شاملة من بطريركيات القسطنطينية والإسكندرية واورشليم ورئاستي كنيستي قبرص واليونان وقد بدأت احتجاجاً على التعريب 1899 وانتهت 1910 بفضل مبادرة سلامية نحو البطريركيات الارثوذكسية المقاطعة، اقدم عليها البطريرك غريغوريوس منذ تنصيبه 1906لاعادة الشركة، واعادت تلك التواصل بعد أربع سنوات، وكان الداعم الأساس في هذا الأساس، روسيا قيصراً وكنيسة وشعباً.
والبعض يتهم الروس بأنهم وراء انتفاضة التعريب، وانهم المجيشين له، لكن في الواقع كان هذا الأمر مطلباً وطنياً بامتياز نبع من معاناتهم وقحطهم الروحي، واستنزاف مقدراتهم وانزياح متتابع من أبناء انطاكية الارثوذكسية للكثلكة والبروتستانتية الغازيتين بكل ضراوة لشعب انطاكية وبخاصة الدمشقيين منهم، نتيجة لا مبالاة البطاركة اليونان وحاشياتهم وهمهم فقط الإثراء على حساب أنطاكية ورعاياها الفقراء، اذا كان هو مطلب انطاكي عام/ (وتم بدعم من الروس الذين كانوا بالعكس يريدون
جراسيموس يارد بطريركاً/
اذاً كان مطلباً انطاكياً عاماً، عمل عليه المطارنة الوطنيون وكل الإكليروس العالي المتثقف بالثقافة اللاهوتية وهو من مختلف المراتب والدرجات، كما اسلفنا، (وخاصة الارشمندريت جراسيموس مسرة اللاذقي والارشمندريت روفائيل هواويني الدمشقي، وكل الدمشقيين وجهاء وشيوخ الشعب ومجلسهم الملي، وحتى عامة الشعب مقيمين ومغتربين وفي مقدمهم الدمشقي المغترب السيد ديمتري شحادة الصباغ وهومن اكبر التجار ونفوذه يشمل إضافة إلى البلاط العثماني، البلاط الروسي والكنيسة الروسية وبطريركية القسطنطينية).
هذه المقاطعة لأكثر من 11سنة من الكراسي اليونانية الأرثوذكسية (الشقيقة)، أتعبت انطاكية وبطريركها ومجمعها، ولكن التصميم الوطني والتحرري، (الذي وصفه الأديب النهضوي العروبي الكبير أبو خلدون ساطع الحصري بأنه “كان بداية الحركة القومية العربية التي انتجت الثورة العربية الكبرى 1916 ضد الاحتلال التركي”) حال دون التواني والتراجع، بالرغم من صعوبة الإنتقال من مرحلة قرنين من جمودٍ واستلابٍ وانشقاقاتْ إلى مرحلة جديدة لبناء الكرسي الانطاكي بحلته الوطنية روحياً وإكليريكياً وعمرانياً، والبطريركية خالية من الموارد، واوقافها مهملة ومتناثرة ومُستولى عليها… والتحديات تحيط بالكرسي وأبرشية دمشق وحوران والجولان من كل الجوانب، وخاصة الاعتداءات الطائفية على أرياف دمشق وحوران وجبل الدروز والجولان التي ضربت وتضرب الرعية، فأدت الى خراب القرى وتهجير المسيحيين كما حصل سابقاً في 1860 والاستلاب الممنهج من الكاثوليك والبروتستانت لفقراء الطائفة، وما اكثرهم… كنتيجة لهذه المعاناة حتى صارت قرى وبلدات وأحياء بكاملها كاثوليكية وبروتستانتية.
هذا ما يبدو من الوثائق وخاصة المرتبطة بعلمنا ورسائله إلى معلمه البطريرك الدوماني في أسفاره الرعوية.
السيرة الذاتية
ولد علمنا في دمشق القديمة في حي آيا ماريا (القيمرية) عام 1833 (إذ كان هذا الحي مسيحياً بامتياز بسكانه وخاناته وكل الفعاليات الحرفية والصناعية والتجارية)
والده جبران كان يمتلك ورشة لمهنة “سدى الحرير” وبوضع مالي مقبول، وكان علمنا أصغر أولاده الستة.
وكان جبران ملتزماً مع اسرته بكنيسة المريمية وحضور الطقوس الإلهية فيها، وكان من الشخصيات الأرثوذكسية الدمشقية حيث كان عضواً في وكالة كنائس المريمية الثلاثاء، وفي الأخويات الخيرية ذاك الوقت، وهو في عام 1835مع كثيرين من وجهاء دمشق، رشحوا المعلم يوسف مهنا الحداد للكهنوت (القديس يوسف الدمشقي) وأصروا على البطريرك مثوديوس ليرسمه كاهناً عليهم، وكانت تربطهما (هو والخوري يوسف)علاقة قربى بعيدة نسبياً. لذا نشأ أولاد جبران أبو شعر في كنف ورعاية هذا الكاهن الغيور ومعلم الطائفة وأولادها، ودرسوا في المدرسة البطريركية الدمشقية (الآسية) التي كانت بتنظيمه وادارته، وتتلمذوا له ورضعوا من الأسرة ومن الراعي الخوري يوسف عشق الأرثوذكسية لذا اختار اثناسيوس في عداد تلاميذ الاكليريكية اللاهوتية التي أحدثها في إكليريكية الآسية اللاهوتية عام 1851 بعد نجاحه بتفوق في الدراسة العامة في المدرسة، وكذلك اختاره تلميذاً في مدرسة الموسيقا البيزنطية الأكاديمية العليا حيث تخرج من كلا الأكاديميتين بامتيازالسنة 1858.
رسمه البطريرك ايروثيوس مبتدئاً عام 1858 بترشيح من الخوري يوسف الحداد.
وفي عام 1865 رسمه شماساً انجيلياً وقدم ايقونة الرب يسوع الى المريمية ( انظرها في الصورة البارزة )
ثم وفي عام 1875 رسمه كاهناً فصار من كهنة المريمية وأولاه رعاية حي القيمرية، ثم صَّيره ارشمندريتاً عام 1884.
ونظراً لبراعته اللاهوتية والحقوقية انتخبه المجمع المقدس اسقفاً معاوناً بطريركياً على الرها سنة 1893 ومكانه في الصرح البطريركي بدمشق، وفي عام 1899 صار وكيلاً بطريركياً للبطريرك ملاتيوس، وكان قد رئس المحكمة الروحية الإبتدائية منذ رسامته ارشمندريتاً. فساس الرعية بالعدل والمحبة المسيحية وكان يبذل قصارى الجهد لإنهاء المشاكل والخلافات الزوجية فحاز محبة واحترام الجميع.
صفاته
اتصف بالكمال في كل شيء وعاش متجرداً عن حب المجد، بل كان يسارع إلى تلبية كل محتاج وفي أي وقت، حتى انه كما قيل عنه قارب القديسين في نضاله وجهاده الروحي لأجل الرعية، لذا كان مبعداً من البطاركة اليونان كي لايظهر الفارق بينه وبين كهنة حاشياتهم…!!!
اتصف بالهدوء اذ كان هادئ الطباع هني المعشر، غير متعال على أحد، الصغير والفقير قبل الرئيس والمسؤول والغني، مستمعاً للكل حتى ولو كان الحديث غير ذي البال، اذ كان يجيد فن الإستماع والإنصات، ولا يتعامل مع من يزعجه بردود الأفعال، وهو كوكيل بطريركي كان لايعرف بابه الإغلاق، وقد فتحه باستمرار لكل صاحب حاجة وخاصة الفقراء وما أكثرهم في وقته…
كان يتنقل بين الرعايا في دمشق على قدميه بدون أي مرافقة متكلا على الله بالرغم من حالة فقدان الامن وقتئذ، لا شماس أو كاهن أو قواص يرافقه، والكل يتبارى في محاولة قبلة يمينه في الطريق بمحبة، وهو يتمنع تواضعاً ويسحب يده كما نقلت الينا الذاكرات والمرويات عنه.
أما روحياً فكان القدوة في الحياة الرهبانية وحسن التعبد والاتضاع الروحي، إذ كان يقود كهنة ورهبان المقر البطريركي فجر كل يوم للصلاة في المريمية، بعد أن يدور على قلاليهم ويوقظهم، وعند الغروب في المريمية وكنيسة القديس يوحنا الدمشقي، وكنيسة القديسة كاترين في المقر البطريركي، ويروى عنه انه كان يقوم بالخدمات الروحية للرعية ولو لم يُطلب منه ذلك، وخاصة للفقراء… ولايقبل أجراً،اذ كان متعففاً عن حب المال اذ يعتبر أن هذه الخدمات للرعية/ وخاصة الفقيرة منها/ هي كنزه السماوي واجره فيها عند الله في الآخرة مضافاً، لأنها عمله في الرب، وهذا مازاد في محبة الرعية له في كل مكان من دمشق الى حوران والجولان وجبل الدروز، إذ كان امثولة في خدمة الرعية الدمشقية وأية رعية حتى لو كانت من غير رعاياه، وكما قلنا الفقير قبل الغني، فالغني على قوله يستطيع ان يحصل على كل شيء بالدراهم، بينما الفقير واليتيم والمحتاج والأرملة لاشيء لهم الا رحمة الله.
وعلى ذلك حاز عدداً من الاوسمة والنياشين ( كما في الصور)، وبالتالي قدم من ماله الخاص لكثيرين، وله بإسمه في المريمية ثلاث ايقونات اثرية شهيرة (كما في الصور).
وفاته
والقى البطريرك غريغوريوس عظة تأبينية بليغة روحياً وواقعياً أشاد فيها بخصائل علمنا ومآثره ودلل على ذلك بمحبة الناس له ومشاركتهم في مأتمه هذا، وهم باكين بوداعه الأخير.
ثم سار موكب الجنازة الحافل عبر الشارع المستقيم وباب الشرقي وظاهر المدينة شرقاً الى مقبرة القديس جاورجيوس بمشاركة شعبية واسعة مع كل الجمعيات واولاد المدارس وبالصليب والمراوح والمباخر وبسط الرحمة والشعب الدمشقي، وصليت عليه صلاة النياحة ( التريصاجيون) في كنيسة القديس جاورجيوس ودفن في مدفن الاكليروس في مقام القديس جاورجيوس الأرثوذكسي.
حادثة الشفاء
يروى عنه أن رئيس شرطة دمشق العثماني ومسؤولها الأمني، وكان متنفذاً جداً، وحائزاً ثقة والي دمشق والسلطان العثماني عبد الحميد الثاني. وكان هذا القائد كمعلمه السلطان عبد الحميد يكره المسيحيين، ويتوق إلى إبادتهم أو اسلمّتهم ويتناغم في ميوله هذه مع السلطان المسمى (بالأحمر) نتيجة المجازر التي أوقعها بالمسيحيين من أرمن و(يونان وسوريين انطاكيين من الروم الأرثوذكس) وسريان واشوريين وكلدان طيلة عهده المستمر منذ أكتر من عقدين.
وتشاء العناية الإلهية أن تصاب زوجة هذا الضابط وهي من الأسرة المالكة، بمرض عضال ثقيل الوطأة وسارع هذا المرض الخطير بالفتك بها.
ولم تفلح مع هذا المرض الفتاك كل مساعي كافة الأطباء من عثمانيين وأجانب ودمشقيين. وبان لهم لا بل قرروا جميعهم بدنو أجلها، وكاد زوجها أن ينهار تماماً، وزادت عدوانيته بحق الناس عموماً والمسيحيين خصوصاً، ولكن في كل ذلك جاء من همس بإذنه بأن يقصد بطريركية الروم من أجل احضار كاهن يصلي لزوجته، وخاصة المطران اثناسيوس المحبوب (حيث كانت تنسب اليه معجزات) وكانت تحتضر “فلربما اجترح عجيبة فتشفى…”
ومع رفضه الشديد للفكرة، إلا انه استسلم لتمنيات قائلها (والغريق يتعلق بقشة) وتم ارسال موفد إلى البطريركية على الفور، والتقى بالمطران اثناسيوس أبو شعر وأبلغه رغبة قائد الشرطة.
ومع خوفه من هذا المسؤول الأشد إيذاء وخاصة للمسيحيين، فضّل أن يذهب هو، ( وكان في آخر أيامه شيخاً طاعناً في السن، ولا يخشى إلا يوم مثوله امام الديان العادل (كما كان يقول))، لا أن يرسل احداً غيره من الاكليروس متكلاً على سيدة الرقاد شفيعة المريمية، وقد صلى امام ايقونتها في المريمية قبل الذهاب، وكان وهو في العربة الرسمية التي أقلته كل الطريق يصلي وبيده مسبحة الرهبان.
الصلاة والشفاء
قابله قائد الشرطة بوجه مكفهر، وطلب منه أن يصلي لزوجته مهدداً ومتوعداً إن لم تنل الشفاء.
فأجابه المطران اثناسيوس “ان ذلك كله بيد الله ووفق نية سعادتك وبشفاعة السيدة العذراء وكله لمجد الله”.
دخل إلى السيدة المريضة المحتضرة وقد طلب من الجميع الخروج، وركع بجانب السرير، ووضع الصليب المقدس على رأس المريضة، ونضحها بالماء المقدس وسقاها بصعوبة ثلاث رشفات منه على اسم الثالوث المقدس، ومسح جبهتها بالزيت المقدس الذي أحضره معه، وصار يصلي صلاة الشفاء ووضع الإنجيل الطاهر على صدرها فوق القلب.
ثم سجد أربعين مرة مع المطانيات وهو يتلو يارب ارحم… ويروي انه بكى بشدة وقتها راجياً العذراء أن تشفيها لا خوفاً من العقاب بل رحمة بهذه المريضة.
وطالت صلاته لفترة طويلة، ثم استأذن زوجها وانصرف.
وفي صباح اليوم التالي باكراً فوجىء بقائد الشرطة قد حضر بذاته الى دار البطريركية، وهو متهلل الوجه منبسط الاسارير، ومن شدة سعادته وهو يصرخ بالتركية أن قد شفيت، وحاول تقبيل يد المطران الذي تمنع كعادته لابل قبل القائد، وقدم الشكر الوفير على شفائه امرأته الذي كان قد بما يشبه المعجزة. وكان جواب المطران:”ان السبب كان ايمانك.”
وأخبره عن ماتم بعد خروجه ( المطران) من عندها، وكيف تحسنت حالتها تدريجياً بالأمس إلى هذه الساعة الحاضرة، حيث شفيت تماماً، وقامت وتناولت طعاماً وشراباً، واطمأن عليها ورأى أن يأتي شخصياً لتقديم واجب الشكر، ورجاه أن يطلب منه أي شيء يريده وحاول ان يعطيه نقوداً.
إلا أن المطران تمنع بإباء، وشكره وباركه برسم الصليب على هامته، وبارك له بشفاء زوجته، وأكرم وفادته بالضيافات اللائقة، ولكنه اوصاه ان يقوم بإنصاف الموقوفين لديه وان يعاملهم بروح الرحمة كما فعل الله معه بشفائه زوجته، فوعده بذلك وغادر مشيعا بالإكرام من المطران الى خارج البطريركية.
بعدها توجه المطران إلى المريمية وهناك سجد أمام أيقونة الرقاد في الأيقونسطاس بدموع الشكر لها.
عائلة أبو شعر
السيرة حرفياً لواضعها السيد أسعد بن سليمان بن موسى أبو شعر.
أصلها من أمراء الغسانيين المسيحيين الأرثوذكس، عملاء قياصرة الرومانيين(معاونو اباطرة الروم ) في بلاد الشام. بعد انتهاء الحروب الصليبية ( الفرنجة) ارتحل قسم منهم إلى بلاد حوران، وقد توطن أحدهم في بصرى الشام وهو الأمير عبد الله بن سليمان بن رفيفان بن غياث بن عبد الله بن نعمان بن منذر بن قيس بن سلمان. وكان لهذا الأمير أربعة أولاد هم سليمان ونصر الله وخليف وفريح. أما خليف وفريح فقد توطنا في مدينة الناصرة من أعمال فلسطين، وعائلة خليف معروفة بالخليفات، وعائلة فريح معروفة بالفريحات إلى يومنا هذا. وأما نصر الله فقد سكن أولاً في بلدة ازرع من أعمال حوران ثم انتقل إلى قرية اسمها الذنيبة إحدى قرى حوران أيضاً، وعائلته لم تزل بها حتى اليوم وتعرف (بالنصر اللهات). أما سليمان وهو أكبر إخوته فقد كان أشعر أي كثير الشعر، وكان له ولدان أحدهما نمر والآخر خليل. أما نمر فقد نزح إلى جهات حلب وسكن في بلدة (كلس). ولما لم يطب له المقام هناك عاد إلى بلاد حوران وتوطن في بلدة حصن عجلون، وكان أهل تلك البلدة يدعونه (القلزى)، والأصل كلسي نسبة إلى كلس، وعائلته لم تزل في الحصن وتعرف بعائلة أبو شعر وتكنى بحمولة النمورة نسبةً لجدهم نمر المذكور. وأما خليل فقد حضر لدمشق وتزوج من ابنة من أشرف عائلات المسيحيين وأغناها وقتئذٍ، وهي عائلة الجدية التي يتصل نسبها بعائلة القديس يوحنا الدمشقي. فولد له منها ولدان هما عيسى ويوسف. أما عيسى فقد ذهب إلى القطر المصري وانقطعت أخباره. وأما يوسف فقد أولد ثلاثة أولاد هم ابراهيم وميخائيل ومنصور. فمنصور هذا ذهب إلى روسيا وسكن في مدينة كييف وتأهل بها وعائلته هناك كبيرة وغنية وتعرف بعائلة منصوروف. وميخائيل أعقب ولداً اسماه سليم وهذا أي سليم لأسباب غرامية اعتنق الدين الإسلامي وسكن في محلة الشاغور، أحد أحياء دمشق وعائلته معروفة ومشهورة بهذا الإسم (أبو شعر)، ما عدا أحد أفرادها حيث كان إماماً بجامع الشاغور لقبت عائلته بعائلة (الإمام)، على أن أحد أفراد هذه العائلة القدماء المسمى الشيخ محمد أبوشعر نظراً لصلاحه وتقواه جعل له أهل تلك المحلة مقاماً في المحلة المذكورة يزوره المسلمون إلى يومنا هذا للتبرك به. أما ابراهيم فإنه أعقب ولداً أسماه يوسف. ويوسف هذا أعقب ولدان هما حنا وعيسى. حنا أولد ولدان هما عبيد ويوسف. وعيسى أولد ثلاثة أولاد هم ابراهيم وميخائيل وموسى. وقد تفرقت أبناء هذه العائلة في جميع أطراف المعمور حيث لم يعد بالإمكان حصرها.
في 18 حزيران سنة 1937
أسعد بن سليمان ابن موسى أبو شعر”
مصادر البحث
- الروايات الشفهية
- الوثائق البطريركية ( ابرشية بيروت وابرشية دمشق)
- محفوظات آل أبو شعر
- عيسى اسكندر المعلوف
Beta feature
اترك تعليقاً