قامة روحية أنطاكية نادرة المثال، كان المطران فكتور الراعي الأمين لأبرشية نيويورك وسائر أميركا الشمالية (1924-1934). بصعوبة يتذكره أحفاده الروحيون اليوم، رغم أهميته الفائقة في إعادة وحدة الأبرشية وحفظها من خطر الانهيار والتلاشي. وعندما يذكرونه إنما يفعلون ذلك كاسمٍ في قائمة مطارنة أميركا ليس أكثر، وهو أمر مؤسف. من هنا تأتي هذه النبذة عن سيرة المطران المتقدس فكتور، التي طوتها يد الإهمال والنسيان أو تكاد، مع أنه من اللامعين في تاريخنا الأنطاكي الحديث.
السيرة الذاتية
ولد في البقاع اللبناني ودرس علومه الأولى في مدرسة قريته عيتا الفخار، ليكمل دراسته في إكليريكية دير البلمند، التي أعاد البطريرك الأنطاكي ملاتيوس الدوماني افتتاحها في العام 1901، فكان من الرعيل الأول. ومن زملائه فيها البطريرك ثيوذوسيوس أبو رجيلي والمطران ألكسندروس جحا والأرشمندريت حنانيا الياس كسّاب. وبعد رسامته شماساً، انضمّ إلى كهنة أبرشية بيروت، وفي أيلول 1922 رافق معلمه المطران العلّامة جراسيوس مسرة (+1936) في رحلته إلى أميركا، لحضور مؤتمر لمجمع الكنيسة الأسقفية المنعقد هناك. وكان العديد من أبناء قريته، إضافة إلى أشقائه، يقيمون في مدينة وستر ماس Worcester, Massachusetts، حيث تقع كنيسة القديس جاورجيوس، وهي خامس الكنائس الثلاثين التي أسسها القديس رفائيل، وكانت برعاية الأب ميخائيل الحصان من عيتا الفخار، مسقط رأس الأرشمندريت فكتور. طلبت الرعية بقاءه فيها، وسمح مطرانه، الذي بارك ذلك خاصّة بعد الاطّلاع عن كثب على الأوضاع التي كانت تعيشها الجالية السورية في أميركا بسبب الانقسام.
في اميركا الشمالية
منذ وصوله إلى نيويورك (1895) وحتى رقاده بالرب (1915)، كان القديس رفائيل هواويني بلا منازع الزعيم الروحي لجميع الأرثوذكس الناطقين بالضاد في أميركا الشمالية. ولكونه منتميًا من الناحية الكنسية إلى الأبرشية الروسية، كانت الإرسالية الروحية السورية التي يرأسها تخضع للسلطة الكنسية الروسية على الرغم من الروابط القوية التي كانت له مع البطريركية الأنطاكية. عند رحيل القديس رفائيل، انقسم أتباع أبرشية بروكلن إلى فصيلين متنازعين. الفصيل الروسي، برئاسة الأسقف أفتيميوس عفيش، تابع الاندماج بالسلطة الكنسية الروسية كما كان الحال سابقاً. أمّا منافسه الفصيل الأنطاكي، فقد نبذ تلك السلطة الكنسية الروسية، بتحريض وزعامة جرمانوس شحادة مطران سلفكية (زحلة وصيدنايا) ، وهو متروبوليت زائر خرج عن السيطرة وأنشأ في أميركا فرعاً غير مرخص له من السلطات الأميركية، كما لم تحصل عليه موافقة لا من الكنيسة الروسية ولا من البطريركية الأنطاكية.
وكانت نتائج هذا النزاع كارثية، من الناحية الدينية والروحية، حيث نشبت حرب صحفية بين الجانبين على صفحات جرائد المهجر، بل وعلى الصعيد المادي والمالي أيضاً، بسبب الدعاوى بين الطرفين أمام القضاء الأميركي والمصاريف الباهظة على تكاليف المحاكم والمحامين. إزاء خطر الاضمحلال، قررت البطريركية الأنطاكية أخيرًا أن تفعل شيئًا حيال هذه الفوضى.
بحسب تصريحٍ للبطريرك غريغوريوس، عند افتتاح دورة المجمع في دير القديس جاورجيوس سوق الغرب (13 تموز 1921)، القضايا المعروضة للبحث والمناقشة هي: “1- أسقفية بروكلن، 2- أبرشية زحلة ومطرانها جرمانوس، الذي سافر في حزيران 1914، لأجل جمع المساعدات لمشروع مدرسة زراعية تنشأ في عميق البقاع، فلا يزال متنقلاً في أميركا الشمالية بين الولايات المتحدة وكندا، آخذاً لنفسه وكالة الكنيسة المسماة أنطاكية”. وقد ورد في نصّ رسالة مجمعية إلى قائمقام الكرسي المسكوني (آب 1921): “إن سيادة مطران سلفكياس جرمانوس قد سافر إلى أميركا، وغرضه من سفره واحد فقط، وهو جمع تبرعات السوريين الأرثوذكسيين القاطنين في أميركا لتأسيس مدرسة زراعية في إحدى قرى أبرشيته، وليس ليكون راعياً للجاليات السورية الأرثوذكسية المنتشرة في الولايات المتحدة”.
وعليه، ففي الدور الخامس للمجمع (أيلول – ك 1 /1923، في دير مار الياس شويا ثم في سوق الغرب)، تمّ في الجلسة الخامسة (الاثنين 2 ت 2) قرار قبول استعفاء جرمانوس واعتبار أبرشية زحلة خالية وتبليغ ذلك لأبناء الأبرشية. وفي جلسة (الأربعاء 6 ك 1)، بعد الصلاة قال غبطته: “لقد تألمنا كثيراً مما صار في أبرشية نيويورك والآن فقد اتفقنا بشأنها مع غبطة أخينا السيد تيخن بطريرك موسكو وكل روسيا. وإجابة لرغبة أبنائنا الطالبين الانضمام الينا نسمي لكم ثلاثة مرشحين لأبرشية نيويورك وهم الأرشمندريتية إيليا صليبي و فكتور أبو عسلي و أغابيوس غلام، لتنتخبوا حسب الأصول المثبتة في كرسينا الأنطاكي مطراناً لهذه الأبرشية الحديثة التأسيس لكي يعتني بأبنائنا الخاضعين له في تلك البلاد”. في اليوم التالي، جلسة (الخميس 7 ك1)، تم انتخاب فكتور بأكثرية الأصوات، وفي جلسة (الجمعة 8 ك1) اقترح البطريرك أن تتبلغ أبرشية نيويورك انتخاب رئيس كهنة لها، فأرسلت برقية إلى توفيق دبس والخوري ميخائيل زربطاني: “قدّمنا مرشحين وهم الأرشمندريتية إيليا وفكتور وأغابيوس الأكثرية انتخبت فكتور لأبرشية نيويورك الأنطاكية”، والى المنتخَب البرقية التالية: “البارح انتخبتم رئيس أساقفة لأبرشية نيويورك الأنطاكية. حكماً وتواضعاً”.
قاد المطران فيكتور أبرشية أنطاكية منذ رسامته صباح السبت 8 ت 2 /1924 في كنيسة رقاد السيدة الأرثوذكسية الألبانية في ووستر، ماساتشوستس (بوضع يد المطران زخريا راجي وبندلايمون أثناسياذيس مطران نابلس) حتى رقاده بالرب يوم الأربعاء 19 أيلول 1934. وتم له جناز مهيب يوم الأحد 23 أيلول في مدينة وستر ماس، حيث تم دفن رفاته الطاهر وسط ذهول الرعية وصدمتها من رحيله المفجع دون الخمسين.
كان فكتور سكاف أبو عسلي أول مطران منتخب من المجمع الأنطاكي، وبجهوده توحّدت الأبرشية من جديد. إن روحانية هذا الناسك الورع، والشديد التقوى والزهد، كانت بالفعل العامل الأهم في جذب رعايا المجموعتين المتناحرتين لسنوات. وهكذا، أخذ جميع الأنطاكيين ينضوون شيئاً فشيئاً تحت رئاسته، وبحلول العام 1934 الذي رقد فيه بالرب، كانت جميع الكنائس الأنطاكية قد توحّدت، نابذة الانقسام المرير الذي طال أمده ما بين الفريقين.
كان إنساناً رائعاً، أشبه بقديس، محباً للغاية، وديعاً ولطيفاً نحو الكلّ. لقد رأوا اللطف على وجهه. وكان يحب الجميع بلا استثناء، بقطع النظر مَن هم أو ماذا كانوا. ولهذا كان الناس يتجمعون حوله ويتحلقون، لأنه كان شخصاً عظيماً حقاً ومتواضعاً جداً. كان يحبهم وحسب. وليس أدلّ على تضحيات الفقيد الكبير من وصيته، وفيها يصفح عمن أساءوا إليه كما يطلب فيها الصفح ممن قد يكون أساء إليهم. ومما أوصى به ألّا تجري في جنازته المراسم المألوفة، ولاسيما من جهة إجلاس الجثمان على عرش كما هي العادة بل أن يوضع في تابوت مقفل. لقد رحل صفر اليدين، وكان قد اشترى ضماناً على الحياة يكفل دفع ما اقترضه من دائنيه، وهو مبلغ قيمته 12 ألف دولار. فقد كان ينفق من ماله الخاص على صحته ورعيته، وفي موته كما في حياته كان مثالاً للأمانة والوفاء.
اترك تعليقاً