الميلاد على الأبواب

الميلاد على الأبواب

الميلاد على الأبواب

منذ عيد دخول السيـدة العذراء مريم الـى الهيكـل نبـدأ بترتيـل الـمـسيـح ولد فمجدوه، ننتظـر الـمـولـود الجديـد، ومنذ عيد القـديس الشهيد اغنـاطيوس الأنطاكي في 20 كانون الاول يقـوى اتجاه الصلـوات الى العيد، وعشيـة الـمـيلاد نقيـم البارامون وهــو الوقفـة الروحيــة والانشاديـة لاستقبال الـمخلص، الكنيســة تشدنـا الى الفادي الآتي طفلًا لينـمو بيننـا كواحد منـا .
كيف نستعد لـه؟ هذا هو السؤال الكبيـر، فهل يكون العيد لنـا مجرد ذكرى نقيمها مع اطفالنـا بالهدايـا والطعـام والشراب والرموز الـمـستوردة التي اخذنا نألفها ام نصبـح اعمـق من ذلك فيصير القـلب هو الـمــذود والتـوبـة هي الـرؤيـة والتجدد هو القـرار والالتـزام.
غير ان أهميـة هذا العيد ليست في العيد نفسـه ولـكن بمعنـاه فهو إطلالـة الله علينـا بمـوسم وبغيـر مـوسم، فالحياة فيها الحزن الشـديـد والإخفاق يتـلـو الإخفاق وفيـها الخطايا الكثيرة.
قد لا يشتـهي الأكثـرون التقدم في الصلاح وقـد لا يتمنى الأكثـرون الكمال وربما لا يتحرك العديـدون بفكـرة الـمحبــة ولا يحلمـون بتحقيـق الفضيـلـة فيـهم.
ولعـل الجرح البليغ ليس في هذا ولكنـه في اننـا ننظر الى الكنيسـة في حالها الحاضرة ولا نرى انها تغيرت بالقدر الكافي الذي يغيرنا؛ فالضعف في كل مكان وكذلك الكسل والجهـل وإرادة البقاء في الجهـل.

المطران جورج خضر
المطران جورج خضر

اللاهـوت يقول ان الكنيسـة مدخل الى الـمـلكوت، بأي معنى؟ اعضاؤها فيهـم ملكـوتيـون، واللاهـوتيون الـمـدركون عمـق الارثوذكسيـة يقـولـون أن الذي الله يسكن بداخله هو وحده ينتمي الى الكنيسـة، اما البـاقـون فقد اختـاروا ان يعيشـوا بلا إلـه ولـو حضروا قداسا او عمّـدوا اطفالـهم او تنـاولـوا إكليل العرس.

عيد الميلاد يقترب، مَن حَفظَ هذا الصوم تهيأَّ له، ومن لم يحفظه حتى الآن فليبدأ اليوم، وفي كل حال نستطيع جميعا ان نتجه الى المولود بحيث لا نترك صلاتنا ولا سيما صلاة الجماعة ايام الآحاد المتبقية وبحيث ننصرف الى قراءة الكلمة.

اما اذا جاءكم العيد زينةً لبيوتكم فقط او فرصة للمآدب وظهور اطفالكم بالثياب الجميلة تكونون قد عَبَرتم عن فقير الناصرة الى تأمل وجوهكم ومنازلكم واصدقائكم، يكون، إذ ذاك وُلد المسيح لمن يتقبله في البساطة والانكسار.

اذكروا ما قاله الملاك للرعاة: “ولد لكم اليوم مخلّص في مدينة داود، وهو المسيح الرب”، فهل ولد لك انت شخصيا، ام الحادثة تخص البشرية بمجملها وانت غير معني؟ هل انت ملتزم الميلاد باعتباره عيدك الشخصي؟.

كثير مـن ايقونات السيدة العذراء حاملـة الطفـل تصوّرهـا محاطة بالأنبياء الذيـن تكلّمـوا بأسلـوب او بآخـر عـن انتظار المخلّص “هـا العذراء تحبل وتلـد ابنا” الـواردة فـي متى انـما اقتبسـها مـن اشعـياء النبي.

فالإنجيل يـركّز على ان العهد القديـم (“موسى والأنبياء والمزامير”) تحدَّثَ بالرمـوز عـن السيد، غير أن الكنيسة رأت أن العهد القديم ليس وحده الذي يهيئ لاستقبال السيّد ولكن الانسانية كلها.

لذلك وضعت أحدين تحدّثنا فيهما عن تمخّض الإنسانية بيسوع الناصري: أحد الأجداد وأحد النِسْبة، في أحد الأجداد تذْكر الإنسانية من قَبل إبراهيم، اي انها لا تحصر المسيح في أمّة اليهود، و آدم هـو أبـو الانسانيـة جمعـاء، والفكـرة المسيطـرة على أحـد الأجداد أن البشـريـة كلها كانت تنتظـر مخلّصا، البشريـة كانـت تطلـب تطـهّرا وإنقـاذا، هذا لم يصر واضحا إلا بالمسيح ولم يُنفَّذ إلا بالمسيح.

القلب التائب هو الذي يحتضن المسيح. ولذلك أَلِفَت الأجيال المسيحية ان تُنـهي صيام الميلاد باقتبال سر التوبة، القلب ينبغي أن يصير مريمًا أخرى، كما يقول القديس مكسيموس المعترف.

كيف نسمع ان قبعنا في بيوتنا صباح العيد ولم نشترك في الذبيحة الإلهية؟ مسرات الدنيا، سهرة العيد، زينته ليست هي العيد، الأضواء الكهربائية في البلد ليست هي العيد، من أحب هذه الأشياء فلتكن له، ولكنها خارجية. العيد هو يسوع الذي نسمعه ويخاطبنا ويضع فرحه فينا.

هناك شيء آخر يلازم العيد وهو ان يسوع كان صغيرا، كيف نترجم ذلك لأنفسنا؟ ليس في كنيستنا ابتهاج خاص بالأطفال، ولكن الذين جعلهم الله همه هم صغار النفوس، الأذلاء الفقراء المعذبون، هؤلاء يلازمهم الطفل الإلهي، يحملهم في قلبه.

ماذا نعمل نحن لنعزي المنكسري القلوب، المتروكين في الأرض الى عزلتهم، الذين لا يتمتعون بدفء العاطفة؟هذا هو العيد الذي يدفعنا إلى أن نسعى إليهم.
الميلاد تربيتنا على المحبة، هذه تمارسها في الحقيقة حولك، كل يوم، بدقة وفي رقة يسوع حتى يشعر كل هؤلاء انهم اخوة له، اي مخلوق تحتضنه انت احتضانا صادقا وفعالا تجعله يحس بأنه ليس بعيدا عن المسيح.
جاء المجوس الذين “فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرّا”، واللافت في سجود المجوس له انهم كانوا من عظماء القوم، ملوكًا او علماء، ان احتسبوك أنت كبيرًا في قومك او كنتَ مثقّفًا عميقًا فلستَ على شيء ان لم تكتسب تواضع المسيح، ان لم تقتنع انك به تتكوّن، ان لم تحاول أن تبلغ “فكر المسيح”.
ما عداه غواية ولو كانت مجدًا ساطعًا او علمًا غزيرا او جمال جسد. كل شيء يفنى أمام هذا الطفل الصغير المرمي في مذود. انه صنع مجده بدءا من هذا الوضع الحقير. وقد شرح ذلك الملائكة للرعاة: “المجد لله في العلى”. ما عدا ذلك أمجاد يصطنعها الناس ليعظموا في عيون الذين يشبهونهم او من كانوا أدنى منهم.
لن تدخل سرّ المسيح ما لم تنزل عليك مزاياه، فإذا تمسحَن قلبك تدرك ما في قلبه، وعند ذاك يصير فكرك مسيحيا اي انك تصير في حدود بشريتك مستضيفا المسيح، بهذا تعرف انك وُلدتَ من السماء، فإذا ظهر عليك بمجده ورأى الناس وجهك مضاء بنعمته يحسّون وكأنهم رأوا وجه المسيح، ان أردت ذلك كان لك ميلاده ميلادا لك كل يوم، وكانت كل سنة لك سنة جديدة.

(المطران جورج خضر)

 


Posted

in

by

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *