عبثاً تحاول روبينا تاشجيان إخفاء رجفة قلبها وراء نبرة صوت واثقة، فيما تتحدّث عن فندق «بارون» الذي يستعدّ لطيّ صفحةٍ استثنائيّة من السجلات العريقة لمدينة حلب. وبات في حكم المؤكّد أنّ أصحاب الفندق اتّخذوا قرارهم ببيعه، ليتحوّل قرنٌ من التاريخ الحلبي إلى «أمانة» في عهدة المجهول. تتولّى روبينا مسؤولية

ردهة فندق بارون
ردهة فندق بارون

«المرحلة الانتقالية» للفندق الشهير، وتتابع بهدوء الاستعداد لمرحلة إقفال أبوابه نهائيّاً في انتظار مآلات عمليّة البيع. في مطلع عام 2016 توفي أرمين مظلوميان، مالك الفندق (وحامل اسم جدّه مؤسس بارون مع شقيقه أونيك)، وواصلت أرملته روبينا الاهتمام بشؤون الفندق الذي كان قد توقّف فعليّاً عن استقبال النزلاء قبل سنوات. تقول تاشجيان «بعد تفجير ساحة سعد الله الجابري (تشرين الأول 2012) أُغلق الفندق. وفي عام 2014 أعيد فتحه لاستقبال النازحين». اقترنت روبينا بمظلوميان قبل وفاته بعامين فقط، لكنّ علاقتها بالفندق أقدم من ذلك بكثير، بفعل صداقة طويلة جمعت بينها وبين أرمين. كانت عائلة مظلوميان قد خسرت ملكيّة «بارون» في عام 1961 في إطار موجة «التأميم» وأُتيح لها الاحتفاظ بحق الانتفاع فقط («فروغ»). وتقول روبينا إنّ وريثات هذا الحق من آل مظلوميان، المغتربات، قرّرن بيعه. تحكي تاشجيان عن الفندق بشغف استثنائي، من طراز بنائه إلى تاريخه، إلى أدق التفاصيل المتعلقة به: اللوحات والصور والرسومات المتنوعة، الأواني التي كانت تُستورد خصيصاً من أوروبا (سويسرا وبريطانيا) ممهورة بشعار الفندق (اللوغو)، وتوضح كيف تبدّل هذا الشعار ثلاث مرات بتعاقب الأجيال الثلاثة التي توارثته. تتوقّف عند كتاب جمع فيه توماس إدوارد لورنس («لورنس العرب») رسائله إلى أمّه، وتشير إلى رسالة يقول فيها «أجلس الآن على شرفة هذا الفندق العظيم (بارون) وأشاهد البط والإوز يسبح في النهر». توضح: «كان نهر قويق يجري في تلك الأيام». تعدّد روبينا الغرف المهمة في الفندق، بدءاً بغرفة الملك فيصل (رقم 215) الذي أعلن استقلال سورية عن العثمانيين من شرفتها سنة 1920.

ردهة فندق بارون
ردهة فندق بارون

بات في حكم المؤكّد أنّ أصحاب الفندق اتّخذوا قرارهم ببيعه

ثم تشير إلى غرفة كمال أتاتورك مشفوعةً بمقدمة قصيرة «ما بدي أفتخر فيها طبعاً، بس هي موجودة، والسياح الأتراك كانوا يهتموا فيها كتير». نسأل: «أي الغرف تحبين؟» فتشرد، نضيف: «جميعها باستثناء غرفة أتاتورك؟»، لتجيب بحماسة «إيه». تنام تاشجيان حاليّاً في «الجناح الرئاسي/ رقم 213»، الذي استقبل كثيراً من الزعماء والمشاهير (من العرب: جمال عبد الناصر الذي ألقى كلمة من شرفته عام 1958، وحافظ الأسد حين كان وزير دفاع، والحبيب بورقيبة، وزايد آل نهيان، وإبراهيم هنانو، وفارس الخوري) وغيرهم الكثير. أقامت هنا أيضاً العائلة الملكية السويدية عام 1936 في طريقها نحو الهند، وشارل ديغول، وتيودور روزفلت، ورائد الفضاء الروسي يوري غاغارين، ورائدة الفضاء الروسية فالنتينا تيرشكوفا، والملياردير الأميركي ديفيد روكفلر، إلخ، إضافة إلى عدد كبير من الكتّاب العالميين (الإنكليزية أغاثا كريستي، الأميركي الأرمني وليام سارويان، الإنكليزية فريا ستارك…). كذلك استضاف الفندق العالم الإيطالي باولو ماتييه، والعالم البريطاني جورج سميث (مكتشف اللوح السابع من «ملحمة جلجامش»). مات سميث في الفندق، ودفن في «مقابر اللاتين» في حي الشيخ مقصود موجز تاريخ «بارون»

فندق بارون 1911
فندق بارون 1911

عام 1868 مرّ كريكور مظلوميان بحلب (في طريقه إلى الحجّ في القدس) محمّلاً برصيد من الانبهار المسبق، بفعل ما سمعه وقرأه عنها. وقع الرجل في غرام المدينة بالفعل، لكنه فوجئ بعدم وجود فنادق فيها (كان المسافرون حتى ذلك الوقت ينزلون في الخانات). بعد سنوات، عاد مظلوميان إلى حلب، وافتتح «فندق أرارات» في «حي الجلّوم» الذي تكوّن من 12 غرفة، وهو أوّل فندق في حلب وواحد من أوائلها في سورية. لاحقاً، واصل ولداه (أرمين وأونيك) المسيرة، وافتتح كلّ منهما فندقاً: «العزيزية بالاس»، و«أليبو بالاس». في عام 1906 ومع سريان أحاديث عن اقتراب افتتاح خط «برلين ــــ بغداد» الحديدي الشهير، قرر الأخوان بناء فندق ضخم على الطراز الأوروبي. اشتريا الأرض عام 1907، وأنجزا الطبقة الأرضية عام 1909، ثم الطبقة الأولى عام 1911، وافتتحا الفندق رسميّاً. وفي أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، أضيفت الطبقة الثالثة. شهد الفندق الحربين العالميتين، العثمانيون والألمان والإنكليز والفرنسيون مروّا من هنا، وفي عام 2012 بدأ العد العكسي لمسيرته الحافلة. نسأل تاشجيان «هل لديك فكرة عمّن يمكن أن يشتري الفندق، أو ما قد يفعله به؟»، لكنها لا تملك جواباً. تخبرنا أنّها مشغولة في الفترة الحالية بالتجهيز لإقامة معرض يوثّق تاريخ الفندق، ويعرض مقتنياته.

فندق بارون بعد انهاء عماره
فندق بارون بعد انهاء عماره

العاشقة
الحماسة التي تصبغ حديث تاشجيان عن «بارون» لا تتوقّف عنده، بل تتعدّاه إلى كامل مدينة حلب. تقارن بينها وبين دمشق، وترى أن حلب كانت أكثر انفتاحاً بفضل طبيعتها الكوزموبوليتية. تقول «دمشق كان فيها شدة أكثر، يمكن لأنها كانت عاصمة الأمويين، واستمرّت عاصمة لسورية. في حلب، كان عدد المسيحيين أكبر، وعدد اليهود أكبر، وتداخل الثقافات أكبر». وتضيف «كان يجب أن تكون دمشق هي عاصمة الثقافة الإسلامية، وحلب عاصمة الثقافة العربية». نقول «واضح أنك تحبين حلب»، فتجيب «أنا أحب سورية كلها، نحن وطنيون. نحن الأرمن خسرنا وطناً في زمن مضى، لذلك نعرف تماماً قيمة الوطن، وسورية وطني».صهيب عنجريني- الاخبار