بعض من تاريخ و مقاهي شارع بارون وقصصها، منقوله عن سعد زغلول الكواكبي..
في الضفة الشرقية من الشارع
أنشئ أول مقهى بلدي في أرض الضالع التي تقع أمام المتحف الحالي وهوالمقهى الوحيد الذي يقدم منقوع زهر البنفسج المغلي.
وفي شماله كان ملهى الـ:«CHAT BOTTE» وملهى الـ «PARISIANA» يليهما مقهى الـ«WINRICE» ومقصفه العلوي ذو الحديقة.
ويلي المنعطف سينما ركس ثم سينما روكسي التي افتتحت في أوائل الحرب بأول فيلم ملون هو”ذهب مع الريح” يليها مقهى البرازيل الشهير، ثمسينما ريّو، ويليها مطعم وملهى kit kat وكان أكثر رواده من الضباط الفرنسيين.
وقد أنشئت على قسم من أرضه فيما بعد سينما أمبيرالتي افتتحت بفيلم استعماري يروي القضاء على المقاومة الوطنية في المغرب، اسمه «الجاويش المجهول» وهي في نهاية شارع بارون المطلة على ساحة تقاطع ما كان يسمى الجادة الكبرى بزقاق الصفية اي شارع القوتلي مع شارع سينما أوغاريت.
ومن شرفة هذه السينما أطل زعماء الطلاب يخطبون الجماهير في عدة مناسبات كانت إحداها يوم الاجتماع الكبير لحرق الثقافة الفرنسية رداً على قتل ضابط فرنسي للطالبين من مدرسة التجهيز هما «القدسي» و«الحاووط» في أول شارع «اسكندرونه» من جهة الجنوب.
وبعد خروج فرنسة استحضرت سينما أمبير أول فيلم مصور عن الحج، اختلفت بشأنه آراء المتدينين، ولكن المفتي «الأستاذ محمد الحكيم» رحمه الله أعلن جواز مشاهدته لعدم مخالفة ذلك للشعائر الدينية، وكان هو أول من دخل السينما لمشاهدة هذا الفيلم تشجيعا للمسلمين.
وفي الساحة أمام هذه السينما حيث تقاطع الجادتين كنت لا ترى من يسيرعابراً الساحة، وإلا فإن الشرطي راكب الدراجة النارية يطيح بمن نزل من الرصيف إلى الساحة، كان ذلك قبل فساد الذوق العام.
ولكل من هذه المعالم قصص وحكايات لا أزال أذكر بعضها
فأما ملهى الـ«شا بوتيه» فكانت الراقصات الأجنبيات والمطربات الفرنسيات يأتين إليه، وأُغلق في العشرينيات أما «الباريزيانا» فيستقدم الفرق الراقصة الأوروبية.
أما مقهى ومطعم الوينريس فكان يرتاده كبار رجال حلب ممن كنا نسميهم «مجلس الشيوخ» ومنهم الطبيب «أسعد الكواكبي»، ومعه زملاء أطباء:
«علي الناصر» و«توفيق الأنصاري» و«عبد الرحمن الكيالي» ، ومنهم مدراء عامون: «توفيق الحياني» و«ياسين الحراكي»، بالإضافة إلى المحافظين السابقين، وبالإضافة إلى «جميل ابراهيم باشا» الذي كان أهل حلب يلقبونه بـ«عمنا جميل».
وكانت مائدتهم دوماً هي الجنوبية، وكثيراً ما كانوا يستضيفون الأديب «سامي الكيالي» والموسيقار«أحمد الأوبري».
ويحلّ المساء في هذا المقهى فيخرج أعضاء مجلس الشيوخ إلى «نادي الشرق» وهو «نادي الست إيفون غزالة» من أرقى نوادي الأسر الحلبية، ليتناولوا العشاء الفاخر.
أما سينما «روكسي» فكانت مقصوراتها تمتلئ بصواني الكبة والبقلاوة أثناء عرض الأفلام، يطلبها زعماء الأحياء وأثرياء الحرب المرتادون للسينما.
في صالة هذه السينما جرى تأبين المرحوم «إبرهيم هنانو» بحضور كبار الزعماء وأولهم «سعد الله الجابري» والمرحومين «هاشم الأتاسي» و« شكري القوتلي» و«فارس الخوري» ، حيث ألقى كل من الشاعرين«عمر أبو ريشة» و«بدوي الجبل» الشعر التأبيني الرائع مع شعراء آخرين. وقد بات الضيوف جميعاً في «فندق بارون».
وفي نفس الصالة جرى تأبين «سعد الله الجابري» ورثاه بحضور أولئك الزعماء وزعماء سورية ولبنان قاطبة كل من الشاعرين المذكورين أيضاً.
أما مقهى البرازيل فكان يرتاده أساتذة وطلاب التجهيز من صفوف البكالوريا في الضفة الغربية من شارع بارون.
ونعود إلى بداية شارع بارون لنسير على الضفة اليسرى الغربية، فنصل بدايةً إلى “مقهى بالانجيان”، وكان من أرقى المقاهي الحديثة على الطرازالأوربي، يأتيه رواده بعد أن يقصوا شعرهم لدى الحلاق «آغوب» كان من رواد هذا المقهى، صباحاً، أثناء العطل، أعضاء «مجلس الشيوخ» من شخصيات حلب الكبرى، ونحن الأساتذه في المدارس الثانوية والمحامون والقضاة، وبعض الغرباء عن البلدة من طبقة «الأغوات»، والمثقفون يرتاده الرجال والنساء.
كان «شارع بارون» من أنظف شوارع العالم وأرقاها، ولا يتصور رواده ولا أصحاب محلاته مرور شخص فيه بقيافة غير مقبولة، ففي يوم كنا فيه قعوداً في هذا المقهى حول مائدتنا، والطقس مشمس شتاء، وإلى جانبنا رجل وامرأة لطيفة المظهر، لم نتأكد من شخصيتها بعد، حين مرّ رجل رث الثياب يلبَس السروال «الشروال الحلبي الأسود» قادما من «باب الجنان»، يقف خلف زجاج المقهى، عاقداً ذراعيه حول ظهره، ينظر إلى المرأة المذكورة بشغف وإطالة ويبتسم لها، فاستشاط النادل «كربيس» غضباً منه وخرج إليه يسأله عن سبب
مروره من هنا، وطال الجدال فاستدعينا النادل ولمناه على فعلته، وتدخلت
السيدة قائلة له: “اتركه يفرّج ناظريه كما يشاء”.
فتركه، فما كان من الرجل إلا أن فتح الباب ومدّ رأسه محيياً تلك الفتاة مبتسماً لها قائلاً
“ولك شلونك يا ألكسندرا؟ واللهِ اشتقنالك كتير، بس آه، ما معي مصاري للشهبندر، يا حيف على هديك الأيام!”
فأدركنا للفور بأن الآنسة هي «ألكسندرا بدران: نور الهدى» وهو يعرفها بإسمها القديم قبل أن تلقب ب”نور الهدى” منذ مدة طويلة. فما كان من هذه المرأة الفاضلة إلا أن دعته ليزورها في سهرة هذا اليوم على حسابها وكتبت له رقعة تخوله ذلك، لكن «كربيس» عامل المقهى لم ينسَّ أن يوصيه بارتداء لباس جيد…
نعم، هكذا كان شارع بارون!
حتى «علي المجنون» الذي كان يلقب بـ«فرنانديل حلب» نظراً إلى قسمات وجهه ولطفه مما يجعلك تضحك لمجرد مشاهدته والتحدث معه، وهو المختص بمرافقة أرتيستات ومغنيات مرقص «الديكسي» المجاور من فندق «بارون» إلى أماكن عملهن وإعادتهن، تبرعاً، كان يلبس ثياباً نظيفة وقد علق على صدره أنواعاً من الأوسمة.
وكان المصورون في حلب، وبعض السواح الأجانب، يتبارون في تصوير وجه «عليّ» هذا(الفوتوجينيك على قولهم).
ومن المترددين على هذا المقهى «الشيخ سليمان» وهو من أسرة محترمة في المدينة كان عسكرياً منضماً إلى فرقة الجوقة الموسيقية النحاسية في الجيش الفرنسي، وقد أصيب بعاهة خلّفت لديه تراجعاً عقلياً، كان يأتينا إلى
المقهى ويبتدئ بالسلام على أعضاء مجلس الشيوخ ، كما تقتضيه آداب «أهل أول» ويطمئنهم على أنه هذا اليوم بالذات لا يحتاج إلى «خرجية» لأنه مدعو للغداء على حساب صديق، فيضحكون ويقدم له بعضهم ما تيسّر، ثم ينعطف إلينا ويسلم ويقول لي مثلاً
“أنا أعرف أنك لا تحمل فراطة «فكة مصاري» يا أبو فاضل، لا بأس ، اتركها للغد…”
حتى إذا قارب المساء انتقل «الشيخ سليمان» إلى «قهوة الدب» حيث يقعد مع العازفين على الآلات النحاسية ليعزف للمارة لقاء عشاء دسم.
أما «عزت الطوبجي» فكان يزرع الشارع جيئة وذهاباً، مروراً بمقهى «النفخ طبخ» بصورة إلزامية، وشعر رأسه منسق بأشكال غريبة، لا يتحرش بأحد مطلقا، إلا أنه يحييّ النساء بغمزة من عينيه فحسب، وهو لا يشحذ نظراً ليسر حاله، وقد حدثتني النساء عن كيفية سلامه وتحدثه مع من يسلم عليها بلغة فرنسية، وترد عليه النساء السلام بمثله نظراً لأدبه الجم!
وأما الأرض التالية لـ«مقهى بالانجيان» فلقد كانت فيها «سينما كوزموغراف» الصامتة ، وقد حضرنا فيها ــ في الثلاثينات ــ أول فيلم لطرزان، وفيها غنت أم كلثوم سنة 1930، وتليها سينما «الشرقي الصيفي» ثمّ «سينما بالاس الصيفي» ثمّ «سينما الشهبندر الصيفي» وقد زالت كلها.
وأنشئ بجانب «بالانجيان» مقهى ومطعم وملهى «الديكسي» وكان من أرقى المقاهي أيضاً. وكانت الأرصفة المضمومة إليه وإلى سائر المقاهي في الشارع تمتلئ نهاراً في الربيع ومساءً وليلاً في الصيف، مكتظة بالأسر الراقية، بجمال ونظافة وأناقة ربما فاقت ما عليه الآنـ أرصفة مقاهي «الشانزيليزي» في باريس.
حتى عمال المطعم وندل المقهى كانوا يلبسون الثياب الرسمية، فلا تظن برئيسهم إلا أنه وزير انكلترا المفوض!
وفي هذا المقهى كناــ قبل ظهر أيام التعطيل ــ نلعب الورق مع المرحوم أمير شعراء الشام «عمر أبو ريشة» مدير المكتبة الوطنية يومئذ، الذي كان يجمعنا لديه في «الندوة الفكرية» التي كانت أول تجمع ثقافي بحلب وأستاذنا في الفلسفة المرحوم «أحمد القادري» (ابن خالته فهما أصلاً من بلدة قرعون على ضفة الليطاني بلبنان)، و«الأستاذ زكي الأرسوزي» زميلي في التدريس…
وكانت تجالسنا مطربة شابة من بنات «زغرتا» اللبنانية اسمها «كهرمان»، ونحضر حفلاتها في مسرح المقهى المذكور، أو تحضر إلى المكتبة الوطنية مع الموسيقار المرحوم «أحمد الأوبري» والعازف الحلبي المرحوم أنطوان زابيطا والسيدة شدرافيان وزوجها، فنحيي حفلات موسيقية خاصة على مسرح
المكتبة الوطنية.
وهكذا يومياً، في هذه المقاهي والفندق، قصص وطرف تاريخية، حتى إذا حلّ المساء صعدنا إلى «نادي الشرق» (نادي السيدة إيفون غزالة) لنستمع أحيانا إلى المطربة «زكية حمدان» شفاها الله، أو إلى الموسيقا الشرقية للعازف زابيطا، كما أننا نذهب إلى نادي اللواء(لواء الإسكندرونة) لنستمع إلى أقدم عازف مخضرم عازف الكمان سامي الشوا الذي كان في ضيافة النادي ومدينته حلب لمدة اسبوع.
وفي الشارع المتفرع من «شارع بارون»، قبل الحرب العالمية، كان منتدى الـ«CASA D’ITALIANA» (شباب الحزب الفاشيستي الـ BALILA) الذين يمدهم موسوليني بالمال لدعايته بين العرب، وفي الاحتفال العام في روما وجه موسوليني الدعوة إلى جميع فرق«الكازا ديتاليانا» ليحضروا احتفالاً عاماً في روما لفرق الفاشيست على نفقة الدولة الإيتالية. فذهبوا، وكانوا في جملتهم محدثنا المرحوم «نديم العطار»، وبعد أن ركبوا البحر مكرمين في أفخم باخرة إيتالية وصلوا إلى روما بالحفاوة منقطعة النظير، و باشروا
الحفل، وأنشدت كل فرقة نشيد دولتها، ولم يجد الحلبيون أغنية حماسية ينشدونها ، فاقترح عليهم المرحوم «عطار»أغنية «عمك يعقوب» فوافقوا،
فسار في مقدمتهم وهو يصيح وهم يرددون رافعي الأيدي عقب كل صيحة
|عمك يعقوب..
ما كان يتوب..
ما كان يتوب..
عمك يعقوب..”
فأعجب موسوليني بلهجتهم الحماسية فاستدعاهم إلى المنصة لأنه ميزهم من بين سائر الفرق التي كان يستعرضها بحماسهم الشديد وإشارتهم برفع اليد عقب كل كلمة «ما كان يتوب…ما كان يتوب» ، وعلق على صدورهم نياشين السبق.
وفي اليوم التالي، ترجم أحد الخبثاء لرجال موسوليني الأغنية، فإذا بالشباب يتلقون أمراً بالاستعداد للعودة إلى سورية فوراً!!!
وأُعيدوا في باخرة شحن أغنام صغيرة، فكانوا يعملون في غرف محركاتها بنقل وتغذية الأفران بالفحم الحجري حتى مرفأ بيروت.
وجاء الأمر بإغلاق هذا المنتدى الحلبي، فصار أعضاؤه يجتمعون في شرفة «بارون» ويقصون القصص علينا.
وفي المكان ذاته جرى تحويل المقرــ حينما وقعت الحرب ــ من قبل الإنكليز إلى ناد ثقافي لجنود الحلفاء حضرنا فيه تمثيليات راقية من الأدب الإنكليزي.
وبعد خروج الإنكليز والفرنسيين استأجرت المكان جمعية «باريكورتساغان» الأرمنية وفيها عرّف رجل حلب الكبير«الدكتور روبير جبجيان» الطفلين نجمي وضياء السكري للموسيقارالحلبي الشهير، روسي الأصل المرحوم ميشيل بوريزنكو ليعلمهما الموسيقا الراقية إذ اكتشف فيهما موهبة عجيبة، فما كانت بضعة أشهر حتى عزفا مقطوعة للموسيقار «سباستيان باخ» بإتقان كامل، وقد غصّ نادي الجمعية في «شارع بارون» بالمستمعين، ولم تعقب ذلك إلا مدة وجيزة حتى بعثا إلى أوربا للدراسات العليا العالمية.
ونتابع سيرنا على الرصيف الغربي لـ«شارع بارون»
فنجد عند منعطف «ببستان الشاهبندر» مقهى «يرفان» باسم عاصمة «أرمينية»، ويليه باب «الشاهبندر»،
الذي كانواــ قبيل جيلناــ يربطون على بابه بقرة حلوباً، فيأتي الموظفون والتجار الساعة السابعة صباحاً لسماع المغنى والموسيقى الشرقية الراقية فيشربون الحليب قبيل الدخول وبعد ساعة يغادرون إلى أماكن عملهم.
ذلك أيام «منيرة المهدية»، و«مدام بلانش»، و«الشيخ سلامه حجازي»، و«مدام لوسيك».
وفي مقابل مقهى «يرفان» كان مقهى «نوفيلتي» ذو الرصيف المفروش أيضاً، وهو مقهى شتوي إلا رصيفاً كان يستخدم صيفاً، للأسر الراقية خاصة، ومن ثم محلات «غابي وفريدي» للتصوير التي اشتراها المرحوم «عبد الوهاب وتار». ويلي ذلك محلات A.B.C. العالمية الشهيرة التي اشتراها المرحوم «آردافاست» وعرفت بمحلات «آردو»، والتي أغلقت في الستينات وافتتح مكانها مقهى الموعد ثم صار اسمه مقهى «فانوس» (تعريباً من اسم «فينوس» إلهة الجمال!).
وفي نهاية الشارع هذه تكون ساحة «يوسف العظمة» حيث نتابع سيرنا شمالاً دخولاً في شارع يوسف العظمة الذي كان يسمى «زقاق الصفية».
وفي الاتجاه المذكور مرت مواكب جمال باشا السفاح والأمير فيصل والجنرال ألّلنبي والجنرال غورو والجنرال فيغاند والجنرال سيراي والمسيو بونسو المفوض السامي الفرنسي أيام الإنتداب، و«الجنرال دوغول،
وابراهيم هنانو والوفد السوري سنة 1936وسعد الله الجابري وهاشم الأتاسي وشكري القوتلي ومواكب ومواكب تاريخية لا حصر لها، كان لا بد لها من المرور بـ«شارع بارون» لتلقي الخطب من شرفته العريضة أو ليقيم أفرادها فيه.
ثمّ لتدخل المواكب «شارع يوسف العظمة» لتصل إلى محطة قطاربغداد في طريقها إلى بيروت أودمشق أو بغداد أو استنبول.
تخيلوا معي الآن هذا الشارع وقد عادت تلك المواكب إليه، الوطنية منها لتبقى ولتحتفل بسقوط الاستعمار التركي والفرنسي، والقوى الاستعمارية منها لترحل عن البلاد إلى الأبد.
ألا فانظروا اليوم إلى «فندق بارون» التاريخي الذي كانت مقاهيه تضارع أرقى مقاهي أوربا، وكذلك مقاصفه ومتاجره.
إنه اليوم شارع دكاكين الفلافل والفول المدمس وبائعي البانصيب ولاعبي القمار على الأرصفة.
اترك تعليقاً